الاثنين، 23 فبراير 2009

المجاور المعتكف... خائط الضحكة الى الإغماءة


المستقبل، 22/2/2009
في أثناء عقد من السنين ترددت فيه إلى بسام حجار، وجلست إليه، لم يغادر مرة واحدة ربما مجاورته أو اعتكافه أو جلوسه أو خلوته. فهو كان، على الدوام، مجاوراً أو معتكفاً أو جالساً أو مختلياً. والمجاور المعتكف هذا لم يبدُ عليه يوماً الانصراف بوجهه عن زائره الى حاضر آخر يغشى المجلس ولا يراه الزائر، ويتكتم عنه صاحبنا. فهو، على خلاف هذا، كان خفيف الخطو الى بابه حين يطرق الزائر باب البيت. فيسع الطارق سماع خطواته وهو يجتاز الممر الطويل والمستقيم والضيق، من مبتدئه في حجرة الكتب المتطرفة، الشمالية والمطلة على بقايا بساتين الليمون والحامض أو على زاوية محشورة بجدران البساتين، إلى آخره في ختام طريق تحاذي حجرات النوم والطعام والاستقبال. وبينما يقبل بسام على الطارق، والإقبال شيمته وعمله، يتناهى الى المنتظر خلف الباب وقع خطى زاحفة ومتقاربة. فيراه المنتظر، قبل ان يفتح الباب، وقبل ان يسمع كلامه وهو يتم حديثاً يجاذبه أحداً أو آحاداً في البيت، يراه أي يتخيله سابحاً في بيجامته الفضفاضة أو في بينواره الصيني القصير والمشمر عن الساعدين، محتذياً نعليه البيتيين الطويلين والمصنوعين من بلاستيك، ملوحاً للقادم بانتظار وشوق لا يحتاجان إلى عبارة. فإذا فتح الباب، ووقف لصق الجدار فارع الطول، متيناً ومستقيماً وقوياً من غير غلظة ولا إدلال، وخلى بين القادم وبين الدخول، ودعا القادم إليه، لم يقتصر الترحيب على ألفاظ الترحيب المعهودة والمتعارفة. فكانت تتمةُ ثلاثة أحاديث أو أربعة سابقة – يتولاها بسام حجار معاً، فيستأنف واحداً كان أوله على الهاتف وثانياً سطراً في مقالة أو كتاب وثالثاً خبراً منقولاً ورابعاً موعداً لم يتّعِده أحدٌ غيره – هي ترحيبه. وبينما يتم أحد الأحاديث هذه أو بعضها، يرخي يداً أو ساعداً على كتف، ويقهقه ووجهه الى وجه، ويرد بمشادة على تعريض، ويستعجل إنجاز طلب أو يستمهل جواباً.
فلم تكن هذه الأوقات التي يحضرها الصحب وهم وقوف على الباب أو هم بعض الجَلس في الداخل، إيذاناً بالدخول على مجاور معتكف. وما كان ابتداؤه، عند الباب، استقبالاً وترحيباً وتأهيلاً كثيراً، لم يكن ينقطع حين المجالسة والمباسطة والمؤاكلة، وأولاً وآخراً حين الشراب. وفي المجالسة، وهذه آدابها البسّامية، لا يترك "صاحبُ" الدار، محجةُ الصحب وجامعهم، كثرته الى وَِحدتي العدد والاعتزال. وأطوار الكثرة في المجالسة، وهو ربما كان قال مهن الكثرة، هي غيرها حين التوجه الى الباب وطارقيه، والإقبال على القادمين، والتوجه عليهم، ودعوتهم الى النزول على سعة. فهو، في المجالسة، الوسيط بين السابقين الى الجلوس وبين القادمين من بعد، ومن ليس من هؤلاء ولا بأولئك. وهو المضيف، الرائح بين الدار وبين من حلّوها والغادي، من غير ان يغادر سيماء الضيف أو أدبه. وهو معرِّف صحبه بعضهم الى بعض، فيحسبون أنهم يعرفون معرّفهم، ويتعارفون من طريقه، فلا ينتبهون إلى تخففه، هو، من المعرفة والتعريف، فراشةً على هُوِيّ من غير محل الى غير محل. وفي الأثناء، هو الأب والصاحب الزوج والرفيق والزميل والمؤاكل والمؤاسي والمذكِّر والناصح والمواعد والشاكي والضاحك والمحكِّم والمستدرك والمتألم والساكت والمقيم والمسافر والمنفي والعائد والمنتظر. فلا يتوقعه مجالسه بموضع ويلقاه به. وقد يتوقع المُجالس، أو ينبغي له ان يتوقع الإرهاق وهو يحاول اقتفاء صاحبه ووجوهه. فلا يقع على الإرهاق، ولا يتعبه السفر في أثر المسافر المترحل. ويلفاه حاضراً حين يهم بالشكوى، واقفاً في الباب، مبتسماً ابتسامته المترجحة بين بياض الأسنان الوامض وبين قاع العينين العميق والودود، بين إقبال الكتفين العريضتين وصارية الصدر الفسيح وبين ترجيع الوجه أخباراً مطوية ومستغلقة قد لا تلقى مفسرها وشارحها وترجمانها يوماً.
وغداة انقضاء نيف وعقد ونصف العقد على العقد الذي ترددت في اثنائه الى بسام حجار، وجلست إليه، وطرقت بابه، واستقبلني مرحباً، وأجلسني، وكان مضيفي وكنت ضيفه، وكنت مضيفه وكان ضيفي المفرد قبل ان ينقطع وأنقطع، ويخلو الى مشاغل هدوئه، وتشبيهه روايةَ خوفه (من) الرؤيا، و (يخلو) إلى يدها وحدها، وصحبة ظلاله، ومهن القسوة، ومعجم أشواقه، وتعبه، وحبه الكناري، ومديح الخيانة، وكتابة الرمل، واقتطاف الأشياء القليلة، واستطلاع الحياة من بعده، وترتيب ألبوم العائلة والتعليق على العابر في المنظر الليلي، وتفسير الرخام – وهذا كثير وأتساءل كيف قيض له في ثلاثة عقود لم تتم ان يتقصى هذا كله أو بعضه، وأن يزاول مثل سائر الخلق جامع المهن الأخرى وشرطها الأول، معاً – غداة انقضاء الأوقات هذه كلها أخال، من غير يقين، أنني عشت دهراً مع بسام حجار، ولابست تقلبه بين مشاغله وأعماله ومهنه، ولم يخفَ عليّ شيء (على نحو ما يطلق الكلام في الخفاء وكأنه كلام في الظاهر). ولكنني لم أرَ شيئاً. وإذا شئت أن أروي بعض حوادث الدهر الذي أزعم انني عشته وصاحبي الراحل، لم أقع على حادثة واحدة أو خبر واحد. ولم أقع على ما يسعني القول انه ليس بشيء. فالأسماء والوجوه والأجساد والحركات والسكنات والضحكات والأماكن والأوقات والعبارات والكتب والصحف والمواعيد والأسفار والشراب والعيادات – وهو كان أحصى هذه على نحو آخر اختُصّ به فقال الستائر والمقاعد والمنافض والغبار والهواء والضوء على الجدران والمصابيح وزجاج النوافذ الرطب واللهاث ولباس النوم وطعم الفم غداة السهر والشراب والقرع على الأبواب – هذه كلها، ما أحصيته وما كان أحصاه هو على طريقته الفريدة، لا تعصى التدوين ولا الاستعادة ولا تحقيق الشهادة والتواتر.
ولكنها عدواه. فالصاحب المضيف، والجليس الثابت والمتوجه الكثير والوسيط الملتمس، هو نفسه المنسل خفية من بيننا. وهو المجاور ما لا تحتمل الحياة اليَقِظة قوله أو جهره من غير ان تتصدع أو تخر مغشياً عليها. فكان بين صحبه وأهله وجلسائه وأهل شربه يداري الحياتين، ويؤلف بينهما على قدر ما تطيق الحياتان التأليف وتتحملانه. والأرجح عندي، ودليلي على زعمي هو بسام حجار (1955- 2009، منذ اليوم، وما بين اليومين وما قبل اليوم الأول بقرون وما بعد الآخر بقرون)، الأرجح ان الحياتين هاتين يثقل عليهما التأليف والجمع. ولو كان زواجهما يسيراً لما اضطر بسام الى المؤاخاة الصعبة بين وجهيه، وإلى محاكاة الوجهين في حياة واحدة ومرهقة. فكان وجهاً الى امتهان حياة النهار والليلة، والقيام بأعبائها وفرائضها من انشغال وتبدد وتقلب ونسيان وانتباه وبشاشة وحزن وكلام وتعب وكثرة، ووجهاً الى ما لا سبيل إليه إلا بقول هذه كلها، الانشغال والتبدد...، من غير الغفلة عن أنسابها الهشة، وتحدرها من اصلابها العالية والجائزة والوضيعة. فكان الوجهين والتماسهما، وكان السعي والنفر بينهما، وجليسهما ومؤاكلهما ومضيفهما. وكان طارق بابيهما ومستقبلهما على سعة ورحب لا ينكران الكثرة، ولا يرجوان الغيبة في الواحد. وحاله هذه هي بابه على كتابته، وبابه على نفسه وعلى غيره. فهو أراد، على تواضع الجالس (أي معلّق روابط المشاغلة الجزئية)، الإصاخة الى ما بين الأشياء والأحوال والأوقات والأمكنة والضمائر والأحلام والذكريات، من آصرة حين لا يحضرها الوجدان الإنسي المقيد بمشاغله ومخاوفه ومصالحه. وإرادته الشعرية هذه ضرب من التجرد البطولي والقدسي. ولعل الغفلة عن الإرادة هذه هي السبب في تأويل شعره وقراءته على نحو "نفساني" أظنه ضعيف الصلة بكتابته ومسالكها. فهو حَدسَ في حقيقة محادثة "الأشياء"، على معنى يجمع الناس والأحوال والأشياء والحوادث والكلمات والعناصر والمعادن، نفسَها، وامتلاء حياة مطوية تحياها "الأشياء" هذه بحوادث من ضرب لا يدركه الحدس العادي المنصرف الى القول والعمل والصنع والاجتماع، والساهي عن شرائط إنّيته وقيامه على الحال التي هي حاله. فأراد الشاعر الكاتب تدوين المحادثة هذه من غير تصوف، على رغم توسله بلغات المتصوفين، ولا انقطاع من لغة العامة أو حياتهم، لغتنا وحياتنا. فاعتكافه ومجاورته لم يحملاه على الانقطاع إلى وجه خفي باطن لا يدرَك من "الخلق" أو الكون، ولا يقال إلا تلويحاً وكهانة أو تعليماً مستغلقاً، أورفياً أو اسماعيلياً (وكراهته بعض "الإسماعيليين" المعاصرين ربما مردها الى هذا). ولعله يزعم ان القوة على الكلام تتخطى إرسال الكلام وإناطته بمتكلم يستوي في نفسه، وتنطوي نفسه هذه عليه، وتقيده دائرتها التي يغلب طيُها، نشرَها.
