الأربعاء، 23 ديسمبر 2009

في أعقاب زيارة رئيس الوزراء اللبناني الرئيسَ السوري: التباينات بين «لغتي» البلدين لا تحجبها الديبلوماسية

الحياة، 23 /12/ 2009
قد لا تكون مقارنة البيان الرسمي عن اجتماع الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري («سانا» في 19 كانون الأول/ ديسمبر) وتصريح الحريري، اليوم التالي، في مؤتمره الصحافي في السفارة اللبنانية في دمشق، اسوأ طريق الى تشخيص حال العلاقات اللبنانية – السورية غداة ولادة الوزارة اللبنانية الولادة العسيرة. فالأمور التي أوكل قولها، رمزاً وإيماءً، الى وقائع وليس الى أقوال معلنة، مثل رواح رئيس الحكومة اللبناني الى ملاقاة الرئيس السوري من غير إعلان دعوة رسمية وجواب الدعوة، ومن غير اجتماع مجلس الوزراء لبت الدعوة ومناقشة جدول أعمالها، ومن غير وفد رسمي في معية الزائر اللبناني والانتقال بالطائرة الى المطار السوري... – هذه الأمور تبقى موضوع تكهنات متناسلة، وتأويلات لا تنتهي الى غاية.

ولا تُخرج مقارنة البيان الرسمي بالمؤتمر الصحافي الجمهورَ من التكهن، ولا تحسم التردد والترجح. ولكنها قد تنبه الى مساحة الخلافات أو التباينات المتاح التعبير عنها اليوم. وهي تنبه، من غير ارتكاب خطأ كبير على الأرجح، الى الشقة (الواسعة) بين «ثقافتين» سياسيتين وذهنيتين تفرقان بين السياسيين اللبنانيين المتحدرين من «الاستقلال الثاني» والساسة السوريين الذين خلفوا جهاز الرئيس السوري السابق على حكم سورية و «إدارة» الشؤون اللبنانية. ويشير بهذه المقارنة ويدعو إليها اقتصار البيان عن المحادثات على «بيان رسمي» صحافي غير مشترك (حكماً)، أذاعته وكالة الأنباء الرسمية، ولم تنسبه الى وزارة الخارجية أو إلى مكتب الرئاسة. وهو يشبه البيانات التي يذيعها الجهاز «الصحافي» أو الإعلامي بدمشق، ويعلن ما يريد أو يود إعلانه. وقلما ينتبه فعلاً الى رأي الزائر أو يلخصه، إذا حاد الزائر عن «خط» الحكم السوري المعلن.

وتقتفي مقدمتا البيان السوري والتصريح اللبناني رسماً مشتركاً، على رغم تفاوت المصدرين، السوري الإعلامي الغفل واللبناني السياسي و «العَلَم». فينوّه الأول بـ «استعراض التطورات الإيجابية السائدة في لبنان وسورية وتاريخ العلاقات السورية – اللبنانية». ويتناول الثاني حرص «سيادة الرئيس بشار الأسد على ان تبدأ العلاقة في شكل ودي وصادق بين الطرفين». فينسب الثاني، من غير اصطناع الحياد والموضوعية، الى الرئيس السوري «بدء» العلاقة، وودها وصدقها. وجلي ان البيان والتصريح يتكلمان على مسميين اثنين تحت اسم واحد هو «العلاقة» أو «العلاقات». والمصدر السوري يتناول العلاقات (السياسية والأمنية والاقتصادية...)، على حين يتناول المصدر اللبناني المعلوم العلاقة بينه وبين (شبه) نظيره الرسمي. فهذه وحدها يصح القول فيها انها «تبدأ». وفيها وحدها يجوز القول انها «ودية وصادقة»، على سبيل التمني. والبيان الأول يصفها، وهو يجمعها («علاقات») ويسندها الى البلدين، بـ «الإيجابية». وعلاقات البلدين غير منقطعة. ولم يفت سعد الحريري الأمر. فهو حرص على الاستدراك. فقال: «... إن هذه العلاقات ليست فقط علاقات شخصية...». ولو كانت شخصية، فهل كانت؟

وربما تجيب ألفاظ رئيس الوزراء اللبناني الشخصية والفردية عن إشكال ذهابه برأسه، مع مستشاره وقريبه، الى القصر الجمهوري السوري، من غير ان تبطل الألفاظ الشخصية أجوبة وتعليلات أخرى (ويمسك المعلق عن الإدلاء بتعليله، حياءً وخجلاً). وعلى جاري عادة البيانات السورية الديبلوماسية، يمدح اصحاب البيان (وهم الساسة أو «القيادة») أنفسهم مديحاً حاراً. فيبادرون الى وصف التطورات «السائدة» بالإيجابية، ويضمون السورية منها الى اللبنانية. ويقصد البيان باللبنانية ما أسهم هو فيه، أي تأليف الوزارة بعد أربعة أشهر «معلقة»، هو معلقها. ولا ينكر رئيس الوزراء اللبناني ان «الرئيس الأسد كان حريصاً على ان تقوم حكومة الوحدة الوطنية في لبنان بجمع كل اللبنانيين». ويخالف التنويه بدور الرئيس السوري شخصياً في جمع اللبنانيين، وبعضهم «يشاور» الأسد على أضعف القول وأقلّه صدقاً ووداً و «يأخذ» برأيه، الوصف المتعالي بالإيجابية.

فهذا الوصف يريد الكناية عن الدور السوري، وإغفال طابعه المباشر. ووصفه بالمباشر يُفهم منه التنبيه إليه على وجهيه: السلبي والإيجابي. وإنكار ساسة سورية دورهم، على المعنى الذي غلب على هذا الدور منذ نحو ثلث قرن على أقرب تقدير، جزء من التستر عليه، أي هو جزء منه. والمعالجة المزدوجة هذه أتاحت لحكام سورية إبراز «تناقض» المواقف الدولية في العام ونصف العام قبل اتفاق الدوحة. فقالوا: العالم يدعونا الى كف التدخل في الشؤون اللبنانية ويحضنا على التدخل لدى أصدقائنا، معاً. ومثل هذا البناء للجمل والأحكام السياسية يعده الحكّام هناك مفحماً، وقرينة على انتصار عظيم.

ويخطو البيان السوري، في كلامه على «الآثار السلبية التي شابت (العلاقات السورية – اللبنانية) خلال مرحلة معينة»، وذلك في معرض «تجاوز» الآثار السلبية، يخطو خطوة يحاذر عادة الإلماح إليها. فنظام مثل هذا يتفادى الإقرار بالعودة عن الخطأ. وهذه «فضيلة» ينكرها على نفسه. وقد يسوغ الكناية إدخالها في الماضي مرتين: المرحلة (غير) المعينة في البيان الذي يتحاشى التسمية، والإلماح إليها في معرض «تجاوز» مزعوم. وصفة «السلبية» يطلقها البيان السوري على «الآثار». ويفترض ان «الآثار» تتخلف عن فعل هو فاعلها، والسبب فيها. والفعل المعروف والمعلوم الذي أثّر «الآثار» يبقيه البيان مكتوماً، على ما يليق بتنصل من المسؤولية رفع الى مرتبة نهج. وتحقق زيارة سعد (رفيق) الحريري، رئيس الوزراء اللبناني، الإلماح الى التجاوز، وتسند الكلام الغائم وغير الصريح. ومن وجه آخر، تستعيد العبارة الرسمية، في صيغة فعل «شابت»، اجتهاداً رئاسياً سورياً سبق له ان ألمح الى «شوائب» في السيطرة السورية الماحقة على اللبنانيين. وعُدّ ذلك يومها، أي غداة تولي الرئيس الأسد الابن مقاليد الرئاسة، صراحة وشجاعة ما بعدهما صراحة وشجاعة. وهذه طريقة من طرائق الإحجام عن «الفضيلة» المنكرة، وتركها للضعفاء في نفوسهم.

ويمدح اللبناني (شبه) نظيره السوري بـ «الإيجابية»: «لم أرَ إلا كل إيجابية من الرئيس بشار الأسد في كل المواضيع...». وهو يخصه بالصفة بعد ان عمّ بها المتحاورَيْن: الضيف والمضيف: «ليس هناك موضوع لم نتطرق إليه، وقد فعلنا ذلك بشكل ايجابي». وأتبع هذه بالتوكيد: «بالنسبة إليّ...». ويعزو «الإيجابية» الى «بناء» المباحثات «على أساس المصالح التي تفيد البلدين»، أي الى «ندية» البلدين ومصالحهما و «رئيسيهما»، بحسب الكلمة التي يكرهها أهل العصبية السورية ويهجونها، ويمدحون «الودية»، على خلافها. ولا يغضي الزائر اللبناني عن السلبيات، وليس عن «الآثار» المتخلفة عن مؤثِّر مجهول. فيضعها في قلب الحاضر: «نريد ان نفتح آفاقاً جديدة بين البلدين، وأن نرى نصف الكون الملآن». و «الآفاق الجديدة»، العبارة، يشترك فيها البيان الرسمي السوري ومؤتمر الضيف اللبناني. ولكنها لا تؤدي في السياقين، معنى واحداً. ففتح الآفاق الجديدة اللبناني هو فعل إرادة لا يغفل «نصف الكوب» الفارغ، وثقله ووطأته.

وعلى هذا، خلا الكلام اللبناني – في السفارة اللبنانية بدمشق وإلى جانب رئيس الوزراء السفير والقائم بالأعمال، من غير الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني (و)السوري الذي فرضه السوريون في العشاء الرسمي – خلا من المقدمات والأصول الثابتة التي ينيط بها ساسة سورية علاقاتهم «المميزة» بلبنان. وعندما يتلفظ اللبناني بالصفة هذه، المميزة، يحيلها على الإرادة: «نريد علاقات مميزة...»، ويقيدها بـ «الصراحة والصدق»، وبـ «مصلحة البلدين»، وبالمفاوضة على «الكيفية»، وترك «(تسجيل) أحدنا نقطة على الآخر»، وتناول مسائل مثل ترسيم الحدود، كانت منكرة. وهذا يخالف، أو هو ليس على وجه الضبط، الإنشاء اللفظي السوري. فليست «الروابط»، آلياً، «أخوية»، «بين الشعبين» (وهذه تطوي «الشعب الواحد في دولتين»). فالمصلحة هي المعيار، وهي الميزان. والأخوة المفترضة يحدها دخول الشعبين في «بلدين» و «دولتين»، على خلاف ما يصر عليه البيان السوري. والعدوان الإسرائيلي، وهو حصان الرهان السوري الأول، موضوع مقايضة: دعم سورية في الجولان لقاء دعمها لنا في لبنان. ولا يحمل الحريري علاقات البلدين والدولتين والشعبين لا على «علاقات حقيقية واستراتيجية» (بحسب البيان السوري)، ولا على «العروبة ووحدة الصف العربي»، ولا على «تاريخ مشـــترك». وليس معنـــى هذا ان ابن رئيـــس الحكومة اللبـــناني القــــتيل لم يصغ إلى التضخم اللفظي و «العاطفي» السوري، أو أنه لا يلقي بالاً إليه، أو ينكر عليه وفيه كل حقيقة. ولكن الرئيس (الوزاري) اللبناني يرد الجواب على الجموح اللفظي والانفعالي «الشقيق» – وهو لم يستعمل الصفة مرة واحدة، على خلاف مجيئها مرتين في البيان الســـوري المقتضب – بخطو جانبي. فيغرق الجموح بكل ما يفيد الاستقلال والمصالح والإرادة والتنسيق والتذكير بـ «فتح السفارات»، و «الترجمة على الأرض»، ورهن المعالجة بالآتي ومفاوضاته وإجراءاته ووزاراته، والتنويه بـ «إطار المصالحات العربية التي بدأها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في الكويت، ثم في الرياض وقطر، واليوم رأيتم ايضاً نتائجها...».

وهذا بعيد من مزاعم «حماية لبنان»، و «المواقف المبدئية (السورية)»، وتولي سورية «تعزيز أمن (لبنان) واستقراره»، الخ. وبعيد من النبرة المستعلية والكلام الناجز. ولا يُخلص من الملاحظات هذه الى ما قيل في المحادثات الطويلة. وليس الفضول هو حادي المقارنة ولا غايتها. ومهما قال الرئيس (الوزاري) اللبناني أو سمع بين «أربع عيون»، على قول أجنبي في الخلوات، فما قاله علناً وجهراً، في عبارات تتستر «عاميتها» على دقتها، لا ينكره لبنانيو «الاستقلال الثاني»، هو المولود من معارضة والده تجديد ولاية اميل لحود قسراً وعنوة، وتحويل لبنان دولة مارقة ومتصدعة، و(المولود) من مشايعة معظم اللبنانيين المعارضة (الحريرية) الوطنية هذه يومذاك واليوم. فالاستقلال اللبناني، في الأمس واليوم وغداً، معركة مستمرة.

الجمعة، 18 ديسمبر 2009

الطرفية المذهبية والجغرافية والسياسية حين تدمج في استراتيجية تقويض «حدودية

الحياة 17 ديسيمبر 2009
لا يشك عبدالملك الحوثي في أن الشعار الذي يرفعه مقاتلوه الإماميون في صعدة وحرف سفيان والملاحيظ وحول جبل دخان، على حدود اليمن الشمالية الغربية، «الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا»، ويموتون دونه ويقتلون، هو (أي الشعار) «برنامج عملي وتطبيقي متكامل، سياسي وتثقيفي معاً». وعلى بعد آلاف الكيلومترات من الحدود اليمنية - السعودية، في جوار البصرة والنجف والناصرية والديوانية وبغداد نفسها، رفعت «عصائب أهل السماء» و «(جيوش) المهدي» الجرارة الأعلام السود، وفيها كتابة مختصرة تبدو لافتات عبدالملك بدر الدين الحوثي قياساً عليها تطويلاً ثرثاراً: «يا مهدي أدركنا». والأرجح أن قائد «العصائب» المتخفي والقتيل، ومقتدى الصدر، قائد «الجيوش» المحتجب والحي بإذنه والقليل النطق منذ جولاته الملحمية (على المعنى الحربي) على الحارات المختطلة، الأرجح أن الإثنين حسبا أن التسويد (رفع الأعلام السود) وحده برنامج عملي وتطبيقي متكامل، وهو الكلمة الفصل في حكم الدنيا وكسب الآخرة، ورد الجواب القاطع على المسائل والأحكام والسياسات الشرعية والمدنية.

والى الغرب الشمالي من بلاد ما بين النهرين التاريخيين والناخبين، ترد حركة المقاومة الإسلامية («حماس») الفلسطينية على مسائل الأولى والآخرة، والفانية والباقية، بكلمة واحدة، «المقاومة». وهي جواب الدولة و «الدولتين» و «الثلاث»، والسلطة، «العميلة» و «المتصهينة»، والمفاوضة «الخادعة» و «غير المجدية»، و «الاستجداء الذليل». والقرينة المفحمة على فعلها وجدواها، جلعاد شاليت الأول، والثاني والثالث. والى الشمال من فلسطين، يرفع «حزب الله» وهو من ينبغي أن تسكت محاضر المجلس النيابي اللبناني عنه احتراماً لاسم الجلالة على ما لا يتجرأ على الإفصاح نائبه، علمه الأصفر، الى الراية السوداء. ويوسط رايته كتابة هيروغليفية هي البندقية الآلية الروسية، وأخرى هجائية ألفبائية هي «الثورة الإسلامية في لبنان»، «وطن الآباء والأجداد، ووطن الآباء والأحفاد» على قول بيان تأسيسه الثاني.

وعلى هذا، من أقاصي جنوب المشرق الى رأسه الشمالي، وبينهما وجهه الشرقي العراقي، وهو بعض «الخليج الثائر» في الحداء الناصري والعروبي العتيق، تنهض حركات أهلية مسلحة تنكر، باسم «فلسطين»، أي الكرة الفلسطينية المتقاذَفة والمتعاورة والمضطربة الرسم، جواز قيام دولة وطنية في حدود إقليمية مستقرة، وراسية على قانون أساسي مشترك. وعلى خلاف ترتيب عدِّها، من جنوب شبه جزيرة العرب الى شمال المشرق الغربي، تعاقبت الحركات هذه من الشمال الى الجنوب. وكان ابتداؤها في بلدان حديثة اختبرت علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة و «متقدمة». وتأخر قيامها في بلدان أقل تعرضاً من الأولى لهذا الضرب من العلاقات، و «عصبية الدولة» فيها أقوى شوكة وبطشاً. فسبق الحزب الخميني المسلح في لبنان الحزب الإخواني المسلح في فلسطين، زمناً ووقتاً. وسبق إخوانيو فلسطين مهديي العراق. وعاصر هؤلاء، على وجه التقريب، خروج أنصار بدر الدين الحوثي وابنه من بعده.

وقامت الحركات هذه على أنقاض سلطة دولة، أو نواة دولة، صدعتها عوامل متفرقة، وتترجح العوامل هذه بين المنازعات الإقليمية و «القومية» السياسية والأهلية الناجمة عن هزيمة 1967، ويقظة خلافات أهلية باردة لم تنته الى خواتيم وطنية مستقرة، وبين احتلالات وحملات عسكرية استظهرت بالخلافات الداخلية وبدعوات قوى وجماعات محلية حَجَر عليها الاستبداد الداخلي، والتواطؤ الإقليمي، سبل المعارضة والعبارة. وفي غمار الفوضى والاقتتال اللذين عمّا (ويعمان) المجتمعات و «الدول» الممتحنة، تصدعت أو انهارت الجيوش النظامية، وعجزت عجزاً فاضحاً عن التحكيم في الاقتتال الداخلي، وعن حصره في الداخل أصلاً. وأظهرت الجيوش هذه ضعفها عن الاضطلاع بدور متماسك في خوض حرب دفاعية في وجه قوات نظامية متفوقة تفوقاً ساحقاً. وتعمدت الحركات المتفرقة هذه استدراج القوى النظامية، حيث قدرت، الى امتحان حرب لا يشك أحد في نتيجتها، أي في تتويجها بخسارة القوات النظامية خسارة مهينة.

وتجمع بين الحركات الأهلية العسكرية، على مقادير متفاوتة، طرفيتها الجغرافية والأهلية، المذهبية والسكانية. فـ «مادة» الحركة الشيعية والخمينية المسلحة في لبنان هي شيعة الأطراف، على معنيي الطرفية: أطراف الأراضي الإقليمية بجوار الأراضي الفلسطينية التاريخية، جنوباً (لبنانياً)، وبجوار الأراضي السورية، بقاعاً، وبإزاء السكان السنّة «العرب» (العشائر) في الجنوب والسنّة من أهل «المدن» المتوطنين في البقاع. والمعنى الثاني يتناول أطراف مدن الساحل بين صور وبيروت. فنزل مهاجرو الشيعة البقاعيون والجنوبيون ضواحي المدن هذه، وعلى الخصوص بيروت، جنوباً وشمالاً شرقياً، وأنشأوا فيها حارات واسعة. وانقلبت الحارات، مع الجوار الفلسطيني المسلح، وحروب الداخل والتهجير، الى ملاجئ وثغور ورباطات. وحضنت، تدريجاً، «خزانات» مقاتلين ومحاربين وأمنيين استخباريين، وموظفي إدارة ذاتية، و «مجتمعاً نقيضاً»، أهلياً ومذهبياً واجتماعياً وسياسياً.

