الاثنين، 23 أغسطس 2010

محكمة جمهورية مدنية في عهدة ماكيافيلي

الاحد 22/8/2010
يزعم صاحب الفكر الجمهوري المدني الحديث أو المحدث، نيكولو ماكيافيلي، ان الذين يدينون الاضطرابات الناجمة عن منازعات العامة والأشراف في روما الجمهورية، وهي دام عهدها أو نظامها سبعة قرون تامة، ويذمون هذه الاضطرابات ويطعنون في الهيئات السياسية التي تبيحها و "تلدها"، إنما يغفلون عن مؤاتاتها الحرية. فالمنازعة بين الأشراف، أو طبقة الحكام، وبين العامة أو العوام، أو طبقة المحكومين، هي "السبب"، على قول "السكرتير" والديبلوماسي الإيطالي الفلورنسي، في "حرية روما" (أو "الحرية في روما"). ويخلص صاحب "الأمير" – وهو في معرضنا صاحب "المقالات في الفصول العشرة الأولى من تاريخ طيطوس ليفوس"، أو "المطارحات" على ما نقلت الى العربية قبل خمسة عقود – الى قانون يتخطى روما، مثال فن السياسة والإدارة والحرب في عصر النهضة الأوروبية، الى عموم الدول: "في كل دولة من الدول، ثمة وجهان مختلفان، وجه (ييمم إليه) الشعب ووجه (ييمم إليه) الكبراء، والقوانين التي تؤاتي الحرية وترعاها إنما هي وليدة خلاف الوجهين وتقابلهما" (الكتاب الأول، الفقرة الرابعة).

مديح الاضطرابات

ويدعو أحد أوائل نشطاء الفكر (أو "المثقفين"، على المعنى الأوروبي، غداة التجديد والنهضة والإصلاح الديني ونشأة الدول الإقليمية) الدول، وأنظمتها وأهل قوانينها وشرائعها السياسية، إلى توكيل العوام، ومن يمثلونهم وينوبون عنهم، بالوجه الذي يتولى رعاية الحرية وقوانينها. وهو يتحفظ عن توكيل الكبراء والأشراف بالرعاية هذه. فهم يشتهون السلطة، أو السلطان شهوة حادة تحملهم على سحق العامة، أو الشعب، وإلغاء القوانين التي ترعى الحرية وتؤاتيها، بينما تقتصر رغبة العامة، أو هواها السياسي، على "ألا تقهر". ولا يخلص ماكيافيلي من صفتي الهويين السياسيين – رغبة العامة في ألا تقهر، ورغبتها في تحصيل ولايات تخولها التمكين لدورها، ورغبة الكبراء في ملك السلطة وتعظيم ولاياتهم وأعمالهم – الى حسم ميله. فينبغي احتساب دور عامل آخر هو نازع النظام السياسي، إما الى التوسع، شأن روما، وإما إلى تثبيت المُلك وأركانه شأن اسبارطة والبندقية. فالنازع الى التوسع والفتح يدعو الى إشراك العامة في السلطان وثمرات التوسع. ويقتضي هذا الإقرار للعامة بمصالح منفصلة ليست مصالحَ الكبراء، بل تزاحمها وتنافسها.
وتنشأ الاضطرابات عن المزاحمة والمنافسة، على نحو ما تنشأ الفتوح والقوة والفرص السانحة والجديدة. ولكن إرساء هيئة الطعن (او التهمة) في سعي (أحد) الكبراء في الاستيلاء على السلطة، وتوكيل خطباء العامة بتوجيه الطعون، ومحاكمة المتهمين على رؤوس الأشهاد، لجم الكبراء، وحال بينهم وبين التطلع الى الاستيلاء وتجنيد المرتزقة واستدراج المساعدة الأجنبية. ويحمي توجيه الطعون علناً المطعونين من الاغتيال، ومن الشغب والهرجات. ويحمي المدينة، أو الدولة، من ظهور الشيع و "الأحزاب"، أو العصبيات المتناحرة، من الاستعانة بالمدن الأجنبية، وشراء المرتزقة. فقيود الطعن العام والعلني هي قيود "المجتمع المدني"، داخل الدولة، على سلطان الحاكم المتمادي. والحؤول دون اضطلاع المجتمع بتقييد صاحب السلطان، كبيراً مستولياً أو كبراء متعصبين عصبة مسلحة، باعث قوي على انهيار الدولة من طريق الانتصار بقوة أجنبية أو مرتزقين جوالين يبيعون قوتهم العسكرية لقاء أجر، ويستوفون أجراً إضافياً إذا أنسوا ضعفاً من الذين اشتروا خدمتهم، فينهبون المدينة التي استضافتهم، وطلبت مظاهرتهم ومساعدتهم.

محكمة الطعون

والطعن ينبغي ان يكون حراً ومطلقاً من قيد المرتبة، فيجوز الطعن في كبار الأشراف، وقادة الجيوش والفتوح، "من غير خشية ولا احترام". وهؤلاء هم الأقرب الى المطاعن والتهمة. ويفترض الطعن أو يشترط "مواجهات (أو مقابلات) حقيقية وتدقيقاً في العلل والظروف والوقائع تؤدي الى جلاء الحقيقة وأظهارها" (1/8). والطعن هو خلاف الإشاعة المغرضة، والنيل من السمعة والصيت، ونقيض الغيبة و "أكل لحم الأخ الميت"، على ما جاء في التنزيل. والمقارعة على الملأ، في محكمة الطعن، هي دواء الغيبة وكلام السوء والتعريض والغمز. ويخرج جسم الدولة السياسي من الطعن معافى، دين المطعون أم دين الطاعن، على خلاف حاله في الغيبة والغمز واللمز. فعلى الشارع، أو المشرع أو الهيئة التشريعية، إلزام مطلقي ألسنتهم خفية، ومشيعي الإشاعات والأخبار والهمسات، الاحتكامَ الى محكمة الطعون، وأصحاب ادعائها من خطباء العامة.
والأصول الماكيافيلية، الجمهورية المدنية، لا تنشئ "علماً" بالسياسة أو بالسياسيات، على قول قديم. ولم يزعم الرجل الموصوم بأبشع الوصمات، "الماكيافيلية"، ان مقالاته أو مطارحاته ترسي معايير علم أو عمل في باب لا تُبلغ فيه درجة الاجتهاد والرسوخ في العلم (درجة "الدكتوراه" في علوم اللاهوت والقانون الكنسي) ولا ينبغي لأحد أن يتوقع بلوغها، على قول اميرال فرنسي بروتستانتي عاش في النصف الثاني من القرن السادس عشر ولم يدركه ماكيافيلي. ولكن ما أرسته المقالات الماكيافيلية، على أحد وجوه تأويلها الكثيرة والمتنازعة، هو تماسك الغايات والوسائط السياسية، وترتب وسائط ووسائل بعينها على غايات دون غايات. فنشدان الحرية سائقاً أو هوى سياسياً أول أو متصدراً يرتب تقديم قوانين وهيئات ومصالح على أخرى. وتقديم قوانين وهيئات ومصالح "حُرِّية" على خلاف استبدادية، في لغة أوائل القرن العشرين بمصر، يلزم عنه ضرب من السياسات الداخلية والخارجية، على قولنا في لغتنا المعاصرة.

وحدة الدولة المستحيلة

ولا يذهب الفلورنسي الأشهر ربما الى ان المذهب الجمهوري المدني، والجمهورية هي صنو الوطنية والعامية و "دولتهما" معاً، هو الأمثل عموماً. وهو يراه خير المثالات، بعد ان يستخرج عناصره وعوامله من حوادث متفرقة معاصرة وقديمة ويوجب لحمة العناصر والعوامل هذه ويبنيها بناء "صناعياً"، قياساً على احوال إيطاليا المعاصرة، وعلى غايات يفترضها، ولا يرى احتمال بلوغها من غير طريق الجمهورية المدنية. وهذه حال من أحوال تماسك الغايات والوسائط السياسية، وترتب وسائط ووسائل على طلب غايات دون أخرى، على ما سبق الإلماح للتو.
ويدعو هذا صاحب "الأمير" و "المطارحات" و "فن الحرب" و "تاريخ فلورنسا" الى تبديد "مزاعم" في السياسات لا تستقيم السياسة الجمهورية المدنية مع رواجها والإيهام بها أو تصديقها. والزعم الأول والأساس هو تشبيه وحدة الشعب (العامة) والكبراء (الحكام أو السلطان)، وادعاء حقيقة هذه الوحدة. فيذهب الجمهوري المدني الى ان الدولة، والسلطان السياسي والاجتماعي تالياً، تفترض حاكمين ومحكومين، او مسيطرين وصادعين بالسيطرة، على قول ماكس فيبر، أو أولياء أمر ورعية و "ناساً". والسياسة (الأمر) تنهض على القسمة هذه، أو الانقسام هذا. ولا يزعم لأمَ الانقسام، و "مداواته"، وختمه على ما يقال في الجروح، إلا أهلُ السلطان المتمكنون والمحافظون والقاهرون. ولا ينفع في التستر على الانقسام نصبُ السلطان، وموقعه أو محله، "ممثلاً" للشعب، ونائباً عنه، ومكلفاً الدفاع عن مصالحه، على ما زعم الشيوعي الإيطالي انطونيو غرامشي في "امير(ه) الحديث". فالمحلان، محل الحاكم ومحل المحكوم، كائناً من كان شاغلاهما والقائمان بهما، هما على طرفي تقابل (وليس نقيض، على ما يأتي القول) ومنازعة تكوينيين، على قول لاهوتي وغيبي في الإمامة وحكمها وسلطانها.
وعلى هذا، فـ "وحدة" الدولة – أرستقراطية يحكمها الكبراء والأشراف أم بروليتارية يحكمها من لا يملكون شيئاً (على معنى "بروليتاري" الأول) أم بورجوازية تعود الولاية عليها الى اصحاب المصانع والمصارف والتجارات أم دينية ثيوقراطية أسيادها مدبرو روابط الأرض والسماء – هذه "الوحدة" لا تقبل التحقيق ولا الإنجاز، ولا تبلغ غايتها. فهي، في الأحوال كلها، وحدة "رمزية" أو معنوية، ولا تردم الهوة المتجددة بين الحاكم والمحكوم. فالرغبتان اللتان تحدوان أهل السلطان المتربعين في سدة الحكم وسواد الناس المنفيين من الحكم، لا تشتركان في "موضوع" واحد، ولا تسعيان في غاية واحدة. وعلى المثالين المختلفين كتب ماكيافيلي كتابين لا تجمعهما "الدولة" الواحدة: "الأمير"، وهو كتاب في السلطان ومحله، و "المطارحات" أو "المقالات" وهو كتاب في العامة ودخولها المتحفظ في الدولة من باب إرادتها ألا تقهر.