وكتابته هي تحقيق زعمه. وهو كتب على أساتذة وأقران اختارهم على قدر ما اختاروه. ومعيار الاختيار المزدوج هو إيجاب عوالم ودنى ليست من ولائد اليقظة ويقينها المستعجل والمباشر، ولا من معدن الوعي والوجدان. فروى بعض سير العوالم والدنى هذه، وقص بعض تراجم اصحابها وقاطنيها وأهلها. فتعقب، على سبيل المثل، "خياطة الضحكة الى الإغماءة". فتبع خطى الضحكة، وهي من أشياء بسام حجار، وهي ترمي بـ "نفسها" الكثيرة والمجتمعة من رسوم ومعان ودم وعروق وعضلات ودمع ودهشة ورغبة، هنيهة بارقة من غير وقت، في الإغماءة، الكثيرة والمجتمعة بدورها من رسوم ومعان متفرقة أخرى. ولكنه قص حكايات لا تحصى مثل هذه. وتملأ استعادتها وتذكرها اياماً وليالي وكتباً طويلة آتية. والاستعادة والتذكر ابتدأهما ساعة مواراة بسام الطين البارد، تحت سماء ملبدة، وبجوار واد وديع، بعض من مشوا وراءه. فطمأن أحدهم جاره الى ان من يحمله المشيعون الى مثواه هو "مترجم". وقال آخر انه "متثقف". وأخبر ثالث، وهو يقف في صف المعزين، صاحبه ان من يعزون شقيقه به، أي بسام يوسف حجار، ترك أولاداً من فراشين. وانشغل كثر بتخليص نعالهم من الطين الذي علق بها، وقال بعضهم في سرهم انها هدية بسام إليهم. ولا ريب في ان آخرين رووا "أشياء" لا تحصى عما لا علم لهم به. وأحسب ان الصديق الذي ترددت إليه عقداً سالفاً من الزمن أراد ان يكتب شعراً مطلبُه هو هذا: ماذا نخالنا نقول حين نقول فيما لا علم لنا به، ويراودنا القول فيه عن أنفسنا ويقيننا، ويدعونا الى إيجاب عالم وسير وتراجم من نتف معان وأصداء حروف لا تجتمع في صدر متكلم؟ نخيط الضحكة الى الإغماءة، بداهة! ونفيق من الإغماءة، ورحلتها القارية، على ما تجتمع الضحكة منه، وهو قارات أخرى، البرهان على حقيقتها والحجة... بسام حجار إلى قيام الحجة.

كلام أوروبي وأميركي عند بوابات دمشق

الحياة - 21/02/09
لم تترك مفوضة الاتحاد الأوروبي للعلاقات الخارجية والسياسة الأوروبية، بينيتا فيريرو فالدنر، ظلاً للشك في مسوغ زيارتها دمشق على طريق توقيع اتفاق الشراكة الأوروبية – السورية، وتجديد العلاقة بسورية في إطار عمل ديبلوماسي وسياسي إقليمي ودولي «كبير» يتصدى لمسائل الشرق الأوسط. فقالت ان ما دعاها الى الزيارة الأولى هذه هو «موقف بنّاء» اتخذه الرئيس السوري بشار الأسد. والموقف هذا من شقين: شق إسرائيلي، وشق لبناني. ففي الشق الأول، استأنف الرئيس السوري المفاوضة مع الدولة العبرية. ويتوقع المراقبون ان يشمل «الانفراج»، إذا انتهت المفاوضة الى اتفاق إطار محوره الجولان وجلاء إسرائيل عنه، السياسة الفلسطينية، أي اقتتال الفريقين الفلسطينيين الأهلي والعسكري، وشقاقهما السياسي والإقليمي.
وفي الشق الثاني، أنجز الأسد الابن وعده الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ففتح سفارة في لبنان. وهو يلوح بتعيين سفير لم يسمه بعد. ولم يبت المسائل المعلقة الأخرى: ترسيم الحدود المشتركة في مزارع شبعا وغيرها، مصير المجلس الأعلى «الكونفيديرالي»، ومصير الرهائن والمفقودين اللبنانيين في سورية، وحسم «الوكالة» السورية الى منظمة القيادة العامة الفلسطينية المسلحة بقواعد عسكرية على الأرض اللبنانية. ولم تَقْصر المفوضة الأوروبية ثناءها على سياسة دمشق على المسألتين هاتين. فمدحت النهج «البنّاء» في أمرين آخرين هما «الملف العراقي»، أي تبادل دمشق وبغداد سفيرين ناجزين ومعروفين، وسبق تعيين السفير السوري تعيين نظيره العراقي، و «الملف الفلسطيني»، أي الإسهام في رعاية وقف النار بغزة، ربما من طريق الإحجام عن عرقلته علناً.
ولما التقـــت فيريرو فالدنر بشار الأسد، تولت وكالة الإعلام السورية وحدها، على جاري عادة إعلامية وســـياسية دمشـــقية متعمدة ومقننة، تلخيص المحادثات. فنقلت «سانا» في 16 شباط (فبراير)، عن المفوضية الأوروبية «تشديدها على الدور المحوري والإيجابي الذي تضطلع به سورية في الشرق الأوسط»، وأملها في توقيع اتفاق الشراكة «قريباً». وعادت الوكالة فنسبت الى الوزيرة تصريحها الى الصحافيين بأن «دور سورية اساسي في المنطقة».
ويتكرر، اليوم، ازدواج صيغة النقل الإعلامي السياسي، مع زيارة جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي ومبعوث وزيرة الخارجية الأميركية (والمرشح الديموقراطي السابق الى الرئاسة في 2004). فبعد رسالة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في مناسبة إحياء ذكرى رفيق الحريري في يوم اغتياله، وجدد أوباما فيها تعهد واشنطن القرارين الدوليين 1559 و1701، والتزامها بنودهما - وهما يقضيان بسيادة الدولة اللبنانية وحدها على أراضيها – أوضح جون كيري بما لا يقبل اللبس ان الفرق الوحيد بين رأي إدارة أوباما في السياسات السورية الإقليمية وبين رأي إدارة بوش هو عزم الإدارة الحالية على «الدخول في حوار من غير أوهام أو سذاجة أو اعتقادات خاطئة ان الكلام وحده يقوم محل الأعمال» مع سورية وغيرها. وكانت الإدارة الجمهورية السابقة، على ما يرى كيري، «مقتنعة بإملاء ما يجب على الغير القيام به، وفي الأثناء الابتعاد، وانتظار قيام الغير بما أملي عليهم».
وفي شأن لبنان لم يكن المبعوث أقل وضوحاً. فهو لم يلتق رئيس مجلس النواب نبيه بري. والتقى سعد الحريري نائباً عن «14 آذار» (مارس). وحيا القوى المتكتلة في الكتلة الأم. وكرر ان زيارة سورية هي للطلب إليها ان تؤدي «دوراً بناء»، على ما سبق للمفوضة الأوروبية أن قالت. والقول للرئيس الأسد «ان الوقت الآن هو وقت اختبار التغيير». وخصص القول، فتطرق الى الانتخابات القادمة: «نريد ان تحترم سورية الانتخابات المقبلة في لبنان، وأن تحترم كذلك استقلال هذا البلد». ولم يغفل، طبعاً، السلام السوري – الإسرائيلي.
وبينما كان جون كيري يتكلم في بيروت، كان عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي بنيامين كاردين يقول في دمشق، وخارج أخبار «سانا» الرسمية وعلى خلافها، أن «سورية عزلت نفسها من طريق دعم منظمات إرهابية وإقامة علاقات مع حماس والجهاد الإسلامي ومنظمات أخرى. ونحن قلقون من علاقات سورية بإيران». وخلص «الشيخ» الى ان واشنطن تراقب «عن كثب افعال سورية في أثناء الأشهر القادمة».
و «ترجم» الرئيس الأسد الزيارات الأميركية والأوروبية في عدد «غارديان» 18 شباط، يوم زيارة جون كيري بيروت ووفد مجلس الشيوخ دمشق، بالقول: الولايات المتحدة «لا تستطيع تجاهل سورية لأنها لاعب في المنطقة، وإذا أرادت (الولايات المتحدة) السعي في السلام فلن تنجز تقدماً من غير سورية».
والحق ان الأسد الابن (وحافظ الأسد قبله) يعزو «دور» بلده الراجح («الأساسي» و «المحوري» و «الحاسم» و «المفتاحي» على قول فاروق الشرع في 1996) الى وضع يده العسكرية والاستخبارية والأهلية على اللبنانيين ودولتهم، وإلى سيطرته على بعض القوى الفلسطينية، وإعماله منظمات فلسطينية ولبنانية وعراقية مسلحة في الاضطرابات والنزاعات التي تشق مجتمعات هذه المنظمات ودولها. والدولة السورية (الأسدية) جسر النفوذ الإيراني السياسي والمسلح والمالي في المشرق، وقطب معسكر «المقاومة» العربي.
