الأحد، 23 أكتوبر 2011

مشاهد" التاريخ السياسي والاجتماعي العربي المعاصرة في ضوء كتاب حنا بطاطو "الكبير" في العراق: بلوغ مراكز السلطة العربية استيلاء واحتكار

 المستقبل - الاحد 23 تشرين الأول 2011
يحسب من يقرأ أن "نحو ألفي شخصية عشائرية من مدن متفرقة" فيهم رؤساء عشائر أكراد، اجتمعوا في مؤتمر عقد إحياءً لذكرى "ثورة 1920"، وعظموا دور العشائر "الواضح" و "ولاءها الوطني" في "بناء البلد خلال كل مراحله السابقة والحالية"، واضطلاعها بـ "وحدة العراق والشعب العراقي... لا فرق بين عشيرة وعشيرة"، واستئناف "الأحفاد" صنيع "أولئك الرجال في ثورة العشرين" وثباتهم على "قيم العشائر منذ ذلك الوقت" وهي قيم المجتمع كله وصورة عن "طبيعته العشائرية" (الشيخ فلاح العداي من عشائر الأنبار)، وقيامهم بـ "لحمة (العراقيين) الواحدة" كرداً وعرباً ومحاماتهم عنها دون من يريد "تمزيق شمل العراقيين وانتهاك "خط الوحدة الوطنية الأحمر" (الشيخ سالار عبدالوهاب باجلان باسم ستة من شيوخ عشائر أربي ودهوك) يحسب من يقرأ هذا، وغيره مثله كثير، أن المؤتمر العتيد انعقد في العهد الملكي، وفي رعاية شيخ العراق الأول وشريفه المتحدر من "عشيرة" بني هاشم. ولكن المؤتمر عقده المؤتمرون في أواخر حزيران المنصرم.

وهو وجه من وجوه "النشاط" السياسي أو الأهلي المحموم الذي يعتمل في ثنايا "المجتمع" العراقي منذ سقوط صدام حسين، ونظام عشيرته وحكمها، قبل 8 أعوام ونصف العام تحت وقع "الصدم والترويع"، على ما سميت عملية القصف الأميركية العنيفة قبيل الحملة البرية. ويعمد أهل السياسة في العراق، حزبيين ونواباً منتخبين على الصفة الحزبية والسياسية الوطنية والجامعة أم مندوبين عن جماعات وتيارات محلية وعصبية، إلى إعمال المصطلح أو المرجع العشائري والمحلي والمذهبي والقومي في مناقشاتهم وسجالاتهم، ثورية أو صراحة ومباشرة. فإذا استعاد رئيس البرلمان العراقي، أسامة النجيفي (من "القائمة العراقية" المختلطة) اقتراحاً سائراً يقضي بتخصيص الأنبار، السنية السكان والشاسعة المساحة، بإقليم على غرار إقليم كردستان، وهو لا يخرج عن بعض مندرجات الدستور العراقي الجديد، جبهه بعض أعضاء كتلته الكبيرة، "العراقية"، وبعض أعضاء كتلته الصغيرة، "عراقيون"، بالتنديد، وطعنوا في أنانيته المذهبية وغير الوطنية. وردوا عليه احتجاجه بـ "تهميش" أهل محافظته وملته. ونبهوه إلى أن "سوء الخدمات والبطالة والفقر تطاول الجميع بلا تمييز" (ميسون الدملوجي باسم "العراقية"). وأبدى بعض نواب "التحالف الكردستاني" اهتماماً بما قاله رئيس البرلمان في أثناء إقامته بواشنطن في أواخر حزيران. وعطفوا التصريح بطلب الإقليم السني العربي على ميل الأكراد إلى "تشكيل الأقاليم الأخرى"، ونفيهم عنها شبهة "التقسيم" (مؤيد طبيب باسم "التحالف").

