الأحد، 28 أغسطس 2011

سقط الطاغية ... فأين "المقاومة"؟


المستقبل، 28/8/2011
  أوقع انهيار "جماهيرية" معمر القذافي – بعد نحو خمسة أشهر من قتال مركب اختلط فيه المقاتلون الليبيون، المرتجلون والمتفرقون أهواء ومصادر ومصالح، بقوات الأطلسي الجوية واستخبارييها الأرضيين ومموليها الخليجيين وبـ"قوات" الإعلام المتلفز واليقظ – شطراً من الآراء العربية "العامة"، ومذاهبها وتياراتها، في حيرة تتفاوت شدتها بين قطاع رأي وآخر. فلم يشك بعض الشطر هذا في أن جموع الليبيين، من نفوسة غرباً إلى بنغازي شرقاً وبينهما مدن الشمال النفطية، لم تكن إلا وقود حرب "الأطلسي"، الأميركي ولم لا الاسرائيلي من وراء الستارة، على جزء من الوطن العربي أو جزء من المسلمين وأمتهم. وذلك تمهيداً لاستكمال نهب ثروات الشعب المنكوب، وزعزعة هويته. وعليه، فحال الأمة في أفغانستان وعلى الحدود الأفغانية – الباكستانية وفي العراق وفلسطين ولبنان وسوريا، والخليج أو ضفته الغربية، واحدة. وتدعو إلى المقاومة والممانعة والتصدي للاستعمار في حلله المتجددة.
  ولا يحمل هذا الرأي أصحابه على تخفيف حكمهم في معمر القذافي، أو على التردد في نعته بالطغيان والانحراف والتبديد والجنون والاجرام. وبعضهم يمزج هذا كله بعمالته للأميركيين وتآمره وإياهم ومشورتهم. فينتهي أصحاب الرأي المترجح، وهو رأيان متفرقان، إلى حال يرثى لها (إذا كان ثمة من في وسعه أن يرثي): فالسلطان الذي يستحق ألف مرة أن يطاح إنما يطيحه من تحوم عليهم ألف شبهة، ليست أولاها قاعديته البن لادنية ولا الأخيرة أطلسيته المعيبة والفاضحة. وهذا دور يدور ولا يُخرج منه. والحق أن أصحاب هذا الترجح يستطيبون الدوران في حلقة الزار هذه. ولهم أجران عظيمان على بكاء مزدوج: واحدٍ يندب الاستبداد ولعنته وتناسله، وآخر يسيل دماً على هجنة الأمة المخدوعة والمغدورة من بيت ابيها وعترتها.
  وما كان كامناً في الموقف من الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية العربية سوغت له الحركة الليبية المتعثرة والمترجحة – في أعقاب نيف وأربعين سنة من مساعي نفي الليبيين من ليبيا، وإخراجهم وطردهم منها مادياً ومعنوياً (على وصف أحمد ابراهيم الفقيه النفَّاذ، في "الحياة" اللندنية، 22 آب الجاري) – الظهور إلى العلانية قبل أن يفتضح مع الحركة السورية. فتصفيق بعض ضباط الباسدران، وحجج المعممين على منبر جامعة طهران، المعتدل والموارب للحركة المصرية (وهم لم ينتبهوا للحوادث التونسية البعيدة والراطنة بلغة وطنية ومدنية) دعاهم إليه إسقاطُ الحركة طغياناً داخلياً متعسفاً وثقيلاً يرتدي حلة جغرافية استراتيجية "أميركية"، أو غربية، ومناوئة حكماً للسياسة الإيرانية العسكرية والإيديولوجية المذهبية والتوسعية. وزعمت دعاوة الضباط والمعممين بإيران،  و(بعض) لبنان والعراق وسوريا (حيث الضباط والأهل آيات وألوية معاً)، أن السبب في الخروج على الوالي الظالم ليس ظلمه وفساده واستبداده بالأمر و"الحال" وحده وقهره "الرعية" وإذلالها، بل مسايرته بعض السياسات الخارجية الفظة، وتصديه لمطامع إقليمية (إيرانية) تفوق فظاظتها فظاظة السياسات الأميركية؛ وتورث اقتتالاً مدمراً لا تُرى خاتمته.
  وتذرعت السياسة الايرانية الحرسية والمذهبية بالوجه الثاني الذي سماه متظاهرو ساحة التحرير بالقاهرة "كره الاميركان" (في هتاف أول هو "لا مبارك ولا سليمان/ احنا كرهنا الاميركان") إلى غمط الوجه الأول والبارز الذي عاد إليه المتظاهرون المصريون، وصدروه حركتهم، وسموه "إسقاط الطغيان" (ولخصه هتاف نسخ السابق "لا مبارك ولا سليمان/ يسقط يسقط الطغيان"). ويندرج التذرع في صنيع سياسي لا يمت الى التحري عن حقيقة الحركة المدنية الديموقراطية والوطنية، وعن منازعها العميقة، بصلة أو بسبب. فما يسعى فيه قادة الباسدران وخطباء الجمعة في طهران وقم، ويريد جمعَ فُتاته وأكله أركانُ الأجهزة الخاصة الأسدية وعصبيتهم، هو الاستيلاء على رافعة أو عقدة مسالك ومحاور تخولهم مد نفوذهم إلى الجماعات القريبة من مركز السلطان والبعيدة. ومناهضة القوى والدول الكبيرة والنافذة، وحمل النزاع (الفعلي) معها على نزاع واحد ثابت ومطلق، هي رافعة مجربة، متناسلة ومتصلة منذ الحروب الصليبية (أو فتح خيبر، على ما يهتف بعضهم) إلى هبوط طائرة جيفري فيلتمان بمطار بنغازي في طريقه الى القاهرة.