و «مادة» الإخوانيين الفلسطينيين، وقبلهم مادة الحركات والجبهات والمنظمات الفلسطينية المسلحة الكثيرة، هي حكماً، في الوطن والمهاجِر، مهاجرون أو نازحون قسروا على الهجرة والنزوح، ونزل معظمهم مخيمات موقتة. وحافظت المخيمات على تمايز مصادر النزوح الفلسطينية مقدار ما عزلت دواخل المخيمات عن خارجها، ورسخت طرفيتها الأهلية، ونزعت الى تسويرها على شاكلة حارات أو «غيتوات» منكفئة. فزاوجت إدارةً ذاتية منفصلة ومشرذمة وإلحاقاً أمنياً قسرياً ومركزياً بأجهزة السلطة الحاكمة الخارجية. وتولى الجهاز الأمني الوطني والمحلي حماية «حدود» المخيمات، من داخل وخارج، وتثبيت طرفيتها. وخلى بينها وبين نزاعاتها الأهلية في الداخل، وحجز بين الداخل والخارج بحاجز أمني صفيق. فحال الحاجز بين العلاقات الداخلية، الأهلية والاجتماعية، وبين التعبير عنها في تمثيل سياسي مناسب أو تقريبي، وقوَّض السياسة ومسخها.

ولا ريب في أن غزة، ومعظم سكانها نازحون مثنى وثلاثاً وربما أكثر، هي عصارة الحارة والمخيم الطرفيتين. فهي مهجر نازحين سابقين ومجمعهم. وكانت بؤرة فلسطينية في إدارة مصرية أمنية، قبل أن تضمها الإدارة الإسرائيلية، العسكرية والأمنية، الى الأراضي المحتلة. وعادت أرضاً فلسطينية على حدود مثلث داخلي ومصري وإسرائيلي. وجلا الاحتلال عنها من غير مفاوضة، وتركها لإدارتها الأهلية الذاتية، ونهباً لنزاعات وحروب فصائلية وعشائرية عائلية، رعى الاحتلال تكاثرها، ونفخ النزاع الوطني على السلطة وهيئاتها في جمرات الخلافات الأهلية الجزئية. فكان محالاً أن تنجلي النزاعات التي تتعاور مثل هذه المادة، داخل مثل هذا الإطار وفي مثل هذا الموقع والجوار، عن غير مسرح حرب واقتتال لا نهاية لهما. وكانت حظوظ أبنية دولة، وهيئات سياسية، في الدوام والاضطلاع بحاجات «المواطنين» والتعبير عن إراداتهم، ضئيلة، على نحو وقدر ما كانت حظوظ حركة إسلامية وأهلية في الاستيلاء على التمثيل السياسي، وتسخيره لأغراضها وأغراض حلفائها ورعاتها الإقليميين، راجحة وغالبة.

وعلى رغم اختلاف العراق اختلافاً حاداً عن غزة ولبنان (الفلسطيني فالسوري فالحزب اللهي الخميني)، فهو يشترك وإياهما في انقلابه، قبل الحملة الأميركية وبعدها، الى بلد حدودي، وانقلاب جماعات، على مقادير متفاوتة، جماعات حدودية. فالحرب التي شنها الديكتاتور البعثي على إيران الخمينية المضعضعة، ودامت نيفاً وأعواماً سبعة منهكة، حررت الأطراف الجغرافية، أي الشمال الكردي أولاً، والأطراف الأهلية، أي الكثرة الشيعية في الجنوب خصوصاً، من الدولة الوطنية وسلطتها وجيشها. وحملت الحرب المتطاولة الأطرافَ، تالياً، على السعي في الانفصال أو الانكفاء والاستقلال الأهليين الذاتيين. ولولا تهديد الانفصال الكردي وحدة الدولة التركية في الشمال وتولي الجيش التركي حصار كردستان، ولولا اندلاع الحرب العراقية والإيرانية على الجبهة الجنوبية حيث انتشرت القوات العراقية، في موازاة طريق البصرة - بغداد حيث معظم السكان الشيعة، لانهار الحكم ببغداد. وهو، فعلاً، سار مرحلة طويلة على طريق الانهيار قبل أن يسقط تحت ضربات الاحتلال، ويخلف وراءه أنقاضاً سياسية واجتماعية بائسة. ونجا تقريباً كرد العراق وحدهم.

وغلبت على الأنقاض هذه منظمات وافدة، أو ولدت، شأن «حماس» الفلسطينية و «حزب الله» الخميني، من الأنقاض واستولت عليها من «داخل» مجوف وهزيل، وأسرع الى مساندتها (وصنعها في حال «حزب الله») خارج إقليمي مغرض وقريب. وتولت قوات التحالف الأميركي، في أثناء تخبط طويل ثم في أعقابه، الحؤول دون انفجار العراقيين جماعات طرفية وحدودية متناثرة. وخرجت الجماعات، أي أطرافها العامية المهاجرة والنازحة وبعض فئاتها المتخلفة عن أجهزة الحكم السابق وإدارته وعصبيته، على لحماتها الوظيفية والموروثة، وبعضها على بعض. وهجَّر بعضها بعضاً، ووظَّف بعضها دول الجوار القريب، المتحفزة والطامعة والمتورطة والخائفة، في «القتال» والقتل.

وساندت دول الجوار معظم الحركات المتقاتلة، ومولتها واستعملتها، ولا تزال، في الحؤول دون استقرار دولة عراقية مستقلة على «إنجازات» الاحتلال الجزئية والنسبية، وعلى إخفاقات «المقاومات» المتضاربة والمتناقضة. والسبيل الى هذا هو الحفاظ على قوى احتياط حدودية وداخلية معاً، وخوض قوى الاحتياط المركبة «حروباً» على نواة الدولة السياسية، وإدارتها وأجهزتها، إما بذريعة مرابطة القوات الأميركية ودوامها، و «العمالة»، وإما بذريعة الانحياز الى إيران والاستيلاء على الدولة الوطنية. والذرائع هذه كلها، والسياسات والأفعال التي تسوغها، وتدعو إليها أو تنجم عنها، تقحم على سيادة الدولة، وعلى استقلالها عن الجماعات الأهلية وإهدائها وارتباطاتها، ما يصدعها ويقوضها حصصاً، ويَجمع العصبيات على عصيانها.

وطرفية الحركة الحوثية (اليمنية) والشيعية المسلحة، جغرافياً وقياساً على الوسط المشرقي، لا تطمس توسطها السياسي. فهي تمثل على نازع قد يُبطل أركان رابطة إقليمية ضعيفة ومختلة، ولكنها على رغم هذا تحول دون انفجار دولها جماعات أهلية متحاربة. فالجماعة اليمنية لا تشارك الجماعتين الأهليتين الكبيرتين المعتقد بعد تركها الزيدية الى الإمامية الاثني عشرية من طريق النجف وقم و(ربما) ضواحي بيروت وبعلبك. وهي أنكرت الإنقلاب السياسي الذي أطاح، قبل نصف قرن، الإمامة المتوكلية، وأحل الجمهورية محلها. وتنزل الجماعة، النسبية والمذهبية، بلاداً متنازعة على حدود دولتين لم تحسما نزاعهما إلا منذ بعض الوقت. وحدود البلدين مرتع مرور غير مشروع يتصل بالبحر، من جهة، وبداخلين قبليين يعصيان السيطرة والمراقبة، من جهة أخرى. وتتوسل جماعات «جهادية» ومقاتلة، تناوئ الفرق الإسلامية الأخرى مناوأة حادة، بطرق المرور والرعي والتهريب الى أغراضها.

ويحمل ضعف الحكومة الوطنية بإزاء خصومها ومعارضيها وحلفائها، وبإزاء القوى الإقليمية، يحملها على المغامرة بحسم عسكري لا تملك مقوماته السياسية ولا التقنية. فهي تمسي طرفاً أهلياً وعصبياً حال تصديها لمعارضة أهلية وعصبية، إذا لم تؤيدها غالبية اليمنيين ولم تنجح في شق الجماعة الحوثية واستمالة شطر منها الى صف الدولة. وهذا ما لم تنجح صنعاء فيه. وحرب القوات النظامية على قوة أهلية متحصنة في «بلادها» وديرتها، ولا يمتنع عليها التموين من طرق متفرقة إذا تولته قوة إقليمية «ثرية»، سرعان ما تنقلب حرباً غير متكافئة على الجيش الوطني، وحرباً «وطنية» على دولة منحازة وتابعة. وتعبئ الحركة الأهلية والعسكرية الحوثية، شأن الحركات الأخرى في لبنان وفلسطين والعراق، فقراء الجماعة الأهلية وضعفاءها وعوامها و «مثقفيها» العضويين الذين يدينون بإعدادهم وتأهيلهم الأوليين الى هيئات المدينة الضحلة.

ودمج هذه العوامل - الأهلية المذهبية، والجغرافية الطرفية، والاجتماعية المرتبية، والسياسية الدونية، والوطنية السيادية - تحت جناح منظمة «طليعية» ومتماسكة، وفي قيادة استراتيجية مدارها على حماية نظام مهدد في دائرة دولها وكياناتها السياسية ضعيفة، دمج هذه العوامل في السياق والإطار هذين يؤهل من يتولى دمجها الى الاضطلاع بدور فاعل. والحق أن هذا ما أنجزته بعض هذه الحركات، وعلى رأسها الحركة الخمينية المسلحة في لبنان، وقد تنجزها الحركة الحوثية في اليمن. والإنجاز الفلسطيني، الحماسي، يتهدده جواران معاديان قويان، وتآكل سياسي وأهلي داخلي. وقد يطيحه التآكل المزدوج هذا، إذا لم يطحه استعجال حل فلسطيني - إسرائيلي عن يد وساطة أميركية ودولية يبدوان (الحل والوساطة) متعثرين اليوم. والأرجح أن الحركات العراقية، الصدرية و «المهدية»، الى «القاعدة» والبعث الصدامي، فشلت، وأن فشلها لا عودة عنه. فالانسحاب الأميركي والائتلاف الوطني الكردي المقيد يضعفان ذرائع الشقاق المسلح، والمطامع الإيرانية، وتحفظ الجوار السنّي. ولا ريب في أن التهاب المسألة النووية الإيرانية يعوق مسيرة العراق الى بناء دولة وطنية. ويعوقه، على قدر أقل بكثير، إصرار الحكم السوري على أداء دور إقليمي لا قياس بينه وبين الموارد السورية المتوافرة اليوم وفي غد منظور.

وتقود المقارنة السريعة بين الحركات الطرفية المسلحة الى الإقرار بقوة حجتها الأهلية والعصبية والإسلامية - القومية. وعاد عليها ركوبها مركباً جماهيرياً عريضاً ولجباً بسلطان ودور لا ينكران، وفي بعض الأحوال راجحين. واستجابت الحدة الأهلية والعصبية المسلحة نازعاً ثأرياً ومناهضاً لأشكال سيطرة الدول الغربية الكبيرة السابقة، وللتفوق العسكري الإسرائيلي، ولا يزال (النازع) مصدر هوى «سياسي» غالب. ومعارضة الحجة الأهلية والعصبية المسلحة بالدولة الوطنية وبـ «حاجات الناس» واقتراعهم، على ما هي الحال في لبنان، «متمدنة» فوق ما يطيق «الناس» أنفسهم، وفوق ما يشتهون. وهذه المعارضة، في بلدان لم تختبر كيان الدولة الوطنية على ما هي حال معظم المشرق، من غير جدوى. ولم يلجم النزعات الطرفية في العراق إلا تضافر القوة المسلحة واقتراح المساومة السياسية. ويقيد النزعات هذه في لبنان، الى اليوم، تضافر بعض السياسات الدولية والعربية وصمود التيار السياسي الوطني والسيادي في وجه الإرهاب والترغيب والتفتيت. ولكن ما لم تكافئ الدولة الوطنية، وهواها، «سحر» الحركة الأهلية والعصبية المسلحة و «بطولتها»، فلن تبدو الحركات هذه على حقيقتها، أي عارية من الرغبة في الحرية، وفي بناء رابط سياسي يقوم على الكثرة والمنازعة والعلانية.

الأحد، 13 ديسمبر 2009

وسيلة تمزالي تروي سيرة جزائرية خاصة ومشتركة ... عسر "التربية" على الكثرة والانقسام غداة الانتشاء بهوية أخوية وخلاصية ساحقة

المستقبل 13/12/2009

في الأول أو الفاتح من تشرين الثاني المنصرم انقضى 55 عاماً على اندلاع ما تسميه الكاتبة الجزائرية، وسيلة تمزالي، مع جمهور عريض من الجزائريين ومن غير الجزائريين، "الثورة" ("تربية جزائرية/ من الثورة الى عقد السنوات السود"، دارغاليمار، باريس 2007، أو "تنشئة جزائرية/ من الثورة الى العشرية السوداء"، دار القصبة، الجزائر، 2009). وهي لا تخصص ما لا يدعو الى التخصيص والبيان، وجلي بذاته وفيها. فالوطنية الجزائرية، أو الهوية، مولودة من "الثورة"، أي من حرب التحرير أو الاستقلال. والثورة أو الحرب قطعت حبل السرة القسرية والمصطنعة التي ربط بها الاحتلال الفرنسي، طوال 131 سنة (1830 – 1962)، الولاية العثمانية المؤتلفة من ميناء المدينة المتوسطية المشهورة بالقرصنة المأذونة، ومن سهول الداخل الخصبة والجبال العالية والعصية والطرق المفضية الى قلب القارة السوداء، بحاضرته أو حواضره. والثورة مولودة من "شعب" الفلاحين والعاملين في الأرض، على ما لم تنفك تذيع بصوت جهير وحاد دعاوة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ومن بعدها دعاوة الدولة أو الجمهورية الاشتراكية والشعبية.

الأسوار "النفسية"
والفلاحون – وهم "آيت" (آيت سليمان، آيت فيمون، آيت فقايت... على ما هم في ضواحي بجاية) أو "اولاد" و "بنو" أي قبائل وعشائر – ولدوا، سياسة واجتماعاً، من مصادرتهم على أراضي قبائلهم وديراتهم، ومن انتفاضاتهم على الاحتلال ومتوطنيه وأصحاب الأراضي المصادرة، وتربصهم به وبهم الثأر في سبيل "استعادة" الأرض المسروقة بالقوة والقهر والقتل. ولا ينتقص من الصورة أو الرواية هذه اندلاع أعمال التفجير والقتل التي آذنت، في اليوم الأول من تشرين الثاني قبل نيف ونصف قرن، بالحرب أو الثورة عن ايدي موظفين إداريين من رتب متواضعة، وجنود أو دركيين سابقين، وبطالين من غير عمل، وفتيان مدارس من غير تعليم. وكلهم أهل مدن وبعضهم مهاجرون سابقون الى "الحاضرة" الفرنسية. ولا ينتقص هذا من الرواية فهي تدمج فصول الحوادث ومراحلها وأطوارها بعضها ببعض، وتقدِّم فصولاً وتؤخر أخرى لتؤاتي الرسم أو المثال الذي تريده "الثورة" او "الجبهة" لنفسها.
فـ "أولاد يوم جميع القديسين" الذين أشعلوا حرب الاستقلال هم اهل مدن للوهلة الأولى السطحية والآنية. ولكنهم، في ضوء "علم الثورة" الجزائري والخصوصي، وقوانين هذا العلم، لم يكن أولاد الأول من تشرين الثاني إلا وكلاء شعب الفلاحين الكامن، ومندوبيه الموقتين. والبرهان على الدعوى ان الثورة لم يتماسك عودها، ولم يشتد، إلا حين انسحبت من المدن، وتوجهت إلى جبال الداخل الوعرة ووديانه، وفاءت الى جنح الفلاحين ولاذت بهم وبليلهم الداجي، على ما "وصف" المارتينيكي الفرنسي والجزائري فرانتز فانون في بيانه الملحمي "مستضعفو الأرض" (أو "معذبوها"، كما كان يقال على خطى طه حسين وقبل نشر روح الله خميني لواء الآية القرآنية المعروفة). والحق ان هذا جزء من الخبر. والجزء قد يكون معظم الخبر أو كله، على ما تزعم رواية الثورة، ويغلب على تأويله العام والأخير، وقد لا يكون إلا جزءاً، ولا يحسر عن معنى إلا تباعاً وكسرات.
وتتمة الخبر (الجزئية) هي ان من اضطروا الى ترك المدن الجزائرية الى الجبال والوديان لم يستقروا في "حضن" الفلاحين والمزارعين، ولا دخلوا في أمانهم وولايتهم وتحت جناحهم. وإنما حملهم التعقب البوليسي والاستخباري الفرنسي الشرس على الاعتزال في المواضع الحصينة والمنيعة، وعلى إحاطة انفسهم، و "جهازهم" الآمر والمركزي والمرتبي، بستارة صفيقة من الأرصاد والعيون، وحجاب أشد صفاقة من الظن والتشكيك والتهمة. فالحرب العسكرية المدمرة التي رد بها الحكم الفرنسي وقواته المحلية على أعمال التفجير والقتل الجزائرية الأولى لم تلبث ان ازدوجت "حرباً نفسية"، على قول بعض الضباط الفرنسيين "اللامعين" الذين اختبروا، قبل وقت قليل، الحرب البرية على انتفاضة "شعبية" ومسلحة منظمة في الهند الصينية، وهو اسم فيتنام وكمبوديا ولاوس يومذاك، وخسروا الحرب هذه. وقضت "الحرب النفسية" باستمالة السكان الوطنيين من أهل البلد الأصليين، وتجنيدهم بالترغيب والتهديد في صف قوة الاحتلال، واستدخال الجهاز الذي يقود الانتفاضة أو الثورة بهم.
وكان للحرب النفسية – وهي كانت اجتماعية وجسدية وتوسلت بتجميع اهالي القرى البعيدة والمعزولة قسراً في "ضيع استراتيجية"- أثر عميق في حرب الاستقلال وجهازها ومقاتليها. فأدت الى نهش جهاز الحرب الحزبي والمنظم بالارتياب والشك المفرطين. وعزلته عن جمهوره المفترض، وعزلت اجزاءه و "ولاياته" بعضها عن بعض. وفرقت بين أجزاء "جبهة التحرير" نفسها، بعد ان فرقت بين "الجبهة" وبين "حركة التحرير الوطني" التي أنشأها العامل النقابي مسالي الحاج في فرنسا، وضوى إليها مهاجرين عمالاً في المرتبة الأولى. فلابست حرب أهلية دامية، كثيرة الجبهات المحلية وفظيعة القسوة والتعسف، حربَ الاستقلال عن فرنسا وعليها، وعلى المتوطنين الأوروبيين وأصحاب معظم الأرض الوطنية الخصبة والمصادرة. وفشت التصفيات في صفوف الجبهة والأنصار والأهالي، وأودت بعامة الأنصار والمؤيدين وبمناضلي القواعد، على ما سموا، على نحو ما أودت بالقادة المؤسسين.
فقتل قادة "امنيون" ذاع صيت بعضهم، مثل محمد بوصوف وكريم بلقاسم، من بعد، زميلاً "سياسياً" بارزاً هو أبان رمضان، غداة مؤتمر السومام (1956)، غير بعيد من بجاية، مسقط وسيلة تمزالي ومسرح طفولتها الى حين اغتيال والدها في خاتمة السنة التالية بيد "أخ" مقاتل. وتقول كاتبة "تربية جزائرية" ان مؤتمر السومام هذا أرسى الأبنية السياسية التي نهضت عليها الدولة المستقلة، تلية نصف عقد من السنين. وتقول ان "صاحب" الإرساء هو أبان رمضان، وأن زملاءه "قاموا عليه" وقتلوه. ولا تزيد. والزيادة كانت تقتضي التطرق الى ما ألمحت إليه الفقرات المتقدمة للتو، ولتتمة الخبر.
وفي تتمة التتمة ان جسم حرب التحرير أو الاستقلال، المدعوة ثورة، اضطر الى الهجرة القسرية الى تونس، وإلى المرابطة بالأراضي التونسية "جيش تحرير وطنياً" حجز بينه وبين الأراضي الجزائرية "خط (الجنرال) شال" المكهرب. وحجزت بينه وبين الجزائريين صفة سلكية وجهازية عسكرية تولى التمثيل عليها قائد أوحد هو هواري بومدين. وتذرع الرجل المعتزل والمترفع و "المتصوف" الذي لم يتشكك في إلهامه، ولا في حقيقة ندبه الى امر عظيم، بالحاجزين، الجغرافي والسلكي الجهازي. فخلّص جيشه من اضطراب الداخل ومنازعاته، وتعالى عن هذه وذاك، وأرسى ركن قوة وسلطان وولاية مستقل بنفسه ومصالحه. ونهضت الدولة الجزائرية الوطنية والاشتراكية، على هذا الركن.
فانتهك بومدين ما سعى أبان رمضان في إقراره مرجعاً وفيصلاً وهو "أولوية الداخل على الخارج" في رسم سياسات الحركة الاستقلالية وحربها. ويقتضي هذا حضانة شعبية حقيقية تتولى صوغ الحركة الاستقلالية، وتعهدها، والمراقبة عليها والتأليف بين منازعها وأجزائها وجماعاتها، على خلاف تربع القيادة السرية في مركز لا يُطاول ولا يحاسب. وهذا إقرار بافتقار الحركة الاستقلالية الى الصفة الشعبية السياسية. ودعا رمضان زملاءه المؤتمرين من قادة العمل السري وولاة الولايات أو المحافظات العسكرية والأمنية الى تقييد العمل الداخلي، العسكري والأمني، بقواعد حقوقية وقضائية إجرائية تحول دون استرسال التعسف، والثارات المحلية والعائلية وتحكّمها في سياسة "الجبهة" وأفعال المقاتلين. وهذا إقرار بأن العنف "الثوري" و "الجماهيري" هو ثمرة ضعف بنيان الثورة الشعبي والمشترك. واغتال شركاء رمضان شريكهم وزميلهم اقتصاصاً من منزعه الى كبح جماح عصبيات جنحت الى تسليط "قانونها" أو فوضاها على حركة أشبه بثورة بركان مضطرم بالحمم.