فوالق انقسامات وصراعات

ويتفق هذا، وهو مرآة ميول استقلالية "ذاتية" لا تذهب الى الانفصال وتحول دون الاندماج والبحث في سبله وشرائطه، مع النزاعات المحلية، "الأمنية" ظاهراً والأهلية فعلاً، التي تتغذى منها أعمال الإرهاب في بغداد وديالى والأنبار والموصل وكركوك، في الوسط والشمال، وفي كربلاء والنجف والناصرية والبصرة جنوباً. وتبدو النزاعات المحلية، على صورة تفجيرات أو اغتيالات، قرينة على استقرار بطانة اجتماعية تحتية وعريضة تلازم "المتن" الضيق والمهشم، وتغذي خروجاً متعاظماً وراجحاً على قانون ضعيف الحيلة واليد والدالة، ويتناهب حيزه أو دائرته، شأن تنازع أهل القوة ("الناس اللي فوق") وأهل الضعف ("الناس اللي تحت"). وتصب في "الهامش" العريض هذا روافد كثيرة يختلط فيها المهجَّرون، وسواقط المراتب والطبقات المتفرقة، والمجرمون المستقلون، والمجرمون المنظمون، والمقاتلون الناشطون، والمحتالون، والمتسلقون، وحواشي السياسيين، وغيرهم. والمناقشات السياسية المترجحة في المسائل الكبيرة مثل الفيديرالية وقانون الطاقة والنفط والمادة 140 من الدستور (وضع كركوك) وتقاسم المناصب الحكومية والعلاقة بالأقطاب الإقليميين والمعاهدة الأمنية العراقية الأميركية والفساد "العظيم"، هذه المناقشات مرآة ثبات الخلافات والتناحرات العراقية على حالها وعجز الجماعات والهيئات عن تخطيها.

ويذهب معلقون ومراقبون كثر الى ان وجوه الأزمة، والمسوخ الغريبة التي تفرعت عنها، إنما حبلت بها الأعوام الطويلة (35 عاماً) التي استبد في أثنائها بالسلطة حزب صدام حسين و "بعثه" وعشيرته. وكان الغزو الأميركي، وانهيار الأبنية الركيكة التي كانت ترعى تماسك "الدولة" الظاهر (والظاهر في هذا المضمار جوهري) تحت وطأته الفظة، قابلة الأزمة ووضعها وولائدها الممسوخة. ولكن زيارة عمل حنا بطاطو الكبير "العراق/ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية" (1978 بالإنكليزية و1990- 1992 بالعربية، في ترجمة عفيف الرزاز، التقريبية والمضطربة على زعمي) في ضوء الوقائع التي أعقبت قيام الجمهورية الى انفراد صدام حسين بالسلطة (هذا تولاه العمل نفسه) وقيادته حربي الخليج، وتلك التي خلفها انهيار الرجل ونظامه واحتلال العراق ثم محاولة بناء العراق الجديد المتعثر والشاق، هذه الزيارة تنبه الى قيام العراق، مجتمعا(ت) ودولة (دويلات)، على فوالق انقسامات وصراعات عصيت سيطرة الجماعات المتصارعة عليها. وربما لم تسع الجماعات والهيئات المتفرقة في السيطرة على فوالق الانقسامات والصراعات، ولم تتنبه الى خطورتها وصلابة مكسرها، إذا استثني فيصل الأول ابن الشريف حسين. وهو كان في موقع نافذ ومقيد معاً. وينبغي على الأرجح استثناء كامل الجادرجي كذلك، وهو أحد أركان تيارات المثقفين "التقدميين" والليبراليين معاً ومنظماتهم وصحفهم، على رغم ضعف دوره السياسي. وهو انتهى به إدراكه جسامة الانقسامات والصراعات، وانصراف العراقيين عن تدبرها، الى الاستقالة من العمل السياسي، غداة نصف قرن من مباشرته ومراقبته مراقبة نفاذة. وقد يحصي الواحد في عداد القلة القليلة من الذين تنبهوا على فداحة "المادة" العراقية طاغيتي العراق الحديث، نوري السعيد وصدام حسين. وهما تمثيل حاد على إدراك عدمي للفداحة العصبية على الترويض والسوس. واتفق هذا وميولهما العميقة والجامحة الى تسلط لا قيد عليه.

والحق أن ما يسوغ زيارة عمل حنا بطاطو الفريد في بابه، الباب التاريخي والاجتماعي "العربي" والمعاصر، اليوم على وجه الخصوص، لا يقتصر على شبه مفترض وظاهر بين أحوال اليوم وأحوال الأمس القريب والأبعد التي أحاط العمل بها على نحو قلما تكلفه باحث مؤرخ في مجتمع مشرقي. وهذا الشبه، إذا اتفق وثبت، لا ينفي فروقاً عميقة لم يغفل عنها الباحث المتقصي، وأنزلها في محل القلب من تقصيه التاريخي. فموضوع عمله، على رغم وسمه التشريحي والوصفي وقرب جداوله الكثيرة من التبويب القَبَلي (نسبة الى "قبائل" الجمجمة وتقابل أجزائها الاثنيني)، هو المنازعات الاجتماعية والأهلية وأطوارها و "دينامياتها"، ولو على صورة الطياحة والخبط البعيدة من الانضباط الفيزيائي والميكانيكي الذي توحي به اللفظة.