والسياسة السورية حين تخاطب «الشارع» العربي، وتستنهضه، وتؤلبه حول قيادتها، وتستميل قطاعاته القومية والإخوانية والشيوعية و «الحقوقية الإنسانية» (اخيراً) إليها، فإنما تستقوي بما يطالبها زوارها، المتكاثرون هذه الأيام، بالتخلي عنه. وهو ما عدده جون كيري والشيوخ والسيدة بينيتو فالدر وعشرات من الوزراء والمفوضين والمندوبين والسعاة.
وحين خروج الزوار من لقاء الرئيس السوري ونائبه ووزير خارجيته يقول هؤلاء ان المحادثات تناولت «دور» سورية، وعلاقات دول الزائرين البارزين بها، وضرورة تحسينها، بينما يقول الزوار إنهم اشترطوا ونبهوا وأبلغوا وحذروا. وهم يسمون «الملفات» بأسمائها، وبأوقاتها. وهذا كله يذوب ويتحلل في «المنطقة»، وفي الصدارة السورية الثابتة، وإلحاح المندوبين والمبعوثين على السياسة السورية في الاضطلاع بالمهمات التي تليق بها ويرجونها الاضطلاع بها.
والازدواج هذا، وهو عريق، قريب من التعمية والتلبيس. وهو وَلَد، فيما سبق، جزءاً من الكوارث الإقليمية. ولعل شطراً من التصويب واليقظة من نشوة الازدواج وخمرته، يقع على عاتق الزائرين ومؤتمراتهم الصحافية في العواصم التي يزورونها. وبعض هذا يخطو خطواته الأولى. وهم، إذا فعلوا، إنما يسدون خدمة عظيمة الى شعوب المنطقة، ويسهمون في تربية سياسية راشدة وصادقة تتنكبها القيادات الملهمة. فهذه، أي القيادات، مزدوجة بدورها. فهي حاكمة بسلطة أمر واقع، وبالإكراه وأجهزة القوة، على قول روسي مشهور. وهي، من هذا الباب، أشبه بالمنظمات المسلحة التي ترعاها. ولكنها تلبس لباس هيئات الدولة، وتسن الدساتير، وتنظم الانتخابات، وتميز الرئاسات، وتبيح الأحزاب. وتتوجه إليها هيئات المجتمع الدولي على الأساس هذا. فلساناها هما لسانا حاليها اللتين لا تقر بهما، وبازدواجهما.

الاثنين، 16 فبراير 2009

خطبة باراك أوباما الافتتاحية بين يدي الشعب الفتي والممتحَن


15/2/2009 المستقبل
من خطبة مؤتمر الحزب الديموقراطي في 2004 إلى خطبة فيلادلفيا في ربيع 2008، ومن خطبة ترشيح الديموقراطيين "رجلهم" الى الرئاسة في صيف 2008 الى خطبة المرشح الفائز مساء 4 تشرين الثاني بشيكاغو، فخطبة التنصيب في 20 كانون الثاني 2009 بواشنطن، تقوم خطب شيخ ولاية ايلينوي الجديد والشاب، ثم المرشح، فالرئيس الرابع والأربعين، مقام المعالم أو العلامات على طريق سياسية ورئاسية تجمع الحنكة الى الدلالة البليغة، وتستعيد مقارنة باراك أوباما بابراهام لينكولن، هذا الوجه من حياة لينكولن السياسية. فتاريخ هذا وخطبه، وأوقاتها وأفكارها، واحد. ويحقق هذا سمة من سمات تاريخ الولايات المتحدة الأميركية البارزة والثابتة. فالأمة (الأميركية) الفتية، (على ما لاحظ بعض كبار مؤرخيها، من جورج بانكروفت في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر الى دانييل برونستين في الربع الأخير من القرن العشرين)، رفعت المطارحات العامة الى مصاف جزء أو وجه من "هوية وطنية عامة"، فغلّبت الفن الخطابي على الشعائر العامة.ومثال هذا خطبة التنصيب الرئاسية. فالدستور لا ينص إلا على القسم الرئاسي، ولا يلحظ خطبة الرئيس الافتتاحية. ولكن العرف غلب حرف القانون، وكرّس الخطبة العامة مقدمة لا غنى للولاية الآتية عنها، واستقلت صفة الخطبة بنفسها. فهي "الافتتاحية"، أو "الفاتحة" من غير موصوف. ويعزو المؤرخون الأمر الى جدة البلد وفتوته، فتقوم خطبة التنصيب مقام خطبة العرش البريطانية في مستهل الولاية الملكية أو في أوائل ولاية رئيس وزراء جديد يفتتح، وحزبه الفائز في الانتخابات، عقداً حكومياً. وهي، من وجه آخر، نظير الموعظة التي يلقيها القس، أو المؤمن "العلماني"، في القداس الكنسي الإصلاحي أو البروتستانتي وجماعة المصلين. وهو قداس من غير ذبيحة إلهية، ولا سر كهنوت، ولا اعتراف على حدة، ولا حل من الخطيئة.يتولى الفن الخطابي، على وجه العموم، تلاوة تاريخ الأمة، وحلقات التاريخ هذا، وهدهدة النفوس وطمأنتها الى اتصال حلقاتها، ومتانة اللحمة الجامعة. فالأمة الأميركية، على قول أحد المؤرخين، وُلدت مولوداً تاماً وسوياً قبل الحمل بها أو في ابتدائه. ويرتب هذا على الفن الخطابي، الرئاسي وغير الرئاسي، الابتعاد من الدقة والتفصيل، والتقريب بين المتباعد أو المتباعدات من المعاني والمتباعدين من الناس. وهو اضطلع بتوحيد الأميركيين بين الثورة الاستقلالية والدستورية، في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وبين الحرب الأهلية، في ستينات القرن التاسع عشر. فالآمال العظيمة وحرارة المشاعر تقتضي عبارة فضفاضة وغنائية، وملحمية بعض الشيء، عنها.
"الموقف" الرئاسيوهذا ما لم يتخلف عنه الرئيس باراك أوباما، ولم يقصر في ميدانه، فعاب عليه منافسوه، ديموقراطييهم وجمهورييهم، ما نعاه سياسيو الشمال الأميركي (انكلترا الجديدة) على جنوبييه، وسمّوه "السياسة الميتافيزيقية" طوال القرن الأسبق. ولم يبال المرشح في حملته الطويلة بالأمر، وسأل ساخراً: هل علي ان أكون عياً؟ فهو يعلم انه يتحدر من إرث خطابي وكلامي، على معنيي الكلام، كان عاملاً سياسياً وتاريخياً فاعلاً ونافذاً. والرئيس الأميركي يجمع وحده في دوره وشخصه – هو من ينتخبه الشعب "كله" ويندبه وينيبه عنه، ويقيده بنظام دستوري معقد من "المفاتيح والأقفال"، أو من الصلاحيات والقيود – السلطان التنفيذي والإداري العظيم. ولكن انتخابه المباشر، على رغم مجمع كبار الناخبين، يقيده بميول الرأي العام، الناخب كلَّ يوم وليس في أول ثلثاء من تشرين الثاني كل أربعة أعوام وحسب، فتقويه الميول هذه أو تضعفه بإزاء مجلسي النواب والشيوخ، في الانتخابات النصفية، والاستفتاءات الكثيرة والاستطلاعات، وفي "مقياس" الصحافة اليومية وميزانها اليقظ.وعلى هذا فهو، من غير شك، رئيس منصّب، ويحكم "جالساً" على قول دستوري قديم لم ينقطع. ولكن سلطانه، من وجه آخر، في مهب القبول والرضا الشعبيين، وعلى محك امتحانهما، ويكاد يكون دالة معنوية، أو هو ليس في غنى عنها. ولعل الحال هذه هي تعليل المراهنات الرئاسية على التاريخ و "قضائه". فغادر جورج بوش الابن البيت الأبيض وهو يتلفت، برجاء، الى سيرة هاري ترومان، رئيس الولايات المتحدة خالف روزفلت في المراحل الأولى والشرسة من حرب باردة لم يشك المعاصرون في وشك انفجارها حرباً كونية ونووية أخيرة. وكان قبول سياسة ترومان هوى، في اثناء الحرب الكورية، في استفتاءات الرأي الى مستويات متردية.وفي الخطب "الكبيرة" أو المنعطفات، وآخرها الى اليوم منعطف التنصيب أو التقليد، بدا أول رئيس أميركي ملون رئيساً و "قساً" أو مرجعاً معنوياً معاً. والمهمة الأولى التي يضطلع بها، ويتولاها، هي لمّ شتات التاريخ الأميركي، ونظم حلقاته في خيط متصل الى الحلقة الأخيرة والراهنة. والحلقات الأربع والأربعون، على عدد الرؤساء الأميركيين الذين توالوا منذ جورج واشنطن وولايتيه الافتتاحيتين الى باراك أوباما الواقف خطيباً، لا تقتصر على "اسرة" الرؤساء والولاة، وليست حلقاتهم على وجه الدقة. وهم لا ينتسبون الى الرئاسة وعملها. فما يعرفهم، ويعرف عملهم، على قول الخطيب منذ كلماته الأولى، إنما هو الوقوف "في موقف"، على قول النفري المتصوف، "امام المواطنين"، أي "بين ايديهم". والموقف هذا هم أوقفوه فيه حين جعلوه موضع أو مستودع "ثقتهم"، على نحو ما استودع الأميركيون 43 رئيساً قبله ثقتهم، ومحضوهم إياها. والرئيس أوباما، شأن أسلافه، يقف "بين يدي" الشعب الأميركي. وهو من تكني عنه وثيقة فيلادلفيا الاستقلالية والدستورية الأولى والأم بـ "نحن الشعب". ولا يختم الخطيب الفقرة الثانية من خطبته قبل ان يستعيد العبارة الاستهلالية التي نصبت "الشعب" كفواً للسلطان ومصدراً. ويقف الرئيس الرابع والأربعون خلفاً لأسلافه، ويستظل مثلهم "التضحيات" التي بذلها أو قدمها الآباء والأجداد.ووجها "الموقف" الرئاسي الأميركي هما وجها علاقة فاعلة ومتجددة بالزمن التاريخي، السياسي والاجتماعي حكماً وتعريفاً. فالمتكلم، الآن وهنا ("هيك إيت نونك" في لاتينية سرت في العاميات الأوروبية)، يكلم من يقومون بإزائه ويقوم هو بإزائهم بكلام يتعهد حقيقته واستقامته قوله والتلفظ به في رعاية الناخبين الأحياء وتكليفهم وحسبتهم، من وجه أول، وفي رعاية الرؤساء الذين أولاهم الأميركيون "ثقتهم" من قبل. وصنعوا وإياهم حوادث التاريخ الأميركي، والتزموا على هذا القدر أو ذاك، في السراء والضراء، "في السلم والرخاء وفي الوقت العاصف"، ميثاق الأمة الأميركية، من وجه آخر. والوجهان معاً هما شرط إخراج الأمة الأميركية من البقاء في أسر ماضيها وحوادثه، المجيدة والأليمة، واستقبالها آتيها ثابتة في "الرجاء"، الفضيلة الإنجيلية الأولى ("لا تخافوا" على ما يكرر انجيل متى) وصنوها الثقة، على ما تردد الخطبة. فالدعوة الأوباموية الى التغيير وإرادته، وهو احد شعاري الحملة الانتخابية، وإلى الأمل وإقدامه، وهو مقدمة الحملة والباعث على خوضها، هذه الدعوة ما كان لها ان تتحرر من رتابة الاجترار اللفظي والشعاري لولا موازنة الوقائع الكبيرة بظلال قاتمة تحفها. فالثورة الاستقلالية والدستورية، و "أبو الأمة" جورج واشنطن العَلَم عليها، لا تمحو الحرب الأهلية والانفصالية الدامية بعد نيف وثمانية عقود على الاستقلال، ونيف وسبعة عقود على الدستور.
