الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

"جوزيف أنطون"... سلمان رشدي متخفياً وسابحاً في أثير رواياته وأصدائها الخارجة من إيهابها


المستقبل – 25/11/2012
يروي سلمان رشدي في نحو 30 صفحة افتتاحية من حكايته سيرتَه "جوزيف انطون" (عن راندوم هاوس، لندن، 2012، وبلون، باريس، 2012) حوادث يوم الثلاثاء "المنير" في 14 شباط، عيد ولي العشاق، 1989، الذي بلغه فيه، وبلغ الناس كلهم من طريق وكالات الأخبار، حكم روح الله خميني، السلطان الإيراني والإمامي المعمم، بقتله جزاء كتابته ونشره قبل نصف عام، يومها، "الآيات الشيطانية" (وليس "آيات شيطانية" على ما يصحح في إحدى الصفحات الأولى من "جوزيف انطون"، فالتعريف قرينة على تناوله، هو الروائي المتأخر زمناً وعلى صفته هذه، الخبر عما نسبه أخباريو المبعث، وبعضهم معاصرون، الى وسوسة الخناس وتشبيهه. وأما اغفال التعريف فيوهم بأن الكتاب يستعيد أو يستأنف الوسوسة المنكرة، أي التي ينكرها "المؤمنون"). والـ30 صفحة الاولى العاصفة، "الشحرور الاول"، وهي شطر ضئيل من الصفحات الـ700 التي تقتضيها السيرة "الكاملة"، أو سيرة الـ13 سنة التي دامتها حراسة الكاتب المهدد القريبة (الى 27 آذار 2002 صباحاً) تكاد تكون موجزاً لـ"طريقة" رشدي الروائية التي يُعمِلها في بعض أجزاء كتابه، وأعملها من قبل.
والفاتحة هي خبر إعلامي أو صحافي، وذلك في معرض "انفجار" حادثة الإفتاء الإمامي الخميني بقتله وانقلاب الإفتاء مسألة علاقات دولية و"ثقافية" من صنف جديد. فيستهل رشدي الحكاية العريضة بمكالمة تلفونية أو مهاتفة مصدرها صحافية من البي بي سي (هيئة الاذاعة البريطانية). سألته الصحافية التي نسي آسفاً اسمها، ولم يسألها عن طريق معرفتها برقم هاتفه في مكتبه ومنزله بإيسلينغتون من أعمال لندن، عن أثر بلوغه الدعوة الى قتله فيه. وسبقت الصحافية جوابه، وقالت له ان الدعوة الفقهية الى قتله لا بد طوت حياته الماضية وانعطفت به الى حياة جديدة. ومكانة الصحافة أو الإعلام المتصدرة من الحادثة الدولية المتفجرة مَعْلم على نوع العالمَ الذي صدرت عنه الرواية ويصب جدولها أو ساقيتها فيه. وهذه الصحافة، على هذه الشاكلة، تبلغ ملاذ الأفراد وملاجئهم عنوة. وتجيب قبل أن تسأل. وإذا سألت مهدت سبل الجواب ودلت من تتوجه عليه بالسؤال اليها. وأثرُ "السؤال"، والملاحظة الملازمة، في الكاتب المهدور الدم لقاء جائزة سنية من بيت مال "المسلمين"، مقوِّض: أظلم النهار المضيء، وقال الرجل الطريد في نفسه "أنا رجل مات" وأحصى الأيام المتبقية له من العمر فألفاها قليلة، ونزل سلم البيت بعد أن أغلق الشبابيك الخشبية والباب وأحكم الغلق وكأنه يحمي نفسه داخل البيت وهو يغادره.
ويتصل "المشهد" الأول والخاطف والروائي يقصه من غير غمز من طرف خفي ولا مسرحة ولا تنويه أو تذكير (بشواهد رواية "الآيات..." من "حرب النجوم" و"الرجل الفيل" وأسماء الأبطال الاتصاليين: جبريل فاريشتا والملك جبريل...) بتداعياته. والتداعي الأول يتناول عيد ولي العشاق وقديسهم: فالانتان. وحري بالولي القديس أن يرعى ما بين سلمان وماريان (ويغينز)، وهي زوجه يومها ويعرفها بـ"الروائية الاميركية" وهذه جهرت قبل 6 أيام من اليوم العتيد رأيها في حياتهما المشتركة التي يتشاطرانها ومشاعرها، وقالت أن هذه الحياة تفتقر الى متعة الشركة. وانتبه هو كذلك الى "خطأ" زواجهما وإقبالهما عليه.
وعلى رغم هذا، وبينما كان هو يغرق في اضطرابه، ويتلوى كمن مسَّه تيار كهربائي فيغلق الستائر ويوصد الشبابيك والباب الخارجي وهو يهم بالهرب لا يعرف الى أين، ويكلِّم ماريان هاذياً على غير هدى، أجابت بقولها "نحن". فسكن روعه بعض الشيء، وبعثت "شجاعتها" بعض التماسك في أوصاله المتهافتة والتالفة. وفي فقرة خاطفة تضمر فوق ما تعلن أو تسر، وتظلل جملها وكلماتها القليلة أواصرُ الفراق والصرم الضعيفة، تتردد أصداء الولي اللعوب والمريمي معاً، الربيعي الفتي والشتائي الآذن بانطواء البيت ودفئه وملله، الجامع الضاوي والمفرق المبعد. وتختلط الأصداء هذه بنور النهار الساطع ودبيب الموت الذي يحسبه المدان بالتجديف وشيكاً.
ويعود التداعي الثاني إلى الاعلام والتلفزيون، من طريق سي بي أس، الشبكة الاميركية القائمة في بووُترهاوس حي نايتسبريدج اللندني، على ما يحرص روائي التهويم "الشرقي" على العَنونة في كل مرة تسنح فيها الفرصة أي على الدوام. فالشبكة دعته الى برنامجها الصباحي والحواري "المباشر". وهو لا يريد تفويت الدعوة والذريعة المتاحة الى رد التهمة القاتلة. والبث التلفزيوني المباشر على الاثير ساحة حرب يتوق حكواتي "الآيات"، وقبلها "أولاد منتصف الليل" (1981) وبعدها "المهرج شاليمار" (2004)، الى خوضها، والمبارزة فيها. والأثير الرشدي يصل الأزمنة بعضها ببعض، ويخلط الأمكنة، وينقل الأحلام والصور، ويستسلم لأجنحة التخييل والكلام وينقاد لها ويلح في دعوتها الى التحليق والطيران (ولن تعتم الطيور القاتمة، ونذر الكارثة والدمار، الشحارير السود وهي أقرب الى الغربان، و"طيور" هيتشكوك التي تجري في رواية السيرة جري الدماء في الاوردة، وتظهر).