مدافعة الدولة

ولعل ما أوهم بثبات المثال الذي جرى عليه التقصي، أو بـ "اسطاطيقيته" (على خلاف ديناميته)، هو جمعه بين منهجين: واحد تغلب عليه الروابط الجزئية والموضعية المباشرة والمغلقة، على ما يُرى في جداول الأبواب الاستقصائية التي تنزلها الطواقم السياسية المتفرقة و "القيادات"، وثانٍ عام وعريض يفصح عنه حنا بطاطو في خلاصاته الختامية وينتسب الى نظرية "نمو التخلف"، على ما صاغها عليه اندريه غوندير فرانك وفريق من الماركسيين في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين. وينحو النهجان نحوين من العسير التأليف بينهما. والأدق القول ان الباحث الكاتب لم يتكلف مؤونة التأليف الشاقة، أو هو لم يحمل التأليف على تتمة عمله "الضرورية". فصرف جسم العمل الأعظم الى وصف مفصل تناول ثنايا الجماعات، واقتص حوادثها على هدي علاقة "تمثيل" أو "تعبير" بقيت معاييرها مضمرة وغامضة أو مفترضة بدهية. وحاك في الختام خيطاً جامعاً أناط به تعليل إصابة علاقات الطبقات الاجتماعية بخلل أو تشويه جراء إدخال بريطانيا المستعمرة عاملاً غريباً هو ربط العراق بالسوق العالمية الصناعية وسلعها، وتحويل الامتيازات لمصلحة أوروبا (عوض السلطنة العثمانية التركية)، وغلبة وسائل النقل البخارية، وسلخ محافظات العراق العربية الشمالية عن دائرة تجارتها السورية أو الشامية... ونجم عن الربط هذا، على ما يكتب بطاطو، تردي الاقتصاد المحلي القائم على الحرف وصناعة المراكب والنقل التقليدي (على الجمال والمراكب الشراعية) وانهياره، واستقرار زراعة قبلية متصلة بالسوق على إنتاج كفائي ورعوي، واستملاك المشاعات القبلية والأميرية الشاسعة وجمعها بين أيدي المشايخ القبليين والأغوات عنوة، وتصدع الجماعات القبلية وطوائف الحرف والطرق الصوفية، وهجرة جماعات عريضة الى المدن وانخراطها في الجيش والشرطة والإدارات ومرافق العمل "البسيطة"... (الفصل 24، الجزء الثالث).

ولكن عمل الباحث الفلسطيني النسب، والأميركي التدريس، يتخطى بما لا يقاس التعليق "المنهجي" المزعوم الذي ألفه معلقو أو قراء "اليد الثانية"، ممن لم يتكلفوا عناء جمع المادة الأولى، أو التحري عنها في مواضعها وتمييزها، وسلكها في جُمل وسياقات إحصائية وروائية متماسكة ودالة قبل محاولة تأويلها واقتراحه، واختبار التأويل ومتانته. وما يدعو الى استئناف النظر في العمل، وهو لم يُعمَل إلا إعمالاً ضعيفاً وقليلاً (قياساً على استدراج "المناضلين" مديحاً وتطبيلاً مقيمين، أو من غير مقايسة ولا مقارنة)، ويدعو إلى إدامته، وتوسيع حقله، اتصاله العميق بأطوار المجتمعات المشرقية اللاحقة والراهنة، وربما الآتية إذا جاز التكهن والاستباق على حذر شديد. فحرص الكاتب المتقصي على تعقب أطوار الجماعات والأحوال طوراً بعد طور، وتحريه الدقيق عن تحدر الطور من الآخر، واتصال اللاحق بالسالف أو انقطاعه منه، وحياده عن سكته، بعثه على استخراج المزمن من العارض، أو البنيوي من الحادث. ولم يفترض البنيوي كامناً ومضمراً، ولا افترض العارض عبثاً. فقاده التقصي التاريخي الجامع، على نحو فحصِ الطبيب المعالِج وجوه قول "المريض" وأحواله "كلها"، وحملِه الوجوه والأحوال على كلٍّ وجميع دالّين، إلى تدوين ما ألح وتكرر طوال نيف وقرن بين انهيار عهد المماليك والفصل الأخير من التنظيمات العثمانية وبين استيلاء البعث في صيغته الصدامية التكريتية على الحكم والمجتمع العراقيين. وقد يكون ما ألح وتكرر (أو هذا ما أزعمه على تبعتي وحدي) هو مدافعة الجماعات العراقية، طبقات قديمة وكتلاً وسيطة، وحركات جديدة، الأبنية السياسية والوطنية الناشئة والمركزية مدافعة نشطة وفاعلة، وإنشاء الطبقات والكتل والحركات من علاقاتها ومراتبها ومبانيها ومنازعاتها دوائر منكفئة، وخنادق حصينة، تجعل من بلوغ السلطة ومراكزها استيلاءً واحتكاراً، من غير مشاطرة أو منازعة مشروعة. وعلى هذا، يضم الفريق المستولي الدولة ومراكزها وسلطاتها ومواردها إلى مِلكه و "ديوانه الخاص"، على قول عثماني وسلطاني سائر. ويَبْقى على حاله قبل الاستيلاء المركزي، أي جماعة أهلية أو كتلة أهلية مركبة تقتسم أجنحتها وكتلها الفرعية، و "أفرادها"، "المصالح" والعوائد والريوع.