الرجاء والمروءةفوحدة الأمة التاريخية، ودوامها واتصالها، ليست في الحوادث والوقائع نفسها، بل هي ثمرة إرادة الشعب الحرة اليوم. وتتجدد الأمة ووحدتها واتصالها في رغبة المواطنين في استعادة عهود آبائهم ومواثيقهم، وفي تحمل التبعات والمسؤوليات عما فعل هؤلاء، ويفعل أبناؤهم وأولادهم وينوون فعله. ويتولى البناء الخطابي والأدبي "الشعري"، على ما قالت توني موريسون في وصف خطابة المرشح، التمثيل على تناول التاريخ والسياسة على هذا النحو. وقد تكون الفقرات الثلاث الأخيرة من خطبة التنصيب الافتتاحية، على جاري تقليد أميركي يولي الفقرات الأخيرة من الخطب المحل الأول، مثالاً على الصنعة هذه، وعلى الفهم الذي تبطنه وتظهره معاً. والواقعة التي تتناولها الفقرات تشترك الرواية الملحمية والموسيقية الشفهية، وأدب الابتلاء والخلاص الديني، وفن سينما الغرب وصورها، في جلائها وإخراجها.فهي بعض ما تتناقله الذاكرات الأميركية من "ولادة" الشعب السياسي والدستوري الأميركي في شهور البرد والثلج والعزلة، على ضفاف الأنهر المتجمدة، وحول نيران المخيمات، بعيداً من المدينة العاصمة المهجورة والمتروكة، وعلى مقربة من العدو الزاحف. "وكان وشم الدم على الثلج"، ومصير الثورة معلقاً وترجح كفةُ الخسارة. ومن الحلك الداجي (أمين نخلة) هذا تخرج أو تولد كلمات "أبي الأمة": "(...) في أحشاء الشتاء، حين لا يقوى على البقاء غير الأمل والمروءة، اجتمعت المدينة (- الدولة) والبلاد، وجبها متحدين الخطر الذي يتهددهما". ولا تغمط الصور الحسية الحادة حق المعاني والكلمات المنتقاة في عناية ودقة. فالأمل، أو الرجاء، باعثاً عملياً أخلاقياً و "نفسياً"، يصدر عن تدين الأميركيين العميق، هو ثمرة مسيحية إصلاحية تحمل انقطاع الرجاء من الخلاص، ولو في عتمة المشيئة واستغلاق سبل فعلها، اصطفاء أو لعناً وإدانة، على خطيئة وكفر. وأما المروءة، ويتحدر مفهومها العملي والتاريخي من الفكر السياسي الجمهوري (الماكيافيلي)، فهي جملة "فضائل" المراس والعزم والجرأة والاحتساب الدقيق (الحصافة) والتعالي عن الصغائر الخاصة في خدمة "شأن" عام ومشترك.والعام هذا ليس عاماً على وجه الإحصاء والعدد، أو السور في القياس، وإنما هو عام على وجه الدلالة وقوتها على الجمع والتوليد والتهجين والتضمين. وهو يفترض حمل الحادثة الشعبية والوطنية ("القومية") والتاريخية، في سبيل قياس عموميتها الجامعة، على ما ابتكرته، أو ابتكره أصحابها وفاعلوها من معان. وهذه تلد بدورها، أعمالاً وتجلو معاني جديدة. ويؤول هذا الى ركن أو قاع "طبيعي" يجمله الأميركيون في تعاقد المواطنين الأحرار المتساوين، وفي تجديد تعاقدهم، وإناطة بناء الهيئات السياسية وعملها بالتزام الأصل أو الأساس هذا.فـ "العطية العظيمة"، على قول أوباما في فقرة خطبته الأخيرة وعلى قول اللاهوت الإصلاحي الذي لا ينفك يرجع إليه، هي الحرية. ويتناقل الحرية هذه أهل الرجاء والمروءة منذ الآباء المؤسسين الى "شعب" اليوم، فإلى "أبنائـ(ـهم) وأبناء أبنائـ(ـهم)". وعلى نحو ما يمدح الرئيس الرابع والأربعون، ومعاصروه، "أبا الأمة" وصحبه، ويعظمون قوتهم على الرجاء ومروءتهم في المحن، يريد الرئيس والمعاصرون ان يمدحهم الأبناء والأحفاد، "أبناؤنا وأبناء أبنائنا" هؤلاء الذين يقولون "نحن الشعب" ويلحون في النسبة، بقوة رجائهم ومروءتهم. والرجاء والمروءة يضطلعان بأمر جلل هو "نقل (أمانة) الحرية" التي ائتمنوا على تناقلها وإبلاغها "الأجيال الآتية". وهذه ختام الخطبة قبل استنزال بركة الله على السامعين وعلى أمتهم ولايات أميركا المتحدة.وعلى هذا، فـ "الأصل" هو العمل، أي وحدة الرجاء والمروءة على رؤوس الأشهاد ، أو الملأ. ويدعو الرئيس الجديد مواطنيه، ويدعو نفسه، الى الاعتصام بالأصل هذا. ومثل هذه الدعوة ما كانت لترتقي الى مرتبة العمل لو اقتصرت على الحض او على ضرب الأمثال التاريخية، وعلى استنهاض الهمم من طريق ضربها. وشطر راجح من الخطابة وفنها، الإصلاحي البروتستانتي مرة أخرى، قوامه الخروج من حال الخطابة السالبة والمتأملة – أي من فصل القول من الفعل، والحاضر من الماضي، والتنبه من التذكر، والفرد الواحد من الجماعة – إلى حال الشعيرة أو الاحتفال. وهذه الحال، أو المقام والموقف، هي حال "القداس" البروتستانتي. فهذا يجمع بين تلاوة الكتاب، وحوادثه ومعانيه، وبين استعادة المؤمنين جميعاً الحوادث والمعاني، وحملها على اختبارهم، واحداً واحداً، وعلى تأويلهم. فلا ينطوي الكتاب على معانيه، ولا يقفل التأويل على "حفظها". ولا يقوم سِلك من السدنة والكهنة مقام ولي المعاني وحافظها والقاضي في استقامتها.وشرط هذا تجديد الاحتفال أو الشعيرة كل يوم، وكل ساعة في اليوم الواحد، وكل لحظة في الساعة. فليس من وقت خارج الترجح بين الخلاص وبين الإدانة، أو بين الاصطفاء والإنعام وبين اللعن والخسارة. وقد يلبس هذا لباس الصرامة الكالفينية (نسبة الى إصلاحي جنيف وصاحب ثيوقراطيتها جان كالفن) المتقشفة والحادة التشكك في الخلاص، أو لباس إمساك بنيامين فرانكلين "المادي"، ووقفه الحياة وأوقاتها على العمل و "الجمع والمنع" (الجاحظ)، وندب السعي إليهما، والتعويل عليهما. وعلى هذا، يجوز الجمع بين الرئيس، رجل (وربما قريباً امرأة) الفعل، وبين القس، رجل (وهو كذلك امرأة في عدد من الكنائس الإنجيلية والمعمدانية والمنهجية الإصلاحية منذ وقت غير قصير) القول والخطابة الدراميين. وهذا ما يصنعه الرئيس الجديد في فاتحته الخطابية، وصنعه في خطب حملته ومنعطفاتها.وهو يقتضي وضع الكلام على موضع او محل يشبك الحاضر، وحوادثه وأزماته وابتلاءه، بالماضي ومحنه. وينبغي ان يغلب الشبه بين التصدي للحوادث والأزمات والابتداء، ماضياً، وبين إرادة مجابهة محن الحاضر، الشبه بين الحوادث نفسها. فليس من وجه شبه مادي أو حسي بين قتال من قاتلوا في كونكورد، إحدى مواقع حرب الاستقلال الأولى والحاسمة، وبين مكابدة البطالة والمصادرة و "الحلم الأميركي معكوساً" على أثر انهيار المصارف والبورصات وصناديق الاستثمار والادخار. وقد يتوسل الخطيب الرئيس التقريب بين "الأزمة المستفحلة" أو العميقة التي تضرب الولايات المتحدة وبين "الحرب على شبكة العنف والكراهية"، وقد يجمع الانهيار المالي والاقتصادي والحرب العسكرية في باب واحد، ليجوِّز تشبيه اليوم بالبارحة تشبيهاً مفهوماً ومباشراً. ولكن مناط التشبيه في الخطبة، وفي هذا الضرب من الخطابة السياسية، إنما هو الناس الأحرار وإرادتهم وعزائمهم، رجاؤهم ومروءتهم، اتحادهم واحتمالهم المسؤولية عن الحال التي يتصدون لها.