الشمس والمقهورون
وقد يبدو هذا بعيداً من سيرة وسيلة تمزالي الجزائرية، وترتيبها أو تنشئتها التي أسلمتها الى حوادث تاريخها، الخاصة والعامة المشتركة من غير انفصال على ما تريد صاحبة السيرة. وهي تقتصر على إلماحات تتعمد البقاء دون إحاطة تاريخية عريضة بمجرى حرب الهوية والاستقلال الجزائريين. فتروي بعض وقائع الحرب الخاصة والعائلية والعامة رواية مستفيضة ودقيقة، ومتصلة على نحو من الأنحاء. ولكنها تتحاشى، ما استطاعت الى ذلك سبيلاً، الإجابة الرأسية أو المباشرة عن اسئلتها الجوهرية – وهذه تتناول العنف والإرهاب والانقسامات الداخلية والتوحيد القسري والتسلط القيادي وعداء الأجنبي وتقليده معاً – وذلك في ضوء تقويم تاريخي عريض لحرب الهوية والاستقلال.
وتفاديها التأويل "الجامع"، أو الرأي "المحيط" بالوقائع من فوق (الوقائع) ومن خارج، أرادته الكاتبة، على ما أعتقد، إرادة صارمة وقاطعة. فهي في هذا، على ما تصرح، تذهب مذهب زيغموت باومان، البولندي الأميركي ودارس اجتماعيات المعاصرة "السائلة"، الى أن أحد وجوه الكليانيات (التوتاليتاريات) البارزة يقضي قضاء ملزِماً ومبرماً بالسكوت عن انفعالات الأفراد والآحاد ومشاعرهم، وتقديم الرواية ("السردية") الملحمية والتاريخية الأسطورية على الأخبار والمرويات الجزئية و "الصغيرة"، على ما كانت قالت سميرة عزام الفلسطينية قبل نصف قرن. ووراء قولة زيغموت باومان مقالةُ ألبير كامو، "مواطن" وسيلة تمزالي الجزئي إذا جازت العبارة. فألبير كامو ذهب، على ما يذكِّر باومان نفسه في عجالة خص بها ألبير كامو في ذكرى انقضاء 50 عاماً على وفاة الكاتب الجزائري – الفرنسي قبل 3 اسابيع، الى ترجحه بين شاغلين هما "الشمس"، كناية (جزائرية ومتوسطية) عن الجمال والافتتان، و "المقهورون" أو "الغلابة"، كناية إنسانية عامة عن طلب العدل في الاجتماع السياسي.
وتروي الكاتبة حادثة أو واقعة هي مَعْلم على سيرتها، وعلى منعطفات قادتها الى مراجعة نفسها ومحاسبتها، على ما لم تنفك تفعل (المراجعة والمحاسبة) والحق يقال. ففي اليوم العاشر من أيار 1963، في عام الجزائر الأول على التقويم القانوني، وكان بن بلة ( أو بللا) رئيساً خطيباً مفوهاً ويومياً، خطب الرئيس الخطيب الجموع الحاشدة في يوم الشجرة الذي أراده يوم مكافحة التصحر. وكان الى جنبه تشي غيفارا. ودعا الخطيب الجموع الى الاحتشاد، وغرس الغروس الفتية والواعدة حول سد حمِّيز، تحت شمس حادة وثقيلة. وتوافدت الوفود من انحاء الجزائر، ومعظمها من الشباب، فتيات وفتياناً. وجاءت الكاتبة، وهي يومها شابة في مقتبل العشرينات، مع شلة من أصدقاء كلية الحقوق في المدينة العاصمة. ومخرت جموعَ الوافدين سيارات أهل السلطان الجدد، قاعدين الى جنب سواقيهم، على ما تقضي "الأخوّة"، ومن غير ربطات عنق، على ما تقضي جلبة الحرب الأخوية بين الجزائر الحرة وبين المغرب الرجعي. وهذه السيارات فاحمة الزجاج، شأنها في بنوم بنه والخرطوم وواشنطن وموسكو وبيروت ومقديشو وغزة.
وحادت الشلة الصغيرة عن طريق الإسفلت تحاشياً للازدحام "أو انقياداً لفوضى متحدرة من الجدود". وملأ المحتشدون الطرق وسفوح الهضاب القريبة من السد والمفضية إليه. وداسوا في مسيرهم غروس "الأرضي شوكي" الطالعة وغير الناضجة بعد في هذا الوقت من الموسم. وقطفوا ما حلي في عيونهم منها، وما طالته أيديهم وحسبوا انه يسد جوعهم. وصادفت الشلة في طريقها الى ساحة الاحتشاد، في عز الظهيرة و "حين الظلال خيوط نحيلة في خمائل الجبل"، شجرة خرنوب كبيرة وظليلة. فارتمت تحت غصونها. والمارة يُصلون فتيات الشلة وفتيانها المتعبين نظرات إنكار وغضب. "فالتعب كان يبعث (في المارة) الانتشاء". وكانوا، هم، التمثيل على فتوة لعوب، على خلاف "الشعب الطيب" ونصبه التضحية فضيلة الجزائري الحق الأولى والأثيرة. وبينما كانت تدور مناقشة بين اهل الشلة على جدوى يوم الشجرة، وجهرت الشابة تمزالي تشككها في جدواه بعد ان كانت من أنصاره، تقدمت منها امرأة مسنة، تستند الى عكاز تعوض به ساقاً مقطوعة حلت محلها ساق خشبية قدت في خشب خشن، وأنحت بلائمة مريرة على المتشككة، محتجة احتجاجاً مسرحياً بإصابتها ووطنيتها معاً. فهي سمعتها تقول تحفُّظها عن مآل المزارع المرتجلة، وعن دلالة البادرة السياسية التي باشرها أحمد بن بلة. فنبهت المرأة، وهي صورة الشعب الجزائري الماثلة، الصبية المتحفظة والأنيقة والجميلة الى أن "ليقين الشعب حرمة لا تمس".
وللمشهد المرسوم (كتابة) بدقة فنية، بقية. فهذا "الشعب" الواحد والمتصل والمنتشي، خارج طوره، على شاكلة قوم أو جماعة مقاتلة تسير على تعبئة، تحمله الكاتبة على شبهين: واحد بصور الروسي آيزنشتاين في "إيفان الرهيب"، وآخر بلوحة بروغيل الشيخ أو القديم "العميان" تصديقاً للمثل الإنجيلي: "إذا أخذ أعمى بيد أعمى سقط الاثنان في حفرة". وقد يكون حمل الشعب هذا على الشبهين ابن وقته أو ابن وقت الكتابة، لا فرق. فهي انتحت عن صف "المقهورين"، أو المستضعفين المظلومين، ناحية على حدة، وتركتهم في تكتلهم المرصوص ومصهرهم ويقينهم وتعظيمهم التضحية والقادة، وشأنهم (تجنباً للكتابة: يعمهون، على رغم جوار الوصف لوحة بروغيل الصريحة وشريط آيزنشتاين، وهذا ليس رأيه في الجموع، على درج سان بطرسبورغ أو في سهل الموسكوفا، ورأي الرسام الإنجيلي، واحداً على خلاف إيحاء الكاتبة). وتعطف فتورها وانتحاءها على "بروز روعة المكان الآبدة". وتقيم الروعة من الفتور والانتحاء مقام السبب والعلة. ولا تغفل نسبة البحر القريب الى... ألبير كامو، و "أعراسه". وهي ترتب الجمال والمقهورين ترتيباً مختلفاً. فتقدِّم ذاك على هؤلاء. فهؤلاء، آلاف الرجال والنساء اللاهثين والمعرقين والطاوين الطريق والحجارة والغبار وحلم الكِبَر "خسروا الدور الأول في ارتسام مشهد السماء والجبال والبحر الكامل. فرد(ها) كمال العالم المنبسط الى نفسـ(ـها)"، على قولها. وهي تعزو حالها هذه، أي انتحاءها واعتزالها وحِدَتها، الى عصيها التبني، وامتناعها منه.
وفيما هي على هذه الحال، كان الرئيس الخطيب يندد بأصحاب الأرض القلائل من الجزائريين الوطنيين، ويصفهم بـ "عملاء رأس المال العالمي"، ويذكر، بالاسم والصفة، بعض "العملاء" هؤلاء. ولم تسمع وسيلة تمزالي خطبة بن بلة في اثناء إلقائها. وأخبرها اصحابها وهم في طريق العودة الى المدينة ان الرئيس سمى آل تمزالي، أسرتها، فيمن سمى من "العملاء". ولم تفهم لتوها ما قاله رفاقها وأصحابها. وغداة يوم الشجرة، قرأت في الصحيفة الخطبة الرئاسية، ورأت بأم العين آل تمزالي في عداد "البورجوازية الوطنية" العميلة.
وهالها هذا. فهو أنكر على أسرتها القريبة، والدها وأعمامها وشقيقيها وأبناء عمومتها، وعليها هي، انتساباً جزائرياً عاطفياً جسدياً، وعملياً مادياً ونشطاً، لا يتطاول إليه الشك. وتحصي السيرة وقائع الانتساب هذا ووجوهه الكثيرة. وفي هذه الوقائع شراء السلاح وتهريبه وتخزينه خلسة ونقله الى المقاتلين. وفيها كذلك أعمال تحويل مصرفية، وتبرعات، وإيواء هاربين وملاحقين، والرواح الى الجبال وبعض مشاركة في القتال، وتحلق حول "جبهة التحرير" وتحت علمها. ونزلت الأسرة الثرية، المتحدرة من "ريِّس" بحر عثماني واسطانبولي خدم السلطان قرصاناً وتاجراً قبل ان يستقر بالمدينة البيضاء وفي أرياف الولاية الخصبة، نزلت عن اراضيها، ودُورها لطبقة المقاتلين "الوطنية" والجديدة طائعة مختارة، وفيما يعود الى وسيلة نفسها فرحة ومستبشرة. فتهمة من هذه حالهم، وهذا "سجلهم" بـ "العمالة"، ورصفهم رصفاً متعسفاً في باب "طبقة" واحدة لا مناص لها على زعم اصحاب التهمة من خدمة الأجنبي المحتل والمستعمر الى امس قريب، وإدخال الآباء والأولاد في الباب القسري وإقحامهم فيه أنّى كانت أحوالهم وحوادثهم، هذا كله اسفر عن وجه الثورة المستبد والمتصلب والظالم. وينم هذا الوجه بدوام ضغينة العوام من اهل العسر والضعف على اهل اليسر والقوة على رغم انقلاب الأحوال والمراتب، وانفراد من كانوا في حاجة وعوز وخوف بالسلطان وموارده ومخارجه.

"الشعب" البتّار
وهؤلاء، أهل الحل والعقد الجدد، هم حكام الجزائر والجزائريين، والعَلَم على "الشعب" الجزائري وكفاحه في حرب الهوية الوطنية والاستقلال، وصوت هذا الشعب المدوي والجهوري في المحافل كلها. وهم يقضون في الصغيرة والكبيرة، وفي الشاردة والواردة، بالإنابة عنه. وهم، شأن الشعب المقدس، لا يصح القول فيهم أنهم اخطأوا أو حادوا أو قصروا أو أفرطوا. فهم، على قول أحدهم في ثورة سياسية عظيمة "كتلة لا تتجزأ" ببعرها وبجرها. وهذا يحصن الثورة أو حرب الاستقلال في هذا المعرض، ويحصن أهلها الذين انتهت إليهم مقاليد السلطان في ختام حروب داخلية فظيعة العنف، من المسألة والنقد والمراجعة والمراقبة. ويُعمِل أهل السلطان حصانة الشعب المفترض في ردع المسألة والمراجعة والمراقبة، وفي قمع من يسألون ويراجعون ويراقبون. وسلاحهم البتار والقاطع هو الشعب الذي يصدرون عنه، ووحدته في حرب الهوية والاستقلال التي يريدون الصدور عنها، وهي متحجرة أو مجمرة، على قول زياد بن ابي سفيان، على حالها الأسطورية التي اختلقوها قبل الحرب وفي أثنائها وبعدها.
وفي حوادث الكاتبة الأسرية، عدا إسهامها في حرب الهوية والاستقلال من مواقعها ومواضعها، حادثة قاتمة تترجح السيرة أو "التربية" كلها بين دفتيها وقطبيها، هي مقتل ابي وسيلة تمزالي، حفيد تمزالي، اغتيالاً. وحركت التهمة الظالمة والمفتئة بالعمالة جرح الاغتيال العميق والثخين. فنصير جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وشقيق مشتري السلاح ومهربه وخازنه، وشقيق صاحب الحساب المصرفي واللاجئ الى سويسرا خشية الاغتيال والمفاوض بالتكليف خفية، ومن نزل الجيش الأجنبي دارته عنوة وحل ضيفاً ثقيلاً عليه انتقاماً من ميله الى الجبهة، قتله شاب جزائري من إحدى القبائل المقيمة بضواحي بجاية والعاملة في فلاحة اراضي آل تمزالي وزراعتها، في 11 كانون الأول 1957، الساعة الخامسة بعد الظهر (وهي الساعة التي قتل فيها أحد من رثاهم فيديريكو غارثيا لوركا بضاحية طليطلة، "وكانت عقارب ميناء الساعات في إسبانيا كلها تشير الى الساعة الخامسة").
ومقتل الأب هو فاتحة السيرة ووسطها (تقريباً) وختامها. وتتدرج رواية الاغتيال من الوصف المجرد من التخمين، الى الافتراض والتعليل الاجتماعيين الطبقيين، فإلى شهادة رجل أَسرَّ القاتل إليه في زنزانة السجن التي شاركه إياها بخبر اغتياله حفيد تمزالي. وقاد الافتراض والتعليل الكاتبة الى الحسبان ان احد آيت فيقا – وهم فخذ أو عمارة من آيت ايمزاعين (أو ايمزاين؟ أو أم زاين؟)، تعاقب الرومان والبرابرة والعرب والترك والفرنسيون على طردهم من ديرتهم وأرضهم، وكان آل تمزالي آخر من ملكوا الأرض وآلت إليهم – أحد هؤلاء قام على المالك الأخير، وقتله ثأراً من الفاتحين السابقين والمتعاقبين كلهم، وجزاء بقائه بها بعد ان رحل الآخرون كلهم (وهذا تعليل ضعيف، فالفرنسيون لم يكونوا رحلوا بعد في 1957، وآذنت معركة مدينة الجزائر يومذاك بإرادتهم البقاء، وكانوا قبل سنة هاجموا مصر اقتصاصاً من مساندة دولتها الجزائريين وحربهم، وابتدأوا بعدها بناء خط شال المكهرب...).
وفي ختام السيرة يروي رجل شيخ ببيت حسين آيت أحمد، تعرّفه الكاتبة بـ "شيخ الدار" وعلى هذا فهو ربما والد حسين آيت أحمد، الى صاحبة السيرة أنه وأباها كانا صديقين متلازمين مثل اصبعي يد واحدة. وقال الشيخ لابنة حفيد، صديقه، انه كان مسجوناً ومعتقلاً بين يدي مديرية مراقبة الأراضي الإقليمية (DST). وأخبره المحقق ان صديقه قتل، وأن قاتل صديقه هو رفيق معتقله هذه الليلة. وأدخل المحقق الى الزنزانة "ولداً" روى للراوي وقائع الاغتيال. فأخبره أنه لم يكن يعرف من هو قتيله، وهو قتله لما دله إليه من كان وسيطه الى الانخراط في القتال في الجبال وقال له: أتريد القتال في الجبال؟ فما عليك إلا قتل هذا الرجل. وكان "الولد" أو الفتى، شأن أولاد كثر من بعده، ولا شك قبله، يريد حقاً القتال، في الجبال أو غير الجبال لا فرق. فحمل مسدساً ومغلف رسالة، وزعم انه يريد ان يبلغ الرسالة الى صاحب "مخازن السهل" باليد. وانتظر طويلاً خروج الرجل. فلما مد هذا يده ليتناول المغلف أطلق الشاب على الجهة اليسرى من الصدر رصاصة واحدة قتلت أبا رضا، فهوى على القاتل يسأله، على زعم ابنته، عن سبب تعمده قتله وهو لا يعرفه، ولم يره من قبل. وهي، اليوم، او يوم كتبت الأسطر الأخيرة من "تربيتها"، في 11 كانون الأول 2006، 49 عاماً بعد اغتيال والدها وهو في التاسعة والأربعين من العمر، تسأل عن السبب في قتل والدها، وتريد جواباً باسم حق الوالد القتيل في جواب لن يبلغه. ويدعوها الحق هذا الى سؤال بلدها، والإقامة على السؤال والإلحاح فيه، وإرساء "قصتها مع بلدها"، ورابطتها به، على السؤال إياه.
وتتردد بين فصول مقتل الوالد الثلاثة، أي طوال السيرة "التعليمية"، أصوات هوى الجزائر المحموم والنفور المرير منها. فالسيرة يتنازعها نازعان: واحد الى إيجاب "الحرب"، أو الثورة، وضرورتها، على قولها في العنف والإرهاب (وفي حادثة "الميلك بار" على وجه الخصوص، وهي رواها السينمائي الإيطالي بونتوكورفو في شريطه "معركة مدينة الجزائر" وقُتل فيها رواد مقهى بقنبلة صنعها نصير فرنسي يهودي للجبهة ودسّتها إحدى "الأخوات") وإلى تزكية الحرب عاملاً جامعاً في ولادة هوية وطنية وتاريخية ما كان لها ان تولد من رحم أخرى ومخاض آخر. ونازع ثان، يلابس الأول ملابسة حميمة، الى تحميل الثورة، ومقاتليها وقادتها وجمهورها العامي و "الشعبي" وقبائلها القديمة والآبدة وإسلامها، التبعة الكاملة والثقيلة عما آلت إليه من سلطان متعجرف وصلف متعال ومن تسليط للموت والموتى والشعائر والخصوصية على السِّير والحريات والإرادات والرغبات والنزاعات والبدايات والأجساد والتحفظ والنظر. وتنبسط سيرة وسيلة تمزالي وتربيتها (على "مثال" غير تعليمي ولا يفضي الى "علم") بين الوجهين، وفي ثنايا قسمات يتبادلها الوجهان وأقنعتهما الكثيرة، على ما يُرى في يوم الشجرة الذي مرت روايته الموجزة، ولا ينفكان يتبادلانها حتى الدوار، دوار القارئ ودوار الكاتبة.