ويفترض هذا (ويترتب عليه، في آن) إقامة الجماعات الكثيرة، المذهبية والمحلية والنَّسبية القرابية والقومية الإثنية والاجتماعية (عملاً وموارد وإقامة وموقعاً من الجماعات الأخرى في إطار "الكل" المفترض وحركة بيانية)، على فروقها ولحماتها أو عصبياتها، أي على حصونها وخنادقها بإزاء الجماعات الأخرى. وهو يفترض كذلك تعظيم الفروق والمراتب بين الكتلة المستولية وبين الكتل الأخرى، المنفية حكماً من "دولة" الكتلة المستولية. فسند الاستيلاء الجديد، وهو ما تعول عليه الكتلة المستولية في سبيل إدامة سلطانها وتعظيمه، هذا السند ليس معايير استملاك وتوزيع جديدة ومشتركة أو عامة فيؤدي إعمالها إلى ذهاب الشطر الأعظم من الموارد والمراكز إلى جماعة دون جماعة (مثل جعل الكفاءة محل النسب، أو تقديم الثراء على المكانة...)، وعلى ترتيب الجماعات المتفرقة والمتنازعة على مراتب لا يهدأ تداولها، وتدور المنازعة عليه (على التداول). وإنما السند، الوحيد ما أمكن، هو توسيع الهوة بين قوة الكتلة المستولية، وغالباً المنقلبة بالقوة العسكرية على الكتلة السابقة، وبين الكتل والجماعات التي نفاها الانقلاب الجديد من مراكز القوة ومواردها وأسبابها. وينبغي ان تكون محصلة الصراع على المراكز والموارد صفراً، فما يستولي عليه الطاقم المستولي يحسن أن يسلبه وينتزعه من المغلوبين المنفيين. وشرط دوام الغلبة والاستيلاء اللازم، وهو يلزم الطاقم المنقلب، هو ضعف المغلوبين.

اختصاص "طبقة" السلطة

ويرعى أهل القوة الجدد، ما داموا في السلطة وملكوا مقاليدها ومواردها، تجديد ضعف خصومهم ومعارضيهم ومغلوبيهم و "رعاياهم" (وهؤلاء واحد أو يفترضهم نظام الحكم واحداً)، وبقاء الهوة بين "الحاكم" و "المحكوم" على حالها من الاتساع الفاغر، والعمق الذي لا يردم. وفي مقابلة أهل القوة المتربعين في السلطة، والمجمعين على الاحتفاظ بها والملتحمين أولاً على هذا "البرنامج" وليس على غيره، يرعى الخصوم المعارضون والمغلوبون لحمتهم وانفصالهم وهويتهم، أو هوياتهم الأهلية، على حدة من الحكم، اي من الدولة الوطنية المفترضة. ويعدون العدة سراً أو علناً، لخلافة الحاكم المستولي وعصبيته. وعلى هذا مدار السياسة. ويسد الصراع القطبي والعصبي المجاري المفضية إلى أبنية أو هيئات سياسية وتمثيلية مركبة ومشتركة. فلا يقتصر غرض الصراع، والحال هذه، على المحل أو الوظيفة والدور، أو على تداول المحل أو الدور، بل يتعداهما (ويتعدى التداول) إلى "جسم" السلطة وصورتها المنغرسة في الكيان الجماعي العصبي والأهلي، وفي لحمه ودمه وقدسه. ويحيل هذا الدولة، أي معنى الأمر (والسلطة) ودالته وأجهزته، إلى مرتبة و "طبقة" منفصلتين ينزلهما أهلٌ أي أصحاب يختصون بهما، بالمرتبة و "الطبقة"، ولا يشاركهم الاختصاص إلا من يختاره الأهل، ويلحقونه بهم إلحاق أهل النسب الصريح مواليهم المهجّنين والمولدين بهم، وهذا احتلال أو فتح على المعنى الحرفي.