واتفق يوم 14 شباط 1989 هذا مع إقامة جناز إحياءً لذكرى صديقه، صديق الراوي (بضمير الغائب)، بروس شاتوين، في كنيسة موسكو رود الارثوذكسية في بيزووتر. وتوفي شاتوين بالإيدز إبان انتشار الوباء في صفوف المدمنين والمشردين والمتسكعين الفقراء والمثليين الفنانين و"المثقفين". وكان دعا، قبل سنتين، صديقه الهندي البريطاني الى الاحتفال بالذكرى الاربعين لولادة الصديق في بيته بأوكسفوردشايير. ويزور الصديق الميتُ الذي خلّف في ذاكرة صديقه المهدد احتفالاً قريباً وحاراً بولادته وخروجه الى ضوء الحياة، بينما تحوم فتوى الوعد بالموت قتلاً في ضوء يوم العشاق، ويظلل فتورُ "المتعة" التي جمعت ماريان ويغينز وسلمان رشدي قبل سنة شراكتهما وتقول ماريان اليوم ان حياتهما المشتركة هذه تفتقد المتعة ويقرها هو على قولها وشعورها. وسألت الزوجُ زوجها المرتبك، والمزمع الرواح الى مكاتب الشبكة التلفزيونية الاميركية ثم الى الكنيسة، ماذا ينوي أن يفعل في شأن القداس. فترك السؤال من غير جواب وغادر البيت المشترك في سيارة الشبكة، وهو لن يعود إليه قبل 3 سنوات، في اثنائها لن يبقى البيت منزله، ولا ماريان زوجه وهو زوجها، ولا حياته السارحة والمشرعة على أرياح الحكايات وأجنحتها قبل رأي الفقيه الفظ والمجتهد حياته المتخفية والمواربة بعد الاجتهاد.
ويكتب سلمان أنيس رشدي، ابن مبتدع تراث أرسطوطاليسي ندب ابنه الى الاضطلاع به، أنه خلّف منزله وراءه الى برنامج الشبكة الاميركية الحواري والصباحي وإلى جناز صديقه، وتلويح لائحة القتل ودبيبها في فرائضه. والحق أنه يترك هذا الشطر من روايته الى أولاد صف في بوديغا باي بكاليفورنيا يغنون أغنية تحكي عن جنية "تمسد شعرها مرة في السنة، بينما تصفر ريح باردة في الخارج، ويهوي من السماء شحرور وحيد يحط على قن دجاج في وسط حاكورة الدار، ومع كل تمسيدة مشط تذرف الجنية دمعة- ريستالتي، روستالتي، هاي بومبوزيتي، نايكتايك نايكتي، ريتوركوكواليتي، ويلّلو بي، والابي، مو، مو، مو شحارير أربعة تميل على قن الدجاجات، ويحط خامس على قن الدجاجات وآلاف أخرى تجتاح السماء على شاكلة طاعون. أغنية بدأت ولن تنتهي أبداً".
وهذه الفقرة، وأنا أنقل معظمها نقلاً يكاد يكون حرفياً، تمثِّل على كتابة صاحب "الآيات" وغيرها، من الروايات، وتقرِّب طريقته التي تراود شهادة خبرية على حوادث ووقائع عينية لا يد له في معظمها، وليس الامر خافياً على الكاتب. فهو لا يكاد يبتدئ كنايته عن حاله الجديدة في اعقاب ذيوع خبر التحريض على القتل، بطير الشؤم الاسود ثم بأمواج الطيور وطاعونها، حتى يباشر توسيع الكناية وتعظيمها على صورة "نظرية عامة" على ما يقول ساخراً ومسلِّماً. ففي اثناء الاعوام اللاحقة تخطت الوقائع والحوادث واقعة إنزال رأي قاتل بفرد واحد، جزاء تقليبه النظر والسؤال والخيال والروايات في وجوه التصديق والاعتقاد الغريبة، الى انتصاب الملاك جبريل واعتراضه الافق، وانفجار طائرتين في برجين كبيرين، واجتياح الطيور القاتلة الارض على شاكلة صنيعها في فيلم ألفرد هيتشكوك "الكبير". فبين التحريض على اغتيال الروائي الهندي البريطاني عقاباً على "مناوأته الاسلام"، على ما كتب خميني في نص فتواه، وبين اعتراض جبريل الأفق ورمي برجي نيويورك التوأمين بطائرتين مدنيتين وقتل 2700 نفس، حبل من المعاني والاستعارات والمباني (الاعتقادية والسلطانية والإدارية الاجرائية) كان سلمان رشدي من أوائل من انصرفوا الى تعقب عقده الظاهرة المواربة الخفية. والكلام على "تعقب"، أي الدلالة باللفظة أو الكلمة، غير دقيق. فهو لم ينتظر فقه روح الله خميني، ولا فقه أسامة بن لادن، و"إجازاتهما" الحربية و"الجهادية"، ليروي في اعقاب الاثنين وانصارهما ومريديهما الكثر، بعض احوال الكشف والرؤيا والسمع وأثرها في "التهام" الناس والحياة، بحسب كنايته الروائية التي تتصدر فصل "الامام" في الرواية، وتندد بـ"إصلاح" رئيسة الوزراء البريطانية الاقتصادي، ثاتشر. وهو حَمَل الاجتهاد الديني الخميني في شأنه، والقضاء فيه هو البريطاني التابعية والدولة واللغة والثقافة والعقلاني الميل والمعتقد، بالقتل بالنيابة عن الاسلام والمسلمين في ارجاء العالم، واقتناص السلطان القومي المطلق فرصة سانحة في نزاعه المذهبي والعصبي حمل هذا التعسف الفظيع على اجتياح "طبيعي" لا استعارة له في عالم البشر واجتماعهم، فلجأ الى عالم الطبيعة الحيواني وبعض صوره وآياته في الفن السينمائي المعاصر.