"شعب" الإخوة الكاذب
والتمرين، على قول الفرنسيين، ينطوي على المخاطرة بمعاني السيرة والحوادث الكبيرة والجسيمة التي حاطتها وداخلتها، وبجلاء هذه المعاني على نحو لا يسوغ الاختلاط الهيولي والسديمي الذي رعته الثورة قبل ان يرعاه الإسلاميون وجماعاتهم وجبهاتهم القاتلة. ويشبه هذا شبهاً مخيفاً "ثورات" المشرق وحروبه الاستقلالية الوطنية ومقاوماته والهويات الخصوصية، العربية والسورية والفلسطينية والإسلامية السنية والشيعية، التي ولدت من الحروب والمقاومات هذه، أو من التحريض عليها. وتتردد في "تربية جزائرية" أصداء بعض سير المناضلين والمعممين و "موظفي" حركات التحرر ومنظماتها المحليين. فقيام الثورة الناصرية أو الفلسطينية، أو "الإسلامية" أو البعثية (كناية عن انقلاب عسكري وأمني بائس)، ورفعها لواء "الشعب" أو الاسم الذي تقاتل تحته وبالوكالة عنه – وهي تقتل وتقتتل وتغتال وتأمر وترشي وتحرض وتعمّي فوق ما تقاتل – قيامها وحده ينصبها حادثة وكياناً عظيمين لا يحاط بهما، ويتعاليان عن الرواية والتجزيء والجواز.
فالثورة الجزائرية، أو حرب الهوية والاستقلال، المولودة من احتلال استعماري واستيطاني طويل ومدمر تهدد اركان حياة الجزائريين، على معناها الطبيعي والبيولوجي، وتهدد مقومات تعرّفهم انفسهم افراداً وجماعات و "شعباً"، اندلاع هذه الثورة عن يد من اشعلوها وتصدروها وحكموا من بعد بوكالتهم عنها، يُروى حادثةً واحدةً. وهي معنى واحد مركوز، الى الأبد ومنذ الأزل، في كتلة الهوية والشعب الجزائريين (ويطلب الفلسطينيون والعروبيون والإسلاميون الأمر نفسه لأنفسهم وثوراتهم ومقاوماتهم و "حروبهم" و "الدول" التي تساندهم وتستعملهم). وكمال المعنى الواحد يمتنع من الرواية والنظر والتأريخ. وقد يتخلل سيرة السيدة تمزالي قص بعض الحوادث والأخبار الثورية المأسوية – مثل اضراب التلاميذ والطلبة الثانويين والثانويات في 1956 انتصاراً "للجبهة" والمقاتلين، وطلباً للالتحاق بها وبهم في الجبال، وتعمد قيادات المقاتلين توقيت انتقال التلاميذ والطلبة في ضوء القمر الفاضح استدراجاً لقتل المتطوعين قنصاً، وهم يجتازون الوديان، ومثل إعدام المقاتلين الرجال المقاتلات المتطوعات دفعاً لخلاف الرجال عليهم، واشتراط بعض المقاتلين فحص بكارة المتطوعات للقتال -. ولكن هذا لا يصنع رواية، أي كثرة وانقساماً وحوادث جائزة ومتواردة ومتصلة معاً. فالكاتبة "تقر" للثورة، ولأصحابها الرجال الذكور والفحول القادمين من قاع التاريخ الجزائري القبلي والإسلامي المعدم والمحطم، ليس بالسبق وحده والمبادرة، بل بإيجاب وابتداء مطلقين، وبوحدة لا فطور فيها، على قول قرآني، ولا تفاوت. فالثورة "كتلة"، على ما مر القول، منذ رصاصتها الأولى، واغتيالها الأول، الى حشرجتها ولفظها انفاسها في مَقاتل الإسلاميين المسلحين والذباحين والمغتصبين وباقري البطون وساملي الأعين.
وهي، الثورة، أخرجت المقهورين والمستضعفين من المهانة والإذلال وطأطأة الرؤوس وانحناء الأعناق وتقبيل الأيدي والقول نعم جواباً واحداً، و "صهرتهم" أخوة، على قول سارتر في وصف مثال الثورة وهو عين على مسيرات 1793 وعين على "حركات" الجزائريين أو ما يقصه فرانتز فانون عنها. وزعمها هذا، وانتصابها ابتداءً، حمل المقاتلين بين يديها وأنصارها ومداحيها، أي الإخوة كلهم، على إنكار سوابق مهدت الطريق إليها، ويترتب لأصحابها (أصحاب السابقة) بعض الدَّين على "الشعب"، وهم جزء منه وبعضه. وأهل السيدة تمزالي من اصحاب السابقة. ومن اصحابها جزائريون كثر، عامة و "خاصة"، بورجوازيون وملاكو ارض، وعمال مهاجرون، ومتعلمون، ونقابيون، ومُعَمَّمون وموظفون متحدرون من طبقات تقليدية وجديدة متفرقة. وبعض هؤلاء انتظم في حركات سياسية، معتدلة أو متطرفة، وتعاون بعض الوقت مع المستعمر ثم تحفظ عنه، ويمم شطر "إخوته". ومعظم هؤلاء كان يُتوقع ان يسهم في حركة الهوية والاستقلال، وينخرط جزءاً من الشعب الجزائري في حركته الوطنية الجامعة.
ولكن الثورة أنكرت على هؤلاء، أي على "الطبقات" والجماعات التي نشأ بعضها عن الاستعمار ومنه قبل ان ينقلب عليه، أنكرت عليهم نسبتهم، وتاريخهم وهويتهم. وهي أنكرت، من بعد، على المتعاونين فعلاً جواز الاعتذار والتكفير، وقتلت ثأراً عشرات الآلاف منهم. واشترطت على الأوائل براءتهم من جلدهم لقاء قبولهم "مندوبين" عنها، ووكلاء مقيدين، يكلمون، بلسان فقرائها ومعدميها وعوامها، من تندبهم الى كلامهم. وأبقتهم واجهة ودمى تحركهم. فإذا جد الجد نحتهم واطرحتهم واتهمتهم ونحلتهم ما شاء موظفوها و "قضاتها" (وتروي المحامية السابقة ان معظم هؤلاء رفعتهم الثورة من تدوين الصادر والوارد الى القضاء في الدعاوى) نحلهم إياه من سوابق. فبقي من "الشعب" كتلته المرصوصة والخرساء، ومواكب الشهداء التي أوكلت الكلام الى الرئيس الخطيب وإلى خلفه العسكري المترفع والاشتراكي "الخصوصي". فضمرت كثرة الشعب السياسي وتبددت. فاطُرحت السياسة، وهذه لا تستقيم من غير كثرة أفراد وأحزاب وكتل، ومن غير منازعة على المصالح وتعريف المصلحة العامة والمصالح الفئوية، وعلانية تشرك الجماعات والأفراد في المداولة والبت والمسؤولية عن هذا وتلك. وبقي الإخوة، وبقيت الأخُوّة الاشتراكية الخصوصية. والإخْوة تقوم أخُوّتهم ببتر ما عداهم، وليس هم على النحو المصهور والذائب الذي يتوهمون انفسهم عليه، ونفيه منهم ومن شعبهم وأمتهم وهويتها و "ثقافتهم"، على قول علي خامنئي ووكيله حسن نصر الله اليوم. فإفضاء الأخُوّة الى الإرهاب قد لا يكون عرضاً ولا عارضاً. والكاتبة الجزائرية، من طرف غير خفي تماماً، تصدع بمفهوم "شعب الإخْوة" هذا. فهي تسكت عن تاريخ الجزائريين قبل الثورة، ما عدا تاريخها العائلي. وتبدو مصدقة مزاعم الإخْوة في الابتداء والحدوث والخلق من عدم.
ولا يغالب العدم المزعوم هذا إلا طبقات تاريخية تراكمها تمزالي الواحدةَ فوق الأخرى، من الرومان الى جوغورتا (البربري) الى القبائل العربية الى المماليك والعثمانيين... مراكمة الطبقات الأرضية الجيولوجية. وتنسى الكاهنة فيمن تنسى. وتضرب صفحاً عن الذين أرخ مصطفى الأشرف لخروجهم وانتفاضاتهم طوال القرن التاسع عشر، وعن تاريخ المتعلمين والمحامين والمدرسين وبعض اعيان القبائل في النصف الأول من القرن العشرين. فإذا هالها بعض ما تفعل السلطة الثورية، مثل نشر العمارة والبناء الركيكين والقبيحين، أو ترك الأرض "المستصلحة" خراباً، توسلت بـ "القبائل القديمة والآبدة" تعليلاً وتفسيراً. وأغفلت تضافر هذا كله على إرساء سلطة الإخْوة، اليوم، على "شعب الإخْوة"، وليس على ظلال الأمس.
وهي ترفع أو تبدد ما قد يتوسط بينها وبين تاريخ الجزائريين. فالكاتبة قطب ذاتي خالص والجزائريون قطب. فلا يسعها الاحتجاج على الجزائريين، ثورة وتاريخاً ودولة وحكاماً ومحكومين، ولا على نفسها، بصُوَرِ حكمٍ او تدبير سابقة تنم بنازع الى الحرية والسياسة مولود من توق مشترك. فلا سند في الماضي، على نحو ما ترويه، لرغبتها في الحرية والصداقة والكثرة والمنازعة والعبارة والجمال، أي لا سند جزائرياً مشتركاً يرجع إليه الجزائريون ويؤلف بينهم تأليفاً سياسياً. وهم لا يسعهم نصب ثورتهم القريبة سنداً على هذا المثال وسابقة. فهذه الثورة انقلبت، جراء استبعاد جماعات كثيرة منها وغمط جماعات وأفراد مشاركتهم فيها، حركة "عنصرية" تولاها عرق الإخوة، وغلبت عليها الشعبوية وتشبيهها وكذبها. وأحسب ان هذا لم يفت وسيلة تمزالي. فجزائرها القريبة والأليفة والأثيرة هي الجزائر الطبيعية، الجبال والبحر والشمس والضوء. والتاريخ الجزائري تاريخ "طبيعي"، و "طبقات" أقوام وفتوح ولغات ومواقع. وهي تقول انها "عادت" إلى الجزائر بعد هجرة نيف وعقد. وقد يجد القارئ عسراً في تصديق أو تعديل (من عدالة) خبر لا يُعلم وجوه روايته.

وثيقة مؤتمر "حزب الله" وموضوعاتها الملبننة...علاج مرض لبنان الطائفي ببداوة سياسية وحرسية قاتلة


المستقبل، 6/12/2009
تمحض وثيقة الحزب الشيعي المسلح (المدعو "حزب الله" على الضد من "حزب الشيطان") الصادرة عن مؤتمره الأخير، وهي قرأها أمينه العام في 30 تشرين الثاني، تمحض لبنان، لبنان الحزب، وعلى ما يراه الحزب، وثيقة ولادة. فلبنان هذا، قبل الوثيقة أو الإعلان، ليس هو نفسه بعدها. وما شُبّه لبناناً لبعض مواطنيه الى اليوم، قد لا يَشْبه لبنان الوثيقة الحزب اللهية والنصر اللهية. فالوطن (اللبناني) الذي ينسب إليه الحزبيون المسلحون انفسهم، ونحن معهم على ما يريدون بإرادة إكراه، ليس وطن مواطنين، بل وطن أقرباء وأهل، "آباء وأجداد (و) أبناء وأحفاد". فالعلاقة أو الرابطة بهم لا تدين الى التاريخ المشترك، ولا إلى إرادة حياة مشتركة ومتجددة، بشطر كبير منها (من العلاقة)، ولا بشطر ضئيل والحق يقال.

الأرض والموتى
فهذا الوطن المفترض، على معنيي الاحتمال والفرض، ما إن يتحدر من أصلاب الآباء والأجداد، ويتصل الى الأبناء والأحفاد في ذرية واحدة، حتى يُدمغ بخاتم "الشهادة" و "التضحية". فيتولى كفالته وطناً، أو أرضاً وسرحاً، القتالُ والقتل في سبيل دوام الإقامة به. وتتولى ضمانه على هذه الشاكلة مواراةُ القتلى، "ضحايا" و "شهداء" وأهلاً أحياء، أرضه وثراه ومدافنه وجباناته. وهو، على هذا، وطن على معنى "الأرض والموتى". وهذا معنى قومي وعصبي، قبلي وحربي، يجمع النسب الى معاش القبيلة من قتالها وثاراتها، على مثال فرزدقي او فردوسي (شاعر "شاهنامه" المعروف). والقول: "نريد (هذا الوطن) لكل اللبنانيين على حد سواء"، يقدم فعل إرادة في الحاضر والآتي على حال حاضرة ترث حالاً ماضية وتُستكمل اليوم وغداً. فهو (القول) يملأ وطن "الأرض والموتى" الذي أثبته لتوه على مقاس الذرية والأهل، بلبنانيين يليقون به، ويخرجون من بين يدي اصحاب الوثيقة مدججين بالسلاح، حقيقة ومجازاً.
والإرادة (في "نريده" الأولى والثانية) ليست من نسيج المداولة وإعمال الرأي، ولا من نسيج دائرتهما العامة والمشتركة. وهي إرادة على المعنى العثماني والسلطاني الشاهنشاهي، وعلى مثال "الإرادات" أو المراسيم الهمايونية و "الخطوط". وتُحِل الإرادة الحزبية المسلحة أصحابها المؤتمرين إنكار حق لبنانيين آخرين، ينتسبون الى لبنان، في "الانفضاض" ليس عن الوطن اللبناني بل عن شكل سلطاني وهمايوني قد تُلبسه الدولة قسراً وكرهاً. ويعلن الحزبيون "رفضهم" الصيغ الائتلافية (الفيديرالية) رفضاً آمراً هو من معدن الإرادة التي ملأت الوطن بوطنيين مجمعين من غير إرادة، ولا رأي يرونه ويتداولونه ويبلغونه في ختام مداولاتهم على الملأ. وإرادة الوحدة إرادة واحدة. وهي لا ترد على "التقسيم" والائتلاف الفيديرالي باحتجاج أو بتعليل، ولا بمناقشة حوادث سابقة، محلية أو إقليمية أو دولية، وبمقارنتها بعضها ببعض. ويقتصر ردها على "رفض" يصرِّح بالوعيد والتهديد. فإرادة الوحدة هي إرادة ضم واستيلاء عنوة.
والحق ان منطق "المعالجة" هذا يتردد في متناول موضوعات الوثيقة كلها. ففي باب "لبنان والعلاقات العربية" (الخامس)، يكتب الحزبيون المسلحون: "إن لبنان العربي الهوية والانتماء إنما يمارس هويته وانتماءه بوصفهما حالة طبيعية أصيلة في التكوين المجتمعي اللبناني". وحمل الهوية الوطنية والمدنية السياسية على "طبيعة أصيلة"، وليس على إرادة طوعية وراشدة تجدد هوى يخالط نفس المرء وتستأنف هذا الهوى، هذا الحمل يكرر مقدمة الوطن الأهلي والنسبي البدوي، ويبني عليها من غير زيادة ولا نقصان. ومدُّ الطبع والأصالة الى "التكوين المجتمعي اللبناني" إنما يقصد به التوريط وليس الإحاطة والاشتمال. وهو يقول ان اللبنانيين كلهم إنما هويتهم وانتماؤهم، طبعاً وابتداء وإرادة (من غير مريد يريد) ومصيراً، هم عروبيون. (ويلاحظ القارئ ان صيغة النسبة الى لبنان، في لبناني، لا تضيفها وثيقة الشيعة المسلحين ابداً الى وطن. فلا تكتب مرة واحدة: الوطن اللبناني. ولبناني هي صفة "مجتمع"، أو بالأحرى "تكوين مجتمعي"، نفوراً وتقززاً من الجوار المباشر والملامسة).

عوامل الطبيعة
ويترتب هذا، بديهة، على وطن الآباء والأجداد والضحايا والشهداء والأرض التي تضم أجداثهم، من وجه أول قاسر ولا خيرة فيه. ويترتب، من وجه آخر، ليس أضعف وطأة وقسراً من الأول، على "محددات استراتيجية لموقع لبنان السياسي ومصالحه الكبرى (تحتم) عليه التزام القضايا العربية العادلة..." (الهلالان للتوكيد من الكاتب). فاللبنانيون ليسوا مخيرين، لا إرادة ولا رأياً ولا هوى، في "التزاماتهم" وسياساتهم، ولا في ثقافتهم أو أخلاقهم، على ما يراها الحزبيون المسلحون. فهذه كلها يستولدها هؤلاء (من) عوامل وأسباب تعمل في "المجتمعات" والأوطان والجماعات و "الدول" القومية عمل الطبيعة في الجماد والنبات والحيوان. والبرهان الأقوى على صفة العوامل والدواعي الطبيعية هو، بالمقارنة والتعارض، تشخيص الخلافات الواقعة والمحتملة. فالفروق بين الطوائف والمذاهب والشعوب (الأقوام) والبلدان "مفتعلة" و "مختلقة". وهي "حصيلة تقاطع لسياسات غربية متعمدة، وأميركية تحديداً"، أولاً. وهي، ثانياً، "(حصيلة) ممارسات وتصورات داخلية عصبوية لا مسؤولة، بالإضافة الى بيئة سياسية غير مستقرة".
والزيادة، أي ثانياً، غريبة، وتنازل يبعث على الدهشة. ويبدد الغرابة والدهشة "فهم" المراد بـ "العصبوية". ويراد بها المسلمون السنّة، حكاماً وجماعات ومجتمعات. ويقصد بـ "البيئة السياسية غير المستقرة"، على الأرجح، العراق واليمن وباكستان وأفغانستان وبعض الخليج. وهي بيئات "القاعدة" وجماعات الإرهاب التي تنتسب إليها، وتقاتل الأميركيين، وتقتل الشيعة أو تقاتلهم، معاً. وهذا تعليل الجماعات الخمينية والحرسية للإرهاب، والوثيقة الجامعة والتأسيسية تغفل المسألة بقضها وقضيضها. وهو تعليل مقتصد في الفهم والإدانة، ويكاد يكون تربوياً، أو تعليمياً. فينفي التعمد عن الإرهاب، وهو أثبته للسياسات الغربية. ويقصره على "إساءة توظيف (التنوع الديني والقومي)"، وعلى "تصورات وممارسات لا مسؤولة". وليس هذا كله سياسة، والأحرى "سياسات". والجمع كناية مشددة عن دوام التخطيط، والمثابرة والإمعان. ولولا "تقاطع" القصور والإساءة والطبع العصبوي "مع" السياسات الشيطانية، لما اضطرت الوثيقة الى الإلماح الى المسألة من طرف خفي، على ما تفعل.