ومثال المتغلب بهذه الحال هو مثال المحتل الفاتح والغاصب، على ما ذهب إليه بنجامان كونستان في نابليون الامبراطور أوائل القرن التاسع عشر. أو هو مثال شيخ الأسرة و "ربها" وطاغيتها (على قول اليونان في علاقة رأس الأسرة غير السياسية بأسرته وعبيده وممتلكاته). ومن يتنطح الى الشراكة، وهي لا يسعها الاقتصار على الشراكة وتجد نفسها مقودة الى الاستيلاء والاستحواذ التامين، ينقلب على رغمه عدوّاً وجودياً أو كيانياً يُحتكم في "خروجه" (معارضته) إلى السيف، أو القتل الأهلي والاغتيال والنفي، وكلها إجراءات وأفعال "غير قضائية".

ويستحيل أن يترتب على الحرب الأهلية الكلية هذه، وأفقُها الماثلُ على رغم امتناعه العملي والإجرائي هو الإفناء المتبادل، تعاقد أو تعاهد على معايير المنازعة، وعلى تقييدها تالياً بقيود تنشأ عنها السياسة المدنية أو ينشأ عنها افتراض أفق يؤدي الى الانقسام والدمج والشراكة، ولو على مضض شديد. ويؤدي هذا، فيما يؤدي إليه، إلى إلغاء الفرق بين الداخل (الوطني) وبين الخارج ("القومي" أو الديني أو الإقليمي)، وبين السلم الأهلي وبين الحرب (الأهلية أو الخارجية)، وبين القوانين العادية وبين القوانين الاستثنائية، وبين العام وبين الخاص، وبين الدولة وبين الجماعات ومجتمعها. ويفترض في هذا ان تتضافر مفاعيله على تقوية القوي (الحاكم) وإضعاف الضعيف (المحكوم)، وعلى تعزيز لحمة الأول والإمعان في تفريق الثاني وتذريره. ويجتمع من هذا مثال للسياسة والاجتماع خرافي أو أسطوري قريب من تمثيل القصص الديني على حال الجماعات ومجتمعاتها قبل "الرسالات السماوية" ومبعث الأنبياء في أقوامهم، وقريب من تمثيل هوبس على حال البشر "الذئبية" قبل التأنس من طريق "الملك" والنزول عن آلات القتل والاقتتال إلى واحد يحتكرها لقاء بسط الأمن والسلم.

والخوض في مثل الأحوال المفترضة والمتخيلة هذه ليس من شيم حنا بطاطو. وليس القصد من الاستطراد المتقدم نسبته إليه. فهو التزم، في عمله، القرب الشديد من الوقائع والحوادث، ومن سياقاتها وجملها المتصلة أو المنقطعة. ولم يسلِّم بالأبواب والتصنيفات المركبة، ودعوتها المتفرق المتناثر إلى الاجتماع و"التسستم"، على نحت عبدالله العلايلي واستنان حسن قبيسي عليه، إلا على مضض ومضطراً ومن غير إجحاف أو افتعال. ولعل "طريقته" المتحفظة عن التركيب والبناء والتجريد هي ما أمكنه من تشخيص التقاء "المجتمع" العراقي، على المثال الذئبي أو السبعي (من السباع والمسبعة) العصبي، بأبنية الدولة الاضطرارية، على صورتها المملوكية العثمانية السلطانية، والاستعمارية (الكولونيالية) البريطانية "الحديثة"، من غير افتعال. فالدولة، على صورتيها هاتين وعلى رغم اختلاف عميق بينهما، تحمل على التأليف والجمع والترتيب، وتدرج الفروق في هذه (التأليف...) حين تنزع الجماعات نزاعاً شديداً إلى التذرر أو إلى ترتيب جامع قسري واضطراري، أو إلى الاثنين معاً. فلا تخرج، على ما يصف بطاطو، من التفرق الى الاندماج والالتحام، أو "الوحدة"، بل تبني منازعاتها ومصافها (صفوفها) على مثالات جديدة. فتستثمر احتمالات مضمرة في ضربي المثالات، وتصنع من زواج احتمالات الضربين، ومن قرانهما، تاريخاً فاجعاً وتافهاً معاً على شاكلة تواريخنا المعاصرة.