ويعود رشدي من الشاشة، وحلبتها وآرائها المتضاربة وشبهها بساحات الاعدام في مدن أوروبا الوسيطة (القروسطية)، الى زوجه، واتصالها التلفوني به، وطلبها إليه ألا يرجع الى بيتهما حيث ينتظره 200 صحافي ومصور. وحين ينوي الرواح الى تأبين شاتوين ينصحه أحد الاصدقاء بألا يذهب. وبلغه أن نائباً هندياً بريطانياً في مجلس العموم كان سانده حين انفجرت التظاهرات بباكستان والهند تنديداً بكتابه، قبل الفتوى الخمينية وهي التي دعت الفقيه الايراني الحاكم الى الافتاء واقتناص الجمهور السني وتصدر "المحاماة عن الاسلام"، رجع في مساندته، وتقدم تظاهرة مشى فيها 3 آلاف مسلم بريطاني مدحها بقوله انه يوم أغر من ايام الاسلام في بريطانيا. وها هي ماريان تلقاه بعينين استقر فيهما الهلع: هلع خلفته مهاجمة المصورين والمخبرين والعدسات إياها حين تعرُّفها. وفي ختام احتجابه القسري يصف الراوي صنيع فلاشات آلات التصوير في المرأة الشابة والجميلة التي تزوجها في الاثناء، بادما الهندية وفتاة الغلاف. فيقول انه رآها تدور على نفسها، وتختال أمام "جدار" المصورين الهائجين والفالتين من عقالهم، وتذر شرر فتوتها وجمالها. ونظر الى وجهها وأدرك أنه وجهها في اثناء المضاجعة، فقال في نفسه انها تضاجع مئات الاشخاص معاً، ولا يسع امرءاً احتمال هذا. وخسر سلمان رشدي بادما حين أدرك أن دنياه التي ارتضاها تقتضي مقاومته الذوبان في أحلام بادما التي تريده صنو رغباتها، وعلى شاكلتها، ويعود إليه هو أن يكون صنو رغباته، على خلاف فعل "الايمان" وقصده.
ويتذكر في اثناء الجناز رحلة الى استراليا في صحبة شاتوين، "موضوع" الجناز أو صاحبه في 1984. ومن وقائع الرحلة نزولهما فندقاً اجتاحه قبل عام سائق شاحنة سكير، رفض خادم مقصف الفندق تقديم قدح شراب إليه، فقتل هجومه على الفندق بالشاحنة 5 أشخاص. وحضر الكاتبان محاكمة السائق التي صادف اجراؤها مرورهما بالناحية. واحتج السائق لنفسه فقال إن مهاجمة الفندق بالشاحنة ليست من طباعه ولا من عاداته. ونسيَ مقتل الخمسة أو رآه نتيجة آلية ترتبت على ما ليس من طباعه ولا يسأل عنه. ويذهب راوي سيرته الى ان المفتي المأذون بقتله يشبه السائق: فهو من شيمه حمل لواء "مركبته" فإذا نجم عن الامر مقتل إنسان، وكانت تظاهرات باكستان والهند أدت الى مقتل 12 متظاهراً وقتلت فتوى العالم الايراني والامامي مترجمين من بعد وناشراً، فالتبعة لا تقع عليه. ويقول أنه فكر في تناول الحروف التي نسبها الرواة والاخباريون الى الوسوسة الابليسية في الطائرة التي استقلها عائداً من استراليا: الايمان مركبة تعلو مكانتها حياة البشر.
وهذا دأب "جوزيف (تيمناً بجوزيف كونراد، الروائي المجري البريطاني المختلط) انطون (تيمناً بانطون تشيخوف كاتب المسرح والقصة القصيرة الروسي)"، السيرة الروائية وصاحبها المقنَّع في الاحوال كلها. فهو يروي وقائع وحوادث لا غبار عليها، ولا جنحة على ماديتها. وجمع السيرة الواقعة أو الحادثة بجوار الاخرى، وعلى تخوم جموحها الى أقاصي هذيانها، على مثال سرده في مواضيع كثيرة أثر التلفزيون على وجوهه في الناس ومسارحهم ومعاملاتهم وأخيلتهم، يسلط أصداء الوقائع والحوادث بعضها على بعض، ويدعو القارئ الى نزع غشاوة الفهم الواحد والحرفي عن ذهنه، وسمعه وبصره ومشاعره و... فقهه. ومبنى الروايات والحكايات الرشدية على الاثير السحري الذي تسبح فيه الكلمات والمعاني والأجساد والاشياء، ويكني بعضها عن بعض على بعد الشقة الزمنية والمكانية واللغوية. "اللغة هي الشجاعة: نبدأ بالافتراض ثم نسعى في التحقيق".
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=548567

الاثنين، 12 نوفمبر 2012

وسام الحسن واغتياله في عهدة «الأخبار» وذمتها «الصحافية» الإعلام على تعبئة... أو النقض على الخبر


11/11/2012 
في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الجمعة، في 19 تشرين الأول، أو بعدها بقليل، قَتَل انفجار سيارة مفخخة كامنة على طريق تُفضي الى مقر قيادة قوى الأمن الداخلي القريبة، بأشرفية بيروت، مدير «قسم» المعلومات في جهاز قوى الأمن، وسام الحسن، العميد فاللواء. وقتل الانفجار مرافق الضابط، أحمد صهيوني، وامرأة تعمل بمبنى قريب من الكمين، جورجيت سركيسيان. وعُلم ان المقصود بالسيارة القاتلة هو الضابط الاستخباري الكبير بعد انقضاء نحو ساعتين على الانفجار العاصف. فوسع الصحف اليومية المحلية معالجة «الخبر» عن الحادثة في غضون الساعات السبع أو الثماني التي أعقبتها. فالصحيفة ينبغي أن تطبع في الساعة الثانية صباحاً على وجه التقريب. وصباح يوم السبت، في 20 تشرين الأول، وُزّعت الصحف اليومية، وتصدَّرها «الخبر» العتيد.