شيطان الاختلاف
فلا طبع ولا طبيعة ولا أصالة في الاختلاف والكثرة (التعدد) والتنازع، في إطار لبنان والعلاقات العربية والعلاقات الإسلامية. فالاختلاف والكثرة والتنازع هي ولائد الافتعال والاختلاق والسياسات المتعمدة، الغربية عموماً والأميركية خصوصاً وتحديداً. ويقضي أو يفتي الحزبيون المسلحون، وفتواهم قضاء، برواية تاريخ لبنان، أو الوطن، في ضوء هذا الرسم، المعرفي لولا التعفف والاستحياء. فأي تاريخ للبنان الأهلي والنسبي هذا، لبنان الأرض والموتى الذين لا يموتون؟ يشترط محازبو الوثيقة المسلحون على "قيام وطن من هذا النوع واستمراره"، على ما يكتبون حرفياً (وهم يعنون ان لبنان لم يقم بعد وطناً، ولا يضمن استمراره، إذا قام وبعد قيامه، إلا استجابته شروطهم وإرادتهم)، "الدولة العادلة والقادرة والقوية والنظام السياسي (الذي) يمثل بحق إرادة الشعب وتطلعاته الى العدالة والحرية والأمن والاستقرار والرفاه والكرامة". فينهض او يستوي لبنان وطناً بعد قيام دولة من هذا النوع المتواضع والمقتصر على ضرورات دنيا هي في متناول من شاء، وتنعم بها الرعيتان السورية والإيرانية، على ما يعرف القاصي والداني. وهذا فتح في بابه. فالدولة الكاملة، أو "الإلهية" في رطانة اصحابنا، هي السباقة الى الوجود، والوطن من صنعها. وكمالها هو شرط وجود الوطن، على خلاف قول خطيب الوثيقة ومدبجها في "المقاومة"، في محاورته للصحافيين بعد القراءة. فهو قال في حزبه المسلح، متفقهاً ومؤصّلاً من غير ريب: "الإجماع على المقاومة يعتبر من شروط الكمال وليس من شروط الوجود". وأما الوطن اللبناني (معاذ الله!) فشرط وجوده، الناقص، دولة كاملة يشمر الحزب المسلح لصناعتها أو هو صنعها ويدعو "كل اللبنانيين" الى ملئها.
ويروي الخطيب بعض مراحل الصنع التي سبقت. ومدارها على إسرائيل وقتالها. والوثيقة المسلحة إذا ذهبت الى ان لبنان "كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ"، فهي تبتدئ تاريخه من 1948، من "مجزرة حولا". فقبل قيام الدولة العبرية في العام الكئيب، وارتكابها المجزرة المروعة، ليس ثمة ما يستحق الوقوف والاستوقاف، ولا البكاء والاستبكاء من غير شك. والمنعطفات التالية هي من الطينة نفسها: العدوان على مطار بيروت الدولي في 1968، غداة عشرين سنة على نكبة "أهالي" حولا، واجتياح 1978، غداة عقد كامل على الدمار الفظيع الذي حل بساحة المطار الدولي.

الوطنية المدنية اللبنانية
وهذه 30 سنة من 35 هي عمر استقلال الدولة اللبنانية، وخروج لبنان من الانتداب، وصناعة اللبنانيين الشطر الكبير والغالب من اجتماعهم وروابطهم وثقافتهم وسياستهم. وفي الأثناء تواضعوا، على مقادير متفاوتة بتفاوت الجماعات وربما الأفراد، على تقييد الدولة بالمجتمع والجماعات (وليس بالأفراد والمواطنين بعد)، والسلطان الساحق بالمصالح الصغيرة والكبيرة والحقوق والمنازعات والخلافات المعلنة. وفي الأثناء، وقبلها وبعدها من غير شك، هاجروا الى الخارج وإلى المدن، وخلفوا وراءهم الآباء والأجداد وجباناتهم وبعض سننهم وآدابهم. واستقبلوا، لهم ولأولاهم وأحفادهم، آتياً لا يرهق الأحياء بالأموات وأثقالهم. ونشدوا، في الخارج والداخل، الى سد حاجاتهم، الانفضاض عن الجماعات المتكأكئة والخانقة، واختبار أنفسهم وامتحانها، وتكثير فرصهم ومثالاتهم ورواياتهم ومسارحهم من غير خشية رقابة صارمة، ناهية وآمرة. فتفرقوا اصحاب سعي وهمة. والتمسوا إلى بغياتهم وغاياتهم طرقاً شتى ومتفرقة. وحملوا على مناكبهم أولادهم وأحفادهم. وقارعوا (جماعات) بعضهم بعضاً من طريق ممثليهم المنتخبين وأعيانهم ومتعلميهم وإدارييهم ونخبهم وروابطهم وصحافتهم، أنداداً (الى حد بعيد) وجيراناً مختلفين. وكان يفترض ان تجمعهم وطنية مدنية تستقي آصرتها ورابطتها من الأحكام التي تضبط علاقات اللبنانيين بعضهم ببعض، وتوليهم أمور اجتماعهم ومنازعتهم. وهم أخفقوا في هذا. فكان ما صنعوه بأنفسهم وأحوالهم واجتماعهم وهيئاتهم ومؤسساتهم ومنازعاتهم وأحلافهم ثمرة أيديهم، على قدر ما طالت أيديهم وما انتهى إليها من حول وطول. وهذا مدخل إلى السياسة المدنية والوطنية والزمنية الراشدة على خلاف السياسة الجبرية والقاصرة والمتنصلة من تبعات الفعل السياسي.

"سفينة النجاة"
وهذا كله، وهو يطيق الإحصاء والعدد ويعرفه من يهمه الأمر، تبدده الوثيقة المزعومة (فالوثيقة من الثقة والتعاهد) في حوادث بالغة الدلالة والجرح، ولكنها لا تستوي على السوية المهينة والمذلة التي يريده لها الحزبيون المسلحون إلا إذا سُلكت وقائعها في خيط وسبحة مختارين. وهذا ما يريده اصحاب الخطبة المتعصبة والمتشيعة (على معنى الانحياز والتزمت). فهم يروون جزءاً ضئيلاً وفقيراً، وخارج أي سياق، من تاريخ غني يعج بحوادث وإنجازات كثيرة ومتفاوتة ومتناقضة، لا تختصر في وقائع أشبه بالفزاعات والخيالات المنصوبة على أطراف "صحاري" المقثة والخيار. فهمُّ القيادة الحرسية والنجادية – الخامنئية في لبنان ليس فهم التاريخ اللبناني، أو تاريخ اللبنانيين في ضوء الحاجة الى تجديد وطنهم ومجتمعهم ودولتهم. وقصاراها ان تسوغ الدور الذي تزعمه لنفسها، ولأوليائها، وتعظيمه تعظيماً لا يخشى الإفراط والغلو. وهذان على شاكلة إفراط وغلو غلبا على "سفن النجاة" الحسينية الإيرانية، وعلى الشعائر الحسينية الإيرانية والعراقية، وانتقدهما محسن الأمين، اللبناني، في "سفينة نجاتـ"ـه، وفي فتواه في تحريم الضرب بالسلاسل ولطم الصدور بالقبضات وتشطيب الرؤوس بالأمواس حداداً على صريع الطف.
ويحرص اصحاب البيان الحرسي "الملبنن"، على قولٍ صحافي يائس ومتخبط، على تحميل التبعة عن الحوادث المنتقاة والمنتزعة من سياقاتها، والمجردة من ملابساتها، (إلى) الولايات المتحدة والمجتمع الدولي والمؤسسات الدولية والصمت العربي "الرسمي والمريب" (على سبيل التجديد الإنشائي الرتيب) و "السلطة اللبنانية (الغائبة) التي تركت أرضها وشعبها نهباً للمجازر والاحتلال الإسرائيلي من دون ان تتحمل مسؤولياتها وواجباتها الوطنية الكبرى". فهؤلاء كلهم، من غير تمييز ولا ترتيب، صف متماسك واحد، على شاكلتهم اليوم في التصدي لطبقة متسلطة ومنقسمة ومتعسكرة من الحكام الإيرانيين المغامرين. وصفُّهم في صف واحد و "متراصف"، على الصورة الكاريكاتورية الشيطانية هذه، إنما يمهد لظهور الشاطر البطل، وسيفه البتار والمنتقم.
فمن الأنقاض والأطلال الكونية التي خلفها "حزب الشيطان" الأميركي – الدولي – العربي – اللبناني، ومن غير مقدمة غير مقدمة "الواجب الوطني والأخلاقي والديني"، خرج مارد "المقاومة الشعبية المسلحة". فلا ثورة إيرانية شعبية وجماهيرية على حكم الشاه الامبراطوري (والبيان "يعفي" الشاه من الظلم و "الظالمية" في الأمة وإذلالها ليقصره على "مشاريع صهيونية – أميركية" ويرتد على ركن الثورة الإيرانية الفاطمي الزاهر)، ولا وشك حرب أهلية في إيران الخمينية، ولا حرب عراقية جر إليها ضعفُ إيران وعزلتها وتصديرها ثروتها "المغدورة"، على قول "المتغطرس" أبو الحسن بني صدر، وقتلت نحو 600 ألف ايراني وعراقي يُسدل النسيان على دمائهم و "حقوق" هذه الدماء، ولا انهيار فلسطيني في دوامة النزاعات العربية التي تصدرت السياسة السورية الأسدية النفخ فيها ومعالجتها بواسطة الزمر والشلل المحترفة... والوقائع "الترابية" و "الطينية" المنكرة والمنسية استتبعت أدواراً بوليسية وأمنية، ظاهرة وخفية، واغتيالات، وأموالاً عظيمة اشترت الذمم والحماسة والدماء والتهجير والاستخبار والتفجير والولاء وتنقيله، وغيرها كثير.
فلا يعرف ولا يفهم لماذا انتهت جماعة "الواجب الوطني والأخلاقي والديني" الأولى، وهي "آباء وأجداد" "المقاومة الجهادية"، "الإسلامية" و "أولادها وأحفادها" على رغم قرب الشقة الزمنية، الى عصبية مسلحة ومتسلطة، وخارجة على التراث والتاريخ الوطنيين واللبنانيين المشتركين. ولا يعرف ولا يفهم كيف اضطلعت الجماعة "الوطنية والأخلاقية والدينية" هذه بحمل اللبنانيين على الارتداد الى حظيرة عروبة وبداوة سياسيتين أهليتين وعسكريتين أمنيتين نشأ لبنان التاريخي، وليس الأسطوري ("الفينيقي" و "الماروني" و "الإسلامي – المسيحي") عن نقضهما فعلياً وعملياً. فقيد الدولة والسلطة بالمجتمع، على خلاف التراث العروبي الأهلي والسلطاني الذي أعملته جماعات ضيقة، بيروقراطية ومذهبية، في إرساء سلطانها على خواء اجتماعي وسياسي واجتماعي مزمن.

إرادة القوة والعبودية
وهذه العصبية تأتم اليوم بسياسة ساسة سوريا و "تسجيلهم"، على قول البيان، "موقفاً مميزاً وصامداً في الصراع مع العدو الإسرائيلي...". وعليه، يدعو أمراء الجيش الحرسي المسلح الى إحياء "العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا بوصفها حاجة سياسية وأمنية واقتصادية مشتركة". وموجبات إحياء "العلاقات" هذه – وهي صنعت انتخابات التعيين، وكبكبت الشيعة اللبنانيين على "حارتهم"، وقوضت أركان العلاقة السياسية – الاجتماعية التي نهضت عليها أطوار الدولة اللبنانية، وسلطت "بيروقراطية بوليسية مركزية" على الجماعات والإدارة، وتوجت هذا وغيره برؤساء ميمونين وبالولوغ في الأموال والدماء والحقوق – موجبات الإحياء هي دور الساسة وموظفيهم الأمنيين في صناعة الحزب الخميني والحرسي المسلح.
فـ "المقاومة الجهادية"، ونشأتها وحمايتها ودوامها، ثمنها وشرطها "عودة" النظام الأسدي، وتجديد استيلائه على الدولة والمجتمع اللبنانيين. والثمن والشرط الآخران، وهما أولان فعلاً، هما مقابلة ايران و "عقيدتها السياسية" وبنائها "مداها الحيوي" (العبارة النازية بالحرف) على "مركزية القضية الفلسطينية"، "بإرادة التعاون والأخوة والتعامل معها كقاعدة استنهاض ومركز ثقل استراتيجي...". والجمل وأجزاء الجمل الرتيبة هذه معناها الجلي هو التبعية أو، بكلمة أدق، الاستتباع في إطار صوري "وطني" يحفظ ما لا يضر من وحدة الجماعات، وتدبيرها الداخلي، ولا يفرط عصبياتها. وخلاف الإيرانيين على الدولة الحرسية وسياستها، وإنكار الملايين منهم تسلطها وجورها، لا يحركان إلا الازدراء في أعوانها.
وفي ضوء فداحة اللغو الباسدراني هذا، وتزويره ما يتناوله من وقائع ومسائل وقضايا، يتساءل قارئه عما يتماسك به، وتماسك به من قبل حقيقة وفعلاً، وقد يتماسك به في قابل الأيام القريب ربما. فهذه المقالة التي تنفي من الوقائع التاريخية، اللبنانية والعربية والإسلامية والدولية، معظمها وأقواها دلالة على مخاضاتها ومعانيها وحقيقتها الإنسانية والأرضية، ولا تستبقي منها إلا ما تسند إليه استيلاء عصبية عسكرية ضيقة وخبطها، هذه المقالة تجلو عدداً من أهل الأنساب "الجهاديين"، أولاداً وأحفاداً عن آباء وأجداد، جماعة قوية ومقتدرة ومرهوبة الجانب. وقد لا يرى بعض الناس، في ظروف معينة، غضاضة في شراء استوائهم على هيئة الجماعة القوية هذه لقاء ارتضائهم التبدد والذوبان في كتلة محاربة ومرصوصة. فالحريات والحقوق والإرادات، على خلاف ما يصور الخطيب المتخفي والمحتجب، يسدد ثمنها الأحرار والمريدون وناشدو العدالة والحقوق قلقاً وانقساماً ومداولة. وهذه لا تطيقها البداوة السياس

الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

الميجر" نضال مالك حسن الفلسطيني – الفرجيني... علماً على يقظة الهوية بين يدي الموت

المستقبل، 22/11/2009،
انقسمت آراء الذين سبقت لهم معرفة وبعض إلفة بالرائد الأميركي، الفلسطيني النسب والأهل، نضال مالك حسن، قاتل قاعدة فورت هود
العسكرية بتكساس. فقال بعضهم ان تحفظه عن حربي العراق وأفغانستان لم يدعهم الى توقع إقدامه على ما أقدم عليه، صباح الخميس في اليوم الخامس من تشرين الثاني، وقتله 13 جندياً، وجرحه 31، كانوا يعدون العدة للرواح الى العراق. وقال أهله وأقرباؤه انه طبيب ملتزم آداب الطبابة ومسلم ورع. وذهب شقيقه الى ان شقيقه المظنون، على ما عرفه، "مسالم ومشفق، وانصرف الى التطبيب ومساعدة الآخرين، ولم يرتكب يوماً عملاً عنيفاً، وعُرف مواطناً صالحاً وملتزماً القانون". وأعلن جد الرائد والطبيب النفسي من البيرة الفلسطينية، اسماعيل مصطفى حمد (88 عاماً) ان حفيده الطبيب "يحب اميركا"، و "الفضل" في تحصيله علم الطب، وبلوغه رتبة ميجور في الجيش، "يعود الى الولايات المتحدة". فليس من علة للعمل المميت والغادر غير الجنون، أو ما يعلمه "إلا الله". وهو، في الأحوال كلها، ليس "السياسة". والسياسة، في المعرض هذا، هي "الإسلام". وحسم إمام مركز الاتصال الإسلامي في سيلفر سبرينغ بميريلاند، الشيخ محمد عبدالله، مسألة المسؤولية المعنوية عن فتح النار على جمع آمن من الزملاء، فقال في مسلمين أمّهم في صلاتهم: "الإسلام ليس مسؤولاً".
وقال آخرون، فيهم زملاء دراسة وخدمة عسكرية وفيهم مسلمون ناشطون، ان عنف الرائد الطبيب والمسلم لم يفاجئهم. فروى عثمان دنكاش، وهو أسهم في إنشاء مركز ميريلاند الإسلامي، ان نضال مالك حسن انتقل من طور كان فيه هادئاً ومسالماً الى طور لاحق "لم يكن فيه على طبيعته". فنعى على المسلمين "قتال بعضهم بعضاً بأفغانستان وباكستان وفلسطين". وهي مسارح حروب "اميركية"، على وجه أو آخر، على قول "إسلامي" غالب ورائج. وطلب لنفسه، ولمن هم مثله، الحق في رفض الخدمة في مسارح الحروب هذه وميادينها، في صفوف القوات الأميركية وتحت لوائها. والتمس من عثمان دنكاش تزكيته الى "إمامة" الصلاة في القاعد العسكرية بفورت هود. ولكن اضطرابه وقلقه الباديين حملا الشيخ النافذ على الطعن في ترشحه إلى الإمامة. وهذا قرينة على حدس في عنف الرجل.