الخميس، 13 أكتوبر 2011

رفاه ورزان وسمر وصواحبهن... أنفـ(ا)س الصدق الزكية

المستقبل -9/10/2011
في العاشر من أيلول المنصرم، كانت رفاه ناشد، "الدكتورة"، أو المحللة والمعالجة النفسية السورية ويقال أنها الوحيدة من نوعها وحرفتها في "سوريا الأسد" السوية الصحة النفسية من غير طبابة- تهم بمغادرة مطار دمشق إلى باريس، حيث تنتظرها بنتها وحفيدها البكر من بنتها وبيدها جواز سفرها القانوني وسمة المغادرة. وبينما كانت تكالم زوجها مودعة، رأت رجال أمن "عصبيين"، على ما قالت لزوجها ووصفت، يفتشون المسافرين ويفحصون جوازاتهم مستعجلين وفظين. وقبل أن يبلغ رجال الامن بغيتهم، وهي "الدكتورة" المسافرة، ويضطروها إلى اطفاء هاتفها، وسعها القول لزوجها أنها هي مقصد المفتشين والتحريين، وأنهم بإزائها، ويمدون يدهم إلى جوازها. ومذذاك ورفاه ناشد في سجن مختلط، "سياسي" وجنائي. وتجيز السلطات زيارتها لزوجها وابنتها (أو ابنها) مرة في الأسبوع، نصف ساعة ووقوفاً، وفي غمرة هرج ومرج تحول دون سمع الواحد محادثه. فإذا كان المحادث (المحادثة) يشكو آثار سرطان شفي منه متأخراً، وأعراض ضغط حاد، وبلغ منتصف عقده السابع تقريباً، واعتقل عنوة وفجأة في الظروف التي اعتقل فيها، وهو مسجون في قاووش غريب ولم يعد العدة لنزوله قدَّر الواحد أثر الحال هذه في المرأة الأسيرة.

والمحللة والمعالجة النفسية لم تسبق لها مشاركة، من أي صنف، في"السياسة". فهي لم توقع بياناً من قبل (ولا من بعد)، ولم تتظاهر، ولم تكتب مقالاً ولا أدلت بمقابلة او محاورة، ولم تنتسب بالأحرى إلى منظمة. فليس في وسع سجانيها، وهم لم يتهموها، أن يظنوا فيها توهينَ نفسية الأمة، ودس الدسائس لدى العدو والتحريض على الدولة، وبث التفرقة المذهبية والطائفية، أو الانضمام إلى جماعة مسلحة والاعتداء على قوات الأمن في أثناء قيامها بوظيفتها... فلا يصح في الطبيبة ما ربما صح في الولدين حمزة الخطيب وزينب الحسني، أو "المغني" ابراهيم القاشوش، ومن غير شك في هيثم مطر وأنس الشغري، والآلاف من القتلى المحققين والمفقودين ومن الرهائن الأسرى. والقرينة الوحيدة والفريدة، فرادة احتراف السيدة حرفتها وعملها، على فعلة ارتكبتها الأسيرة العنوة هي جمعها، قبل أيام قليلة من الحملة الأمنية عليها وهي من طريقها إلى استقبال حفيدتها البكر، أولاداً وأطفالاً في دير للآباء اليسوعيين بضاحية دمشق، ومحاولتها علاج رعبهم ورهبتهم واضطرابهم من طريق دعوتهم إلى الاعراب عنها، والكلام فيها، والاستماع إليهم وهم يتكلمون.