فخصت «الأخبار» البيروتية الاغتيال القريب وقتاً بالغلاف وبأربع صفحات كاملة. وملأت الصفحات وغطتها 8 مقالات إخبارية ورأي، وزاويتان وأربع صور فوتوغرافية. وكتب المقالات «مراسلو» الصحيفة، أو أخباريوها المفترضون، ومعلقوها أو أهل رأيها. والحق أن المراسلين لا يحجمون عن أداء الخبر في صيغة رأي. ولا يتردد أهل الرأي في إبداء الرأي في صيغة خبر. فتمييز الواحد من الآخر ربما تحمله الصحيفة على تمويه وتدليس «موضوعيين»، أي على تشبيه الموضوعية في معرض ذاتي محض. ويلاحظ القارئ، على رغم حدسه في رأي الصحيفة هذا، أن إخراج المقالات الطباعي يصنف صنفين: واحداً مؤطراً (يُخص بالشبك الملون في الإطار رئيس التحرير المدير المسؤول رئيس مجلس الإدارة و «هم» واحد: ابراهيم الأمين، على زعم بطاقة تعريف الصحيفة في ص16 ويشارك زياد الرحباني الرئيس المثلث الامتياز)، ويعلو التوقيع بالاسم صدر المقال وعنوانه في حالي الرحباني والأمين. وصنفاً ثانياً يفترش الصفحة من غير إطار. وأسهمت بعض الصور في «العمل«.
وتوالى على معالجة الخبر والكتابة فيه أهل الصحيفة اليومية، على طبقاتهم ومراتبهم المختلطة. فكتب حسن عليق تفصيل الغلاف، أو الصفحة الأولى الموسومة بـ «اغتيال الرجل القوي» على «جبهة» وجه الحسن الساهم والممتلئ والجلي القسمات. وإلى يمين المقال الخبري و «الرأيي» إطار طريف ومختصر: «سيارة العميد تبخرت!»، في جزئه الأسفل صورة صبية كاملة الزينة ومدماة البلوزة. وثنى قاسم س. قاسم على التفصيل، فقرَّب مشهد الاغتيال الحسي ووصفه. وتوسطت لوصف نواته: «طار حيُّ ابراهيم منذر السكني القديم بأكمله». وبسط مقال ثالث، وقعته «الأخبار» جملة، الردود السياسية المباشرة على الواقعة، وأبرزها اثنان (في العنوان): «14 آذار الى الشارع، وميقاتي يفكر في الاستقالة»، وهما تقدما خبر الاغتيال على الصفحة الأولى. ويتلقف مقال الرئيس المثلث- إلى شمال الصفحة وعلى طولها ومؤطراً ومشبكاً وملوناً وغليظ جسم الحرف وأسوده، ويعلو الاسمُ العينُ «حاجب» الوسم، على خلاف الزعم السائر ان العين لا تعلو «على» الحاجب- المقالات الأربعة أو القطع الأربع. ويسمي الوسم المتصدر القتيل، أو يلقبه لقباً فروسياً متواضعاً، مخففاً ومحايداً: «الخصم المحترف والمثابر«.
[صناعة بهلوانية
والمقتطف في وسط العمود العريض يدعو، بين المزدوجات علامةً على الانتخاب، الى توسيع مسرح الحادثة، وتناولها من أطراف آفاقها البعيدة والمترامية، فيجزم: «يندرج اغتيال الحسن في مطلع الحرب الباردة الجديدة في العالم». وهذا من مصطلح الصحيفة اليومية ولغتها ومذهبها في تناول «العصر الحاضر» وحقباته (أو «تحقيبه» على قول بعض أعلام كتّابها) وسرد منعطفاته (أو «سرديته» على قول أعلام آخرين قد يكونون الأوائل أنفسهم). وكان «المراسل» الخبري، حسن عليق، عنون مراسلته السياسية: «وسام الحسن شهيد تليق به الحياة». وهذا الطباق من صور بديع الصحيفة، وهو الموروث من مدرسة صحيفة «السفير» الأم وإنشاء ناشرها التاريخي والمزمن «الأدبي». واقتصر قاسم س. قاسم على «اغتيال رجل الظل» عنواناً. فتوسط هذا «تبخر» سيارة صريع عصف المتفجرة»، إلى يمين الصفحة، و «طيران» حي ابراهيم منذر «بأكمله«.
ولا ريب في أن طباق «شهيد تليق به الحياة»- بين البَدَدَيْن المحكيين والعاميين القريبين من القفش، وفوق صورة مسرحية وجسدية أليفة (وهذا بعض تعريف فن الكوميديا) يتوسط فيها الضابط الكبير المبتسم بالبيريه الخضراء ثلاثة من أركان قيادة الأمن الداخلي أقربهم مديرها العام المهموم- هذا الطباق «الشعري» و «المأساوي» في الجوار وإيحاءاته الهازلة و «الشعبية» ينم بصناعة صحافية مترجحة وبهلوانية فوق ما ينم بهمّ الإخبار والإعلام والرأي. ويسبق هذا قراءة المقالات من بعض القرب، واستنتاجاتها أحكاماً و «خط» معالجة.
و «يروي» مقالان كتبهما نقولا ناصيف وأحمد محسن، في الصفحتين التاليتين (4 و5) من عدد الصحيفة نفسه، بعض سيرة القتيل الأمنية والإدارية الوظيفية والتعليمية في عين أخباري أمني وإقليمي، والتماعات من سيرة شخصية ومدينية حميمة. وتتوسط المقالين صورة ملونة كبيرة تردد أصداء العنوانين: «وسام الحسن... كأنه عاد إلى موكب الحريري» (ناصيف) و «أين ذلك الوحش الذي ركن السيارة؟» (محسن): حطام الطريق العام المهشّم، والحديد المتفحم والمتناثر، وأبواب المحال المبقورة، وجامعو الأدلة الحسية، ورجال الفرقة 16، والهاتفون في الخلوي، ومتصفحو الصور على شاشات هواتفهم... وتذيل الصفحة «سيرة الشهيدين» (في إطار داخل صورة المؤهل أحمد صهيوني)، والسيرتان نبذتان وزعتهما المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ومقال مولف يجمع بعض وقائع الاحتجاج الشعبي والحزبي على الاغتيال وقعته «الأخبار» جملة على شاكلة نظيره في الصفحة الثانية.