هوية اثنينية
وزملاؤه أقوى قطعاً وتهمة. فأخبر بعضهم ان القاتل المظنون كان يرى الحربين الأميركيتين بالعراق وأفغانستان "حرباً على الإسلام". وهو ما يراه ربما معظم المسلمين. وقد لا يراه مسلمون وغير مسلمين على هذا النحو، أي "حرباً على الإسلام"، ويطعنون في صوابه، وحقيقة الذرائع التي تذرع بها السياسيون الأميركيون وغيرهم من سياسيي أوروبا وآسيا الى خوض "الحروب" على الجماعات الإرهابية. وقد ينكرون سياسة "الحروب" ونهجها وأسلحتها وكلفتها وارتجالها وبعض مفهوماتها. وخلص المظنون من رأيه في الحرب، ومن جمعه بينها وبين اقتتال المسلمين، الى تعريف نفسه، أو هويته، "مسلماً أولاً وأميركياً ثانياً"، على قول زميل طبيب.
ومعضلة هوية المهاجرين من الجنوب، وقاراته، وأقوامه، الى الغرب الأوروبي – الأطلسي (أو حوض المحيط الهادئ شأن استراليا ونيوزيلندا)، باعث قوي على اضطراب علاقة المهاجرين هؤلاء ببلدان المقصد المضيفة، وسبب في التباس علاقة مجتمعات هذه البلدان ودولها بالمهاجرين. ولم يعدم مهاجرون كثر، في فرنسا وغيرها، فرصاً انتهزوها وتذرعوا بها الى إعلان تنصلهم من البلد المضيف. فعلا صفير شطر غير قليل من جمهور كرة قدم جزائري حين عزف النشيد الوطني الفرنسي بعد النشيد الوطني الجزائري في لقاء رياضي بين فريقي البلدين، قبل أعوام قليلة. وحين قتل مسلم هولندي المخرج فان غوغ جزاء ما حمله القاتل على "إساءة" الى "الإسلام"، استظهر على القانون الهولندي الوطني بالشريعة، وبعقوبة القذف، على زعمه. والقاتل مولود بهولندا، شأن الميجر نضال مالك حسن.
وتقديم رابطة الاعتقاد، وأحكام الشرع في الدماء وغيرها من فروعها، على رابطة الدولة الوطنية والسياسية، والتزام القوانين من مترتباتها، يقود على الأغلب الى التنصل من الدولة الوطنية والسياسية، والانحياز الى "الملة"، اعتقادية أم عرقية أم أهلية. فالرياضيون السود الذين فازوا في مباريات دورة الألعاب الأولمبية بمكسيكو (1968)، واعتلوا منصات الفائزين، ورفعوا قبضاتهم حين عزف النشيد الوطني ونكسوا رؤوسهم، أرادوا التنديد بشعائر اللحمة الوطنية المشتركة، وهم لا يرونها مشتركة، وإعلان انتسابهم الى رابطة أخرى، وأمة أخرى هي "أمة السود" المضطهدة والمظلومة والأجنبية.
وقد يقود ترتيب الهوية، وترتيب وجوهها على هذا النحو، الى "الحرب"، مجازاً وحقيقة. فالقاتل المظنون – وهو قضى سنوات يعالج جرحى الحربين، وبعضهم اصيب إصابات ثخينة اقتطعت منهم اجزاء جعلتهم عالة عاجزة وقلبت موازين حياتهم – مزج (احتمال) إرساله الى القتال بأفغانستان أو العراق، حيث عليه ان يقاتل "إخوة إيمانه" وشركاء هويته الأولى ويقتلهم على غرار ما يفعلون في انفسهم نزولاً على داع أجنبي أميركي، مزج هذا بجواز موته وهو على حاله هذه. ويقول ابن عمه برام الله، نادر حسن، ان نضال قضى الأعوام الخمسة المنصرمة تحت وطأة "كابوس مزعج" مصدره احتمال إرساله الى أحد الميدانين "المسلمَيْن"، واضطراره الى الإسهام في قتال يراه كفراً، وقتلاً للنفس وتغريراً بها. وإلى هذا، يقول ابن عم آخر نقلاً عن الضابط الطبيب، انه لم يحظ بإقرار زملائه وأقرانه به نداً "أميركياً" ومواطناً مساوياً.
وإذا صح انه لم يطلب التسريح من الجيش إلا قبل اسبوع واحد من الحادثة الفاجعة، فقد يكون تأويل طلب التسريح المتأخر إيقانه بوقوع الواقعة، على أوجه الواقعة المخيفة كلها: احتمال الموت او الإصابة الثخينة وهو يقاتل "إخوة" مسلمين يحملهم "الأميركان" على القتال والاقتتال، وفي صفوف رفاق سلاح يشاركهم هويته الثانوية ولا يقرون له بنديته وإسوته بهم. وما يذهب إليه محققون في الحادثة من ان جهازه الإلكتروني حفظ آثار رسائل كتبها الى "متطرفين"، وآثار تصفح مواقع إسلاميين، ومسودات مقالات تحض على عمليات انتحارية – إلى ما ذهب إليه عثمان دنكاش من قبل وما نقل من بعد عن مديح الشيخ الداعية القاعدي أنور العولقي اليمني "بطولة" الميجور المظنون-، قد يكون قرينة أولى على ازدواج الرجل، وترجحه بين هويتين متنازعتين في معرض شديد التأزم والاحتداد.
وهو، في ما قد يبدو إخراجاً مسرحياً للازدواج هذا، ذهب الى محل تسوق في القاعدة صباح المقتلة لابساً "دشداشة" بيضاء، ومعتمراً قلنسوة، وتبضع، وقفل عائداً الى مهجعه، وراح الى القاعدة العسكرية الكبيرة، وفتح النار من مسدسين على جنود مجتمعين في قاعة تجهيز، ثم على جمع يحضر توزيع شهادات. وروى شهود ان الضابط الطبيب كبّر وهو يفتح النار على ضحاياه. ولكن الجزء هذا من الخبر غير ثابت ولا محقق، شأن جزء آخر حسب ان مصدر النيران ليس واحداً بل ثلاثة أو اثنين، قبل ان يقر الرأي والشهود على ان لا شريك لنضال مالك حسن في ما ارتكب.
وتكاد قصة الضابط الأميركي المتحدر من عائلة فلسطينية ومسلمة مهاجرة الى الولايات المتحدة منذ نيف وأربعة عقود (هي سن الرجل)، أو ما هو معروف منها الى اليوم قبل استجوابه، تكاد تكون كناية تعليمية عن أحوال الغلاة من دعاة "جهاد" أهل الكفر والنفاق والاستكبار والخلاف والظلم، وقتال الأهل هؤلاء كلهم. ولعل نواة هذه الكناية، وهي نواة "وقائع" القصة في آن، هي ازدواج الهوية والخشية المرعبة من غلبة الهوية الظرفية والثانوية المدنية والوطنية، على الهوية الدينية الجوهرية. وأشد ما يرعب اثنينيُ الهوية هو تمكن الهوية المدنية والوطنية، واستقواؤها بذراع القوة القاهرة، والقوانين "الوضعية"، وبالميل الأكثري الى سياسة ملزمة لا رجوع عنها إلا بميل أكثري آخر. فإذا حصل هذا، وهي حال الولايات المتحدة وسياستها في العراق وأفغانستان، وفي "حروب الإسلام والمسلمين"، لم يجد اثنينيي الهوية بداً من مكابدة أزمة وتنازع حادين.
فهو ميدان قتال داخلي على صورة القتال الدائر، على ما يحسب، بين أهله وإخوة إيمانه "المسلمين" الذين يقتلون ظلماً وعدواناً ويقتتلون، وبين أعدائهم وقتلتهم ومفرّقيهم "الأميركان". والكفتان غير متكافئتين ولا متساويتين. فتشده الى هويته الإسلامية روابط الأخوة والأصل والحياة والمصير والكيان العام، بينما تقتصر روابطه الوطنية، في أضعف الأحوال، على "المواطنة الصالحة والتزام القانون"، على قول شقيقه اياد في بيانه، وعلى دَيْنه بـ "فضل" الولايات المتحدة عليه في "ما هو عليه"، على قول جده الفلسطيني المسن، في أحسنها وأقواها. فإذا أنكر عليه أهل رابطته المدنية والوطنية الحق الأول الذي تمنحه الرابطة هذه المرتبطين بها، وهو "الحق في المساواة"، وأثبتوه (على حسبانه) مواطناً ثانوياً فيما هم يدعونه، من طريق الدولة، الى التعرض للموت دفاعاً عن الأمة الأميركية وأمنها، ويقرونه على قتال "إخوته" في هذا السبيل، فلا عجب إذا وجد الرجل انهم يكلفونه ما لا يحتمل ويشتطون.

الجالية والمَهاجر
وليس معنى رصف حلقات المعاني هذه وسلسلتها، ان ما فعله الضابط الفلسطيني – الأميركي "مفهوم". فما يوكل الجد "علمـ(ـه) إلى الله"، او يحمله على "الجنون" أو "الأعصاب" ثم على "الاستحالة"، وهو الفرق بين العلل المتضافرة وبين ما لا يتصور في صورة نتيجةِ العلل إلا بعد حصوله ووقوعه، هذا الفرق لا قاع له، ولا يسبر غوره وعمقه. وفي كل مرة يصل امرؤ (أو امرأة) ضفة العلل والأسباب بضفة النتيجة، ويَقتل ويُقتل، فمرد الأمر الى "المرء"، أي الى "مفترق الأشياء الفريد" (انطونان آرتو) الذي كانه أو كان المفترق هذا.
والقول بالفرادة لا يضعف القول الآخر بالكناية ولا تجريدها وعمومها، وتالياً عقلها. فمن حالهم حال الفلسطيني – الأميركي المظنون، ومن يذهبون مذهبه في اثنينية الهوية وترتيب وجهيها او مستوييها، هؤلاء (وهم كثرة أهل المجتمعات العربية – الإسلامية) يرون الى انفسهم جماعة أو أمة من الضحايا والمستضعفين وأهل الذمة. وواحدهم يرى انه يكني كناية حادة ووافية عن صليب الازدواج أو الاثنينية، وما يترتب عليه من استضعاف وذمية. ولا تقود الحال هذه الى القتل، ولا الى العمليات الانتحارية، ولا الى الانتصاب للدعوة، إلا في أندر الأحوال. وهذه تكاد تكون صفراً في ميزان العدد والإحصاء. ولكن اعتقاد الاثنينية، والبناء عليها وليس على اعتقادها المكتوم وربما المكبوت وحسب، يقودان الى حال اجتماعية عريضة هي حال الجالية. والجالية هي الجماعة المهاجرة الى بلد اجنبي وغريب، والنازلة بأهل البلد ودولته وأعرافه وسننه، والمقيمة على معتقداتها وسننها وأعرافها ومراتبها وذاكرتها، ولحمتها ما وسعها الأمر، وتدبير هذه اللحمة أي سياستها.
وتبرز جاليات المهاجرين الكبيرة والمحدثة في المَهاجر الغربية وحواضرها المشكلات الناجمة عن جمع المهاجرين الانخراط الاضطراري في المجتمعات الجديدة الى رغبتهم القوية في الحفاظ على تقاليدهم وانتسابهم الى امة اعتقاد ومعاملات معاً. وهذه المشكلات بعيدة من النزوع منزعاً واحداً والدخول تحت باب مشترك ومتصل. ولا ريب في ان اتساع الهجرة من شرق آسيا وجنوبها ومن الشرق الأوسط وشمال افريقيا العربيين والإسلاميين في العقود الثلاثة الأخيرة، المضطربة والمنقلبة سياسة واقتصاداً، الى مجتمعات يشكو معظمها قصوراً سكانياً حاداً ومزمناً، وتشعر بتردي مكانتها وضعف تماسكها – عظَّم الاتساعُ وجه الجالية أو حالها، وأظهر قسماته ناتئة وفي الأثناء اتخذ بعض افراد أو آحاد هذه الجاليات الولايات المتحدة وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا من قبل على نحو مختلف، وهولندا، مسارح اعمال إرهابية واغتيال فاقعة. وكانت البلدان هذه مصدر أعداد كبيرة من الانتحاريين المتطوعين الذين هجموا على ميادين الحروب المشتعلة بأفغانستان وباكستان والعراق، وعلى مقادير أقل بكثير بلبنان وفلسطين. وشطر آخر قدم من البلدان المجاورة القريبة ودخل ميادين الحروب هذه، وصب بعض الزيت على نارها الأكول.
ولكن التمثيل العنيف والمسرحي الفاجع على محنة حال الجالية المسلمة في المهاجر الغربية، وشبك بعض أفراد الجاليات وآحادها "يقظتهم" على هويتهم بطلبهم الموت والقتل طوعاً واختياراً، لا يقصر حال الجالية، ومحنتها، على جاليات المَهاجر الأجنبية، الغربية و "المسيحية". فجماعات (أو افراد) من المسلمين حسبت نفسها غريبة في بلاد كفر وحرب "علمانية"، "تعبد" وثن الدولة الوطنية، وتحكم مجالسها التشريعية وحكوماتها بغير "شرع الله"، منذ استقرار الاحتلال الاستعماري في الهند (الجزء الباكستاني لاحقاً) وأطراف الجزيرة العربية وما لم يكن يعرف بعد بالشرق الأوسط الضيق ولا العريض. وعاد الى سيد قطب، الإخواني المصري الراديكالي، في مصر الناصرية، تسمية ما عليه "المسلمون" في عهد "فرعون" المستأنف الأول بالأسماء التي تقدمت (بلاد الكفر الجاهلية، ووثن الدولة، وحاكمية الشرع الإلهي...). وقطب هو وارث منازع إخوانية وأصولية سلفية سبقته بعقود. والمنازع هذه بدورها نشأت في جماعات وبيئات اهلية ومحلية كان التدين بدين الهجرة والجالية، أو دين المفاصلة، سلمها وطريقها الى تحصين هويتها. فوصلت هذه الهوية بنسب أصيل، وعلقتها على جذع النسب وألحقتها بجذوره. وهي، أي الهوية الفرعية، على حالها من الانتحاء والانكفاء.
ويجمع بين الجماعات والبيئات الأهلية والمحلية، المتدينة بدين الهجرة والجالية والمفاصلة، إقامتها في مَهاجر. فهي تحمل أوطانها ومواطنها على مَهاجر أو دار هجرة، وهي (وآباؤها) راسخة في الأوطان هذه منذ قرون. فدار الأطهار أو الأنقياء، أي باكستان، نشأت دولة إسلامية في قلب الهند. وهي اقتطعت من الهند الهندوسية وأخرجت من دولتها وأقاليمها واتحاد أقوامها، لتكون مقصداً أو مثابة يقصدها مسلمو أقاليم الهند الأخرى. فيحلون بين أهاليها، "مهاجرين" (على ما يسمى اهل البنجاب الى اليوم) إلى دار إيمان ومعاهدة. والهجرة هي "الى الله ورسوله"، بحسب العبارة السائرة والمرضية. ويترك المهاجر داراً هي دار غير المؤمنين، ويفزع الى حيث "لا يُفتن عن دينه". و "المهجر" الباكستاني هذا هو مختبر دعوة المفاصلة، وتركِ المجتمع المختلط ودولته الوثنية الى الحاكمية الإلهية وولايتها المطلقة.
والمدرس الشاب في الإسماعيلية اواخر عشرينات القرن العشرين، حسن البنا، صاحب "جمعية الإخوان المسلمين" ودعوتها الى حمل المجتمع على الإسلام، حين حل الإسماعيلية يومها حلَّ مدينة من مدن قناة السويس وشركتها "الدولية" ورأسمالها "الكوسموبوليتي"، تسود أهلها أحكام ليست أحكام دولة الإسلام وداره، على ما قال. فدعا مؤمني مصر، والإسماعيلية "البريطانية" استعارة لمصر الغريبة قسراً عن هويتها ورسوم إيمانها، الى "مغادرة" الدار الفاسدة والمفسدة الى دار الإيمان الصادق وأخوّته وصحنه. والمغادرة هذه قد لا تكون انتقالاً من محل الى محل. وهي ربما عنت تبديل المرء المؤمن جلده، على ما ذهب إليه سيد قطب غداة رحلته الأميركية، على مثال بروتستانتي وصوفي (على غرابة المثالين في هذا المعرض). ويقود تبديل الجلد الى وحدة النفس، وقرارها على هويتها المجتمعة والعميقة، وعلى جوهرها الصافي.
ولا يبلغ المؤمن محجته هذه فرداً أو واحداً، بل جماعة أو جمعية تمثل على الأمة، وتندب نفسها الى القيام مقامها، إذا رأت داعياً الى ذلك. ودعوات الهجرة الكبيرة هي دعوات "سياسية"، وفي مبتدئها دعوات اجتماعية وأهلية. وصفتاها هاتان، إذا صحت التثنية، تستبطنان التدبير العام والمشترك، وتوزيع الأمر والقوة والمراتب والمصالح، أي انهما تستبطنان "السياسة" وتصريفها. ويجمع اصحاب "الجمعية الإسلامية" الباكستانيون، ودعاة التيارات الإخوانية العربية، والخمينيون في إيران و "ولاياتها" العربية، و "الجهاديون" على اختلاف فرقهم وبلادهم ومَهاجرهم، يجمعون على توحيد سياستهم ودينهم، وواحدهما في الآخر، على قولهم. (ويلتحق بهم "القوميون" العروبيون وغيرهم، على اختلاف نحلهم. والحق ان حركاتهم ومنظماتهم تكونت كلها تقريباً في غضون حرب الثلاثين عاماً الأوروبية، 1914 – 1945، من القرن العشرين، وهي العقود التي حضنت المنازع القومية والاجتماعية والامبريالية المتطرفة وحروبها).

تبديد الواسطة
والانشقاقات الأهلية الدينية أو المذهبية والطائفية، وحروبها أو "فتنها"، تنزع لا محالة الى إنشاء مَهاجر تستقر فيها جاليات من المؤمنين المتآخين والمرابطين في ثغورهم، والمقاتلين دون دارهم او "مدينتهم". ولعل الجماعة الحوثية بشمال اليمن، المترجحة بين الزيدية وبين الإمامية الإثني عشرية، من آخر ولائد هذا النازع على المسرح السياسي والعسكري العربي. فيذهب عبدالملك بدر الدين الحوثي، قائد الجماعة الأهلية، البلدية والمذهبية والقرابية اليمنية الشمالية، جواباً عن سؤال أبو بكر عبدالله (النهار اللبنانية، 11 تشرين الثاني 2009) لماذا لا ينشئ حزباً سياسياً، الى ان "المشروع الذي (ينادي) به، سلمياً هو العودة الى ثقافة القرآن الكريم وتعاليمه وعطائه التربوي والروحي والسياسي والشامل لكل مناحي الحياة". فـ "سياسة" الجماعة الأهلية المقاتلة أبعد من السياسة، وأشمل منها و "أعمق".
وهي تصدر عن ركن كلي، كياني إذا جازت العبارة أو وجودي وإنشائي. وهذا يسبق السياسة، على معنى جزئي يتناول تدبير جماعة من الجماعات في إطار كيان سياسي مختلط ومتنازع على هذا القدر أو ذاك. ويشرح "الشيخ"، وهو داعية ومرجع فتوى ومقدَّم القوم وعقيد قتالهم ولسانهم، ما يريده بـ "ثقافة القرآن الكريم"، فيقول إن الكتاب "ليس مشروعاً لحزب، ولا فكرة لفئة، ولا رؤية لجماعة، وإنما هو هدى الله للعالمين، ولهذا يستحيل تأطيره في مشروع حزبي". وحمل الكتاب على ما يحمله عليه المقاتل الحوثي "القرآني"، من غير وسائط دنيوية وعينية بينه هو وقومه وبين التنزيل، يبدد الوسائط السياسية ويلغيها. فلا تتماسك عوامل مثل الجسم القبلي أو "القومي" (من قوم)، والنسبة الى موضع وبلد، والمعتقدات التي تنسب القوم الى تاريخ وروابط وعداوات، والمصالح التي تقرب من جماعات أو تبعد من أخرى. ولا تحتسب هذه العوامل في ميزان الوسائط والوسائل ولا في ميزان المقاصد والغايات. وعلى مثال ثابت وعام يترتب على نصب "المرجع الإلهي" حاكماً مباشراً في الطبائع والشؤون كلها. وينيط القائد الأهلي بالحاكمية معالجة شؤون الدنيا والآخرة تلقائياً، ومن غير تدبّر ولا نظر ولا اجتهاد ولا خلاف ولا تردد أو اختبار: "ونرى ان كل شؤون الحياة لا تصلح ولا تستقيم إلا باتباع تعاليم الله التي هي منطلق رحمته وحكمته وعلمه، وهو ملك السموات والأرض. ومع اختلاف الأمة الثقافي، فإن ما يحل هذا الاختلاف (...) هو العودة الى القرآن الكريم، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
ويتضافر القول بعصمة "القرآنيين" المفترضين – وهم، في قول يضمره عبدالملك الحوثي، "المعصومون" المتحدرون من خلق نوراني وغير طيني وهذه صفة ائمة الشيعة الإمامية- مع نقد سياسي دنيوي وعملي: "... السلطة لن تسمح نهائياً بنشاط حزبي جدي وفاعل يصل الى نتيجة صحيحة". والنعوت التي يغدقها المتكلم على "حزبه"، وهي الجدية والفاعلية والصحة، تجعل "الحزب" صنواً لـ "ثقافة القرآن"، وللدعوة الإمامية في عصر ما بعد الغيبة وظهور "إمام الزمان". فالحزب ليس حزباً سياسياً، على معنى الجزء السياسي والاجتماعي من مجتمع شامل ودولة وطنية، بل هو أمة، أي جماعة دينية اعتقادية وسياسية و "أخوية" أو طريقة، على المعنى الصوفي، وعشيرة. ويسوغ ما يذهب إليه عبدالملك الحوثي اليوم، تأريخ أبو بكر عبدالله (النهار، 12 تشرين الثاني 2009) لخلاف والده وجماعته، مطلع ثمانينات القرن الماضي، على الدولة والحكم اليمنيين. فالشيخ الزيدي أنكر على الحكم اليمني الجديد، غداة استيلاء العقيد علي عبدالله صالح على الحكم بصنعاء وإطاحة روح الله خميني الشاه وانتصار "الثورة الإسلامية"، دعوته علماء الزيدية ومراجعها الى التخلي عن "شروط الولاية" ونصها على الإمام بـ "الاسم" أو النسب، وهي شروط الولاء للحاكم والدولة تالياً. ويترتب على التخلي هذا توحيد الهوية السياسية الوطنية، وتقديم تعريفها بالدولة وكيانها المعنوي والتاريخي والحقوقي، ومن طريقها، على تعريفها بواسطة الجماعات الجزئية أو الفرعية، القومية النسبية أو الاعتقادية أو المحلية، أو هذه مجتمعة في هوية أهلية متضافرة.
وعلى هذا، يصدق في حركة آل الحوثي بصعدة اليمنية وجوارها فوق ما قاله نضال مالك حسن الى زميل دراسته الضابط الطبيب بفرجينيا من انه "مسلم أولاً وأميركي ثانياً". فمقاتلو الحركة "مسلمون (إماميون) أولاً وأخيراً". وأخرج اضطرار الضابط الفلسطيني (المسلم) – الأميركي الى ترتيب هويتيه، أو وجهي هويته، تحت طائلة السفر الوشيك الى مسرح حرب لا مناص له فيها من ان يكون "عبدالله القاتل" أو "عبدالله المقتول"، أخرجه من ترجحه بين الوجهين. فحسم صدارة الوجه غير المركب، الإسلامي الفلسطيني كلاً وجميعاً، في حربه على الوجه المركب، السياسي الوطني الذي يتشارك فيه مع مواطنين كثيري المصادر الاعتقادية و "العرقية". وهو أقدم على الحسم في "ثورة" لا ندري بعد عواملها ولا مقوماتها الشعورية والذهنية، ولا تُبلغ إلا من طريق الرجل نفسه. وتشترط معرفتها كلامه، وعودته الى نفسه، وتذكره ما صنع. وهذه، الكلام والعودة والتذكر، قد تكون "ذهبت"، على معنى قول العربية في المجنون انه مذهوب العقل، وتقوضت في الفعل، وهوت كسراتها ونتفها البكماء والضريرة في لجة الاختلاط الماحقة.
ويقيد المقارنة، المضمرة أو المعلنة، بين فعل "الميجر" نضال مالك حسن، وبين قتال الحركة الحوثية، وبين حسم الضابط الفلسطيني – الأميركي ازدواج هويته وبين حسم الحوثيين الإماميين واليمنيين نسبتهم السياسية والاعتقادية، حملُها على واحد فرد في حال وعلى جماعة وقوم في حال أخرى. وهذا يبطل المقارنة، على المعنى الدقيق. وما يودي بصاحبه في حال الواحد الفرد الى الانهيار والتصدع، يجلو الجماعة حركة سياسية وطائفية مقاتلة ومجاهدة، ويبلو أفرادها، وقد يوجب واقعاً سياسياً واجتماعياً وعسكرياً يفضي الى انتصاب كيان "وطني" مستقل أو "سلطة ذاتية" يقر مجتمع الدول بحقيقتها. وإلى هذا، أو ما يشبهه، أفضت حركات أو منظمات أهلية سبقت "نادي الشباب المؤمن" (الحوثي) الى النشاط مثل "حزب الله" في لبنان وحركة المقاومة الإسلامية ("حماس") في فلسطين. وحاول "جيش المهدي" الصدري في العراق، وربما "المجلس الأعلى الإسلامي" في العراق كذلك، بلوغ هذه الحال. فما كان، ابتداءً، "هذياناً" أو أشبه بالهذيان، لم يمتنع انقلابه واقعاً وحقيقة حين أخذت به جماعة، واستدلت به، وقاتلت دونه وقتل بعضها عليه.
وما ينأى بالأفراد، أو بجماعتهم، من الهذيان، ويجمعهم على "السياسة" والشقاق الأهلي، وربما على تولي الحكم، يقودهم إذا هم بقوا افراداً، وأقاموا على حالهم هذه، إلى ما قاد إليه العسكري الفلسطيني - الأميركي، ولا نعلم الى اليوم على وجه الدقة والضبط ما هو وما يكون. ويجوز ربما القول، من غير تعليل وظيفي وغائي، ان الحركات الأهلية الانفصالية والاستقلالية الأهلية، على شاكلة تلك التي مر إحصاء بعضها، "تنقذ" الأفراد الآحاد من المصير الذي صار إليه قاتل فورت هود، وتؤمّنهم من اثنينية الهوية وتنازعها المدمر. وفي مستطاع الحركات الأهلية الاضطلاع بهذا طالما لم تحل المجتمعات السياسية الشاملة بين الجماعات والحركات وبين حسم اثنينية الهوية من طريق ترجيح هوية الجماعة الأهلية على الهوية الوطنية. فتنزع الجماعات وحركاتها الأهلية الى الغلبة، وتخرج تعريف هوية الأفراد الآحاد من الترجح، وتدمجهم في هوية واحدة "قوية" يدل بها أعيان الجماعة الجدد والشبان (فيقول واحدهم: "نحن الأقوى"، مادحاً ومنتشياً).
وإذا حال المجتمع السياسي الشامل، والدولة المدنية راعيته، دون الاثنينية، لم يلغِ الهوية الدينية أو الثقافية أو "العرقية"، بل فصلها من التعريف السياسي المشترك، وخصها بدائرة على حدة. وكان الإقرار بـ "حرية الضمير" الديني والاعتقادي غداة الحروب الدينية والأهلية الأوروبية والحق يقال، الإيذان بالفصل والتخصيص هذين. وترتيب المعتقد الديني أولاً والوطنية الأميركية (أو غيرها، بديهة) ثانية، والبناء على هذا الترتيب وتحكيمه في واجبات المواطن وحقوقه، ينتهك الفصل والتخصيص. وإذا صادف الانتهاك سياقة مأزومة، وامتحنت السياقة هذه الأفراد الآحاد امتحاناً عسيراً يتطاول الى معاني حياتهم وموتهم، فالأرجح ان يخلخل الامتحان الأفراد، ويهزهم هزاً عنيفاً ينجم عنه قصف بعضهم وتصديعه.