النقض على السياسة

وفي ضوء ركن الانقسام، وصنوه ركن المنازعة، تظهر محاولات التوحيد، الوطني القومي أو الديني الاعتقادي أو الاجتماعي، على حقيقتها. فهي كلها تنزع الى نفي السياسة في حلتها الجمهورية المدنية المحدثة والناشئة عن تقييد أهل "الدولة". وتنزع كلها إلى إبطال قيام السياسة على الانقسام والمنازعة. والنازع المزدوج هذا يسميه بعض المحدثين "نقضاً على السياسة". وليس معنى هذا ان إنكار الهوة بين الحاكم والمحكوم يخالف جوهر السياسة أو ماهيتها الواحدة. فالمذهب الجمهوري المدني لا يُثبت جوهراً ولا ماهية. ولكنه يلاحظ أو يقرر انعطافاً في تاريخ السياسة وصورها ومبانيها. وآية هذا الانعطاف، أو مَعْلمه هو دخول العامة، من غير أهل السلطان والحكم، عاملاً مباشراً في تقييد السلطان، وفي تعريف نمط جديد ومختلف من "التوحيد" السياسي ووحدة الدولة والأمة. و "الثورة الديموقراطية" الأوروبية، وتعود بداياتها الى أوائل القرن السادس عشر الماكيافيلي واللوثري البروتستانتي ولم تبلغ نهاياتها بعد، هي سياقة دخول العامة عاملاً مباشراً ومتعاظم الأثر في تعريف مباني السياسة تعريفاً جديداً. وليست النزعات الكليانية (الشمولية أو التوتاليتارية)، وهي غير الاستبداد التقليدي على صوره وأشكاله القاسية، وغلبتها على النصف الأول من القرن العشرين غداة العولمة الأولى والحرب "الكونية" غير المسبوقة، إلا "أجوبة" معاصرة ومحدثة، عن تداعي "التوحيد" وصوره الاجتماعية والسياسية والقومية والدينية والثقافية.
وتسعى هذه "الأجوبة" في "علاج" الانقسامات المتكاثرة والمتفاقمة الناجمة عن الديموقراطية ونظام معاشها الرأسمالي والسوقي. فهذان، الديموقراطية ونظام المعاش الرأسمالي، ينتجان الانقسام والمنازعة، والعامة تالياً، "إنتاجاً" متعاظماً وعريضاً. فتغلب عوامل التفريق والشرذمة (على) عوامل الوحدة الرمزية والوظيفية. وتصيب غلبتها الجمهور والعامة بالذعر والقلق من تداعي آيات الوحدة (المفترضة) المفقودة والآفلة. وتصيب "الطبقات الحاكمة"، القديمة والجديدة، بالدوار والهلع من خسارة إواليات التوحيد والدمج والسلطة فاعليتها ونفاذها. والحركات الشعبوية والقومية الغالية هي جواب العامة المعاصر والثوري عن غلبة عوامل التفريق والشرذمة والتجريد من معالم الاستدلال على أركان العمران الأليفة. و "اليهودي"، يهودي "بروتوكولات حكماء صهيون" هو مطية هذه العوامل ومناطها. والإمبريالية، الاقتصادية والعسكرية، هي رد "الطبقات الحاكمة" على ضعف إواليات التوحيد والدمج والسلطة التلقائية من طريق السوق. ويُعمِل الجوابان اللذان وَلَدا "الديكتاتورية" الشيوعية و "الديكتاتورية" النازية – على تباينهما وربما استحالة تنميطهما في مثالين أو مثالات معقولة – يُعملان عوامل وموارد متاحة في المجتمعات الممتحنة والمتفرقة.

الولاية والقيادة والمقاومة

ونزعات التسلط تيمم نحو علاج "امراض" التفريق والتجريد ووهن إواليات التوحيد والدمج من طرق الشعبوية والقومية والعصبية الدينية الغالية و "الإمبريالية" المتعسكرة، ولو لم تبلغ، في البلدان المستتبعة والملحقة، "الغاية" الكليانية ومقصدها "الناجز"، واستحال عليها بلوغهما (الغاية والمقصد). وهي تتوسل الى إعمال سلطانها إعمالاً يعود عليها بالجدوى القصوى بواسطة نقض معلن على السياسة الجمهورية المدنية، ومن طريق إنكار مرير على الانقسام والمنازعة. ويقودها منزعها الى إعمال سلطان غاشم وشامل ولا راد له أو عليه في "المجتمع المدني" وجماعاته ومرافقه، الى نفي الانقسام والمنازعة ومواردهما وتظاهراتهما من العمران وطرق المعاش، وبالأحرى من الدولة والسياسة. و "ولاية الفقيه" و "الحزب القائد" و "المقاومة" هي من تظاهرات النقض على السياسة الجمهورية المدنية وصورها في بعض المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة.
فما تسعى هذه الصورة في نفيه نفياً محموماً، وفي اجتثاثه من المجتمعات أو أجزاء المجتمعات التي تتسلط عليها، هو جواز قيام مصالح وأهواء خارج دائرة السلطان وعباءته، وجواز تطرق المنازعة الى علاقة المجتمع بالسلطة أو الولاية أو القيادة. فينبغي، على زعم أهل السلطان وعلى حالهم أو أحوالهم ومزاولتهم سلطانهم، ألا ينكر عليهم أحد، فرداً أو جماعة أو جزءاً من جماعة، جمعهم مصالح "الكبراء" وأصحاب الأمر، ومصالح العامة أو الشعب، في واحد مرصوص. ولا تعليل، على هذا المنطق الفولاذي، للتحفظ أو الإنكار، أو لإثبات مصلحة منفصلة أو هوى منفصل، إلا العداوة والحرب. وإدارة السياسة على (تعريف) الصديق والعدو، على ما جرى صغار مدبجي المقالات السياسية وكبار خطباء الجماهير وقادتها، ومن ورائهما جيش لجب من ضباط الاستخبارات والدعاة و "الكوادر" والمبلّغين والموظفين – إدارة السياسة على جدولة الأصدقاء، وهم الصديق، والأعداء، وهم العدو، جدولين متقابلين تعود الى التقليد اللاهوتي النازي واللينيني – الستاليني هذا. والعودة (في "تعود إلى") ليست نقلاً، ولا اقتباساً خارجياً أو "تأثراً"، بل هي نشأة ونبات في دائرة ومسرح اجتمعت فيهما حوادث تشترك مع الحوادث الأوروبية المعاصرة في سمات متقاربة تقدم إحصاء أبرزها واخطرها.
وعلى هذا، فلا منازعة جائزة، لا سياسية ولا إعلامية ولا اجتماعية ولا ثقافية ولا قضائية ولا فردية شخصية ولا جمالية ذوقية ولا اقتصادية، "في" الدولة أو داخلها، أي داخل السلطة أو داخل المجتمع، ولا انقسام (تالياً أو أولاً) داخلياً. فخط الانقسام يفصل اضطراراً، الدولة الواحدة، دولة "الأمة" أو شطرها الذي يمثل عليها تمثيلاً مستوفياً، من العدو وعنه.

الواحد والعدو

ومصالح المحكومين، أو الرعية والناس، وهي في المرتبة الأولى تقييد القهر والتعسف، والنقض على السلطة المطلقة، والاحتكام إلى العلانية والقوانين، هذه المصالح، "الحُرِّية" هي، في اعتقاد الولي الفقيه والحزب القائد والمقاومة، حرب على الدولة والأمة وعلى وحدتها المادية والقسرية التي يمثِّل عليها الجهاز الحاكم ويجسدها من غير بقية. فتعالج الانقسامات من طريق إيجاب التوحيد المحموم والتسلط "الإمبريالي"، على طريق "ديكاتورية" فظة تترجح ملامحها الكليانية بين ظهور وانكفاء. فيسوغ التعسف المدمر بذريعة مصالح الأمة الاستراتيجية. ويصور العدوان اليومي، والتسلط، والفساد والإفساد، والتعسف، والسطو والخوات، والقتل، والسجن في صورة الحلف القومي. وينكر ان الحال هذه تدعو الى افتراق المصالح داخل البلد الواحد، وإلى قيام جماعة على جماعة دفاعاً عن مصالحها، أو قهراً لجماعة أخرى تنزع الى حماية مصالحها. وتلد الحال هذياناً يدعو الى الضحك المجلجل لولا ولادتها (الحال) وولادته (الهذيان) حياة شوهاء وشمطاء.
ولعل المسرح الإيراني، منذ سنة وبعض السنة على وجه التخصيص، والمسارح الفرعية أو الجزئية في فلسطين ولبنان وجوارهما وفي باكستان وأفغانستان و "قواعد الجهاد" في مواضع كثيرة، على مقادير متفاوتة، هي من ولائد "دولة" من غير انقسام ولا منازعة. وقاد هذا الى سرقة الولاية الإيرانية انتخابات تولت هي الدعوة إليها، ومراقبتها، وفرز مرشحيها وترتيبهم. فانقلبت الولاية على قوانين سنتها. وجهرت من غير خجل توسلها بها الى تشبيه الإجماع. وقتلت من غير تردد، على سبيل المثلة والترهيب، من ولدوا في أحضانها، ولم يعرفوا غيرها إدارة ونظاماً. ونسبت شطراً كبيراً من طاقم حكمها الى "العمالة" والمال الأجنبيين والعدوين. وأخرست بعض أبرز مراجعها وأئمتها. وسخرت إعلامها خادماً صاغراً وذليلاً لمزاعمها وكذبها وتخرصاتها ودعاويها. وأما وكالاتها و "حلفاؤها" وأذرعها الأمنية والتنفيذية والمالية و "الثقافية" هنا وهناك، فحملتها على انشقاق وفرقة ليس بينهما وبين الارتزاق والاستعانة بالأجنبي، على قول ماكيافيلي، فرق. وتترتب عليهما حروب "إيطالية". وتدعى الوكالات المحلية الى خوض الحروب "الإيطالية" هذه على مثال حروب التوحيد والتحرير الوطنيين... والماكيافيليين.

الجمعة، 20 أغسطس 2010

نهج مسبوق في فهم الاستقصاء يزدري مادة الجريمة

الحياة 18/8/2010

المقارنة بين التحقيق الاستخباري الناجز وبين التحقيق القضائي والجنائي الطويل وغير الناجز الذي توالى عليه قضاة تحقيق محترفون تدل، من غير إعمال الذهن، الى الفرق بين التحري القضائي وبين الاستطلاع والرصد الاستخباريين. فشاغل التحري القضائي هو مسرح الجريمة المباشر، الجغرافي والدرامي (الأدوار والفاعلون والآلات تمهيداً للجريمة، وفي أثناء ارتكابها، ونتائجها والتصدي للنتائج). وما أكب عليه التحقيق الجنائي الدولي، أولاً، هو هذا المسرح، وبنيته ونسيجه من داخل. و «التحقيق» الاستخباري لا يعنيه مسرح الجريمة إلا على سبيل التمثيل والكناية واستكمالاً للقياس.

و «تقرير» حسن نصرالله ينحو، في المسألة، نحو بعض «الجنرالات» اللبنانيين الذين ظن فيهم بعض قضاة التحقيق الدولي ضلوعاً في المسؤولية عن الجريمة. فهم، كذلك، حسبوا أن مسرح الجريمة لا شأن له، وليس المدخل الى التحقيق. فأمر بعضهم الجرافات بأعمال الردم والتمهيد قبل الفحص والتقصي. وجزم بعضهم الآخر بأن معرفة هوية القاتل، وسائق شاحنة «الميتسوبيشي»، مستحيلة، وطوت «سرها» (وهذا سر آخر) قوة «انفجار قرابة الطنين من المتفجرات»، على قول «خبراء» (والخبرة سمة عالية) استشارهم جنرال استخباري متمرس. وتنصلوا كلهم، ومن ورائهم رعاتهم، من تبعتهم عن سلامة الرجل. والأفعال والأقوال هذه ليست أدلة ولا بينات على اشتراك في الجرم - وهذا ما قضت به المحكمة الى اليوم - ولكنها قرينة على نهج في فهم الاستقصاء. وهذا النهج يزدري «مادة» الجريمة، والفعل عموماً، وينكر قوتها أو قدرتها على الدلالة، وينكر تالياً ضرورة الامتثال لدواعيها. وابتداء رواية الخطيب بـ «حادثة» أحمد نصرالله في 1993، وحمل الخبر على بداية «زرع» و «إشباع» نفسيين يعود إليهما، والى فشوهما وعدواهما، ميل جهاز المحكمة الدولية المختلطة المفترض الى توجيه التهمة الى «عناصر» (أو كوادر) من الحزب الخميني المسلح والأمني - هذا الابتداء آية تخطٍ لـ «مادة» الجريمة، وتجاوزها الى «الصراع العربي - الإسرائيلي» من غير وسيط. ويحمل الإنكار، وصنوه التخطي والتجاوز، صاحب «التقرير» على تهمة التحقيق القضائي الدولي بتعمد إهمال مادة جنائية لم يعلم هو وأصحابه بها إلا في 2009. وذلك غداة مضي أربعة أعوام على الجريمة، وتواتر أخبار صحافية وإعلامية سياسية عن توجيه تهمة الضلوع في الجريمة السياسية والإرهابية الكبيرة الى بعض محازبي الجماعة الخمينية.