ابتلاء المحنولا يستقيم التشبيه والتمثيل، أو تستقيم الدعوة الى التشبه والتمثل، إلا من طريق حمل تاريخ الأمة الأميركية على تاريخ محن تبلو الأميركيين، وتعركهم، وتعجمهم، على قول الحجاج بن يوسف الثقفي في صنيع "أمير المؤمنين" الذي ندبه الى حرب "اهل العراق". ويسوّغ هذا الكلام على تناول "درامي" للتاريخ وحوادثه، على شاكلة تناول الإيمان البروتستانتي "تجربة" الإنسان المؤمن، بل كينة أو حال الإنسان عموماً حين ينقلب من الغفلة عن "الخلاص" الى الارتماء في لجة السعي فيه من غير دليل ولا مرشد أو ضمانة. ولا يقتصر الأمر على التذكير، في معظم فقرات الخطبة وأجزائها (السبعة)، بالمحن أو الاختبارات الكبيرة: من الحرب (العالمية) الباردة والحارة في بعض الأوقات على الشيوعية وديكتاتورياتها الى الحرب الثانية، العالمية كذلك، على الفاشية والنازية، ومن "الحرب" على الكساد الكبير في 1929 وطوال معظم العقد الرابع، الى الحرب العالمية الأولى، ومن الحرب الأهلية الى حرب الاستقلال.فالاختبارات الكبيرة والظاهرة هذه تخللتها اختبارات يومية أكثر خفاء وتواضعاً، لا تقل قسوة عنها، ولابست وجوه الحياة الأميركية، و "الحلم الأميركي"، كلها. "فسفرنا لم يكن يوماً على طرق مختصرة، فيرضى المسافر بأقل مما يسعه قطافه أو حصاده". والمهاجرون هم العَلَم على السفر الطويل هذا. وهؤلاء كدوا بأيديهم، ونزفت جراحاتهم دماً، واكتوت أجسادهم بالسياط، وعملوا خلسة في المصانع والمعامل، واستعمروا الغرب، لقاء "تفوق أميركا على جملة أحلامنا فرداً فرداً". ووفاء أميركا بوعد تفوقها هذا يلزمها تخطي فروق الولادة والثراء والقبيل (أو جماعة الهوى)، أي إنجاز المساواة بين أفراد أحرار يجمعهم انتسابهم الطوعي والعملي المتجدد الى "مثل آبائهم وأجدادهم وإلى مواثيقهم وعهودهم الأولى". وعلى هذا يدعو الرئيس مواطنيه الى "استئناف ابتكار اميركا"، أي الى تجديد إنشائها وصنعها بأيديهم، وليس الى بعثها ولا إحيائها ولا نهضتها، أو إنهاضها.ولا يتواضع الخطيب التواضع الكاذب الذي يحمله على الإغضاء عما أنجزته اميركا من قبل، ويسع الأميركيين استئنافه وتجديده. فيعلن من غير تلعثم: "لا نزال بين أمم الأرض أكثرها رخاء، وأعظمها سلطاناً". ولكنه يسرع الى "النزول" من الأمة، ومن الكيان أو الجسم السياسي والاجتماعي المتماسك والواحد، الى أجزائها أو مواطنيها وأعيانها الأفراد والآحاد. فالأمة الأكثر رخاء والأعظم سلطاناً هي جماع أو رابطة العاملين المنتجين، والعقول المبتكرة، والسلع التي تسد الحاجات، والطاقة على العمل. فلا تستقر الأمة في مثالها، أو على فكرتها، وتتهدد المواطنين بالتعالي عنهم، والانفصال منهم، والاستقلال بـ "نفسها" في أحضان نخبة أو زمرة مستولية ومستبدة، على ما يحصل في الخطابات والسياسات القومية والشعبوية والأصولية. ويحسن ألا تستقر في مثالها أو على فكرتها. فهي لا تأمن، إذا استقرت، أن تُسلم القياد الى "بعض المصالح"، فتقوم هذه، وهي جزء، محل الكل، على خلاف المساواة وأصلها ومترتباتها. ولا تأمن، من وجه آخر، إرجاء قرارات ملحة، بذريعة إقلاقها عادات مسترسلة واطمئناناً كسولاً الى حقوق ثابتة. وهذا نقيض المروءة والتبصر بالوقائع.فالأمة ليست كلاً وجميعاً، لا كياناً ولا معنى. ورواية حوادث تاريخها ووقائعه على مثال ملحمي لا تستقيم إلا اذا تناولت الرواية "وقائع" الآتي. ففي الفقرة الرابعة من الخطبة، وهي فقرة انتقالية تلي فقرة استجماع العزيمة (ومطلعها: "لا نزال أمة فتية...") وتسبق فقرة معيار العمل الأميركي (ومطلعها: "وبعضهم يشكك في عرض مطامحنا...")، ومدارها على استئناف اميركا، يطلق الخطيب العنان لمديح العزيمة والقوة على العمل. وعلى شاكلة أنبياء الهمة والفتوحات، وعلى خلاف أنبياء الأفول والكارثة المحققة، يحصي أوباما احصاء "هوميرياً" مرافق العمل التي تنتظر مواطنيه: "وحيثما شخصنا فثمة عمل (ينتظر)". فمن فرص العمل التي ينبغي استدراجها وإنشاؤها إلى إرساء أسس النمو الآتي غداة الركود ومعالجته، ومن بناء الجسور وشق الطرق وتعبيدها الى مد شبكات الكهرباء والخطوط الرقمية التي تنفخ الحياة في المبادلات التجارية، ومن رد الاعتبار الى البحث العلمي الى استدراره "عجائب التكنولوجيا" وإعمالها في تحسين جودة الخدمات الطبية وتقليص تكلفتها، ومن تسخير الشمس (أو طاقتها الحرارية والكهربائية) والهواء والأرض وتشغيل السيارات والمصانع الى تحديث المدارس والجامعات – تشبه لوحة أوباما الزاهية البروميثيوسية صور السعادة الفردوسية. والفرق مصدره ان شطراً كبيراً من الصور هذه قائم فعلاً وناجز.ويدين الخطيب بألوان لوحته، وبآمالها، الى عقلانية تنويرية أوروبية، ليبرالية وإنتاجية صناعية وديموقراطية، حملت التقدم على تعاظم الموارد، وعلى تعاظم سلطان البشر عليها، وتوزيعها فيهم على الإنصاف والكفاية. وتنويه الرئيس الأميركي بالنتائج الطبية والمالية المترتبة على "عجائب التكنولوجيا"، هو القادم على حكم بلد يدور شطر من النزاع السياسي بين نخبه على نفقات الضمان الصحي على نحو أربعين مليون أميركي وعلى جواز استخدام بعض ثمرات البحث العلمي والمختبري (الخلايا الجذعية) في معالجة أمراض مزمنة و "انحدارية"، تنويهه بالنتائج هذه لا يخرجه من العقلانية التنويرية هذه، وتفاؤلها العلمي والتقاني والسياسي. وهو يماشي، من غير تحفظ ظاهر، توحيد مراكمة الاكتشافات العلمية، والإنجازات التقنية والصناعية، والموارد والضمانات، في التقدم الإنساني والسير على طريقه. ويحمل الخطيب الوجهين أو الأمرين، أي المراكمة والتقدم، على واحد.وهذا مدار مطارحات ومناقشات حادة بين "الكتاب" الأميركيين، وشطر منهم محاضرون ومدرسون وقساوسة خطباء منابر ومتجولون، طوال القرن التاسع عشر، والشطر الأول من القرن العشرين، عشية الحرب الأولى. وذهب صف من الكتّاب هؤلاء، مال الى الجمهورية "وفضائلها" الفردية والزراعية والكفاحية الحربية وقدمها على الديموقراطية العامية والصناعية والاستهلاكية، إلى ان نظام الأجور الصناعي، وتقويضه عمل الحرفيين ومهاراتهم واستقلالهم وتوارثهم المهارة والمسؤولية في ذريتهم وأسرهم، يدمر ركن الحياة السياسية الجمهورية، أي حرية المواطنين المنتجين. ويحل النظامُ "التقدمي" هذا العبودية المأجورة والعامة محل حرية الأفراد، ملاكي أدوات عملهم، وحاملي سلاحهم، والمتعاقدين فيما بينهم، ومتداولي ولاية السلطة وطاعة الولاة المندوبين الى الولاية.