وتعلو الصفحة الخامسة، نظير افتتاحية الصفحة الثالثة، زاوية جان عزيز، من غير امتيازي مثلث الرئاسات وصاحب «بالنسبة لبكرا شو؟» و «فيلم أميركي طويل». ووسم الكاتب زاويته بجملة جوابية، وعبارة قانونية وأخلاقية «وجودية» (سارترية بعض الشيء): «لأننا كلنا متهمون». والتهمة الذاتية، الشجاعة ما اقتصرت القراءة على التصفح، والعامة تبدو جواباً عن سؤال أحمد محسن المتشنج والمنفعل: «أين ذلك الوحش...؟»، وتعليقة متعقلة على الصورة الكبيرة والملونة، والفاجعة، التي تتوسط الصفحتين، وتجدد المشهد الأخروي الذي أسفر عنه انفجار 14 شباط 2005 الساعة الواحدة بعد الظهر ويذكر مقال ناصيف به. ويطل كلام الزاوية «السياسي»، على دعوى «كيكر» العنوان المترفع على بعض التشاوف، على بقية الصفحتين ومقالاتها الأربعة «المنفعلة»، حكيماً وعلمياً ومتدبراً ثاقباً. وهذا يتخطى الشكل و «العناوين»، على ما يقال على سبيل الاستعارة في مسائل غير صحافية ولا إعلامية، الى الجوهر أو المضمون.
ويبني جان عزيز احتجاجه لعموم التهمة على مثال قياسي منطقي متماسك، من مقدمتين ونتيجة لازمة: 1) الجريمة الإرهابية (شأن اغتيال وسام الحسن، على ما يوجب صاحب الرأي، وعلى ما سبق أن أوجب بشار الأسد في اغتيال رفيق الحريري و..... ياسر عرفات في تشرين الثاني 2004) تتوسل بضحيتها المباشرة الى ذر الخلاف في «الأحياء» و «الإيقاع فيما بينهم»، 2) ووسيط الخلاف والفرقة هو «السياسيون الغربان» و «غربان الموت» و «جوقة المحللين»، ويجمعون على «الاتهامات الفورية» و «الجاهزة» و «الغزيرة»، وعلى «الاستثمار السياسي» في الجريمة، فهم آلة الإرهاب الموصلة، وعمدة تخريبها، 3) فما على الساعين الصادقين في «مواجهة الإرهاب» والراغبين في قطع دابره «عبر سياسات إعلامية واجتماعية و (سياسية) بمعناها الحرفي»، وليس كيفما اتفق وخبط عشواء، إلا إعمال (نا) «الحق (في) التزام الصمت»، واعتصامنا بـ «الواجب علينا جميعاً»، والواجب هو ما كان للتو حقاً (في الصمت) وما رفعته الجملة التالية الى مرتبة «الفضيلة»، قبل ان يعيده الشعار الختامي، «واجب الصمت» الى المنزلة المتوسطة بين منزلة الحق ومنزلة الفضيلة.
ودعوة الصحافي صاحب الرأي وكاتب العمود- في ختام كلام مزعوم في السياسة يتصدره زعم تعريف الإرهاب «التعريف العلمي والجنائي» على منهج «العلوم الجنائية والسوسيو- نفسية في عالم اليوم» (بلى! لا يُنقص الشاهدُ حرفاً ولا يزيد حرفاً)- دعوة الصحافي إلى الصمت، في ختام 5 صفحات و10 مقالات أولى في أعقاب ساعات من الواقعة، من باب العجب العجاب. فالدعوة صادرة عن صحافي مفترض ومعلوم الاسم والسمت والسيرة، الصحافة أي تسويد الصحائف والصفحات بالكلام على أصنافه وأبوابه ومظانه هو حرفته وشهرته او تعريفه. ومن هذه حلته (لباسه) وصفته (تعريفه) لا يحض على كلام صادق ودقيق يحتمل العرض على أصول التحقيق والمقارنة والنقد المتعارفة، جرحاً (طعناً) وتعديلاً (إقراراً بالعدالة)، على ما يحق ربما لقارئ صحيفة أن يتوقع وينتظر، ولم لا أن يطلب ويشترط.
[نسيان المدنيين
ولا بد أن تستوقف المفارقة الغريبة القارئ: صاحبُ قلم ورأي محترف يدعوه الى السكوت في معرض جريمة إرهابية وجواباً عنها. وتحمل المفارقة على قراءة الدعوة من جديد، فلربما لحق بعض الخلل مواضع متفرقة من القياس أو الاحتجاج، وأفضى من حيث لم يرد الكاتب الى الغرابة المُعلَمة والموصوفة. فيلاحظ أن «التعريف العلمي والجنائي» المزعوم للارهاب- وهو يتناول نتائج الاعمال الارهابية في المجتمعات السياسية المنقسمة وإدارة الانقسامات والمنازعات على وجه الاحتمال، وهذا لا شأن «للعلم» به يغفل الجانب السياسي والاجتماعي منه. فلا يقع القارئ على المعنى الفارق الذي يميز العمل الارهابي من العمل الحربي، وهو إيقاع القتل عمداً في «المدنيين» حين يكونون خارج دائرة قتال وحرب، ومنصرفين الى مشاغلهم. والمناقشات القانونية والحقوقية الطويلة التي تناولت حروب الغوار، والمقاومات الوطنية والشعبية، وأشكال الحروب غير النظامية المتفرقة، منذ تبلور صيغة الحروب الثورية والجمهورية الشعبية، «الكلية» أو العامة (على مثال النفير العام والتعبئة العامة)، وتتناولها الى اليوم، إنما كان مدارها على فصل دائرتي العنف المباح والامن المدني، الواحدة من الأخرى، وعلى جواز استدراج تأثير في مسرح القتال من طريق المدنيين وقتلهم وترويعهم.