وما يقوله «التحقيق» المضاد في مسرح الجريمة نفسه هامشي. ويقتصر على تأملات استخبارية في الطرق الساحلية ومحاذاة البحر، وفي الطرق السوية والمنعطفات، والسرعة والبطء، والمعلومات التنفيذية والمعلومات السياحية. والضعف الذي لا يتستر عليه دفق الصور والأخبار والتفاصيل، ومعظمها نافل وبعضها مصطنع ومغلوط، هو الافتقار الى مرجع أو إطار جامع تقاس عليه الصور. فدلالة هذه الصور عصية على الفهم والتعليل ما لم يعلم محلها، كماً ونوعاً ومادة، من كلٍ مفترض. فجواب سؤال «المحقق» الاستخباري: «في كل هذه المناطق التي يستطلعها الإسرائيلي هل تعرفون مراكز لحزب الله أو المقاومة أو بيوتاً لقيادييه أو أماكن تجمع له؟»، الجواب عن السؤال بالنفي لا يقود الى إثبات تعقب «الإسرائيلي» رفيق الحريري أو ابنه سعد الحريري أو سمير جعجع أو ميشال سليمان أو جان قهوجي، إلا إذا حوى أرشيف «المحقق» حسن نصرالله أرشيف الاستعلام والاستخبار الإسرائيليين تاماً. وهذا ما لا يزعمه الرجل. فما لا صور له في الأرشيف الجزئي والمتقطع الذي يملكه الاستخبار المحلي هو الكثرة الكاثرة من المواقع المفترضة «أمنية»: «أنا أمين عام من قبل الحرب ليس لدينا صورة لطائرة استطلاع إسرائيلية تقوم بتصوير منزلنا في حارة حريك...».

والسؤال: «فهل نستطيع أن نقول انها لم تصور! فكيف جاءت وقصفتهم في الحرب؟»، هذا السؤال يستتبع سؤالاً يتمم السؤال الأول: هل نستطيع القول أن كل ما صورته طائرات الاستطلاع الكثيرة والمتزامنة الطيران منذ أعوام، ووقع بعضه بيدنا وحفظه أرشيفنا، يستثني مواقع أخرى وأشخاصاً آخرين؟ والجواب عن السؤال هذا، على خلاف صنع «المحقق» المرتجل والمستعجل، مستحيل. فهو يقيس معلوماً، الأرشيف المتوافر الجزئي، على مجهول، الأرشيف كله. وكيف نعرف دلالة تصوير منطقة السان جورج إذا لم يكن التصوير تخصيصاً للمنطقة؟ وكيف يعرف ان المنطقة خصت بالتصوير، وأن تصويرها كان «تنفيذياً»، في المصطلح التقريبي، إذا جهلت المناطق الأخرى التي صورت، وافتقر الأرشيف المتاح الى صور مناطق صورت، على وجه قاطع، وقصفت؟ والقول في هذه الحال رمي في عماية. وهو يبني على افتراض إحاطة، تدغدغ نرجسية الجماعة العميقة، ونرجسية الأفراد البعيدة الغور. ولكنه (القول) لا يصلح ركناً لرابطة سياسية واجتماعية وطنية يتشاطرها أهل كيان سياسي وطني.

ولعل هذه المسألة هي القلب الأعمى للاحتجاج الاستخباري و«السياسي». فهو يفترض، على مثال السابقة الأسدية (السورية)، أن قطبي النزاع أو الصراع، «المقاومة» الخمينية المسلحة واسرائيل، تستوفيان مادة السياسة، والحياة العامة والخاصة في لبنان. وقضت السابقة السورية، على نحو ما صاغها إميل لحود الرئيس السابق في خطاب قسمه، بتقسيم اللبنانيين «سوريين»، مساراً ومصيراً، و «اسرائيليين». وفي كلتا الحالين تبدد القسمة اللبنانيين ودولتهم ومجتمعهم، وتلغي نواة هويتهم المستقلة، وتعرفهم أنفسهم جماعة متماسكة. وعلى خلال الزعم السوري العروبي بالاسم، والزعم الخميني «المقاوم» اليوم، يجوز تماماً للبنانيين رفض اسرائيل وسورية، أو رفض اسرائيل و «المقاومة الإسلامية» وحزبها، معاً لأسباب ومسوغات لبنانية. فمن يعارضون الجماعة الشيعية المسلحة والأمنية، وقد يصلونها الكراهية والعداء المريرين، يدعوهم الى رأيهم ونهجهم ما تفعله الجماعة فيهم، جماعات وأفراداً ومؤسسات. فما ينكرونه أشد الانكار هو سياستها العصبية والثأرية، وتقديمها الدمج والتكتيل على الرأي والحكم، وتوسلها بالعصبية والثأر الى استيلاء أصم، وتأليهها القوة والدم والموت، وازدراؤها الهيئات التمثيلية المختلطة والحقوق المدنية والسياسية والانسانية، وتربعها في صدارة ولاية لا رقابة عليها، وإعدامها مواطني الجماعات الوطنية والمواطنين وتجاربهم واختباراتهم، ورطانتها بلغة جوفاء تختصر البشر وتواريخهم في رسم هزيل. وهذه الجماعة تعلن على الملأ روابطها بنظامين سياسيين وإيديولوجيين، السوري والإيراني، صرف الأول أربعة عقود في السلطة والثاني ثلاثة عقود. والحصاد في الحالين، مروع ومخيف. والسياق السياسي الذي يرسمه المحاضر، أو يقر به، يغفل عن عوامل السياق كلها، ويحكم بالإلغاء في السياسات الوطنية. وسمتها المعلمة هي بناء أجهزة سلطة إدارية واستخبارية عنيفة وقاهرة وفاسدة محل الدولة الوطنية الفاعلة والجامعة والمتنازعة.

نواة التحقيق الجنائي ومحكّه مسرح الجريمة وليس طبيعة العدو

الحياة 18/8/2010
يخوض «حزب الله» «معركة الصورة (و) معركة الرأي العام»، على قول خطيبه المأذون، بأسلحة ماضية ومجربة. فهو يتهم اسرائيل باغتيال رفيق الحريري قبل خمسة أعوام ونصف العام. ويدخل الاغتيال في باب «مشروع سياسي بدأ بعد العام 2000 وله علاقة بالمنطقة كلها، لبنان وسورية وفلسطين كانوا حلقة من حلقات هذا المشروع السياسي الكبير الذي أدى الى اجتياح بلدان في العراق وأفغانستان (و) أدى الى عمليات اغتيال بحجم اغتيال الرئيس الحريري». ويتخطى الإحصاء اسرائيل الى الولايات المتحدة، بديهة، ويلم بالرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، وبحواشٍ عريضة من السياسات الدولية. وما السياسات الدولية الاّ المسرح الذي يدعو الخطيب الراوي جمهوره المعتاد والمألوف الى الصولة والجولة في جنباته وبين متونه. ويتوسط المسرح «بطلان» يتقاتلان «كأنهما جبلان»، على قول القصص الشعبي القديم، ويطارد واحدهما الآخر براً وجواً وبحراً.

الإجماع «الشعبي»

وتهمة اسرائيل - أمام جمهور لبناني وعربي مسلم - وهي تقاتل (الـ) لبنانيين ويقاتلها (الـ) لبنانيون وتقاتل «عرباً» ويقاتلها عرب على صور القتال الكثيرة والمتشابكة منذ 1967 وقبلها وغداتها، ويُسأل القتال هذا عن كوارث لا تحصى - هذه التهمة رابحة سلفاً، أو ينبغي أن تكون رابحة سلفاً. فالتاريخ الطويل من القتال المرير، وهو تخللته اجتياحات وحملات كبيرة وصغيرة وهجرات قسرية واغتيالات واعتقالات وأعمال خطف ووشايات، هذا التاريخ لا يغص بحادثة مثل اغتيال رفيق الحريري، على رغم عسر ابتلاعها، شرط إحسان المداواة بالمحبة. ولا ينقص الطبيب «المداويا»، على قول مجنون ليلى، الاعتداد بالنفس، ولا الخبرة في مثل الميدان الاستخباري هذا. ومن شمائل توجيه التهمة الى ذراع اسرائيل الاستخبارية والعسكرية وفضائله حضور الرد على المتحفظ أو المشكك أو المتيقن من ثبات التهمة على أذرع استخبارية وسياسية أخرى قريبة أو لصيقة.

وفي أثناء الخطبة الطويلة الأخيرة، وما لا يحصى من الخطب والتصريحات والبيانات، لم يعدم الخطيب، ولا عدم أصحابه إعمال الرد على المتحفظين والمتشككين، والمتيقنين (بثبات التهمة أو رجحانها)، وهو تهمة هؤلاء بموالاة العدو، والميل معه ومواطأته. فقال نائب خطيب الحزب الخميني المسلح، شارحاً خطبة صاحبه قبل يوم واحد: «سينزعج البعض كثيراً... من توجيه التهمة لإسرائيل، هم لا يريدون أن تكون اسرائيل متهمة...». ويغمز الأمين العام نفسه من قناة «البعض» الذي «كان يتعاطى أن الإسرائيلي ليس له نشاط عملياتي على الساحة اللبنانية، وهو غير معني وغير متهم أصلاً بأي عملية اغتيال تجري على الساحة اللبنانية...». ويذهب صاحب الخطبة الى أن المتلكئين في تهمة اسرائيل باغتيال الحريري حابسون ألسنتهم وظنونهم واستدلالهم عن تهمتها بأعمال الاغتيال كلها، وفيها اغتيال علي ديب وغالب عوالي (أو عوالة على ما يكتب موقع «المنار» كذلك). وهذا من قبيل تعميم المنفعة المتوقعة من تجريم التحفظ. وهو يفترض أن لجنة التحقيق الدولي هي، شأن «البعض» المغطي والمتواطئ، في صف المغضين المتواطئين. فيسأل: «هل جاءت لجنة التحقيق الدولي (...) لتسأل محمود رافع (الضالع في قتل الأخوين مجذوب بصيدا في 2006) عن هؤلاء الإسرائيليين الذين كان يدخلهم الى الأراضي اللبنانية... ماذا كانوا يفعلون؟».

وعلى هذا، فإدراج اغتيال رفيق الحريري في سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية التي تطاولت الى جنود المنظمة الخمينية المسلحة في لبنان، وبعض جنود منظمات فلسطينية أخرى، يُدخل القتيل في باب معروف اعتاد الإجماع «الشعبي» والرسمي العروبي، أو نبض الشارع العربي على القول السوري الإذاعي والتلفزيوني، التسليم به، والنزول له عن بحث مرهق ومربك في مرتكبين آخرين محتملين، ومعروفين على رؤوس الأشهاد في بعض الأحيان. ويضمن الإدراج في الباب الإسرائيلي رداً ينبغي أن يخرس المتردد المتحفظ، أو يعقل لسانه على أضعف تقدير، ويدعو المتحفظ الى طلب السلامة. وقد يفترض الخطيب وأصحابه ربما أن «تبني» رفيق الحريري قتيلاً وشهيداً، بعد الطعن فيه وعليه وتهمته (سياسياً) حياً وفاعلاً، ينبغي أن يحمله أنصار الحريري على وجوه التكريم، والبراءة من المطاعن السابقة كلها، والإشراك في الصف «الوطني» الواحد. وهي مقدمات ضرورية للعودة الى «العصر الذهبي» والفردوسي الذي أخرج طيُّه القوات السورية ورصدها واستطلاعها من لبنان، وأفقد «المقاومة» وولايتها الوكالة والسند العربيين المرغمين والشجاعين.

ويعول الوكيل الخميني المسلح والأمني، بعد تعويله على قبول تهمة اسرائيل في الشاردة والواردة، على خبرته، وخبرة فريقه الأمنية الطويلة والعريضة. وخطبته الأخيرة (في 9 آب/ أغسطس) تتعمد صوغ الخبرة في ما يشبه أصول المهنة أو الحرفة ومبادئها الأولى العملانية. وأوّل الأصول أصل نفسي. و «التحليل» النفسي، والإلمام بالارتباك والتخبط والهستيريا و «تصدير المشاكل»، من الأمور التي يشغف بها «الكوادر» شغفاً عظيماً. وفي تقديم «المعطيات» يصدر الخطيب المنظَّم سرده برواية «تمكن الإسرائيلي منذ البداية من أن يزرع في أذهان كثيرين (أولهم رفيق الحريري نفسه - الكاتب) وجود مؤامرة وهمية». وهذه المؤامرة تولى أحمد حسين نصرالله، ويعرفه المحقق تعريفه الجامع والمانع «عميل اسرائيلي»، تلفيقها أولاً. وهي تزعم أن عماد مغنية وعلي ديب (أبو حسن سلامة) ينويان قتل رفيق الحريري بعد استدراجه الى زيارة صيدا للتعزية بشقيقته، بهية.