الشعبوية الأميركيةويسمي مؤرخو الأفكار الأميركيون التيار الفكري والثقافي السياسي هذا بالشعبوي، على معنى يخالف المعنى الذي أودعه الأوروبيون الاسم أو الكلمة غداة الحرب الأولى على وجه الخصوص. وخلفت الشعبوية الأميركية، وأعلامها قافلة طويلة من الخطباء والدعاة والكتّاب والمحاضرين والصحافيين والوعاظ ليس أولهم توم باين وكوبيت ولا كريستوفر لاش آخرهم وبينهم إيميرسون وثورو وكراولي، أثراً عميقاً في الحركات النقابية الأميركية، وفي صيغ بلورة رأي عام من طريق أفعال نموذجية. ولعل مثالها صعود الشابة السوداء الى باص ينقل البيض وحدهم، وجلوسها في مقعد بينهم، ورفضها النزول من الحافلة. وكان هذا الإيذان بحركة الحقوق المدنية، ومارتن لوثر كينغ أحد أعلامها، وباراك أوباما صدى جهوري من أصدائها الخطابية والعملية معاً، على شاكلة أميركية لا مثيل أوروبياً لها ربما.ويبدو الرئيس الرابع والأربعون مسلِّماً وراضياً بما سماه ديوي وبيرد، بين الحربين العالميتين، "مجتمعاً تكنولوجياً عقلانياً". ويقر التسليم هذا بغلبة الليبرالية، وفصلها الاستهلاك وتلبية الحاجات المعيشية والحيوية والمساواة، على الحياة "المستبسلة" الجمهورية، ومروءتها وحريتها وفرديتها. ويقر تالياً بتقدم البورجوازي، وربما العامل "البروليتاري" (على معنى "قوة العمل")، على المواطن، وانتصاره عليه، على ما خشي ويليام جايمس. ولو صدق التشخيص هذا في أوباما، وفي الفصول السابقة من التاريخ السياسي والاجتماعي الأميركي، لترتب عليه شبه هذا التاريخ بالتاريخ الأوروبي وفصوله المأسوية والمدمرة بين الحربين العالميتين.ففي "حرب الثلاثين عاماً" الأوروبية الأهلية (1914- 1945) انقسم الأوروبيون حزبين أو معسكرين اشتركا، على مقادير متفاوتة ومختلفة، في إدارة الظهر للسياسة الجمهورية، والإقبال على "سياسة بيولوجية" أو "بيولوجيا سياسية"، على قول محدث ومتأخر. وعلى رغم هذا، فنزاع الأنظمة الليبرالية الديموقراطية، العقلانية والإنتاجية الاستهلاكية، والأنظمة الكليانية الفاشية والعرقية "القومية"، ليس نزاعاً بين صفي معسكر واحد. ولا يصح حمل صراع الأنظمة الليبرالية الديموقراطية والأنظمة الشيوعية من بعد على حرب أهلية في مجتمع يشترك محاربوه في هيئات ورسوم ومثالات واحدة. ولكن مجتمعات الأنظمة هذه، وهي كلها أوروبية ويقع معظمها على خط تاريخي وجغرافي يجتاز أوروبا من وسطها الشرقي بمحاذاة غربها الجنوبي الى جنوبها البلقاني، تحدرت من مزيج غير مستقر بين إنسان الحاجات والتجارة والعقد وبين إنسان الغابة والجماعة المرصوصة والجسم السياسي الصوفي و "الممسوح".وفي خضم الصراعات والمنازعات العظيمة والمتصلة هذه، انفردت الولايات المتحدة الأميركية بتاريخ و "مصير" على حدة. فتركت أوروبا، وهي معظم العالم، لحروبها السلالية ثم الديموقراطية والشعبية والقومية. واستجابت دعوة جورج واشنطن الأمة، في خطبته الوداعية، الى التخفف من أحلاف وأنساب تجر على أصحابها الثارات المتناسلة والكراهية والدمار ودولة الدول. وحين تورطت الرئاسة الأميركية، في عهدي ويلسون وروزفلت، في الصراعات والحروب الأوروبية، لم تحملها على التورط مصالحها، على المعنى الضيق، ولا حاجاتها البورجوازية أو البروليتارية "البيولوجية". وحملتها على التورط فضائلها الجمهورية والسياسية. وهذا ما لا ينفك ينفخ في اعتداد أميركي بالنفس لا تفهمه مجتمعات تبلغ أرقام خسائرها في الحربين الكبيرتين أضعاف خسائر الأميركيين. ويغفل أهل هذه المجتمعات فرقاً عميقاً بين حروب الأميركيين وبين حروبهم. فالأميركيون خاضوا هذه الحروب غير مكرهين. ولم تسقهم إليها روابط الدم أو التاريخ أو العهود، أو المنافسة على المستعمرات والتزاحم على اقتسام الامبراطوريات. فهم اختاروا من تلقاء أنفسهم، وفي ضوء "مواثيقهم الأولى" دخول الحرب مرتين، وترجيح كفة بلدان يتحدرون منها على نحو ما يتحدرون من أعدائها. ومعيارهم الأول هو النظم السياسية. وبعد الحربين العالميتين، اختاروا مرة أخرى البقاء بأوروبا. وتولوا تدبير فصل ما بعد الحرب، وإنهاض أوروبا كلها، ما عدا تلك التي سطا عليها عنوة الجيش الأحمر واتخذها ترساً تترس به من الكتلة الأوروبية – الأميركية على ضفتي الأطلسي. ولم يقتصر التدبير والإنهاض على الشق الاقتصادي فتعهد أبناء "برابرة" الغرب ورعاة البقر وقراء العهد العتيق إنشاء أوروبا السياسي والدستوري. وكانت ألمانيا الفيديرالية ثمرة التعهد هذا.ولا تخلو افتتاحية أوباما الرئاسية من أصداء المناقشات هذه، على وجوه وعبارات متفرقة. فالفقرة الرابعة، الملحمية والعقلانية التقنية، لا تنكفئ على معناها، ولا تحجّر الخطبة على مذهب أو فكرة. فيعود الخطيب في الفقرة السابعة والأخيرة، والطويلة، من الخطبة – ومطلعها: "إننا نكرم ذكراهم..."، يريد ذكرى "شعب" ايرلنغتون – الى شبك حلقات التاريخ الأميركي، الواحدة بالأخرى، وإدارة رد بعضها على بعضها الآخر. ومثال تحلق جماعة المؤمنين للصلاة المشتركة لا يحول. فيحمل ذكرى المكرمين، وأفعالهم، على حراسة "حريتنا"، "نحن" المتحلقين اليوم، ورفع لواء "خدمتنا" العامة واجتماعنا. وهذا من لوازم الخطابة المدنية والوطنية، الجمهورية، السائرة. ويزيد الخطيب سبباً آخر للتكريم: "إرادة وجود معنى في ما يتخطاهم". فيحيي الرئيس الجديد المعنى البيوريتاني الدفين الذي ناضل جوناثان إدواردز، لاهوتي "الإحياء الكبير" في النصف الأول من القرن الثامن عشر، في سبيل إبقائه حياً في وجه الموجة العقلانية والتنويرية القادمة من أوروبا. فلا يخلو الميدان لمواكب الحياة "العارية"، ولتفاهتها الهانئة، وسعيها في السعادة والرخاء اللذين لا يصلحان غاية اجتماع مشترك. وكانت الفاشية الأوروبية الوليدة اقترحت الحرب والفتوحات والدم والنار أفقاً لحياة جديرة بالأسياد. ورد الجمهوريون الديموقراطيون الأميركيون على الاقتراح الفاشي بالجمع المدني بين المثال البيوريتاني ومثال الرائد، ودمجهما في مثال أخلاقي يكافئ الحرب. ولعل أوباما، اليوم، من مريدي هؤلاء

الأحد، 15 فبراير 2009

هلال إخواني يستكمل الهلال المذهبي السابق؟

الحياة - 16/02/09
تبنى مرشد «الاخوان» المصريين محمد مهدي عاكف الرأي الذي سعت في تعميمه كتلة البلدان والقوى «الممانعة» في حرب «حماس» وإسرائيل، وعلى رأسها إيران. فطعن في السياسة المصرية، وحمّلها وزر «المساعدة» على حصار الفلسطينيين». وقسّم الساحة «أجندتين»، واحدة للاستسلام، ويقودها محمود عباس وحسني مبارك، و «زعماء دول عربية» أخرى. «والثانية للمقاومة والجهاد لطرد الصهاينة». واستعاد المرشد الإخواني المصري تسويغ «حماس» وإيران والقيادة السورية للحرب في غزة. فقال ان «الخسائر (قليلة) بالنسبة الى نجاح المقاومة، وكان لتوه قال ان «لا عقل ولا منطق ولا سياسة» في نهج رام الله - القاهرة المفاوض والمسالم «فيما الضحايا كثيرون جداً».
وردد موقف «حماس» و «حزب الله» و «الجهاد» و «القيادة العامة»: «الصهاينة ليس لهم إلا المقاومة». ولم ير ضيراً ولا عيباً في جمع دمشق والدوحة احتلال الجولان السوري من دون مقاومة، واستضافة قواعد عسكرية أميركية في قطر و «مكتباً صهيونياً» في الدوحة، مع وقوفهما، موقفاً رجولياً، وإيواء المقاومين وبارك المرشد الإخواني المصري توقيف «الإخوان» السوريين «النشاطات ضد النظام» السوري، وحمده. وقال، مثنياً على «الإخوان» وعلى النظام السوري معاً: «ولو رأيت من النظام المصري شيئاً يقف الى جوار المقاومة لأوقفت (النشاطات المعارضة) ايضاً» («الحياة»، في 10/2/2009). ويتوج موقف محمد مهدي عاكف، بعد مواقف وآراء إخوانية مصرية محلية في أثناء «جولة» غزة، مواقف إخوانية عربية أخرى. وليس تعليق المرشد السوري، البنايوني «نشاطات» الجماعة أو بياناتها السياسية والجبهوية، في إطار جبهة الخلاص الوطني مع نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام، أقلها بروزاً، فسبقت تصريحات عاكف، وأنصاره في مصر، دعوات إخوانية سورية ولبنانية وأردنية، الى الدعوة الفلسطينية الحمساوية في المرتبة الأولى، الى التنديد بالتواطؤ المصري على «حصار» الحركة الإخوانية الفلسطينية، وتهمة الحكومة المصرية «بإقفال المعابر» في وجه الفلسطينيين.
ووراء ستارة مساندة «حماس»، وتوحيد الفلسطينيين بـ «حماس» وسياستها الداخلية والإقليمية، أجمعت الحركات والتيارات الإخوانية في «بلدان الطوق» على رأي يقسم العرب عربين، ويدين «عرب الاستسلام» ويحمّلهم المسؤولية عن الحرب الإسرائيلية، ويدعوهم الى فتح حدودهم أمام منظمات المقاومة المسلحة و «جماهيرها»، وإلى الانخراط في حروب المنظمات هذه أو الانحياز الى «رجولتها»، على الطريقة القطرية - السورية، على أضعف تقدير. وتنصّب الحركات والتيارات الإخوانية سياسة المنظمات الفلسطينية المسلحة، ومصالحها وتحالفاتها وعداواتها وانشقاقاتها، معياراً داخلياً ووطنياً، وتتوسل بهذا المعيار الى الإدلاء برأيها في النظام السياسي الوطني المناسب، وفي هيئات النظام هذا، ودورها في العملية السياسية وإدارتها الحياة السياسية الوطنية برمتها.