"الذوات"
وترتيب وجوه الهوية على مرتبتين، واحدة سياسية غالبة ومشتركة وأخرى "ضميرية" أو "وجدانية" نفسية وذاتية يفترض "تبلور" الوجدان "الداخلي" والذاتي، وحِدَته (أو قيامه على حدة) من الهوية الجماعية بعض الشيء، واستقلاله عنها. وهو ما تكني عنه الفردية، أو نصب الأفراد الآحاد "ذواتاً" حقوقية وسياسية ونفسية واقتصادية مجردة، وقائمة بنفسها، ويأتلف المجتمع وإرادته العامة من تعاقدها الحر، ويدوم مؤتلفاً ما أوجبت إرادته العامة، المستفتاة في الأمر، دوامه. ويجعل هذا الأفرادَ في اصل الدولة – الأمة. فلا تسبق "الأمة"، على المعنى القبلي الأهلي ولا على المعنى الاعتقادي العضوي والهلامي، الإرادات الحرة والمتعاقدة التي أنشأتها. وإرساء الدولة – الأمة، وليس الأمة التي تسبق أواصرها وروابطها الرحمية والفطرية استواءها اجتماعاً سياسياً، إرساؤها على المثال الفردي، افتراضي وتقديري، تترتب عليه نتائج إجرائية هي الحقوق الشخصية والفردية (في الحصانة والأمن والحياة الخاصة والتملك والاعتقاد والتنقل والقول...) والحقوق السياسية (في الولاية والتشريع وانتداب ولاة الأمر والمدبرين والنقض عليهم...) والحقوق الاقتصادية والاجتماعية أخيراً (زمناً).
وليس هذا الإرساء تاريخياً ولا "واقعياً" تقريرياً أو وصفياً: فالأفراد، على المعنى الحقوقي وبما هم "ذوات"، لا أثر لهم في المحفوظات والأخبار. وهم ثمرة إنشاء وإيجاب اجتماعيين وثقافيين تاريخيين ومحدثين. وافتراضهم في اصل الاجتماع، وهم محصلة متأخرة من محصلاته المتفرقة والمتباينة، يدعو إليه ويسوغه إرساء حقوقهم وإجراء هذه الحقوق والتزامها، على ركن منطقي متماسك ومنسجم. فالفروع العملية والإجرائية التي تنص على حقوق الإفراد وحرياتهم وتضمنها، وترعى أحوالهم ومعاملاتهم، ويُجتهد في توسيعها، ويقترع عليها، لا تقوم (أو هي لم تقم الى اليوم) إلا على تقدير أصول فردية مفترضة و "متخيلة". وتترتب على الأصول الجماعية و "التاريخية"، على المثالين الإيراني "الإمامي" والسوري "القومي" والعراقي من قبل، تترتب على مثاليهما الجماعيين والتاريخيين في الولاية "السياسية" (والاجتماعية والثقافية والأمنية والشخصية...) النتائج المشهودة والمعروفة. وتنكر الأصول الجماعية على الأفراد الآحاد الحق في حقوق ثابتة تنهض بإزاء "حقوق" السلطان الجماعي المتجسد أو الحال في "أولي الأمر" "المكتَشفين" أو الإلهيين، على قول الأولياء الفقهاء في انفسهم، أو على ظن عبدالملك الحوثي في نفسه وفي والده. والمجالس الإيرانية المتفرقة (مجلس الخبراء، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ومجلس الأمن القومي)، ومرشد الثورة في وسطها او القلب منها، تهيمن على المراتب المنتخبة، وتقيدها وتعطلها، وتبطل نتائج الانتخاب والاقتراع الإراديين والحرين.
ومن ثمرات تقدير "الذوات" الأفراد وافتراضهم اصلاً حقوقياً، ومصدراً تشريعياً وسنداً اجتهادياً ومسوغاً إجرائياً، "تحريرهم" من التقليد الذي يسري في السرائر والطوايا والجوارح على نحو ما يسري في العبارة (اللغة) والتأويل ووصل الحوادث وحلقاتها على شاكلة تأريخ عام أو سيرة فردية. فتجري رواية السير الفردية، ومصائر الأفراد الآحاد، على مثالات أو رسوم وأنحاء غير متوقعة، وتتفتق عن معان غير معروفة ولا مسبوقة. و "الذات" التي تتعقبها الرواية، أو يتعقبها التأريخ وتقوم به، تتربع ذاتاً فردية وروائية أو مروية، فتجري على رسوم غير متوقعة ولا معروفة وإنما مفهومة ومتماسكة معاً، على ما هي الحال في العمل الروائي و "فنه" وهذه "الذات" هي وليدة ذوات متفرقة ومتنازعة أو منقسمة، أو هي انا قلقة (على المعنى المكاني) مجتمعة من أنوات كثيرة، ومن معان وأوقات يتغير ترتيبها واختلاطها على الدوام. ويضبط النفسَ "الشعاع" (على قول قيس بن الملوح العامري) أي المتصدعة والمتفرقة خيوطاً في اتجاهات مبعثرة، مبان مرصوصة وجامعة تتولى الضبط والتوحيد على مقادير متفاوتة. ولكنها تقر للنفس، و "للذوات"، بكثرتها وانقساماتها وتنازعها وجري حوادثها على رسوم ومثالات غير محسوبة ولا مقيدة سلفاً وبالسلف.
ونضال مالك حسن رتب "نفسه" المتنازعة والمنقسمة ترتيباً قدم اعتقاده الجماعي والملزم، وأخَّر علاقته الوطنية والسياسية التعاقدية، والملزمة من طريق التعاقد وليس من طريق الأمر والنهي والصدوع بهما. ويقضي هذا الترتيب الناجم عن الهجرة، وعن الإقامة على الجالية وآصرتها و "ثقافتها"، بإبطال الكثرة والمنازعة، وإنكار حقهما في العمل في "الذات" وصوغها. وعلى حين ان صدارة المعنى الوطني السياسي، أو المعنى "الجمهوري المدني والوطني"، لا ترتب إلغاء المعنى الاعتقادي والديني بل تثبته معياراً مقبولاً تتفرع عنه الخدمة المدنية أو يتفرع عنه "اعتراض الضمير"، تلزم صدارة المعنى الاعتقادي والديني بإبطال وجوه النفس الأخرى، و "طبقات" تاريخها، وجواز كثرتها واختلاطها.
فيسوغ الزعيم الدرزي (اللبناني) وليد جنبلاط خروجه من الوطنية اللبنانية بالتزامه العروبة وفلسطين واليسار. وهي أسماء مسمى مضمر هو الجماعة الأهلية المهددة. وينكر أحد مساعدي الزعيم الدرزي على الصف السياسي الوطني والمختلط الذي كان جزءاً منه (أي على "14 آذار") "تدخله" في شؤون الجماعة الأهلية، ومناقشة أنصار زعيمها الرأي في مسائل اختُلف فيها. فالوطنية اللبنانية، في صيغتها الجمهورية المدنية والوطنية الناشئة، لا تنكر على الجماعات الأهلية، درزية أو مارونية أو شيعية او سنية... تواريخها وكثرة طبقات هذا التاريخ وتنازعها في "نفوس" أهل الجماعات وهوياتهم، تنكر الآصرةُ الأهلية على اللبنانيين التواريخ هذه، وتعيب عليهم كثرتها وتنازعها فيما هي تنصب "الوطنية" فكرة خاوية ومن غير يد (أو يدين) أو موجبات غير يد السلاح "الإلهي" (أو "القرآني"، في لغة عبدالملك بدر الدين الحوثي) وموجباته العسكرية والأمنية والاستخبارية والذرية.
وعلى هذا، ينادي الحوثي الابن، وخالفُ والده على جماعته وأهله، بـ "مشروع ثقافي شامل على ضوء القرآن الكريم (...) نقدمه ضمن دروس ومحاضرات مع خطوات عملية سلمية منها شعار (الله أكبر – الموت لأميركا – الموت لإسرائيل – اللعنة على اليهود – النصر للإسلام)، والدعوة الى مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية، والتوعية النشطة في مواجهة التضليل الإعلامي، والتسمم الثقافي، والمسخ الأخلاقي، والفساد الاقتصادي الذي يشنه اعداء الأمة عليها". والبرنامج الجامع هذا، يسع جماعات اهلية مشرقية الأخذ به، وتعليق برامجها على أغصانه الوارفة. وسذاجة البرنامج وصراحته لا تتستران على "تقدمية" المطالبة بكتاب تاريخ وتربية مدنية واحد يسمي الانعزاليين بالاسم والصفة، ولا على راديكالية ثورة على الفساد تنصب جنرالاً وعماداً أسبق رئيساً مسيحياً حقيقياً، ولا على مصالح قومية استراتيجية تقضي باستتباع سلطان أهلي وأمني قاهر دولة ومجتمعاً مدنيين. فهذه كلها، وغيرها مثلها، تكرر الرسم المميت الذي صدر عنه "الميجر" الفلسطيني (المسلم) – الأميركي نضال مالك حسن.

الجمعة، 20 نوفمبر 2009

السياسات اللبنانية وقد تحولت إقطاعات مستقلة

الحياة 20 نوفمبر 2009
تتوج «حكومة كل لبنان» الائتلافية في ختام مخاض طويل و «فودفيلي»، على شاكلة مسرح البولفار الشعبي أو العامي والبورجوازي، مساعي حثيثة ومحمومة في تجزئة الحياة السياسية والوطنية اللبنانية، وتقطيعها إرباً وقطعاً تحول دون لحمها من جديد في معنى وطني جامع ومشترك. ويتصدر المساعي هذه فك الطاقم الحكومي والوزاري، أي التأليف السياسي والتمثيلي، من الانتخابات النيابية العامة القريبة. ورُبط التأليف أو التشكيل بإنكار فوز تكتل سياسي معلن، هو تكتل قوى «14 آذار» (مارس)، بأغلبية المقاعد النيابية. وأبطل تكتلُ قوى الأقلية الغلبة العددية الانتخابية، ونتائجها الحكومية، من طريق رجحان قوة التكتل «الواقعية»، اي المستمدة من «أمر واقع» ينتهك انظمة الدولة المدونة والثابتة. و «الأمر الواقع»، في لغة التداول والاقتتال السياسية والمحكية، هو السلاح والمال الحزب اللهيان، ركنا دولته ومجتمعه النقيضين، أو «ولايته» المستقلة بحبل سرتها، ومصادر غذائها وتسويغها.

وعلى هذا، فالحكومة العتيدة هي ثمرة تنازع غالبية نيابية صريحة، وإن لم تكن «كاسحة» أو «ساحقة»، و «أكثرية وطنية» (على قول «الرئيس» القومي السوري والاجتماعي) أو «شعبية»(على قول الخطيب الحزب اللهي الأول). وفي التنازع بين تكتل رخو المفاصل واللحمة، على شاكلة العلاقات السياسية «الفيديرالية» او الائتلافية المحلية والوطنية، وبين تكتل مرصوص بني على شاكلة معسكر حربي أو خندق حصين ومعاد، يستقوي التكتل المرصوص، النيابي الأقلي، بـ «حق» نقض يستمده من لحمته الأهلية، ومن حبل سرته الطائفية والإقليمية.

وهو لا يُعمل النقض في الهيئات والمؤسسات العامة والرسمية وحدها، بل يعمله كذلك في الجماعات والدوائر الأهلية التي يصدر الناخبون عنها، وتتقيد كثرتهم بميولها وأهوائها. فإذا خاف الزعيم الدرزي الهجمات المسلحة، في مناطق السكن المختلطة ببيروت وساحل بعبدا وعاليه، على قومه وأهله، وأخافهم على أنفسهم، مال من جديد الى «العلاقات المميزة» بالجهاز السوري الحاكم، وجدد النفخ في الانقسام الأهلي والوطني على «القوات المشتركة» (الفلسطينية واللبنانية) وفتوحها ومغازيها. وكانت الغالبية السابقة، المولودة من انتخابات صيف 2005، شُلت وعلقت بواسطة حروب طياحة وقتل وحجر ومقاومة، شعبية ونيابية عامة، أفضت الى الدوحة، وإلى رئيس الجمهورية المولود منها.

و «اتفاق» الدوحة كرس تقطيع السياسة، أو السياسات الوطنية اللبنانية، قطعاً كثيرة. فاستقلت القطعة منها، النيابية و «الرئاسية» والحكومية والوزارية والإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية والاجتماعية والاقتصادية، بأحكام وموازين ومعايير ظرفية تخصها. وما بدا تهافتاً محموماً على الاستيزار عموماً وعلى الوزارات، وزارة وزارة وبالاسم، وعلى الوزراء، بالاسم كذلك، لم يكن ثمرة شهوات أنانية و«حزبية» وحسب. فنظام التجزئة والتقطيع، أو «نظام السَّلامي» على التسمية الأجنبية، استدرج الشهوات وغذّاها. وبنى النظامُ هذا على «فضائل» سبق استغلالها في زيادة عدد النواب من 108 الى 128، وفي الحمل على الإقرار بـ 30 وزيراً عدداً «قانونياً» لا رجوع عنه في تأليف الحكومات. وفصّل النظام «السوري - اللبناني» نفسُه الوزارات على مقاس كتل النواب وغرضياتها أو ولاءاتها وحظواتها، وعلى مقاس احتياجاتها الانتخابية والخدمية والمالية، واحتياجات «العروبة السياسية» وجهازها السوري، في إطار توزيع عام للحصص والشطور. وما يحسبه ميشال عون، اليوم، إنجازاً واستعادة حقوق مهدورة في القطاعات المتفرقة (المالية والاقتصادية «الإنتاجية»)، إنما هو تثمير للميراث «السوري - اللبناني»، واستئناف لميزانه ومنطقه التجزيئيين.

وتُبخس قيمةُ النظام التمثيلي والانتخابي وتهدر من طريق أخرى. فالقوة الأهلية والعسكرية الأمنية الأولى، وهي الكتلة الشيعية المسلحة، تقصر تمثيلها النيابي طوعاً على أقل من دزينة من النواب، وتختصر حصتها الوزارية في وزيرين معلنين. ولكنها، وراء القناع الناعم والمراوغ هذا، تغرز أظافرها وأنيابها في أجزاء الجسم اللبناني، وتقيده وتعطله وترهقه وتعتاش عليه كيفما ارتأت، وارتأى حلفاؤها والمشيرون عليها. والانكفاء الظاهر هذا هو بعض الإخراج المسرحي الذي يوزع على اللبنانيين، دولة ومجتمعاً، الخسائر الفادحة التي تعود عليهم بها، بالعدل والقسطاس، سياسةُ الحزب الخيمني الداخلية والخارجية، السياسية والعسكرية، معاً. فيورط الحزب الشيعي المسلح اللبنانيين في عوائد الخسارة، ويحمي نفسه، وسيطرته على الأهل غير المواطنين، وجهازه العسكري الأمني من طريق توزيع عوائد الربح وريع «المقاومة» العيني على أهل عصبيته الراضين. وهو، في هذا كله، جزء من 11 جزءاً نيابياً، وواحداً من 15 جزءاً وزارياً. فإذا وقعت الواقعة، على مثال حرب صيف 2006، لبس الحزب المسلح الدولة والمجتمع اللبنانيين درعاً واقية وذريعة «شعبية» سائغة، وتخندق فيهما جسدياً ومعنوياً، وعرّضهما للتصدع، وللازدراء والاستضعاف الدوليين. وخرج مزهواً، ومحكماً خبيراً في «فن» الحكم.