ويروي أمين عام القوم أن «العميل الإسرائيلي (استطاع) أن يزرع هذه التلفيقة وهذه التركيبة». وأين زرع أحمد نصرالله «التلفيقة»؟ هذه يجيب الأمين العام: «هذا شاهد على بدايات التلفيق وإشباع ذهن الرئيس الحريري بهذا الامر». ومعنى هذا أن ذهن الرئيس الحريري، في 1993، «أشبع» بمزاعم عن نية «حزب الله» اغتياله. ودليل المتكلم على «الإشباع» بعد «الزرع» أن غازي كنعان أوقف علي ديب بعنجر، و «طحن عظامه» قبل ارساله الى دمشق، بناء على «إخبار» من رفيق الحريري نقلاً عن جهاز أمنه، نقلاً عن أحمد نصرالله. ويتابع من لا قرابة بينه وبين «العميل»: «بطبيعة الحال لنا أن نفترض أن الرئيس الشهيد لم يبلغ فقط اللواء غازي كنعان، بل أبلغ بقية الأصدقاء في سورية، أبلغ الطاقم المحيط به، له أصدقاء فرنسيون وسعوديون وخليجيون وأوروبيون وآخرون». ويختم صاحبهم برهانه القطعي، بل واليقيني منتصراً: «وهكذا تمكن الإسرائيلي منذ البداية من أن يزرع في أذهان كثيرين وجود مؤامرة وهمية من هذا النوع». وينبغي أن يفهم الجمهور، سامعين، مشاهدين أو قراء، أن الجرثومة الاستخبارية الإسرائيلية انتقلت، من طريق الزرع فالإشباع فالتبليغ فالعدوى الوبائية في «بيئات حاضنة» ملائمة (قصر الإحصاء على الفرنسيين والسعوديين... وترك «آخرون» معلقين)، الى المحققين الدوليين في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وليست تهمة اليوم المفترضة والمقدرة إلا رجع صدى «البداية» المطمورة في مثاوٍ أربعة: مثوى علي ديب ورفيق الحريري وغازي كنعان وعماد مغنية، الى ملجأ أحمد نصرالله المتواري. وهذا أصل استخباري متين يستعير مثاله من شرح ابن أبي الحديد وتعقبه رؤوس العلل ومصادر الزيغ.

والأصل الاستخباري الثاني ينص عليه الخطيب الخبير على سبيل الذكر أو التذكير: «يجب أن أذكر بأن الاستطلاع الميداني هو خطوة متقدمة تسبق التنفيذ، لأنه بها يستكمل الملف... ويلحقه تأمين الإمكانات وتنفيذ العملية». وينبه الخطيب الى الأصل الاستخباري الثاني في أعقاب «تقرير» يتناول فيليبوس حنا صادر وتقصيه جوار منزل «فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان»، وأحوال يخت «قائد الجيش اللبناني العماد قهوجي». وعلى هذا فـ «المعلومات (هذه) تنفيذية»، وليست لـ «الفكهنة»، على قول الرجل مسترسلاً. والمقصود بالصفة التنفيذية أن الاستطلاع هو، قطعاً وعن خبرة وعلم، «من أجل التحضير لتنفيذ عملية اغتيال في تلك المنطقة». وفي ضوء عملية أنصارية - لوبية ثبت أن «عملية الاستطلاع (الجوي) المؤدية الى هذا المكان كانت تمهيداً لعملية أمنية». وفي أحوال أخرى لدى الجماعة العتيدة «نماذج عديدة من عمليات استطلاع جوي اسرائيلي كانت تحضر لعمليات اغتيال».

والقاعدة الاستخبارية (أو الأصل) هذه تقبل بل تشترط مرونة تنفيذية زمنية، ولا يجوز التسرع في تأويلها تأويلاًَ وشيكاً: «التصوير ليس معناه أنه بعد يومين أو ثلاثة ستكون العملية، أحياناً قد يستمر هذا الأمر لأشهر وأحياناً قد يستمر لسنوات». واقتضى اغتيال الأخوين محمود ونضال المجذوب «8 سنوات من العمل الدؤوب». والثابت في المهنة والخبرة اللتين يصدر عنهما المحقق والنائب العام والضابط العدلي والقاضي والمنفذ أحياناً(؟)، (وهو الخطيب الجماهيري)، هو الرابط الضروري والطبيعي، على معنى الفيزيائي، بين التقصي وبين القتل، أو بين جمع المعلومات وبين التنفيذ. وهذه «الفكرة» هي عمود القضية الاتهامية. ويصوغها المحامي المرافع في «محكمة» الصورة والرأي العام على شاكلة قياس يحسبه محكماً، أو يريد أن يحسبه الجمهور محكماً. وخلاصة «القياس»: كل جمع معلومات يترتب عليه اغتيال عاجل أم آجل، والاستخبارات الإسرائيلية جمعت معلومات عن رفيق الحريري، فالاستخبارات الإسرائيلية هي من اغتال رفيق الحريري.

ويفصِّل الخطيب (المقتل) عناصر «القياس» تدريجاً. فبعد عامل الوقت، يُدخل التخصيص على الاستعلام والاستطلاع والتصوير، فينبه، في اطار استباق التنفيذ، الى مكانة «المنعطفات»، والى تصويرها «بشكل محدد ومن زوايا متعددة وفي أماكن متعددة» (والجزء الأخير من الجملة غامض أو هو استطراد خطابي). ويستدعي البرهان الخبراء مرتين في فقرة واحدة. ويحتج بخبرة شخصية، موكبية، في معرض اثبات ما يعرفه ركاب السيارات العمومية والبوسطات و «الفانات» جميعاً منذ ركوبهم هذه أو تلك، وهو إبطاء السيارة سيرها عند المنعطفات. ويختم كلامه التعليمي والتربوي، والإشراكي التجريبي والشخصي، بالإسم أو التسمية: «وهذا يسمونه المقتل». وعلى «المنطق» الإسمي نفسه، وهو منطق الأشباه والنظائر، يحشر المحقق العدو في مقتل التحقيق: «لماذا كان (الإسرائيلي) يقوم بتصوير هذه الأماكن، ويقوم بالتركيز عليها في أوقات متعددة ومن زوايا متعددة».

والسلاح الثالث الماضي الذي يعمله أمين عام الجماعة الخمينية المسلحة في الجمهور، وهو مسرح «معركة الصورة والرأي العام» ومناطها وغنيمتها، هو شهوة الحكاية أو القصص. فإلى التعويل على استجابة «الرأي العام» العروبي و «الإسلامي» تحميل «أصل الشر» التبعة عن تناسل الشرور، والى التسلح بالخبرة الاستخبارية العملية والتلويح بها ونصبها «علماً» ضرورياً، يشهر الخطيب المحدث والقاص قصصه وأخباره ومصادره ووثائقه ورواياته. ويوكل إخراجُ المشهد القصصي والتلفزيوني الى أجزاء وثائقية «حية»، بعضها صور جوية وبعضها اعترافات وبعضها تعريفات أو «فيش»، قطع رتابة كلام الفرد أو الواحد. ويغرف الراوي من ذاكرة أرشيف منظمته وتحقيقاتها وتقصيها، وأرشيف القضاء اللبناني المصور، والقصاصات الصحافية، أخباراً وشواهد وأسانيد يخلطها بتأويل مضمر أو معلن، ويحضر هو نفسه بعضها. وينقل «زوايا» المشاهد أو الروايات و «أبطالها»، ويجمعها ويفرقها من «علو» 20 سنة كاملة، ومن «عرش» مخاطِب الرؤساء ومخاطَبهم (ولو كتابة، وهذه تميز حافظ الأسد من ابنه وخالفه). وهو، في هذا كله وغيره وفوق هذا وغيره، مرجع مقاتلين مجاهدين، لصيقين بالأرض وخبيرين بها، ومنكبين على فك ألغاز العدو والتعلم من الاختبارات والمحن والانتصارات، ومتقلبين بين جوانب عالم حدّاه المباشران والماثلان الحياة (القوية) والموت (البطولي).

وهذه المواقع والمحال تتيح لصاحبها، سماحة الأمين العام، كشف الغطاء عن «الأسرار»، سراً سراً، والوعد بأسرار آتية، والتلويح والوعيد بـ «كلام كثير» يهتك الحجب، و «يبقر» العلم، على ما قيل في أحد «أجداد» الخطيب. ويحصل هذا كله على مسمع الجمهور ومرأى منه. فيدخل الجمهور العريض، وهو دوائر الأهل القريبة فالأبعد فالأبعد، «الكساء» العائلي والرحمي، ويُستقبل في ديوان المضرب استقبال أهل الدار، ويشرَك في صناعة الحوادث والانتصارات العظيمة إشراكاً تبدو الانتخابات النيابية والبلدية في ضوئه المتوهج إيماءً تافهاً وأجوف، وتبدو «الديموقراطية» وهيئاتها سعدنة سخيفة. وعلى رغم الوقت الداهم، على الدوام، يتعمد صاحب القوم تعقب التفاصيل، تثبيتاً للحجة، وتقوية للبرهان، وإعلاء للخبرة والعلم. وعلى هذا، يتعقب الخطيب، على مسمع الجمهور وفهمه، طريقين كان يتنقل رفيق الحريري عليهما «أكثر من غيرهما... بين مجلس النواب وقصره»، بمحلة قريطم. ومحطات الطريق الأولى، البحرية، هي السان جورج ومسبح الجامعة الأميركية فالمنارة - الحمام العسكري، فدبيبو ثم مفرق محل وجبات الدجاج الجاهزة (كانتاكي فرايد شيكين) فشارع شاتيلا بحذاء السفارة السعودية والكوليج وبروتستان المفضي الى القصر.

وأما الطريق الثاني فـ «يمر عبر شارع بلس وصولاً الى النادي الرياضي مقابل الحمام العسكري ليكمل من هناك على نفس المسار مع الطريق الأول الى منطقة الحريري وقصر الحريري، (ويلي الوصف تعليق مستفيض على صور جوية لمنعطف المنارة الجديدة وكوع دبيبو). والحق أن «الطريق الثانية» لا تستوفي المقارنة مع الطريق الأولى، لا من قريب ولا من بعيد. فبين مجلس النواب، منطلقاً مفترضاً، أو قصر قريطم منطلقاً مفترضاً آخر، من جهة، وبين شارع بلس بموازاة مباني الجامعة الأميركية وبواباتها (من مرأب المستشفى شرقاً الى مبنى السفارة السعودية القديم والمركز الثقافي الألماني («غوته إنستيتيوت») غرباً، من جهة ثانية، محطات ومراحل كثيرة تبطل المقارنة المفترضة. ولا يسع الموكب، من قريطم، بلوغ بلس، واتجاه سيره إلزامي وواحد من الشرق الى الغرب على خلاف كورنيش المنارة، إلا إذا يمّم الموكب صوب أوتيل البريستول وانعطف شمالاً الى شارع عبدالعزيز وبلغ نهايته قرب بوابة حرم الجامعة الأميركية («ميديكيل غايت» في رطانة قوم الجامعة)، مطلع بلس. والطرق كلها هذه مكتظة بالسيارات والناس في ساعات النهار كلها. وأما بلوغ بلس من ساحة النجمة فيفترض اجتياز باب إدريس الى ستاركو والوادي (القديم) فالهوليداي إن، أو أطلاله الى عين المريسة مروراً بمحطتي الداعوق والديك القديمتين، وليس من طريق كليمنصو، على خلاف «شرح» الخطيب. وأما ما يصفه الخطيب بنبرته الجازمة والواثقة الواحدة فهو دوران الموكب المفترض على نفسه في دائرة حلزونية أو أفعوانية («بركيلية»، على قول المير طلال أرسلان، أحد حلفاء الأمين العام المقربين وأحد زوار «العتبات»، في... رفيق الحريري).