ونهجُ العلاج الذي تنتهجه "الطبيبة" السورية يقوم على الكلام "الحر"، على ما يوصف تداعي الأفكار والخواطر والذكريات والمشاعر والكلمات الذي يدعى إليه "المريض" أو المعالَج. وهو تسمّيه المدرسة التي تنتمي إليها السيدة "القائم بالتأويل"، كناية عن تولي المعالَج نفسه تأويل أقواله وتداعياته وأحلامه واستنباطه أو إنشائه معانيها المضمرة والكامنة أو الخفية عليه. ومبرر النهج هذا، في آخر المطاف، هو أن المرض أو الاضطراب من صنع المريض، على نحو ما الاستبداد السياسي هو صنيعة "إرادة عبودية"، ولا سبب له "طبيعياً". والتحليل (النفسي) "علاج بالكلام" أو القول. وذهب بعض مزاوليه إلى وصف خصوصيته، وهي اقتصاره على طبابة قولية من غير عقاقير ولا كهرباء، بقطيعته من الإيحاء (أو التنويم المغناطيسي). فقالوا، في معرض إنكارهم الصيغة السوفياتية التي جعلت من الطب النفسي أداة تطويع المعارضين والمنشقين بواسطة العقاقير والكهرباء والايحاء، إن "التحليل يبدأ حيث ينتهي الإيحاء".

وعلى هذا ربما، بدت دعوة المعالجة او المحللة الأولاد والفتيان إلى الخوض في مخاوفهم وكوابيسهم، والعبارة عنها، والتشارك فيها، تحريضاً على الخروج على الإيحاء والتسليم بسلطان تأويل وتعليل الواحد غير المنازع. ولعل الأثقَل وطأة على السلطان المستولي هو المنازعة أو الانقسام والاختلاف، ولو لجأت هذه إلى طوية النفس وولدت كوابيس وأضغاثاً وهذياناً وهواجس وتعاسة، أو ولدت أعصبة موصوفة. فالسلطان الواحد، وهذا زعم ساذج وطفلي يسأله عنه التحليل النفسي سؤالاً ملحاً، يحسب في تشاوفه وتعاظمه وهذيانه أنه دواء الانقسامات والمنازعات كلها، بما فيها انقسام النفس وحزنها وتأسيها ("القرآنيين")، ومنازعتها نفسها. فالأصل، في النفس، هو الانقسام والكثرة. ومعالجة الانقسام والكثرة بالإيحاء، أي بالوحدة وتخييلها وترديد ذكرها، وبالإلزام بالصمت والخرس والصمم، وبنصب الرقيب والواشي والمخبر صاحب الحق في الكلام (أي في نفي الكلام وحقيقته)، هذه "المعالجة" هي خلاف المهنة التي تمتهنها رفاه ناشد، مهنة "حامل (ة) القول".

وما فعلته السيدة، أو رضيت الاشتراك في فعله امينة لمهنتها، يتعقب سلطانَ الواحد إلى أركانه وأسسه الدفينة والخبيئة. فالسلطان الأسدي في شقه العشائري الأهلي الذي ينفي جواز تطرق الاختلاف إلى "الدم"، وفي شقه الاستخباري البيروقراطي الذي يتوهم في نفسه القدرة على استباق الاحتمالات كلها- تراوده أخيلة التسلل إلى أدق أوردة النفوس والأجساد وإلى مصادر الكلام. وهو يحمل البواطن والدواخل، في قلب المدن العصية وأحيائها الداخلية ووراء أبوابها وحواجز طرقاتها المملوكية وسككها، على تمرد وعصيان خطيرين ومهينين. وهو يخوض منذ نحو 7 أشهر مديدة ومريرة حرباً "كلية" أو شاملة (على المعنى السياسي النظامي) على متظاهرين "أحرار"، يتداعون إلى التظاهر والكلام والغناء والإنشاد والرقص تداعياً حراً، ويحتكمون إلى الكلام والاجتماع والمداولة المسالِمة في دعواهم أو دعاويهم، ويخرجون على الإيحاء بوحدة وسلم واستقرار لا قائمة لها إلا في عصبية أهل الدولة المتسلطين، وفي أبنية تسلطهم المتآكلة. ولا تعدو مزاعم السلطان الأسدي مزاعم حليفه الإيراني (حيت يحرِّم على جعفر بناهي الاخراج السينمائي طوال 20 عاماً فيرد جعفر على التحريم بـ"هذا ليس فيلماً")، أو سنده الصيني (حين يخطف في وضح النهار المعمار إيَ وايواي ويخفيه 81 يوماً) وسنده الآخر الروسي (وسجله القانوني والحقوقي "أعظم" من أن يتعقب).