ويعلم القاصي والداني أن سهم «العرب» في المناقشات هذه والخلافات المولودة منها، راجح. وليس من المصادفات العابثة تمسك السياسة الأسدية وألسنتها وأجهزتها بإباحة العنف على غاربه لمنظمات «المقاومة» و»التحرر» من حلفائها ورفضها حصانة المدنيين «الأعداء» في الداخل والخارج معاً ، من جهة، واختصارها السياسة الداخلية والاقليمية والدولية، إذا قدرت، في القتل والاغتيال الفردي والجماعي والاستدراج الى الاحتراب، من جهة أخرى. فنواة الارهاب هي إباحة المدنيين للقتل وذلك بناء على إبطال تمييز المدنيين من المحاربين. فمثل التمييز هذا يقيد الحرب والعنف، ويحول بينهما وبين الجموح الى أقاصيهما المدمرة، ويمهد من طريق مضمرة للسلم القادم، وللمفاوضات والمساومات وما تجره من خسائر لا تخلو من ربح وارباح لا تخلو من خسارة. فلا يشيح الجمهور، وتياراته السياسية المتنازعة، عن لائحة السلم و»الحل» السلمي...
والمفارقة العريزية و»الاخبارية» الثانية هي ترك الكلام على الارهابي القاتل والمفترض، ولو مجهولاً أو غائم الملامح والقسمات، والتنديد الحاد والجارح بمن يستدرجهم الارهاب الى التشهير به والتخويف منه، والى التوسل بحصاده الأليم والمخرِّب (المنافي السياسة) الى محاربته وإقصاء آلاته ومسايريه وشياطينه البكم («الصامتين؟») والفصحاء. وهذا من حقوق المنازعة السياسية، ومن حقوق الدفاع عن النفس. فمكافحة الارهاب «العلمية» و»السوسيو نفسية» تقضي بـ»قتل» السياسيين والصحافيين والمحللين إن لم يكن قتلاً مادياً، على شاكلة قتل وسام الحسن أخيراً، فقتلاً رمزياً ومعنوياً وأدبياً: قرفاً و»تقززاً» و»غثياناً» وتشهيراً أخلاقياً وتكذيباً ومساخر. فـ»اللوحة» التي يرسمها داعية الصمت الواجب لأنصار القتيل، ولمن كان القتيل نصيرهم، لم تتجنب عيباً ومثلبة، ولم تتفادَ بذاءة إلا وولغت فيها، وانتشت غير متسترة ولا مقتصدة بافتراضها والتلويح به على رؤوس الأشهاد. وهذا التشهير المنتشي بمسرحه ومحاكاته الحقيقية والحرفية كوميديا مفترضة يؤديها أنصار الضحية، لا يحتسب نفسه جزءاً من نتائج الارهاب المقصودة، أي من «الإيقاع بالأحياء«.
فعلى نحو الغفلة عن المدنيين في تعريف الارهاب، تنسب المقدمة الثانية في مقاصده شطراً من «الاحياء»، هم حزب القتيل، الى الحيوانات («الغربان») وأشباه البشر المنحطين (أهل الكوميديا والتمثيل). وهذه النسبة، نسبة شطر من الأهل و»الشعب» الى مرتبة منحطة و»عرق» أدنى، مدخل الى إباحة القتل والاستئصال وباب عليهما. وهي تستجيب نعرة عامية وشعبوية على «المناصب» و»البيوتات» (على قول خطيب «الحزب» في عمر كرامي ... مادحاً!)، وعلى زعماء الطوائف وأولاد «المترجمين» الواقفين على أبواب سفارات «الرجل الابيض» (حسن عليق)، تتشاركها أجهزة التعبئة في الجماعة الحرسية المسلحة والشيعة العونية الخلاصية وأفواج «باسيج» المحرومين ومثقفي مقاومة «المرابطين» الحمدانيين، وأصحابهم. والنعرة هذه عقيدة لبنانية جامعة تحشد أهل الثارات والضغائن من الجماعات كلها، وتقرهم على عدالة رغباتهم واستقامتهم، وتنسب خصومهم ومخالفهم الى اليزيدية و»القاعدة» وبيلاطس والسياسة.
[الغمز
وينتهي المتكلم في السياسة، والعالم البحر في العلم العلمي والجنائي وأركانه «السوسيو نفسية» (لماذا العفاف عن « - البسيكولوجية»؟ فالسوسيو- بسيكولوجية أو البسيكو وسوسيولوجية كانت لتليق بعلم المصطلحات العزيزي) وتقنياته (وهذه أبواب ومطالب على عدد حجرات «الف ليلة وليلة»: مفردات وتعابير ومعان ومدلولات ونوع متفجرات وحجم وعصف ومصدر وما ينجم وما يشبه وما يقارب وما يناقض... ما هذه الغزارة في العلوم يا شيخ؟ وكيف تُشكر على إنعامك بها على قارئك الفقير؟) ينتهي الى دعوته الفاضلة والكريمة الى حق وواجب وفضيلة يوقعها على الصمت، على ما مر. ويعرج في الأثناء، من طرف خفي، على وسام الحسن. والمقال لا يذكره بالاسم مرة واحدة، ولا بالصفة غير هذه المرة، بعد لائحة «التقنيات» المزعومة. فيقول فيه إنه «صياد رؤوس». وهي عبارة ملتبسة حين يكنى بها عن موظف أمني يعمل في إطار جهاز رسمي. ولعل هذا ما أراده الكاتب الصامت، الالتباس والغمز. وهو ربما يغمز من «صيد» شعبة المعلومات ميشال سماحة وعلي المملوك وبثينة شعبان والعقيد عدنان وربما جميل السيد وهم يحسبهم العالم التقني الجنائي «رؤوساً»، وكان طعن في «عار» تهمتهم في مقال «سياسي» سابق، في زاويته وصحيفته.