البداية والنهاية

والداعي الى المقارنة هو تشبيه الدقة والخبرة والإلفة، والتسليم لشهوة «العلم» والإحاطة، وتلبية نهم الجمهور الى فك الألغاز وجلاء الأسرار. فحاجة الخطيب الى الاستواء في محل الخبرة الاستقصائية والاستطلاعية والاستخبارية، ماسة وملحّة. وتكثير التفاصيل والدقائق العائدة الى طريق الموكب ومحل الانفجار والاغتيال (وهو طريق منفرج يبلغ انفراجه 150 درجة تقريباً من 180، وعليه فهو ليس منعطفاً ولا كوعاً، وهو وصلة ضعيفة الانحناء أو «بريتييل» ولا تقارن بكوع دبيبو ومنعطفه في العتبه)، تكثير التفاصيل هذه يحرف الانتباه عن «مقتل» التقرير الذي قرأه أمين عام الجماعة الشيعية المسلحة. فالتقرير ينتهي، موقتاً على قول ملقيه وقارئه، الى تناول مسرح الجريمة، بين أطلال السان جورج وأوتيل النورماندي أو «عظم» بنائه وهيكله. ويقتصر التناول على رسم الطريق، والمقارنة المفتعلة والمشبِّهة، وعلى الصور الجوية المنتخبة أو المتاحة اتفاقاً، وغير المؤرخة والطيران الإسرائيلي اليومي (منذ عملية شريط شبعا في خريف عام 2000 وبعد تعليق دام من 24 حزيران (يونيو)، يوم الانسحاب والجلاء، الى غداة العملية).

ويبلغ «التحقيق» في القضية الإسرائيلية مسرح الجريمة في ختام قصص طويل ومتعرج «يثبت» على وجه قاطع ان الاستخبارات الإسرائيلية تتعقب كوادر «المقاومة الإسلامية» (الشيعية الخمينية) وتجزيهم عن عملهم وقتالهم قتلاً واغتيالاً، ما وسع يديها القتل والاغتيال.

الاثنين، 9 أغسطس 2010

جمع القضاء المحلي والأهلي الادعاء والتحقيق والحكم... ضمانة «سياسة» لا قيد عليها


الحياة، 8/8/2010
في شريط سينمائي، روائي ووثائقي جماهيري، «زِدْ»، تناول الحوادث التي أدت الى استيلاء العسكريين اليونانيين اليمينيين على الحكم بأثينا في ربيع 1967، يروي القصاص اليوناني (فاسيليكوس) والمخرج الفرنسي (كوستا غافراس) حادثة مهدت للاستيلاء العسكري هي اغتيال احد قادة المعارضة اليسارية، ونائبها البارز في المجلس النيابي. ويفترض ان يؤدي الاغتيال إلى إشاعة الفوضى، وإلى ترشيح القوات المسلحة نفسها، وقيادة أركانها، ضامنة للاستقرار، وولية أمر «الشعب» موقتاً، على ما كان شائعاً في «دول» عالم ثالث مزركش ومختلط. وعندما ينتهي خبر الاغتيال الى أصحاب النائب البارز، ويتدافع الناس في مقر تياره وحركته، وتدب حمى التداول والتخمين في هوية القتلة، ينبري احد المقربين من القتيل، وأكثر الأنصار حماسة وانفعالاً، ويقول: «إنهم الأمريكان! إذا كنا نحن لا نعرف كيف قتلوه فهم لا شك يعرفون».

وغداة 5 أعوام على الحكم العسكري القاسي، مع عودة الديموقراطية واستئناف سلطة القضاء نظرها في الأدلة والوثائق والشهادات والتحقيق، ظهر ان النائب اليساري انتخب للقتل، واختير هدفاً بسبب دعوته تياره الى الاعتدال ومفاوضة الطرف الأطلسي، والأميركيون جزؤه الأقوى، على صيغة إخراج اليونان من الاستقطاب اليميني – اليساري، وتهديده الحياة السياسية الوطنية بحرب أهلية دابة تشل هيئاتها، وتحكِّم فيها المتطرفين العنيفين، وتحول دون عمل الهيئات المنتخبة والوسيطة. فقتل المتطرفون والساعون في الاستيلاء على الحكم، والمتربصون التخريب بالنظام التمثيلي، من كان في مستطاعه ربما الحؤول دون سيطرة اليمين العسكري العرفي على الحكم من طريق مفاوضة عسيرة، ومحفوفة بالمخاطر، مع عدو معسكره وولي أمر معسكر خصومه.

وفي أثناء الاستقطاب «الحربي» البارد، وفي أوقات الاستقطابات الحادة الأهلية والإقليمية عموماً ربما، يختار المتطرفون والمتصارعون من قطبي الصراع المعتدلين والمتوسطين ضحايا أعمال القتل، وانتسابهم الظاهر والحقيقي الى أحد طرفي الصراع يقوي الداعي الى قتلهم. فقتلهم يخرج أنصارهم عن طور الاعتدال والتوسط، وينصب المتطرفين والمتهورين في قيادتهم، ويسوغ تكتل خصومهم تحت لواء متطرفيهم. وعلى هذا فتهمة «الأمريكان» الذين «يعرفون»، في انتظار ان «نعرف» نحن وتصدق تهمتنا، ويصدق حدسنا الذي لا يخطئ، هي من أدبيات يسار أعمى ومتهور، ومن محفوظات يمين لا يقل عن خصمه عمى وتهوراً. ويشبه، اليوم، اتفاق رئيس أركان الحزب الخميني المسلح بلبنان ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي على انتظار القرار الظني المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في ايلول (سبتمبر)، و «إدانته» (الظنية) مسؤولين وقادة أمنيين في الحزب الخميني المسلح، وعلى توقع انقسام أهلي وسياسي لبناني على المطالعة الظنية – يشبه إجماع كلا متطرفي اليسار واليمين اليونانيين على استدراج الاغتيال. ولا يكتم «سماحة الأمين العام» اعتزازه بوحدة مصادره و «مصادر العدو»، على قوله في واحدة من حلقات روايته ومحاوراته. وهي شبهها روائي بوليسي، بريطاني – لبناني، من غير تحفظ ولا ابتسام، بإحدى محاورات أفلاطون البارزة.

وتاريخ القضاء الثوري العربي و «الإسلامي»، في البلدان والأقاليم العربية، منذ قيام الثورات الانقلابية العسكرية والجماهيرية العامية، إكليل غار على هامة العدالة. ومرجع القضاء المزعوم هذا حيث قام هو فوكييه – تانفيل، جزار الإرهاب الثوري الفرنسي في أثناء الثورة الكبرى، والحقبة المعروفة باسم متوليها «الفاضل» وكاهن «العقل»، روبسبير. والمرجع هذا ليس قاضياً. وهو لم يكن لسان هيئة محلفين علنية، بل كان مدعي الحق العام، ومحامي الجهة المتقاضية المدنية، وقاضي التحقيق، والقاضي النافذ الحكم من غير حق استئناف ولا نقض. ونصبت العدالة الستالينية، السوفياتية والشيوعية، خلفاً لفوكييه – تانفيل، جزار نحو 2400 «رأس» (حرفياً)، هو فيشينكي. ويعرف الرأي العام العربي الرجل مندوباً دائماً وسفيراً الى الأمم المتحدة ومجلس أمنها. وكان الجزار السوفياتي والستاليني نصيراً للـ «قضايا» العربية، وفي صدارتها القضية الأولى. وبينما وسع القاضي المصري الذي تولى النظر في قضية «جمعية الأخوان المسلمين»، و «الجهاز الخاص» العسكري والأمني، غداة اغتيال حسن البنا، وسعه تغيير رأيه في القضية، في اثناء المحاكمة، لم يقيض شيء من هذا للمحاكم العسكرية الناصرية التي «نظرت» في قضايا «الإخوانيين» اللاحقة، من 1954 (محاولة اغتيال جمال عبدالناصر عن يد إخواني، مدسوس على الأرجح، سوغت محاولته انقلاب عبدالناصر على أصدقائه وإيقاعه بهم) الى 1966 (إعدام سيد قطب). فالضباط «القضاة» ليسوا من المعدن المتقلب الذي يصنع منه حماة الثورات، على ما «يعلِّم» الأخوان كاسترو منذ نصف القرن. وهم صادروا الإقطاعيين والمستعمرين واليهود والأجانب (اللبنانيين) على «سرقاتهم»، غداة العدوان الثلاثي، من غير ان يرف لهم جفن ضعيف، أو ينهاهم نص أو قانون.

ونصبت الثورة العراقية المجيدة الأولى (1958) العقيد المهداوي مدعياً ومحققاً وقاضياً وخطيباً، ومذيعاً مسلسلاً يومياً براديو بغداد. فكان الرجل – وهو قامة فقهية وقانونية تطيق المقارنة ببعض القامات اللبنانية البيروتية والجبلية التي تطالب اليوم بـ «استرجاع» القضاة اللبنانيين من المحكمة الدولية المختلطة الخاصة بلبنان، وتصفهم بـ «الدمى» – كان يتباسط في كلامه والمتهمين، ويتذاكر الشعر مع من لم تقتلهم عدالة الشعب سحلاً وتقطيعاً، ويتمادى في «تحليل» أفعالهم، ويعدهم الخير قبل قتل بعضهم. ومهد هذا تمهيداً رفيقاً بانتصاب صدام حسين في مؤتمر حزب البعث العربي الاشتراكي بالعراق، غداة إنشاء جبهة التصدي والصمود مع الشقيق الشامي («لا دمشق»، على قول فتى الساحل) في 1978، اميناً عاماً قطرياً وقومياً ومدعياً «عاماً» وسيافاً قاتلاً برصاصة واحدة سمع أعضاء المؤتمر المنتخبون من مقاعدهم انفجارها في فناء المؤتمر، وفقهوا من غير البناء على المقتضى والاستدلال والاستقراء مصرع «صاحبها».

وأوكل آية الله العظمى الإمام الخميني، «المستوفي شرائط العدل»، القضاء الثوري، ابن الثورة «الإسلامية»، الى آية الله محمد صادق خلخالي. وطالت ولايته الى منتصف الأعوام الثمانية التي دامتها الحرب العراقية – الإيرانية الضروس والتي تخللتها حروب أهلية ضارية على جهتي الجبهة. فكان آية الله سيفاً بتاراً من سيوف الحق، يعلو ولا يعلى عليه، يقضي ويصادر ويميت ويحيي (على معنى زعم فرعون في التنزيل). ودامت سيرته الى حين عزل الرجل خفية، ومن غير «نشر غسيله». وعُرف، خفية على ما تحب أنظمة المستبدين العدول والمطلقي اليد في الأموال والدماء (ومنها «ولي الدم» التي استعيض بها عن الحق العام والحق المدني الاستعماريين و «الاستحماريين»، على قول «المفكر» علي شريعتي) والفروج، انه كان يصادر ورثة القتلى «المقبورين» (الإمام الخميني) على أموالهم المنقولة وغير المنقولة، وعلى «سبيهم» أو نسائهم وهن جزء من غنيمة الحرب. وحين آل الأمر الى محمد خاتمي، تولت وزارات القوة الثورية، وزارة الاستخبارات ووزارة الحرس الثوري ووزارة الداخلية والقضاء الشرعي الثوري (قبل ان يؤول الى صادق لاريجاني)، «معالجة» المعارضة بالاغتيال. فلما اضطرب حبل الأمن «الثوري»، في أثناء الانتخابات الرئاسية وبعدها، وصادرت وزارات القوة والأمن والاستقرار الثورية الناخبين على اقتراعهم ورأيهم، تولى القضاء، وهو دوائر على عدد الكتل والمراتب والأحلاف والمصالح، «النظر» الصارم والحاسم في الأمور. فنظر و «حقق» وادعى واحتج وبيَّن وقتل من رأى جواز قتله.