وربما ينبغي حمل السلطان الأسدي وجهاز استخبارات سلاح الجو الذي ورثه السلطان الابن عن والده السلطان واعتقل رفاه ناشد، على النباهة حين جرَّم الدعوة "التحليلية" إلى جهر الخوف والاضطراب بالكلام والعبارة العلنيين. فجزاء الكلام والإسرار والهمس، على مسمع اولاد، بالاعتقال عنوة قد يكون قرينة على فهم عميق للحوادث السورية التي تنتظمها الحركة المدنية والوطنية الديموقراطية المشهودة. وما كتبه أسامة محمد ("الحياة"، في 3 تشرين الأول الجاري) يدل على هذا الفهم، من الوجه المقابل:" هل المتظاهرون السوريون بشر جدد أبدعوا زمناً جمعياً معاشاً هو الأمان (...) وهو التظاهرة". فما ينزع الطاغية إلى الغفلة عنه ("وول ستريت جورنل" في أوائل آذار 2011...) هو ما نبهت إحدى سيدات العصر عقلاً وفهماً عليه، أي ابتداء البشر تاريخاً جديداً حين ولادتهم وابتدائهم حياة (عضوية) جديدة.

والموظف الأمني، والحارس المخابراتي، والواشي بالتلاميذ والأولاد، والصحافي "المقاوم" الملّي والمعذب والغاضب والمشايع الأمن والاستقرار والوحدة القومية في نهاية الأمر، هم خدم السلطان الواحد والكلياني لأنهم لا يرون ابتداء الحوادث والقول أو جواز ابتداء هذا وتلك. فيؤدي آيخمان ما أوكل إليها أداؤه لأن هذا هو سنة الحياة والكون. وهو يؤدي مهمات وظيفته مزمجراً وغاضباً، وصامتاً عن الكلام والمخاطبة والمحاورة. ويخص بصمته المنازعةَ أو التشكك في غيره وفي نفسه، وهو في شأنه هذا، على خلاف رزان زيتونة ("نوافذ" "المستقبل"، في 17 أيلول 2011)، ورفاه ناشد على نحو آخر. فحين تناولت رزان زيتونة الحركة المدنية الوطنية والديموقراطية السورية، حركتها وحركة صواحبها وأصحابها، كان كلامها في خلافات الحركة ومناقشاتها وانقسام بعض تياراتها وأجنحتها على مسألة المسالمة والعنف.

وعلى هذا المثال، أو من غير مثال (من غير إجازة إلا من النفس، على قول بعض زملاء رفاه)، جرت سمر يزبك حين روت ما أُشهدت عليه من فنون السَّجن والتعذيب والقهر، وما جُنبت معاناته المادية وحماها منه نسبها وقرابتها و"دمها". وسبق أن روى سولجنتسين، في مطلع "أرخبيل الغولاغ"، تسليمه، هو الضابط المخلوع الرتبة لتوه، بحمل أحد جنود الصف حقيبته وهو في طريقه الى المعتقل. وهو نبه إلى أن التسليم بمراتب المعتقل، والسلطان الذي أنشأه، من أركان إرادة العبودية المضمرة. ونبه، في موضع آخر، إلى أن سكوت المعتقلين، حين اعتقالهم فجراً أو غلساً، عن الصراخ وتأليب الجيران على البوليس الحزبي والشيوعي، أسفر عن اطمئنان هؤلاء إلى مسوغ وظيفتهم وأدائها على الوجه الإداري والتنفيذي الأعمى.

فما تشترك فيه السوريات الثلاث، وهن يتشاركنه منذ بداية الحركة مع الآلاف من السوريين والسوريات، هو نصبهن القول الحر (ومعياره الصدق)، وتداوله والمداولة فيه، علماً على استقلال المرء (والمرأة) بالرأي والإقبال على المداولة فرداً مجتهداً ومختلفاً. ولا يدرك هذا إلا من طريق الاقرار بالمنازعة والعبارة عنها علناً، والمداولة فيها وفي موضوعاتها. وطلب الوحدة واستعجال "تجاوز" الخلافات في أطر تمثيل وتكليف مشتركة ثم واحدة، وإسكات الفروق بين الجماعات الأهلية والمحلية والقومية والطبقية والسياسية، قرائن على إلحاح نازع السلطان الواحد على "الرعايا"، سياسيين ومثقفين. والسوريات الثلاث داعيات سياسة، ومزاولات سياسة من نوع آخر.