وعلى الضوء هذا، ذهب الإخوانيون الأردنيون، وعلى رأسهم المراقب العام سعيد همام ورحيل (أو أرحيل) الغرايبة الى النعي على «النظام» الأردني افتقاده الى الدستورية والديموقراطية، وهم انتهوا الى الرأي هذا من طريق قياس سياسي مختصر وقاطع: «الشعب» يؤيد «حماس»، والحكم يتحفظ عن تأييدها فلا يلغي معاهدة وادي عربة (1994)، ولا يغلق السفارتين ولا يسحب السفيرين ولا يخوض الحرب، فالحكم يخالف «مزاج» الشعب ولا يمثله ويشارك في العدوان عليه وعلى الفلسطينيين.
فالمعيار هو «الموقف من المقاومة»، على قول خمينيي لبنان المسلحين. وعلى هذا نعى الناطق باسم البنايوني، الإخواني السوري، على «14 آذار» اللبنانية تحفظها عن «حماس» وسياستها الفلسطينية الغزاوية، ودعاها الى تأييدها، وتأييد حلفائها في لبنان، أصحاب سابقة حرب صيف 2006، وأنصار دمشق وحاكمها على الاستقلال والديموقراطية اللبنانيين. وفي ضوء تحكيم المعيار هذا في «النظامين» السياسيين الأردني واللبناني، يبرئ الإخوانيون في بلدان الطوق النظام السوري الأسدي مما يكيلونه من نقد الى الحكم الأردني أو الحكم المصري، فلا يعيبون عليه لادستوريته، أو هم يسكتون عنها، ولا يرون، على رغم القانون 46 المسلط على أعناقهم، التوريث الناجز والراسخ مدعاة معارضة مستمرة وثابتة، حين هم يرون جوازه أو احتماله في مصر سبباً في الانشقاق السياسي والاجتماعي، وثمة مفعول ارتجاعي لإعمال معيار «المقاومة» في السياسات الوطنية والإقليمية. فيجلو الإعمال هذا صدام حسين بطلاً قومياً وإسلامياً غير منازع، في مراحل سلطانه كلها: حين سعى الى امتلاك سلاح ذري، وحين قاتل «الفرس»، وحين قصف تل أبيب، وحين قمع قيام الجنوب الشيعي عليه، وحين توافد «جهاديو» أبو مصعب الزرقاوي لنصرة ديكتاتوريته من بوابة مطار دمشق...
وكان المعيار هذا، لمّا أُعمل في الأردن قبل 1970- 1971، وأُعمل في لبنان غداة الأردن، ثم غداة جلاء المنظمات المسلحة الفلسطينية عنه في 1982، ثم غداة جلاء القوات السورية عنه قبل نحو 4 أعوام، أدى الى تصديع «العقل والمنطق والسياسة»، على قول عاكف الدقيق، في البلدان والمجتمعات هذا وقلبها الى لا عقل ولا منطق ولا سياسة، على قوله المفحم. ففتحُ الحدود، ورفع الحصار على دعوة الإخوانيين اليوم، يؤديان لا محالة الى ما أديا إليه، ويؤديان في لبنان الى اليوم، إلى تسليط التعسف والاستباحة والاغتيالات والتهريب والعصبيات والفساد على السياسة والمجتمع والصحافة والأحزاب من غير استثناء.
فلا راد في «لا عقل» التسلح العصبي، أو لشرذمته الجماعات وحملها على الاقتتال وتقديمها مصالحها ونزواتها وولاءاتها على قواسم مشتركة وطنية. فتنتهي الشراذم، ولو نجحت بعض الوقت في الاستيلاء على جماعة أهلية ورصها والتمترس بها وخوض معارك دامية بلحمها، الى «ولايات» محلية ضئيلة تباع وتُشرى في سوق نخاسة مفتوحة. ونجاح إيران الخمينية في دخول السوق هذه، وفي «تحريكها» ونشر عدواها جزئياً في بعض المواقف الإقليمية، لا يعمي عن كوارثها. وانبهار الحركات الإخوانية بها يقطع الطريق على اقتفائها «المثال» التركي، الذي أمله بعضهم، ويورّط المثال التركي المفترض في «مشرقية» أودت بإيران الخمينية، وسحقت آمال الإيرانيين في الحرية.

أردوغان ومسألة «حماس» السياسية

الحياة - 07/02/09
النواة الصلبة والسياسية من رأي رئيس الوزراء التركي أردوغان في إسرائيل والحرب على «حماس» وغزة، هي ما قاله الى «واشنطن بوست» الأميركية في الأول من شباط (فبراير): «ليست حركة حماس ذراعاً لإيران في المنطقة. وهي شاركت في الانتخابات (التشريعية الفلسطينية في 2006) في صفة حزب سياسي. ولو أتاح لها العالم فرصة العمل كحزب سياسي غداة فوزها في الانتخابات لما انتهى الوضع التي انتهى اليه اليوم». وقد لا يتفق هذا القول اتفاقاً تاماً والخطاب الذي ألقاه في جمهور مستقبليه بمطار اسطنبول، صبيحة الجمعة 30 كانون الثاني (يناير) عائداً من دافوس. وبعض هذا الجمهور نقلته حافلات مجانية وكان في انتظاره موظفو البلدية التي كانت رئاستها باب أردوغان الى العمل السياسي الوطني.فهو قال لمستقبليه الصباحيين إنه يلوم جمهور دافوس على تصنيفه لبيريز، الرئيس الإسرائيلي «بعدما فقد المئات من الأطفال في غزة حياتهم على أيدي الإسرائيليين». وسأل بيريس رئيس الحكومة التركية عن رده على مطلقي الصواريخ على اسطنبول، لو قيض لهؤلاء ان يملكوا مثل هذه الصواريخ، وأن يطلقوها من أحياء مدن مكتظة بالأولاد والنساء. فرد رئيس الوزراء بأنه لن يعود الى دافوس ما دام مكلمه يتحدث بصوت مرتفع ومهين، ولا يحترم مكانة تركيا وشعبها، وما دام مدير الجلسة قصر وقت كلامه على 12 دقيقة نظير 25 الرئيس الإسرائيلي.وأعادت السجالات والمناقشات والمقالات التركية والإسرائيلية الخلاف الى موضوعه الأول وهو: ماذا يصنع بـ «حماس»؟ والإجابة عن السؤال بالقول ان «حماس» جزء من العملية السياسية، إقرار بأن اسطنبول، وهي «صديقة» غير خفية للحركة الإسلامية الفلسطينية، وتوسطت بينها وبين القاهرة في أثناء حرب غزة، تتمتع بدالة إضافية في ديبلوماسيتها الشرق الأوسطية، الى دالة وساطتها بين الدولة العبرية وبين سورية بشار الأسد. وتعزز الإضافة هذه مكانتها بإزاء أوروبا والسياسة الأميركية المنتظرة في وقت تتعاظم فيه المشاغل المؤدية الى الشرق الأوسط وتلك الصادرة عنه أو المنطلقة منه. وتركيا في القلب منها.والإجابة عن السؤال نفسه بالقول إن «حماس» حركة إرهابية، وأداة بيد إيران وسياستها الشرق الأوسطية، الأمنية والنووية، يبطل شطراً راجحاً من دور تركيا المتوقع، في المفاوضات الآتية، على الجبهة المزدوجة الديبلوماسية والسياسية معاً. وهذا تمييز لم ينكره أردوغان في اجتماعه الى نواب حزب العدالة والتنمية، في 3 شباط، وبدا فيه مسلِّماً بأنه قدَّم مكانة تركيا السياسية و «احترامها» على دورها الديبلوماسي وقد يترتب على الإجابة الثانية، وحمل «حماس» على الإرهاب طعن في نهج تعامل السياسة التركية مع الحركة الفلسطينية المسلحة والمنشقة. فيضعف الموقف التركي، وتنقلب «الورقة» الديبلوماسية الى موطن ضعف تجاه الاتحاد الأوروبي. ويحقق ذلك خشية أوروبا من وقوعها على حدود سورية وايران إذا هي ضمت تركيا اليها.وعلى هذا، فإلقاء تبعة مشادة أردوغان وبيريز على «أطفال غزة» و «مكانة تركيا» ذريعة ماهرة، على المحلي من المشادة. وقد لا يفقد الديبلوماسية التركية التي يتولاها علي بابا جان ويتولى شطراً آخر منها الرئيس التركي عبدالله غل - والاثنان، الى قيادة الجيش، ترجح موقفهما بين المجاراة وبين التحفظ - قد لا يفقدها حدها القاطع، والحاجة اليها. ولكنه أي إلقاء التبعة، لا يسهم كثيراً في حل معضلة «حماس»، وإدخالها في العملية السياسية. وعندما يذهب رئيس الوزراء التركي الى أن الحركة الإسلامية الفلسطينية والمسلحة لم تعط فرصة البرهان على صفتها السياسية فهو، على أضعف تقدير، يدور الزوايا، ويبالغ في اللطف.فـ «حركة المقاومة الإسلامية» بنت سطوتها، وقوتها التمثيلية، وقيادتها العسكرية والاجتماعية والإيديولوجية، أو التحريضية، على القتال. وشطر غالب من القتال هذا هو عمليات القنابل البشرية في 2001 - 2002. ولم يلجم هذا الضرب من العمليات إلا بالجدار الأمني، وقضمه 8 في المئة من أراضي الدولة الفلسطينية العتيدة. وجزت الجماهير الفلسطينية «حماس» خيراً على قتالها هذا. فقدمتها على «فتح»، وسلطتها، في الانتخابات البلدية أولاً، ثم في الانتخابات التشريعية، أوائل 2006. وكانت الحركة نددت بـ «انتخابات أوسلو» في 1996 وقاطعتها. فغلبتها الانتخابية هي نظير غلبة «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» (حركة أبو مصعب الزرقاوي ومولى «الشيخ» أسامة بن لادن، لمن نسوا) لو قيض لـ «القاعدة الجهاد» أن تدوم بعض الوقت، وتميل الى «النضج» أو التكتم، وتشبّه على العراقيين تمثيلهم والكلام باسمهم.والحق أن وزير خارجية أردوغان، علي بابا جان، يصوغ المسألة على الطريقة هذه: «على حماس أن تقرر هل تريد أن تبقى منظمة مسلحة أم حركة سياسية». ولم يقل توني بلير، وسيط الرباعية الدولي، رأياً آخر مختلفاً حين طلب الى «حماس» الدخول في العملية السياسية. ولكن «العقيدة» الديبلوماسية التركية، وهي صاغها أحمد داود أوغلو مستشار أردوغان، ترفع لواء «الدمج» أو الإدخال، على نقيض الاستبعاد: إدخال سورية في الصفقة الشرق الأوسطية، إدخال إيران في المقايضة الدولية، إدخال روسيا في المفاوضة على مستقبل القوقاز... وفي ديبلوماسية «الإدخال» هذه، يفترض المستشار النافذ أن ثمة ما يدعو الأطراف «المستبعدين» الى طلب الإدخال: فالنخب الروسية الجديدة تملك مصالح كثيرة في الغرب ويحسن التلويح لها برعاية مصالح.والمعضلة في حال «حماس» هي تشخيص المصالح التي قد تدعوها الى دخول عملية سياسية خرجت منها طوعاً، وصفقت الباب وراءها، في حزيران (يونيو) 2007. وانفردت بالسلطة، والقوة العسكرية والأمنية والإدارية والرقابية، وأبطلت الحياة السياسية التي جاءت بها الى الحكم قبل سنة ونصف السنة. وجعلت غزة مسرح رماية وكمائن دائماً. ودخلت الحركة المسلحة الانقسام العربي والإقليمي على نحو لا يُرى معه كيف خروجها من ورطتها، وورطة الفلسطينيين، المتفاقمة. فإذا كان رجب طيب أردوان يرى خريطة الخروج من الورطة، وخطوتها الأولى استجابة الشرط «السياسي» عن طريق وديعة تودعه «حماس» إياها ربما، فربما أدرك المراقب ما يعنيه «إدخال» الحركة الإسلامية و «دمجها». فينجلي إذ ذاك الاشتباه الذي حاط «حركة» أردوغان بدافوس، وقرنها بـ «حركة» منتظر الزيدي أمام أنظار «الجماهير» المحتفلة والمبتهجة.