واليوم، أي قبل 3 أيام تقريباً، خرج مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران للشؤون الدولية على «لبنان»، من طريق رئيس مجلس النواب وداعية «قراءة (التاريخ) من كتاب واحد» (كتاب يجيب «عن موقف الرئيس كميل شمعون آنذاك 1958 – هل كان خيانياً أو وطنياً» جواباً واحداً: «خيانياً»، وليس جوابين على ما لا يجوز بحسب فقيه التاريخ التبنيني العاملي)، خرج المستشار بالقول: «المحكمة الدولية أصبحت في أيدي إسرائيل وحلفائها». وزاد السامعين إيضاحاً، فذهب الى أنها «أصبحت أداة سياسية في يد الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني». والحجة الدامغة، على ما سبقه إليه رئيس مجلس شورى المرشد الأعلى للجمهورية هي «نفي أخينا العزيز السيد حسن نصر الله أي علاقة للحزب بهذه القضية». وكان إخوة أعزاء آخرون، يعتز وزير خارجية الإمام الخميني طوال الحرب العراقية – الإيرانية و «الإسلامية» بأخوتهم من غير شك، نفوا مزاعم كثيرة تناولت التزوير والتوقيف والتعذيب والقتل والاختفاء والخطف والصرف من العمل والاضطهاد، وثبت صدقها. ولم يبدل المستشار العتيد رأياً. وها هو يوسع اختصاصه القضائي «العادل»، ويطل بعدله المستوفي الشرائط على «الكونية»، على قول القضاء الجزائي الدولي الوليد حين يُحرَّك في حق سياسيين وعسكريين إسرائيليين (و «يقف» عندهم ولا يتعداهم، إذا استثني «زملاء» لهم إيرانيون منذ بعض الوقت ولكن ن طريق أخرى غير طريق الاختصاص الكوني وبابه).

والمسألة القضائية التي يتطرق إليها القوم الخميني «العزيز» في الحاضرة والأطراف وما بينهما، يمخرون عبابها، ويبسطون ويطوون أشرعتهم وهم في مركب من ظنون، على ما كان قال علي محمود طه (شاعر «كليوباطرا»). والمدعي العام الخميني (اللبناني)، على المثال العربي والإقليمي الثوري، هو المحقق ومتقصي الأدلة والضابطة العدلية ومحامي الدفاع والقاضي والمجتهد والمفتي وناظر السجن ومنفذ الحكم معاً. وليس هذا افتراء. فحين تولى الحزب الشيعي المسلح، وهو يومها (على ما هو على الدوام) «الثورة الإسلامية (الإيرانية) في لبنان»، في 1985، «التحقيق» في جريمة متفجرة بئر العبد التي قصد بها الراحل محمد حسين فضل الله وأودت بنحو 80 – 90 ضحية، اضطلع بهذه الأدوار كلها من غير استثناء. وانتهى به الأمر الى قتل 11 مظنوناً من الفتيان والفتيات. ونصب هذا مثالاً لعدالة لم يفتأ مذذاك، هو ومن يأتم بهم، ويأتمر بأمرهم «شرعاً» وسياسة وحرباً وإعلاماً (وهذه كلها، في اعتقاده، واحد)، مزاولتها وانتهاجها.

وهو لا يحيد اليوم عن الطريق «المستوية» هذه. فيروي في العدالة الدولية – اللبنانية المختلطة، وعنها، أخباراً لا أثر منها في التقارير المعلنة والمعروفة. فلا أثر في التقارير هذه – منذ تقرير فيتزجيرالد الأول، وهو ميز الظن الذي يقوده الرأي في تعاقب الحوادث وإطارها (وهو «التحاليل» المزدراة) من الدليل المحقق والثابت والمؤيد بالبينات المادية، الى تقرير بلمار الأخير، وبينهما تقارير ميليس وخلفه البلجيكي برامرتس – لا أثر فيها لتهمة «سورية» أو بعض أجهزتها ولا أثر لتهمة أجهزة لبنانية. ومعظم فقراتها روايات مطولة لتحقيقات تفصيلية اقتفت مصادر العناصر المادية، مثل حركة الاتصالات الكثيفة التي تعقبت رفيق الحريري منذ صدور القرار 1959 تقريباً الى الساعة 12 و56 دقيقة ظهر الاثنين الواقع في 14 شباط (فبراير) 2005، أو مثل هوية الشاب الذي قتل في انفجار سيارة شحن «الميتسوبيشي» حين مرور سيارة رفيق الحريري (وهذا الشاب أراد رجال أمنيون كبار «جعله» أحمد أبو عدس ليس من طريق الإثبات الإيجابي، الذي عملت التحقيقات في سبيله، بل من طريق استحالة إثبات خلافه أو «موت – أبو عدس - أمنياً»، على قول رجل الأمن السياسي النافذ)، أو غيرها من الأدلة. واستعادة برامرتس عناصر التحقيق واحداً واحداً، وهذا منذ سنة التحقيق الثانية، قرينة على انضباط التحقيق على معايير قضائية خالصة، وإمساكه عن ترك «التحليل» على غاربه.

ويتمسك أصحاب القضية الإسرائيلية، وأولهم هو الرئيس السوري الذي جمع موت ياسر عرفات واغتيال رفيق الحريري في باب الإرهاب الإسرائيلي في أول خطبة له بعد الاغتيال في شتاء 2005، بـ «دليلين» هما عملاء الاتصالات اللبنانية الذين اكتشفهم جهاز شعبة المعلومات «غير الشرعي» على قول «عماد» أمني مستحدث، والشهود الكاذبون. ولا ريب في ان المسألتين محيرتان، وتدعوان الى التساؤل والاستفهام وتقتضيان الجواب. ولكن مصدر الحيرة هو غموضهما، وغموض المسالك التي قد يؤثر منها عمال وعملاء الاتصالات المفترضون والشهود الكاذبون في «صناعة» الأدلة أو تمويهها. ويتوسل اصحاب القضية الإسرائيلية ودعواها بهذا الغموض الى «إيضاح» روايتهم وخبرهم المفترضين وإثباتهما إثباتاً قاطعاً. وهذا خُلف، على وجوه الخلف (والدور) كلها.

وحين يعلن المدعي العام والخاص والمحقق والقاضي والجلاد والمحامي عزمه على إعلان روايته في حلقة آتية من محاكمته المتسلسلة، يغفل الإجابة عن السؤال الذي يهجم على ذهن المستمع. وهو سؤال عن انتظار المدعي الكثير الصفات وجامعها 5 سنوات ونصف السنة قبل المبادرة الى الإعلان عن عزمه ونيته. والحق ان تولي اشخاص افراد وآحاد أو جمعياتُ (ناشطين غير حكوميين، على ما يدعون) التحقيق في جرائم كبيرة، مثل اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي في خريف 1963، أو «صغيرة»، مثل مقتل محتجز أطفال فرنسيين في 2002 هدد بقتلهم بسلاح ظهر انه لا يعمل، أمر شائع. وقد يؤدي الى الحقيقة وقد لا يؤدي. وهو قد يدل على ثغرات التحقيق المأذون، وقد يؤدي الى محاكمة جديدة، وقد يسفر عن تخبط جديد. ولكن ما يلوح به المدعي الجامع الصفات القضائية كلها ليس من هذا الباب. فهو يزعم رسوخ دعواه في الحقيقة من غير دليل إلا دليل الفاعل وتحسينه، أو الحكم بـ «حسنه» ونفي جواز الزلل عنه، على قول المتكلمين، لا لشيء إلا لأنه هو. وهذا ما يذهب إليه المستشار ولايتي. ويقتضي هذا تصديقاً وتسليماً قد لا يُمن بهما على المتواضعين، من غير الآيات أو الألوية او الحجج المتكاثرين تكاثر الفطر بعد الشتوة الأولى

سبعون عاماً على فيلم شارلي شابلن «الديكتاتور» الأكبر...مسرح الطاغية الحديث والجماهيري العلانيةُ الخطابيةُ... الإذاعية والتلفزيونية