وأرسى ما كانت سياسة القسر السورية فرضته بالقوة والتفريق والحوادث الأمنية والسنن الانتخابية والإعلام المزور، وهو إخراج العمل المسلح من الأبنية السياسية الوطنية، أرساه على قواعد وأسس مضمرة. فحمى قواته العسكرية والأمنية بعصبية اهلية ومذهبية مرصوصة ومقاتلة. وربط حمايتها ببنود سياسة إقليمية تستظل، من «حماس» وبعض التيارات «الإخوانية» الى سورية وايران، لواء «المقاومة» العروبي والإسلامي، ويتولى هؤلاء البت في مطالب هذه السياسة وبرنامجها. وترجمة الإخراج من الأبنية السياسية والحماية بالعصبية المرصوصة والربط ببنود السياسة الإقليمية وحاجاتها، قضت باطراح المسألة السيادية الأم من الحكم والحكومة والإدارة. ومهد الحزب الشيعي المسلح للاقتطاع هذا، على خطى السلف السوري (والفلسطيني قبله)، فقبل إجراء انتخابات «هادئة» و «منفتحة»، على رغم التمهيد لها بأربع سنوات مضطربة وعاصفة، كان جلاء القوات السورية عن الأراضي الوطنية الإيذان ببدء اضطراباتها وعواصفها.

وفُصلت «مناقشة» (واللفظة قرينة على افق لا يطال ولا يبلغ) السلاح والحزبين الخارجية والأهلية، من السياسة العامة التي تتولاها الحكومة. وعُلقت المناقشة العتيدة بخيط «طاولة حوار» أوكل امرها الى أضعف زوايا الحكم صفة سياسية وتقريرية وقوة أهلية. ويدعو الحزب المسلح اليوم الى فصل السلاح من «المقاومة»، والبناء على إقرار «ميثاقي» بـ «المقاومة»، وقصر المناقشة، إياها، على السلاح وحده. وقد يكون هذا «اعتذاراً» حيياً عن فعلة 7 ايار (مايو) 2008 وفعلات أخرى من قبل، على شاكلة اعتذار سابق عن الجهل بنتائج «الوعد الصادق» - والاعتذار هذا لم يلبث ان تبدد في إغضاء ومديح وعجرفة تتردد اصداؤها الى يوم غير معلوم. ولكن الإلماح الخجول لا يتطاول الى طرق السلاح المتعرجة والخفية، وإلى المضي على انتهاك القرارين الدوليين الكبيرين 1559 وتتمته 1701. وتزعم الردود السورية المتواترة ان العلاقات الفلسطينية (منظمة أحمد جبريل في المرتبة الأولى) - اللبنانية ينظمها اتفاق (القاهرة في) 1969. وهو ألغاه المجلس النيابي وأبرم إلغاءه. ودعته السياسة السورية الى إلغائه. ولا تحور وزارة الخارجية جواباً.

ويتعدى التجزيء والتقطيع اركان السيادة الى السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية. فتُعزل السياسة النقدية، وتناط بهيئة مصرف لبنان المستقلة. وذريعة عزلها واستقلالها هي «نجاح» الهيئة في حماية المصارف من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وارتداداتها، وتعاظم الاحتياطات والفوائض بالنقد الأجنبي، وبلوغ النمو 7- 8 في المئة.

وتطمئن المؤشرات هذه اصحاب «الملاحة القريبة النظر» والظرفية. وتترك معلقة مسائل نمو عوامل الإنتاج وتنويعها، وتوسيع شبكة الضمانات الاجتماعية، والإعداد لمشكلة تعويضات نهاية الخدمة ومرتباتها، ومكافحة تردي التعليم على مستوياته، وتقليص الجهاز الإداري و «الوظيفي» المتورم والمعطّل.

وعلى شاكلة النقض السيادي على وحدة الدولة، يلوح التكتل الأهلي الاتحادي والمسلح بنقض اقتصادي واجتماعي. فينتضي مسألة الخصخصة «سلاحاً». وهي قناع لمسألة حقيقية تتناول حماية الفئات الاجتماعية الضعيفة، ورعاية تأهيلها الى المشاركة في دورة اقتصادية فاعلة. والفئات هذه معظمها اصابتها الحروب الملبننة الطويلة ثم الرعاية السورية المتعنتة بنكسة اجتماعية وسياسية قاسية، وقلصت دور «المصعد» اللبناني في حراكها. وهي القاعدة الاجتماعية العريضة لناخبي المنظمات الأهلية المسلحة الباقية، وللكتل المذهبية والعصبية المتماسكة. وهي تحسب ان «دورها جاء»، على قول ميشال عون في أنصاره.

وتتولى الزعامات المذهبية، من طريق «الدولة» أو الإدارة وحصصها، إعالة ضعفاء الكتل المذهبية، من وجه، وتوزيع عوائد المناقصات والوكالات ومجالس الإدارات والوساطات ومكاتب الاستشارة على «طبقة» من رجال الأعمال والوسطاء والفنيين والإداريين (ينزل لبنان المرتبة 130 من سلم الفساد)، ومن وجه آخر. وجزء من الإعالة مصدره الإعفاء من الجبايات. وأولها تسديد ثمن التيار الكهربائي (30 في المئة من الثمن لا يسدد). فتتصدى الزعامات المذهبية للرعاية المزدوجة هذه. وتتولى تقوية تحالف «الطبقتين» الاجتماعيتين داخل جماعاتها المذهبية، وتدعو هذه الجماعات الى الانكفاء، وإلى الإدلال بحقوقها المهضومة على الدوام. وهذا وجه من وجوه «تفاهم» عون - نصر الله «الفيديرالي» والعامي الشعبوي و «المعارض». وهو، كذلك، وجه من وجوه انكفاء الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ودفاعه عن الإعالة والغوث المركزيين و «اليساريين»، على ما يحسب ومعه تراث لبناني وعربي، ناصري ونفطي، عريض ومختلط. وعلى هذا، اصطفت جبهة من الكتل المذهبية يجمعها الى محور «المقاومة» الإقليمي (على تفاوت وربما اختلاف في المقاصد والبرامج والمخارج)، نازع قوي الى الاعتيال على المال العام، وعلى عوائد المجتمع.

وتأخذ الدهشة بعض المراقبين وهم يشاهدون الهدوء اللبناني «النسبي»، على قول المسرحي اللبناني «اليساري»، قياساً على تقلبات المناخ الإقليمي واحتمالاته المقلقة. والحق ان الهدوء هذا هو ثمرة تقطيع السياسات اللبنانية، ومرتكزاتها الأهلية والاجتماعية، على ما دأبت عليه حركات «المقاومة» منذ نحو أربعة عقود. ومصادر «المقاومة» هذه عروبية وعصبية محلية، على حد متفاوت. ويؤاخي التقطيع بين الكتل المتنافسة، متحالفة أم متنابذة، ويرسي بينها علاقات جوار ريعية. والتسليم بالدوائر المرسومة والإقطاعات قد يحمل، على ما تعول الكتل «الفيديرالية»، على رعاية المسرح الاحتياطي (اللبناني) الإقليمي، المعد لجولات إقليمية تحت الطلب وإحاطته، بمساكنة تحول دون نشوب نزاع سياسي لا يؤمن انقلابه نزاعاً أهلياً مسلحاً. وتستتبع الحال هذه دوراناً في حلقات مفرغة، وترجحاً لا الى غاية، ومناقشات متناسلة. وتضطلع «الحيوية» الاجتماعية اللبنانية المشهودة بدور فاعل في تغذية العطالة والإجهاض السياسيين. وليس معنى هذا انه ليس للحيوية العتيدة منطقاً سياسياً يزري بضآلة «السياسات» المنتصرة. ولكنه المنطق هذا «يبحث» عن أهله وأصحابه.

الاثنين، 9 نوفمبر 2009

الإرهاب في العراق وأفغانستان وباكستان وجه من حروب أهلية وإقليمية ودولية «مشتركة»

الحياة 6/11/2009

بينما تبذل حكومات محلية، وقوى دولية مساندة وحليفة، وسعها في سبيل السيطرة السياسية والأمنية على أجزاء من بلادها، ترد قوى معارضة مسلحة على المحاولات المتفرقة هذه بهجمات إرهابية دامية «ناجحة». ففي العراق وأفغانستان وباكستان، وعلى وجهين مختلفين في إيران ولبنان، تشن منظمات مسلحة حرباً على حلفائها ورعاتها. ولكنها تستهدف في المرتبة الاولى الأهالي المدنيين، وتوقع فيهم الشطر الأكبر من الخسائر. والإرهاب هذا ليس أعمى، على خلاف بعض المزاعم. والأدقُ القولُ ان عماه المزعوم اي ضربه المدنيين، جزء من سياسة بصيرة وحادة النظر.

ففي البلدان الثلاثة الكبيرة، اي العراق وأفغانستان وباكستان، وهي الساحات البارزة، تتصل الهجمات بثلاث عمليات سياسية واضحة الدلالة والمترتبات. فمنتصف الشهر الأول من 2010 هو موعد أول انتخابات عامة عراقية، جامعة وفعلية. وعلى خلاف الدورة السابقة، قبل 5 أعوام، تشارك في الدورة المقبلة والوشيكة أحزاب وجبهات وكيانات لا تستثني جماعة أهلية أو سياسية واحدة من الجماعات العراقية المتنافسة والمتآلفة، ما عدا البعثيين المتمسكين بـ «شهيدهم» وتاريخه وإنجازاته. والانتخابات القريبة - بعد توقيع الحكومة العراقية الاتفاقين الأمني والعسكري الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وإقرار انسحاب القوات الأميركية من المدن تمهيداً لانسحاب شامل في غضون اقل من عامين - هي مفتاح استقرار دولة وطنية عراقية واحدة ومستقلة اختارها شطر غالب من مواطنيها، وقواهم السياسية الكثيرة والمتنوعة والمتنافسة، اختياراً قريباً من التزام معايير الحريات السياسية والعامة.

وعلى هذا، تتهدد الانتخابات الوشيكة، إذا جرت في إطار موازين القوى القائمة منذ منعطف 2007 مصالح إقليمية وعراقية داخلية قوية. فالإطار نجم عن تسلم نوري المالكي رئاسة الحكومة وأجهزة الدولة الناشئة، وكسر شوكة منظمات «القاعدة» والبعث السري و «جيش» مقتدى الصدر، واستمالة «الصحوات» السنية القبلية، وإضعاف «المجلس الأعلى» الشيعي الاتحادي، وتثبيت كرد العراق على حكمهم الذاتي. والإنجازات هذه، على التباسها العميق، تضع العراق، دولة ومجتمعاً (أو مجتمعات)، على مفترق طرق قد تؤدي إحداها الى استتمام نظام سياسي اتحادي وانتخابي متعدد القوى في قيادة أهلية وطائفية شيعية، وإلى وضعه على طريق استعادة موارد طبيعية واقتصادية غنية، في رعاية أمنية أميركية. ويخالف هذا، مجتمِعاً أو متفرقاً الى عناصر منفردة، سياسات جوار كثيرة. وتناصر السياسات هذه، على تنازعها في أوقات كثيرة، نزعات وتيارات داخلية تحاول إرجاء استتمام النظام السياسي واستقراره على أركانه القلقة. فإذا أقرت الانتخابات المزمعة هذه الإركان، وهي تخالف أركان معظم أنظمة الجوار، برز العراق قوة متماسكة، وربما رائدة، في الإطار الإقليمي الممزق، المضطرب والمتنازع.

وبروزه على هذا النحو، وهو الخارج من أربعة عقود من استبداد حزبي وقومي وأمني مدمر، ومن حربين إقليميتين ثقيلتين، وعزلة دولية كان ختامها اجتياحاً عسكرياً واحتلالاً أجنبيين «استعماريين»، و «مقاومات» غلب عليها الإرهاب وصدعت بقايا المقومات الوطنية الجامعة وعصفت بها - يمهد البروز ربما لأداء العراق أدواراً سياسية ترجح كفة القوى المعتدلة والمتماسكة في المنطقة، ومنها تركيا، على بعض التخبط والتعرج. وهذا يعني ان الاحتلال ليس آخر المطاف، وأن قتال المحتل قتالاً مستميتاً ومن غير احتساب «التناقضات في صفوف الشعب» ليس مفتاح الحل الناجز، ولا ينطوي على الأبنية السياسية الناجعة. وينبغي التذكير، في خضم المدائح التي تكال اليوم الى السياسة التركية الخارجية وبعضها مصطنع ومحابٍ، بأن السعي التركي في إخماد بعض بؤر الإرهاب «القومي» حاربته أنظمة تناصب اليوم العراق «المدوّل» (على قول الرئيس السوري) العداء الشديد، وتؤوي مهاجري نظامه السابق وأموالهم وإعلامهم وبعض شبكاتهم.

وتقاوم طالبان الأفغانية والباكستانية، وتؤيدهما «القاعدة» العربية والأوزبكية والشيشانية، محاولة الحكومتين بسط سلطة الدولة وسيادتها على مناطق وأقاليم تحظى باستقلال ذاتي اهلي وأمني سياسي قديم. ويتصل بعض المناطق والأقاليم ببعضها الآخر، ويغذي استقلاله وخروجه على سلطة «مركزية» متهاوية وهزيلة تنخرها العصبيات، ويعزلها الفساد عن جمهور مواطنيها وعامتهم، ويشل خططها المدنية وخطط حلفائها ورعاتها الدوليين والإقليميين. وأدى تقاسم السلطة والصراع عليها في كابول، والتنازع على عوائد الرعاية والوصاية الأجنبيتين، وإحجام السلطات الباكستانية عن مطاردة قادة «القاعدة» والطالبانيين المحليين واللاجئين من افغانستان وقطع مواردهم، الى انبعاث حلف المنظمتين أو الشبكتين.

ويتذرع الطالبانيون وقادة شبكة «القاعدة» ومقاتلو عشائر المناطق القبلية بحرب القوات الدولية والأطلسية والأميركية على قواعدهم المتغلغلة في أوساط الأهالي، الى تعبئة الجماعات الأهلية على الأجانب «الكفار»، وعلى «التنظيمات» الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي يراها الأجانب علاجاً للإرهاب واحتضانه. فكانت الدعوة الى انتخابات رئاسية بأفغانستان، وقبلها مساندة السياسة الأميركية تحولاً باكستانياً عميقاً يقدم اجتثاث القواعد الطالبانية من الأقاليم القبلية والحدودية على النزاع «القومي» والديني مع الهند، غداة عملية مومباي الدامــية، كانا (الدعوة والمساندة) داعيين قويين الى شن الجماعات والشبكات الباكستانية والأفغانية المتحالفة هجماتها في روالبندي ولاهور وكابول وقندهار وخيبر وبيشاور.

وتستهدف الهجمات الطالبانية والقاعدية الهيئات الأمنية والعسكرية والإدارية، الوطنية والأجنبية، على قدر ما تستهدف الأسواق والمصارف ومفترقات الطرق والمدارس والأعيان المستقلين أو الموالين للحكومة. وتجمع العمليات الإرهابية الطالبانية، بباكستان وأفغانستان، مدارس البنات (ومدرساتها) وبيوت ضيافة الأمم المتحدة ودوريات قوات الأمن المحلية والقواعد العسكرية ومراكز الاقتراع، في هدف مشترك. وتستعمل في تفجيراتها هذه، في وسط المدنيين وفي الهجوم على دوريات القوات العسكرية وعلى مقر الأركان، عبوات محلية تبلغ زنتها طناً أو أقل بقليل. والجمع بين الأهداف هذه، على تفاوتها واختلافها الظاهرين والفعليين، قرينة على مراد الجماعات والشبكات الإرهابية، وهو الحؤول دون تولي «الدولة» المركزية إدارة مرافق عامة، من التعليم الى المواصلات والبلديات، ومنعها من السيطرة على الأقاليم الوطنية ومن انتهاج سياسة وطنية وخارجية تقدم مصالح إقليمية مشتركة ودولية على منازعات الجماعات الأهلية و «القومية» الدينية، الموروثة والقديمة.

ولا تفتقر الجماعات والشبكات هذه، لا في باكستان وأفغانستان ولا في العراق (أو فلسطين ولبنان استطراداً)، الى حلفاء اقوياء في أجهزة الدولة التي تصليها الجماعات والشبكات الحرب. ولعل الحلف المتين، العصبي والسياسي الإيديولوجي، بين الجماعات والشبكات وبين أجزاء من الأجهزة العسكرية والأمنية والإدارية، عامل راجح في اختراق المقاتلين الانتحاريين اجراءات الأمن والحماية الحكومية. وفي الأحوال هذه كلها، الآسيوية والشرق أوسطية، تتمتع الشبكات الإرهابية بملاجئ وقواعد خلفية، أقاليمَ ومناطقَ وأحياء مدن أو دولاً مساندة. فيستحيل عليها إعداد هجماتها من دون الملاجئ والقواعد الخلفية هذه وهي تحصن ملاجئها وقواعدها، في الداخل، بواسطة عصبيات وروابط اهلية تنفخ في النزعات الاستقلالية المعادية للدولة، على اشكالها، والمناوئة للأحلاف السياسية التي تؤلف بين الجماعات، وتشترط المساومات، وتقدم الدولة على الجماعات. وتحصن الجماعات والشبكات ملاجئها وقواعدها في الخارج، وهو غالباً جوار قريب ومتصل جغرافياً بمسرح القتال، بالانخراط في سياسة دول اللجوء، أو بعض اجهزتها الغالبة. وتنقاد الى خطط الأجهزة الإقليمية، وإلى حربها (أو حروبها) على قوة دولية كبيرة، أو دول إقليمية مخالفة، او على جماعات أهلية أو سياسية داخل الدولة نفسها. وتؤدي الولايات المتحدة والهند وإسرائيل وبعض الدول العربية «القطبية»، والغرب عموماً (على رغم الهند) أو فروعه المفترضة، أدواراً ثابتة وناتئة في الصراع الدامي هذا.

ويبرر الجمع بين العصبيات الضيقة والنواتية وبين الاستراتيجيات الوطنية والإقليمية والدولية العريضة في كتلة واحدة ومتصلة (من رهط آل محسود في كانيغورام وساراروغا الى حلف جماعات من البشتون في وزيرستان فإلى حلف من القوم نفسهم في شبه القارة بين الهند وآسيا الوسطى فإلى الانقسام القومي والديني الإقليمي والنووي بشرق آسيا...) يبرر صبَّ عنف متماد ومدمر على المدنيين العزل الذين ينتظرون حافلة نقل أو صادف مرورهم بالطريق. فالقتل، في هذه الحال، جزء من صرف العملة «الجهادية» على الكفر والغزو والعنف، ومن النضال ضد الاستكبار والصهيونية.

و«يجوز»، على هذا، قتل رفيق الحريري، أو اغتيال فتحاويين، أو خوض انتخابات عامة طوال 4 سنوات بواسطة القتل والترويع، أو الاستدراج الى حرب أو عملية أمنية باهظة، في إطار الجمع بين عصبية مذهبية ومحلية وبين استراتيجية إقليمية ودولية يتربع السلاح النووي، و«إصلاح» المجتمع الدولي على قول أحمدي نجاد، في ذروتها. فالجغرافية السياسية التي يتولى سياسيون أتراك الترويج لها، ويهتف لها ساسة سوريون، وقد تبطن نزعة شعبوية وقومية ثأرية، تحتمل تأويلاً كثير الوجوه والمعاني. والتأويل على معنى السلطنة، أو الامبراطورية والاستتباع بالقوة والولاء العصبي، يقود الى إجهاض الدولة، وقطع علاقاتها بمجتمع الدول، وإلى إذكاء منازعات حادة لا يتماسك معنى عام (قانوناً أو هيئة أو عرفاً) في وجه عصفها. والتأويل هذا، على رغم استقطابه حوادث وحروباً وسياسات «كبيرة»، لا يشق طريقاً الى مناقشة سياسية ودولية كتلك التي بعثها «تقرير» غولدستون. وهذا نصر آخر تحرزه السياسات الأهلية والإقليمية على المجتمع الدولي.