على طريق حكومة وحدة وطنية فلسطينية

الحياة - 31/01/09
كان الموفد الرئاسي الفرنسي، فيليب ماريني، غادر دمشق الى بيروت، وأطنب في مديح السياسة السورية ودورها «المحوري» في المشرق العربي أو الشرق الأدنى، حين التقى الرئيس السوري بشار الأسد قادة «الفصائل الفلسطينية في دمشق»، على ما تسمى وتعرّف - وهذه المنظمات - ما خلا «حماس»، وأمينها العام الدمشقي الإقامة منذ وقت طويل خالد مشعل، والجهاد الإسلامي وأمينها العام رمضان عبدالله شلح صنو مشعل إقامة - هي من فتات منظمات سابقة كان لبنان ساحتها، وميدان أعمالها ومهماتها، وكانت القيادة السورية بوابتها الى لبنان وساحته وميدانه.فمنها ما تخلف عن سياسة سورية رمت الى شق المنظمات الأخرى، المستقلة بعض الاستقلال، أو المائلة الى خصوم سورية الإقليميين. وهي حال «جبهة» أحمد جبريل المتورطة في معظم الحوادث التي أدت الى ردود إسرائيلية على لبنان وفيه. ومنها ما ورثته «الضابطة الفدائية»، أي الشرطة السورية المولجة بمراقبة الأنشطة الفلسطينية على الأراضي السورية غداة الهجرة «الفدائية» عن الأردن في 1970 - 1971، عن عراق صدام حسين. ومؤدى التصنيف هذا ان الأسد الابن لم يستقبل «قادة» ندبتهم «فتح» أو «الجبهة الشعبية» أو «الجبهة الديموقراطية» الى لقائه، وشكره على «دعمه الكبير» في حرب غزة، وإعلان «شراكته في الانتصار الكبير» على طريق «إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس». (وهذا كله في بيان الرئاسة السورية، في 28 كانون الثاني/ يناير).ورد الرئيس السوري بإبراز «ضرورة استثمار هذا الانتصار سياسياً لتكريس الحقوق الفلسطينية بما فيها حق العودة». وانتقى الأسد عبارة كان انتقاها قبل سنتين ونصف السنة في تعليقه على حرب «حزب الله» وإسرائيل غداة حرب تموز (يوليو) - آب (أغسطس) 2006. فيومها، كذلك، دعا الخطيب «شعب لبنان» الى ترجمة انتصار «المقاومة» سياسياً. وترتب على «الانتصار» و «ترجمته السياسية» سبحة إجراءات أولها الاستقالة الشيعية من الحكومة، وتعطيلها وتعطيل المجلس النيابي تالياً (فلا ينعقد المجلس من غير مثول حكومة «شرعية» أو قانونية، على ما ينص الدستور وفسر رئيس المجلس «الشيعي»). وثانيها اضطرابات عامة قسرية ومسلحة. وثالثها احتلال قلب بيروت. ورابعها هجوم مسلح على بيروت وطرابلس وبعض الشوف والجبل.وخامسها توريط الجيش في مناوشات على حدود الجماعات المذهبية، وسادسها «مؤتمر» الدوحة وفروعه الرئاسية والنيابية والوزارية وتطويل الإعداد لانتخابات «رؤيوية» (نهائية وكارثية) فوق السنة.وقادت هذه كلها الى «وحدة وطنية» ثمرتها تجميد الأحوال اللبنانية، وتعليقها على انتظار عقيم. وفي الأثناء، لم تكف الاغتيالات ولم تهدأ، ما عدا في الفصل الأخير من «الترجمة السياسية»، غداة وساطة فرنسية، من حلقاتها الأخيرة زيارة الموفد المادح والمقر بالدور «المحوري» والعتيد. وقبيل استقباله الموفد الرئاسي والوفد الفلسطيني الجماعي، وهو سبق ان استقبل زعيم «حماس» خارج غزة منفرداً مرة أولى، نفى الرئيس السوري نفياً قاطعاً «مرور» العلاقة الفرنسية - السورية، وتحسنها، بلبنان. وكان وزير خارجيته، وليد المعلم، كرر على رؤوس الأشهاد ان إقرار الحكم السوري علاقة ديبلوماسية بلبنان لا شأن له بالسياسة الفرنسية، أو لا شأن للسياسة الفرنسية به، وهو ثمرة «تطور» علاقات البلدين واحدهما بالآخر. وتنفي الديبلوماسية السورية علاقة السياسة الفرنسية بالمفاوضات الإسرائيلية - السورية السابقة وغير المباشرة، والمعلقة «الى أجل غير مسمى»، على قول الأسد الابن في «قمة» الدوحة الجزئية والمحبطة (التي أحبطتها الديبلوماسية المصرية).ويرد هذا الى «الاستثمار السياسي» الذي تدعو إليه الحكومة الأسدية «الفصائل الفلسطينية في دمشق» إليه. ونصب عينها، من غير شك، المثال اللبناني «الناجح»، على ما تصفه. والخطوة الأولى على طريق الاقتداء بالمثال هذا، والنسج على منواله، هي تثبيت «حق العودة» بنداً أول واستثنائياً. وحق العودة هو أحد بنود المبادرة العربية، السعودية قبل إقرارها في قمة بيروت (آذار/ مارس 2002). وتدعو المبادرة الى مناقشة البند هذا في إطار دولي، ولا تنكر جواز السعي في تسويتها في هذا الإطار. وتقدم عليها مسألتي الدولة الفلسطينية وحدود 1967، وتدرجها في سياقهما. المسألتان هاتان هما مرحلتاها الأوليان والراجحتان. فحين يخص الأسد الابن حق العودة بالذكر فإنما ينبه الى دوام طعنه في المبادرة العربية. وهو دعا الى نقلها الى «سجل الوفيات»، بحسب عبارته البليغة.والحق ان «حماس» و «الجهاد» ليستا في حاجة إلى إبراز ما يضمن تعسير الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعثرها بما لا يحصى من الحواجز والكوابح. فمن «حق المقاومة» والعسكرة والصواريخ وإنشاء القواعد بين مساكن المدنيين ومرافقهم الى إقامة الدولة على «كامل التراب الفلسطيني»، ورفض الاعتراف بالدولة العبرية و «مسخها» «كياناً صهيونياً»، على ما اقترح رأس الدولة السورية في الدوحة، عاصمة حركات التحرر العربية، كذلك، الى الحق في الخروج على المجتمع الدولي وأعرافه، وإنشاء كتلة ثورية «مقاومة» - لا تعدم الوحدة الوطنية الفلسطينية المزمعة ما يلبننها لبننة حثيثة. ولن تألو السياسة السورية جهداً في السبيل المختبر والمجرّب هذا. وسبق لـ «حماس» ان أنجزت عملاً كبيراً في هذا المضمار. فهي لم تقتصر على شل «جيش» فلسطيني متنازع، أو على نخر إدارة مشلولة ومتقاسمة، بل أنشأت «قوة أمنية» خاصة على مثال «فرق الموت». و «فرق الموت» الحمساوية هذه صخرة لا قبل لسلطة فلسطينية قادمة، إذا قُيّض لها القدوم، بمناطحتها. وتضطلع مسائل «ثانوية» في نظر «حماس»، مثل إعمار غزة تمهيداً لهدمها، على ما تخمن الحكومة المصرية، أو مراقبة تهريب السلاح، ومراقبة تهريب المال «الشريف»، الى مراقبة بوابة رفح، تضطلع بدور «توحيدي» مدمر. وحركات التحرر «الإسلامية» أهل لهذا الدور.