المستقبل ، 8/8/2010

على نحو احتفال الباحثين والمثقفين، والهيئات الصحافية والإعلامية، بالحوادث التاريخية والمنعطفات البارزة، الوطنية والدولية، فتُخَص هذه بالدراسات والتواريخ والسير والروايات الجديدة أو المتجددة، يحتفي كتّاب ونقّاد ودارسون بأعمال فنية كانت منعطفات في مضاميرها وميادينها. ويصادف، في صيف 2010، انقضاء 70 عاماً على حوادث حصلت أو وقعت في صيف 1940، وهو صيف العام الأول من الحرب العالمية الثانية. فعشية الصيف، خرج الجنرال الفرنسي، ونائب وزير الدفاع، شارل ديغول من بلده المحتل، ولجأ الى الجارة البريطانية القريبة. وغداة بلوغه الأرض البريطانية الحرة، في 18 حزيران، أذاع من الـ»بي بي سي» النداء المعروف والمشهور، من بعد أو لاحقاً، والمضاف الى يوم إذاعته. وحيَّت بلوغ النداء، أو «النفير» بحسب ترجمة عربية أخرى، عامه السبعين أعمال كثيرة ربما تعد بالعشرات، صدر معظمها بالفرنسية، وكتب بعضها مؤرخون بريطانيون، واحد منهم من اصل موريسي.
[السينما الناطقة... على مضض
وفي الصيف نفسه، أو الخريف على وجه الدقة (في 15 تشرين الأول بنيويورك)، عرض شارلي شابلن، السينمائي البريطاني واللاجئ الى الولايات المتحدة، فيلمه «الديكتاتور (الكبير)» أو «الأكبر». وأراد جان ناربوني، الناقد السينمائي الفرنسي، وأحد الذين تعاقبوا على رئاسة تحرير الدورية النقدية «لي كايي دو سينما» («دفاتر السينما»)، إحياء العرض. فكتب «... لماذا الحلاقون؟ ملاحظات راهنة على (الديكتاتور)». والمقارنة بين الحادثة التاريخية الديغولية، وهي «والدة» حوادث كثيرة لاحقة، وبين الواقعة الفنية السينمائية، لم تتعدَّ الاتفاق و(بعض) المعنى الى الوقع والأثر. فاقتصر الاحتفاء، إذا جاز الكلام على قصور وهو يجوز على سبيل التجريد، على الكتاب الفريد. ولكن الكتاب الفريد يقتفي أثر عشرات من الأعمال السابقة. والواقعة الفنية، أو العمل السينمائي، لا ينفك أثره يتجدد وينبعث، إما من طريق مشاهدة الشريط وتوزيعه وبثه وتحميله، وإما من طريق الكناية به عن أحوال الديكتاتورية في العالم المعاصر.
ولعل الوجه الثاني هو الغالب على تردد (أي ترديد، طبعاً) أصداء أول شريط «ناطق» صنعه، متأخراً، من يسميه جان جينيه، في «الأسير العاشق» (كتابه «الفلسطيني»)، «المهرج الصغير»، وهو تناوله في «مراسم الدفن» بالاسم. ودخل شابلن السينما الناطقة، غداة عقد وبعض العقد على شيوعها وفشوها في أعمال أقرانه المعاصرين، على مضض. فهو، المهرج فعلاً وحقيقة، رأى ان الكلام إذا غلب على الصورة، وعلى أداء الممثلين وحركاتهم وسكناتهم، أبطل ما يختص به الفن السابع، وهو مزيج العبارة الجسدية وتوقيعها الموسيقي. وكان دخوله من باب الواقعة السياسية الاجتماعية والفنية التقنية الأبرز في القرن العشرين «الفظيع»، أي باب الديكتاتوريات الجماهيرية و«الكليانية»، على ما سماها، مبكراً، بينيتو موسوليني، (الديكتاتور الإيطالي المسمى في «الديكتاتور» بنزينو نابالوني (ويخص الشريط زيارته التاريخية الى برلين في 1936 بفقرة بارزة).
فالطاغية الحديث أو المحدث، على خلاف الطاغية التقليدي من الصنف الشكسبيري الذي يمثل عليه ريتشارد الثالث، على ما رأى ألكسندر سولجنتسين ونوه، هذا الطاغية مسرح طغيانه هو ملأ الأشهاد ورؤوسها، وعلانية الراديو (الإذاعة) المترامية قبل الشاشة التلفزيونية العملاقة المنصوبة في الساحات العامة والمجمعات والسرادق والملاعب. ويختال الطاغية الجماهيري، حاكماً مستبداً أو خطيباً «معارضاً»، صورة وصوتاً، على الخشبات الإذاعية المترامية البث «الحي» و«على الهواء». فالمذياع، ومكبر الصوت، وآلة التصوير، و«استديو» التصوير، والتسجيل على الأشرطة والأفلام هي مباني الخطابة الجماهيرية والشعبية المعاصرة، التقنية والفنية. فلا مناص للطاغية المعاصر والمحدث من ترك قصوره وسراديبه وملاجئه الكثيرة والمبثوثة في نواحي السلطنة أو الجمهورية، المعروفة والمستترة، الى «علانية» منبر الخطابة أو «المؤتمر الصحافي»، قناع منبر الخطابة المنفردة في معظم الأوقات. وذلك لأن سلطان الطاغية المحدث، في العصر الديموقراطي المتربع في سدة المجتمعات الطرفية والنائية على رغم تطرفها وبعدها، يباشره صاحبه على الجماهير المتكتلة في «جسم كبير» (حسين الموسوي النبي شيتي) ماثل و«ذائب» (محمد باقر الصدر النجفي) بواسطة تقنيات البث والتجسيد والتكثير والمحاكاة والنسخ.
فلاحظ مراقبون، بعضهم حديد النظر والملاحظة، أن الأطوار التقنية والاجتماعية الجديدة المولودة من إنتاج رأسمالي صناعي قاعدته دائرته إنتاجاً وتوزيعاً، الأرض المعمورة كلها، ومن دور الدولة التنظيمي والتعبوي العريض والفاعل على ما اختبرته الحرب العالمية الأولى القريبة يومها تمخضت عن ثلاثة. الأول، رجل الصناعة، مهندس الإنتاج الجماهيري وخطوطه الصارمة، وبائع السلع الكمالية الى جمهور متعاظم الاتساع، على مثال هنري فورد وظله تشارلز تايلور. والثاني الزعيم والقائد الجماهيري كذلك، متخطي الهيئات والمؤسسات الوسيطة والانتخابية الى «تجسيد« الشعب والأمة من غير وسائط أو حواجز، ومثاله بينيتو موسوليني و«تلميذه» في وقت أول، أدولف هتلر، وعدد لا يحصى من صغار الدوتشه والفوهرر وخطباء التظاهرات الحية والجموع. والثالث هو الممثل السينمائي «الشعبي»، و«معبود الجماهير» على ما قيل في امثال رودولف فالنتينو أو في جين هارلو، «البلاتينية» التي اقتدت بها مارلين مونرو، أو في غريتا غاربو، «المتألهة» من غير انتساب (على معنى «بردة» البوصيري)، وفي «شارلو» قبل هؤلاء وربما بعدهم. والثلاثة جماهيريون وشعبيون على وجوه متفرقة. وتدين الوجوه هذه كلها الى الصناعة المتحررة من القيود التقنية والمحلية العائلية والوطنية القومية بسماتها المشتركة: «إنتاجها» من غير حدود كمية وعددية وتوزيعها على النحو نفسه، وتسويتها أو صناعتها على مثال أو أنموذج واحد ومشترك تكرره نسخ لا تحصى، وعلانيتها العامة، على معنى استعراضها على العموم و«العوام» واحتساب الاستعراض عاملاً بارزاً ونافذاً في الظاهرة.
وفي «الديكتاتور» (الأكبر أو الأعظم) بعض آثار هذه الوقائع والأحوال. وروى شارلي شابلن نفسه، في سيرته أنه حمل شارب (شاربي) الديكتاتور النازي والألماني على سرقة مشهودة ومحققة. فالشارب الأسود الخارج من داخل المنخرين، والمنفرج الزاويتين السفليين فوق الشفة العليا على شاكلة المكنسة (وهو شبه تناوله رسامو الكاريكاتور وقلبوه على وجوهه المحتملة كلها وأطنبوا في تقليبه)، هذا الشارب عرف به الممثل الذائع الصيت منذ بداياته التي سبقت بدايات هتلر المغمور الى أواخر العشرينات. وعشية استيلاء النازيين على المستشارية (وهو استيلاء على رغم الانتخابات التي أولت الهتلريين غالبية نسبية، في 1931) زار شابلن برلين. فاستقبله الألمان استقبالاً حافلاً. ونددت الصحافة النازية بالاستقبال الجماهيري، والنازيون يومها ستة ملايين ناخب و107 نائب (وكانوا 7 نواب في دورة 1928)، وأوَّلته على وجه مقارنة بين الديكتاتور «الصاعد» والواعد وبين مهرج مضحك. فنددت بالممثل الأشهر مقدار ما نددت بالألمان وغفلتهم وعماهم. وأنصار الطغاة لا يطيقون، قديماً وحديثاً، وفي بقاع الأرض كلها، مقارنة مؤلَّهيهم بالمهرجين، ولا تصدي السينما أو المسرح والقوالين الى المتألهين المقدسين بالمحاكاة الساخرة والضاحكة. ولم يفت «الشبه» صحيفة الحزب الاشتراكي الديموقراطي أو رسام كاريكاتورها، على ما يروي جان ناربوني، فرسم هذا غوبلز، وزير دعاوة هتلر لاحقاً ومحرضه الصحافي والإذاعي والسنيمائي الأول، معتلياً منبراً يعلو جمهوراً من الحزبيين الأنصار يحيي خطيبه الناري الإذاعي بتحية الذراع المرفوعة، وإلى جنب الخطيب صورة «شارلو»، وتحت الرسم «شرحه»، وفيه ان الممثل الزائر لم يبهر أهل برلين ولم يدهشهم، فهم اعتادوا على «أشباهه».
[نفي الشبه
والمدخل الى الشريط أو مقدمته تنبيه يزعم ان «كل شبه بين الديكتاتور هاينكيل وبين المزين اليهودي اتفاق خالص، ويلاحظ ناربوني، ويدعو قارئ «... لماذا الحلاقون؟» الى ملاحظة سخرية الملاحظة المموِّهة والمموَّهة. فالعادة جرت على التنبيه الى بطلان دلالة الشبه بين حوادث الشريط، أو القصة والرواية، وبين «الواقع» أو الوقائع. ولم يسبق، على الأرجح، أن دعي المشاهدون أو القراء الى الانصراف عن تأويل شبه قريب أو بعيد بين موضوعين كلاهما متخيل، وكلاهما جزء من الشريط نفسه أو الرواية نفسها. ويقوي السخرية، أو المفارقة، الشبه «التاريخي» والمشهور والمشهود بين الطاغية النازي وبين الممثل البريطاني المنشأ، وما تراواه الناس، وسار فيهم، من ان هتلر، يوم كان داعية مبتدئاً يتنقل بين مقاصف ميونيخ وحاناتها ساعياً في دور شعبي أو جماهيري، إنما اختار الشارب على شاكلة المكنسة المنفرجة تيمناً بشارب الممثل والمهرج الذائع الصورة. وعندما انتبه الجمهور الى الشبه وعم الانتباه، ضاق الطاغية به، أي بالشبه وبإثباته، وبكنايته المتعاظمة عن المستشار «العظيم»، والمقارنة بينه وبين المهرج العبقري الذي نسبته الدعاية النازية المضللة إلى اليهودية وأحجم هو عن نفيها.
ونفيُ الشبه، في التنبيه التمهيدي، ينهض على مفارقة داخلية تلابس الحوادث التي يرويها الشريط. فالدَّوْران، دور الديكتاتور النازي هاينكيل ودور المزين (وليس الحلاق) اليهودي الغفل الاسم، يؤديهما معاً شارلي شابلن من غير فرق الهيئتين أو الصورتين الخارجيتين. والمزين اليهودي في الشريط الشابليني هو سليل أدوار «شارلو» الصامتة في الأشرطة السابقة التي وسمها الممثل والمخرج باسم بطله المشتق من اسمه، تشارلز بيرس شابلن. وعلى نحو ما هو أول «بطل» ناطق في أول شريط من هذا الصنف في أعمال المشخص الكبير الذي وسم معظم الأشرطة السابقة بلقبه السينمائي، هو كذلك آخر «شارلو» من صنفه وطرزه أداءً وقيافة، من غير الاسم المعروف والذائع.
والوجه الثاني من المفارقة الداخلية هو قيام الشبه بين الدورين من حبكة الشريط أو حكايته مقام «المحرك»، على قول الكاتب الناقد. ففي الشطر الأخير من الشريط يُرى الديكتاتور في رحلة صيد ببلاد تغمرها المياه. وبينما يصوب الرجل المخيف، وحوله حاشيته الرمادية والسمراء، بندقية الصيد على بطة ثقيلة الطيران، ويطلق النار على الطريدة، ترديه الطلقة المنفجرة الى الخلف، وترميه في الماء. ويحجبه وقوعه في الماء وضآلته التافهة عن أصحابه وحاشيته. ويصادف، في أثناء بحث الحاشية عن سيدها، مرور المزين اليهودي، الشبيه والمختلف، غير بعيد من مسرح الصيد. فيتراكض أهل الحاشية، ويحوطون من يحسبونه سيدهم و«أميرهم» ويحفونه. وحين يخرج الديكتاتور من الماء، ويريد استعادة محلة ومكانته، ينكره أصحابه، ويسخرون به، ويغلظون معاملته. ويقوم المزين اليهودي خطيباً في الناس شأن الديكتاتور المفوه شكلاً وظاهراً وعلى خلافه مضموناً (الدعوة الى أخوة الناس) وإخراجاً (من غير ميكروفونات) وجمهوراً (البشر الأسوياء محل الأعيان والآلات) وأثراً (التأمل والحلم وإدارة الوجوه صوب السماء الفسيحة عوض الهتاف بالتلبية والسلام بالأذرع)-، يدعوه الى الخطابة شبهه بالديكتاتور.