وعلى المثال إياه، يمدح صاحب الرأي أصحابه و»خطوات تضامن جماعي فعلي» خطوها وحدهم، على خلاف الغربان المسرحية والتلفزيونية، على «أرض الجريمة». وهو يلمح، حيياً وعفيفاً وممسكاً على عادته، الى مبادرات العونيين المحليين «التعاونية» التي لا يبتغى بها إلا وجه الكريم، في معرض كلام محتدم في الانتخابات الآتية، وفي الترشح الى المقعد الارثوذكسي بالاشرفية، أرض الجريمة والتضامن السري اتفاقاً. ومن طرف لا يقل خفاؤه عن خفاء التعريفات والعلوم والانتقالات الحافلة، ينتهي المقال الى جملة مفتاحية وختامية، وسم بها «كلامه» الجوهري والكرشوني معاً، وقع عليها أو وقعت عليه وحياً وإلهاماً:»لأننا كلنا متهمون». وهذا الختام، ومسكه، لا أثر له (أو لهما) في المقدمات العلمية الغزيرة والمتبحرة، ولا في الغمزات والاشارات والتلويحات المبثوثة في الثنايا والمنعطفات والمتفرقات. فمن «نحن» الغريبة هذه؟ ولماذا النصيحة بالصمت جواباً عن تهمة عامة؟
فينصح بالصمت، ويذكر بالمتهم المظنون حين توقيفه وتنبيهه الى حقه في التزام الصمت (على ما يرى جمهور التلفزيون مرات لا تحصى في المسلسلات الاميركية البوليسية اليومية، ولكن علم جان عزيز بهذا يرويه ويحمله على «أصول المحاكمات الجزائية الغربية»). وهذا الحق جزء من تحصين المظنون من تعسف التحقيق و»إرهاب» قوة الشرطة. فهو قيد مدني (متمدن) على السلطان الديموقراطي وذراعه القضائية، في انتظار التحقيق وشهادة الشهود، واستنطاق القرائن، ومرافعة الأضداد، والمداولات، علناً وجهاراً في معظم الأوقات. ولكن هذه الترهات والسخافات الشكلية تتهاوى وتتبدد في حضور سياسة واقعية تسوس «الناس» سوسيو نفسياً، ولا تعير الى القضاء والحق والقانون غير انتباه لفظي. فنحن «متهمون» بخطيئة أصلية لم نقترفها. وعلى أبواب «العلم» الميتافيزيقي المكنون يحجم العامي ويقف.
وإذا أوكلت الصحيفة الى قلم محلق ومهوم ومشبّه التلفظ بمبدأ محبب الى السلطان الجائر يقضي بإعدام الصحافة والاعلام هو مبدأ «واجب الصمت»، فهي احتفظت بـ»الحق» في الكلام المتمادي، وزاولت هذا الحق وباشرته من غير اقتصاد ولا إمساك. فإذا استحال الصمت، خارج الدعوة المراوغة، فليقصد الكلام الكثير والملتوي غاية تثبت استحالة قول أو رأي أو خبر مستقيم أو نزيه. فيكتب حسن عليق في عدد الصحيفة نفسه، تعريفاً بالقتيل يمدح «عقلانيته». وتسبق المديح صورة قدرية يبدو فيها الحسن «مستهتراً» مقبلاً على موته قتلاً، وساعياً فيه، ومسؤولاً عنه على قول العماد ورفيق السلاح السابق ميشال عون العائد من كرازة رعيته الاسترالية. ومن أمارات عقلانية هذا القدري الحشوي توليه «التواصل» بين سعد الحريري وبين «حزب الله» و»التنسيق الأمني» بينهما. ودلف الرجل من هذا الباب الى «إعجاب متبادل»، وإلى هدية (كالاشينكوف) ذهبية «اللون»، اللون وحسب، أهداها إياه خمِّنوا من؟ «سماحة السيد»: «أجاب (الحسن) بابتسامة طفل بعد فترة صمت. (والحسن) لا يتحدث عن الأمين العام لحزب الله إلا ويستخدم هذه الصفة». هاتِ الكلينكس يا حفيظ!
وهذه فضيلة راجحة تحسب له، إلى فضيلة ثانية هي رفضه الغريزي والتلقائي («لم يكن يفكر مرتين»، في عربية «الاخبار» الاصيلة) «ما كان يريد بعض (أصدقائه) أن يفرضوه عليه». وإلى فصيلة ثالثة: «لم يعتد... الانحناء أمام استخبارات الرجل الابيض». وينتهي هذا، من طريق مبهمة لم يعتم عليق ان تولى توضيحها وشقها في عدد لاحق، الى كثرة أعداء رجل الامن الكفي وجواز كثرة القتلة غير المحتسبين انحيازاً، وإلى استدارك طريف: «ليس هذا القول ذريعة لإضاعة دمه بين القبائل». ولكن من ظن في الكاتب أو في الصحيفة نية مثل هذه؟ فهو، حسن عليق، استرد الدم المسفوح من «الضياع» الذي تهدده بعد عشرة أيام على الاغتيال. فكتب في «قضية اليوم»، في 30 تشرين الاول (ص2) أن رئيس الاستخبارات الاردنية ووزيراً «على صلة بأجهزة الاستخبارات الاردنية» أخبراه «كل منهما على حدة»، مبالغة في التحوط وتكثيراً لطرق النقل :» الاسرائيليون لا ينظرون بعين الرضا إليك». وانفرد أحدهما بالقول: «عليك أن تكون حذراً، حتى في أوروبا»، فيصدق أن الاثنين ليسا واحداً.
[«الاتهام المسبق»
ويخرج عليق من الابهام و»التضييع» الى تسمية «القبيلة» صاحبة دم القتيل بالاسم: «ان الاسرائيليين يريدون رأسه»، ويؤيدهم الكونغرس الاميركي. وجهاز الاستخبارات في دولة الامارات العربية المتحدة، ووكالته الفرعية بأبوظبي على رأسها من ضبطت كاميراته قتلة الكادر الفلسطيني في الجرم المشهود، سبقت الاستخبارات الاخرى كلها: أبلغ الحسن «إمكان تعرض ضابط رفيع المستوى في المديرية العامة لقوى الامن الداخلي لعملية اغتيال بسيارة مفخخة في منطقة الاشرفية، على الطريق...». وخلا بلاغ «الإمكان» من نوع السيارة المسروقة ولونها ورقم لوحتها المزورة ورقم الهيكل («الشاسي») ومن اسم سائقها أو راكنها. ونسب بلاغ «الامكان» إعداد العملية الى ... «القاعدة». وهذا ما سها عنه الحسن الساذج، فحسب أن الجهاز الاستخباري السوري هو الذي يعد العدة لقتله، بينما الجهاز مشغول في تيسير انتقال آل طلاس الى أوروبا، ورئيس الوزراء الى الاردن، وفي «تنظيف» سوريا، على قول الرئيس المحبوب، من مبغضيه الحاقدين.
ولم يقتصر التمهيد لدحض «الاتهام المسبق» الذي ذهب العميد فاللواء القتيل ضحيته، على حسن عليق البعيد النظر. فأسهم ثاقب نظر آخر متمرس، وطويل الباع، هو نقولا ناصيف، في الخروج من «الاتهام المسبق» الكريه، وعدو «الاخبار» الاول، ونقيض صحافتها وإعلامها المنفتحين على آفاق كثيرة لا يفطن من مهنتهم الفطنة والاحتراز إليها: إسرائيل، الكونغرس الاميركي، «القاعدة». وذلك على رغم بلاء خطيب الجماعة الخمينية المسلحة في تظهر تعقبات اسرائيل غير السياحية ولا المجانية، جواً وبحراً، الساحة والشعاب الحريرية. ولما كانت سيرة رفيق الحريري وقضاؤه المثال السردي والسياسي البهي، روى صحافي «النهار» السابق عن مصادر «قليلون» من تسر إليهم بعلومها، من غير «سوسيو» ولا «نفسو« ولا جنائيات، أن بشار الاسد «سأل عن (وسام الحسن)، في لقائه الثاني بسعد الحريري.
وبين كتمان وإعراب، على ما يقتضي عمل البوليس وخبره، «أفصح» الحسن ولا تسل لمن أفصح، بل افترِضْ غير مكذَّب أن كاتم سره الى غداة مقتله، ليس إلا المسكين لربه المتواضع الى «مصادره» ان اللقاء «استغرق أكثر مما كان متوقعاً». فعلامة وقف قرينة على صمت طويلة، ثم الخبر الصاعق: «أكثر من ساعة». فيقطعه صمت ليستعيد القارئ رشده من الصعقة التي أصابته. فتفصيل الساعة المتطاولة إلى اكثر منها: «سأله الاسد عن الكثير من مهنته وحادثه بلطف في مسائل شخصية تتصل بحياته وعائلته». وبادل هو السؤال الكثير، والمحادثة باللطف، «فتخلص» الضابط المحترف من حسبانه، المسبق بديهة، أن سوريا انتزعت منه «الرئيس السابق»، أي رجع في رأيه أن بشار الاسد أمر باغتيال رفيق الحريري المتحفظ علناً عن تمديد ولاية إميل لحود «صنيعته ومولاه». فهل يعقل أن يقتل بشار الاسد من استقبله «أكثر من ساعة» وسأله وحادثه؟ دام استقبال حافظ الاسد خليل عكاوي 4 ساعات تامة بقصر المهاجرين في ربيع 1984، واغتيل عكاوي بعدها بثلاثة أسابيع. وسأله الاسد الاب كثيراً عن باب التبانة، وعن عائلته وأصحابه، واحداً واحداً، وولداً وولداً...
وعلى من لم يضيِّع «الطاسة» التي يستقي بها من معين الاخبار، ونبعها الزلال، الرواح الى النبع: المثلث الرئاسات «الاخبارية». فابراهيم الأمين يقفز بخفة الدوري من بطنة (نوع من الشجر الكثير و»العبي») «الحرب الباردة الجديدة والمتجددة في العالم: الى كشنة (نوع آخر من الشجر يفوق السابق كثافة) «حروب وفوضى دموية... من تحت (الحرب الباردة)»، فإلى حقل بلان «آخرين، من خارج طرفي النزاع (يلعبون) على التناقضات وتوجيه الرسائل، أو حتى إدارة الدفة من وجهة الى أخرى». وكان الضابط الصريع يتولى، في قلب «الفوضى» الجهنمية التي لا يبالي مقاتلها وقع الموت عليه أم وقع هو على الموت، «استثمار الفوضى»، مفوضاً من «الجبهة التي تقودها الولايات المتحدة ودول عربية وإقليمية»، في سوريا الاسد الممانعة والمتصدية. فكيف تخليص خيوط «تحقيق جنائي امني دقيق» من غابات البطن والكشن والبلان الفوضوية هذه؟ ويقطع هو نفسه دابر مثل هذا التحقيق، فينيطه بـ»جهة قضائية لا تديرها الولايات المتحدة» (افتتاحية 22/10)، على شاكلة المحكمة المختلطة التي أدماها طعن وزارء بشار الاسد، وقادة الحرس الثوري، وألسنة الجماعة المسلحة بلبنان ومحرر الشؤون القضائية في «الاخبار»، فيها.
وينتبه رئيس التحرير، قبيل الترحم على «الخصم»، إلى انه لم يحصِ الاسلاميين المتشددين» في عوامل «الفوضى». فيلحقهم باللائحة على عجل. وكان مر، ملمعاً، بـ»أمور كثيرة، سياسية وغير سياسية»، وهذا جلي ولا يحتمل التأويل، «ساعد» الراحل فيها رفيق الحريري. وفي عدد 24/10 من الصحيفة، يتصدر الصفحة الاولى «سر الاعلامية في جريمة الحسن». والسر هو «قضية اليوم» بقلم «المحرر» والمخبر ابراهيم الامين (من غير اطار ولا شبك ولا لون ولا توقيع فوق العنوان). وبعد كلام «عزيزي» في اصول التحقيق الحسية، والعبوات وأحوالها، وفي خفايا الامور الباطنة مثل:» ان التحقيقات جارية الآن لمحاولة التعرف الى هوية الاشخاص الذين ظهروا في الشريط» (هذه الفطنة كلها يا ... سيد!)، يروي العالم بما لا علم للجمهور به أن «الحسن كان قد تواصل مع اعلامية لبنانية واتفق معها على لقاء في مكتب الاشرفية السري...» وهذا خبر مهني وليس «غير سياسي». والاعلامية «كانت مصدر معلومات للحسن»، ومن ظن الظنون أثم وعليه إثم الأكارين. وليس على قارئ «الاخبار» إذا استبهمت عليه الامور في ضوء قراءة الصحيفة الكاشفة، إلا لوم حسبانه أن قارئ الصحيفة إنما يقرأ ما يكتب وليس ما يخفى بين السطور أو يتراءى طيفاً على سطح لجة مراوغة لا قاع لها


 http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=82608