وعلى هذا، فإنكار الشبه بين دوري شابلن، وهو بمنزلة واسطة الحبكة أو محركها، مسألة حاسمة ومحورية. ويعزو ناربوني الإنكار، على وجه أول، الى إسناد الفيلم الدورين الى تاريخين متباينين ومختلفين. فالحلاق اليهودي الألماني يتناوله الشريط، في مقدمته، حين خروجه من المستشفى. وهو قضى 20 عاماً، منذ 1918، ختام الحرب الأولى التي قاتل في اثنائها، فاقداً ذاكرته. ويعود من المستشفى الى حانوته أو دكانه في حارة اليهود (أو «الغيتو«) ليس ليلفي بلداً جنح الى التسلط والمحافظة والعصبية القومية وحسب بل ليجد نفسه في بلد غريب لا يتعرفه، هو الخارج من نسيانه وصفحات تاريخه «البيض»، على ما سمى بعض الروس حوادث تاريخهم السود، الستالينية واللينينة قبلها. فعالما هاينكيل الديكتاتور والمزين تباعدهما الواحد من الآخر غربة ليس بعدها ما يشتركان فيه، على رغم أنهما «في» ألمانيا واحدة مفترضة. وهي حال المجتمعات التي تستولي على دولها ثورات «إيديولوجية». والمرة الفريدة التي يحضر فيها الدَّوْران معاً ليست من صنف المماراة، أو حضور الواحد المرئي بإزاء الآخر «في» المرآة، بل هي من صنف السمع.
فبينما يتنزه المزين في طرقات الحارة الهادئة منذ ايام قليلة، وهي ايام «تهدئة» ينزل عنها الحزب المستولي والمسلح والمبتز، في انتظار رد إيبشتاين المصرفي اليهودي على طلب قرض تقدم هاينكيل به، في صحبة خطيبته حنة، يدوي صوت هاينكيل في مذياع منصوب على تخوم الحارة ومصوب عليها. وينفجر الصوت المدوي باللعنات والتهديد والوعيد، فيتلوى جسم المزين خوفاً وقفزاً الى أمام وإلى وراء، ويتلمس الهرب لا يعرف الى اين يلجأ أو أي جهة يقصد. ويشبه الجسد المرتجف الميكروفونات الملتوية تحت وقع الخطابة الديكتاتورية نفسها في مشاهد أخرى، تعالج الآلة المصنوعة من معدن على شاكلة معالجتها الجسم البشري (وشبه الجسم الحي بالآلة مصدر إضحاك مجرّب). ويعلل جان ناربوني تعمد شابلن خفاء الدورين واحدهما عن الآخر وعليه بما يسميه «حرب إبادة سينمائية». فلا يحضر أحد الاثنين إلا حين يغيب «شبيهه». ولا ريب في ان وقوع «الحرب» بين الديكتاتور النازي، والآري العنصري، وبين اليهودي الخارج من الحرب فالمستشفى فالحارة، لأمر حاد الدلالة تتردد فيه، وفي تناوله السينمائي، أصداء «ليلة الكريستال» التي أباح فيها النازي الأول شطراً من الألمان العزل لعدوان أهل القوة النازيين.
ويدين هاينكيل، ومن ورائه الديكتاتور النازي، ببعض كيانه وهويته المُعلَمة والفارقة (الشارب الأشهر) الى ضرب من «السرقة الوجودية» أو «السطو الوجودي»، على قول أحد كبار نقاد السينما في النصف الأول من القرن الماضي، أندريه بازان. وتنتهي السرقة بالسارق، على مثال تقمص الولد الإنسي هويته من طريق انتخابه سمة «أبوية» يرسي عليها رسم صورته المتماسك والمجرد، تنتهي به الى نصبها أخص خاصِّه، وأقرب هذا الخاص الى نفسه وألصقه بها. فهاجس الديكتاتور الأول، وذريعة الخطيب المفوّه والساحر الى دمج الجمهور وآحاده في كتلة عصبية صماء، ومسلِّمة منقادة، هو تمام صورته وتماسكها، ورسوخه المادي والمعنوي فيها في الأوقات والظروف كلها. فينبغي ان يكون الزعيم «المهيب»، على قول صدام حسين، نظير نفسه على الدوام، وكفواً لها من غير نقصان أو ثلم. والأشباه الذين «يكثِّرون» جسد الديكتاتور يتولون حماية فرادته ويحصنون هويته وسلطانه ويخرجونهما من متناول العدو. وشرائط الزعامة الديكتاتورية والخطابية، تمامَ صورةٍ ورسوخاً فيها ومكافأة نفس (من غير دخاله «دخيل» ولا هجنة أو توليد أو حادث)، هي نفسها أركان العنصرية والعصبية الدموية والنسبية والاعتقادية.
وعلى الضد من هاينكيل، وكتلته الخطابية والإيمائية المرصوصة والظاهرة، تفصل المزين اليهودي عن نفسه وتوسع شقتها هذه النفس لجةُ العشرين عاماً التي التهمته وفجوتها الفاغرة، وغاشيةُ نسيانه المديد. ويهيم المزين على وجهه في عالم غريب انقلب على أركانه، مشرداً «أساسياً» من غير مرسى ولا ميناء، و«راقصاً» يتعالى عن الإثبات والتعيين. وعلى هذا، فالمزين ليس شبيه هاينكيل بل هو قرينه، على المعنى السحري، أو «ثانيه» على قول قيس بن الملوح في سحر ليلى وإصابتها به المولهين بها أو «مجانينها». وينتهي الأمر بالقرين، في القصص الشعبي، الى الاستحواذ على صاحبه والتهامه والنقض عليه. والخطبة التي تختم الشريط، ويلقيها المزين على وقع موسيقى أوبرا فاغنر («النازي» المزعوم)، «هولينغرين» ابن بيرسيغال فارس الكأس المقدسة، تبدد خطب القائد السياسي المسلح والناري وتذروها. فهي قرين الخطابة الهاينكلية، الهتلرية، وتصدر عن الفرق الذي يصدر عنه المزين، وعن الشقة بينه وبين نفسه، وليس عن الهوية المحمومة و«التامة» التي يصدر عنها الخطيب القائد والسينمائي (التلفزيوني والإذاعي).
[الخطبتان
فنفي الشبه بين الطاغية الخطيب وبين المزين ليس تفصيلاً جزئياً، بل هو مبنى روائي وصوري يقوم من الشريط بمنزلة الركن. وخطبة هاينكيل، وهي تتوسط الشريط، وجه من وجوه المقارنة التي تنتهي إلى النقض و«السطو»، على ما مر القول، من طريق الفرق والمعارضة (على المعنى البلاغي). ويرى المشاهد، في اثناء الخطبة، صفحة وجه هاينكيل، الى يساره وزير حربه، هيرينغ، وإلى يمينه وزير الداخلية، غاربيتش. وعلى المنبر «غابة» من الميكروفونات. ويخاطب الرجل جمهوراً غير مرئي، يهلل منتشياً بكلام الخطيب. ووراء الخطيب يجلس أعيان النظام النازي على مقاعد ومدرجات. ويخطب شابلن (هاينكيل) خطبته الطويلة بين يدي جهازين تقنيين مرئيين: جهاز الميكروفونات وجهاز تصوير المشهد الذي يصوره الشريط من خارج، ويحيله موضوعاً. ويرعى الجهازان التمام والامتلاء اللذين يزعمهما القادة الزعماء والخطباء السياسيون والعاميون لأنفسهم، وتجلوهما التقنية الفوتوغرافية والإذاعية الجماهيرية على الوجه الجديد والنافذ المعروف والمجرَّب.
وتلزم الصورةُ السينمائية في اثناء الخطبة المحورية، استقبالَ صفحة الخطيب، أو وجهه. وتَقطع الصفحة ثلاث مرات. فيُرى هاينكيل من ظهره وهو يستقبل جمهور أنصاره، ويدير ظهره الى آلة التصوير. وتتخلل مشهد الصفحة المتصل إيماءات الزعيم الخطابية المتغيرة، وإيحاءاته الكثيرة والمتناسلة، فيأتلف منها الاستعراض الهتلري. وبينما يلقي الخطيب خطبته، ويعلو صوته وينخفض، وتنحرف النبرة فجأة وتنعطف على غير توقع من الطبقة الحادة الى الصفير فالطبقة الحارة والعريضة، فلا يشك المستمع المشاهد في ارتجال الخطيب خطبته وفي خطابته تحت وقع ما يُلهم و«يوحى» إليه تنقل الترجمة الى الإنكليزية، بصوت خال من الانفعال، ما يقوله الخطيب المنفعل والملهم. والنص الإنكليزي هو ترجمة أمينة وسابقة لخطبة ناجزة شبَّه الخطيب الماهر ارتجالها وولادتها عفو خاطره وإلهامه ووحيه. والبث «الحي»، أو «على الهواء»، الى الأداء المعقد والمركب، خداع مشهدي أتقن الخطيب فن إخراجه، على المعنى المسرحي والسينمائي الذي راج مذ ذاك، ويتعاظم رواجه في مجتمعات الفرجة، على ما سميت وتسمى قبل العولمة وفي اثنائها.
وتستعيد أجزاء الخطبة لازمات الدعاوة النازية في الأعوام التي سبقت الحرب الثانية، وأتى الانفجار مصدقاً لها (للازمات الدعاوة والخطابة النازيتين) على ما هي حال الديكتاتوريات عموماً، واستدراجها الحروب ورميها «الأعداء» بالإعداد للحرب وتبييتها. ويصرف الخطيب الملهم الجزء الأول من خطبته المفهرسة، ولو من غير ورقة، الى التذكير بعهد ماض غلب عليه الذل والضعف، وطوته الحركة الثورية الى غير رجعة، وإلى ألف عام هي عمر الرايخ الثالث الموعود. وهذه المقدمة الملحمية توجزها الترجمة بجملة باهتة تعارض تومانيا (ألمانيا) الراكعة بتومانيا الناهضة والواقفة. وتعزو الخطبة المترنحة ضعف الأمة وهزائمها الى الديموقراطية والحريات العامة وحرية القول والتعبير. وتتدفق كلمات مبهمة تطفو منها وتبلغ السمع لفظة «الرائحة الكريهة»، والفعل الذي ينشرها. ويصل الخطيب الجزء هذا بامتداح تفوق الأمة «الجديدة» العسكري في الجو والبر والبحر. ويتوقع خوفَ الأعداء وانهيارهم بعد محاولة يائسة أخيرة يحشدون فيها قواهم، ويهاجمون تومانيا، ويختبرون صمودها.
ويدعو الخطيب الجمهور الحاشد الى الصمود والتضحية. ويتلفظ هاينكيل بلفظة «تضحية» بوضوح، على خلاف سيل الألفاظ المبهمة والغامضة. وحين تسمع الكلمة، يعمد الى شد حزامه. ويحاكي هيرينغ، وزير الحرب، حركة زعيمه ومرشده (ومعنى «فوهرر»، لقب هتلر، هو المرشد)، فتحول سمنته، وبطنه المنتفخة، دون بلوغ الحركة غايتها. ويميل الخطيب الى مساعده، ويداعبه ويسميه «العروس (اللعبة) الصغيرة»، ثم «بسمارك»، مستشار الرايخ الثاني وموحد ألمانيا في الربع الثالث من القرن التاسع عشر من طريق حروب وفتوح مظفرة لا يزال عرب (وفرس وترك) كثر يتخذونها إماماً أو مثالاً. ويمزج الجزء الثالث والأخير من الخطبة الكلام المتقطع والغاضب والصاخب بحركات عصبية قصيرة ومتعاقبة على غير نظام. وتطفو ألفاظ لا رابط ظاهراً بينها تتصدرها «العقاب» وأوروبا وفرنسا وفنلندا وروسيا، من غير الولايات المتحدة، و«الحرب الخاطفة». ويوجز المترجم خاتمة الخطاب بالقول ان هاينكيل يرجو السلام لبقية العالم. فيحقق ملاحظة كلاوس مان، الكاتب وابن توماس مان، على إفساد الديكتاتورية الجماهيرية والثورية لغة المخاطبة، وانتهاك معاني كلماتها وتحويرها الى خلافها: فالسلام يكني عن الحرب، على قول جورج أورويل في «1984»، غداة الحرب.
و»الديكتاتور» يسحق الطاغية والمجرم الألماني، وزميله الإيطالي حاكم باكتيريا، على ما يسمي حليف ألمانيا (تومانيا) وقطب المحور الآخر، سخرية وهزءاً وضحكاً. فعظمة جرائمهم، على معنى هول الدمار والقتل المتخلفين عن استبدادهم وحروبهم وقتالهم وقتلهم، لا تجعلهم مجرمين كباراً، على قول بريخت. فهم مرتكبو جرائم عظيمة، ومقيمون على صغارهم وتفاهتهم وإنسيتهم الضئيلة، على ما تشهد أجزاء كثيرة من فيلم شابلن.
ونظير خطبة هاينكيل تنهض خطبة المزين اليهودي. والخطيب، هذه المرة، عاري الوجه، قريب من عدسة التصوير، من غير ميكروفونات، ووراء الوجه القريب سحب لا تحجب، في البعيد، رسمَ كاتدرائية. وتطل من الوجه العاري، وهو عار من ألاعيب وجه هاينكيل وقسماته، دهشة الحلاق وخشيته وتردده. وخطبته تستجيب إلحاح قيادة أركان تومانيا التي التبست عليها هوية الرجل. ويتكلم الخطيب، الذي لا يشبه الخطيب الأول المفوه والمسلح والفاتح، بصوت خافت ومستوٍ ومخنوق. فيقول إنه لا يود أن يكون فرعوناً أو سلطاناً، وجل ما يريده هو مساعدة كل الناس، مسيحيين ويهوداً وسوداً وبيضاً، وسعه. ويلاحظ ناربوني أنها المرة الوحيدة التي يتلفظ فيها غير نازي، في الشريط، بلفظة «يهودي». والتطرق الى السود صدى صناعة الفيلم في الولايات المتحدة.
ويتناول شابلن مسألة التقنية، وتقدمها المطرد، وتفريقها الناس وشرذمتهم. وبينما يتماسك الصوت، تقيم النظرة على ترجحها، وإحجامها عن قصد شيء بعينه، وتبعد صورةُ الخطيب، وتُرى الميكروفونات فيسمع صوت يملأ الشاشة، ويتوجه الى «ملايين الناس في أرجاء العالم»، وفيهم حنة الهاربة وعائلتها الى اوستيرليش (النمسا محورة). ويدعو الخطيب المرتجل الناس الى الرجاء، ويتوقع انقضاء الكراهية، وعودة السلطة المغتصبة الى الشعب. ويخاطب الجنود بصوت جهير ينبههم الى أنهم «بشر»، وعليهم «الكفاح في سبيل الحرية». وتقرن حركة الصورة، «ترافلينغ» أمامي خفيف، خطبة الحلاق بخطبة الديكتاتور المسلح على وجه الرد والنقض والفرق. وتتبدد آلات التسجيل والإذاعة. وينظر الخطيب الى المشاهدين. وتتردد في الخطبة السياسية الواضحة كلمات مثل الوحدة مقرونة بالكفاح. ويخيم على الصورة، في الدقائق الأخيرة من الخطبة ومن الشريط معاً، عالم سماوي يسوده الابتهال. وتفارق الحماسة الخطيب المرهق، وغير المصدق تهوره، فيُمرر أصابعه في شعر رأسه. ويقصر كلامه على حنة وحدها.