  وتمييز إسقاط الطغيان، أي الحركة الديموقراطية الساعية في لجم السلطة المتعسفة والمرسلة وتقييدها بهيئات الدولة التمثيلية والدستورية القانونية وبمصالح المجتمع والجماعات المتفرقة وكياناتها التاريخية الموروثة والمتجددة ،من كره الاميركان، وهو الكناية الظرفية عن المطالبة بالاستقلال الوطني والندية الدولية الكريمة والعادلة والمسؤولة، لا ينفي علاقة التبعية بالاستبداد السياسي. ولكن المثال الايراني – الخميني، والسوري – الأسدي قبله، والليبي - القذافي، يكذب صيغة العلاقة في حلتها أو حللها الإيرانية والسورية والليبية وغيرها. فالحلل هذه جمعت وتجمع نزعة قومية "استقلالية" وعدائية متطرفة الى استبداد سياسي وبوليسي لا قيد عليه لا من داخل ولا من خارج. والمفاضلة بين النازعين، على ما لا ينفك يصنع التخيير الإيراني الحرسي والسوري "الجمهوري" والمدرع بين الانصياع وبين الخيانة، تتحول عبثاً ولغواً حين يختصر الاستبداد المذهبي العصبي والجهازي البيروقراطي السياسة، والحياة السياسية كلاً وجميعاً، في "مقاومته". ويترتب على "مقاومته" وعلى مكانتها، في المركز وفي الأطراف والولايات، تصديع أبنية الحكم والدولة المدنية والقانونية، ومصادرة الحريات والحقوق الشخصية والعامة، والتحريض على الحرب الأهلية، وترسيخ تفاوت حاد وملح بين جماعات السكان والأهالي والأفراد، والانقطاع من أطوار العلاقات الدولية ومكتسباتها، وإناخة القوة المتسلطة العصبية على المجتمع وعلاقاته وحاجاته.
  وتعريف الحياة السياسية على هذا النحو، وإرساؤها على هذه الأركان والمباني، قادا إلى الموقف من انهيار القذافي ورهطه. وقادا من قبل الى الموقف من انهيار سوريا الأسدية، على صورتها القاتمة الموروثة من نظام الوحدة الناصري ففصول البعث الثلاثة أو الأربعة (إذا عد حكم الوارث فصلاً مستقلاً). فتسويغ اجتثاث السياسة، وخلافاتها ونزاعاتها ومداولاتها وتحكيمها ومساوماتها، بضرورات الاستقلال والانكفاء والمناعة القومية، لا يُخرج منه إلى أفق زمني أو إلى سياسة إصلاحية يعلق عليها المواطنون آمالهم وتوقعاتهم. واليسر النسبي الذي غلب على التغيير الديموقراطي في تونس ومصر، والبلدان خضعا طويلاً للنفوذ الغربي، قياساً على استعصاء هذا التغيير في ليبيا وسوريا وإيران، قرينة ربما على قوة أثر العصبية القومية المنكفئة والعدائية في تغذية الاستيلاء الأهلي والبيروقراطي الجهازي والتمكين له.
  فالنعي على الخارج وعلى تدخله وسيطرته، و"تشويهه" الأبنية الداخلية، يتوسل بحقائق ينبغي ألا تنكر الى أكاذيب لا راد لها، ولا سبيل الى ردها إلا بـ"ثورة". وهذه لا تتفادى الحرب الأهلية، إذا أفلحت في تفاديها، إلا بعسر شديد. والترتيب السياسي الذي يقدم طلب الاستقلال القومي والأهلي والعصبي في رعاية سلطة بيروقراطية مركزية على طلب السياسة المدنية والديموقراطية والوطنية ومعيارها، وعلى إنشاء الدولة في كنفها وعملاً بموجباتها، هذا الترتيب ليس مرآة طبيعة الأمور وسننها في مجتمعات الأمم المستعمرة سابقاً، والمهددة الهوية. فهو مطية "الطبقة" الحاكمة ومصلحتها في احتكار السلطة والموارد، وإقصاء الجماعات والطبقات الأخرى من هذه وتلك. وهو، أي الترتيب، جزء من حرب أهلية غالباً ما تشنها الطبقات والجماعات الضعيفة والطرفية على كيان الدولة وبنيانها الحقوقي القانوني الضعيف قبل بنيانها الاجتماعي والاقتصادي. وهو جزء من استراتيجية استيلاء هذه الطبقات والجماعات على السلطة، والاحتفاظ بها في منأى من النزاع السياسي والاجتماعي السلمي.
  وقد تكون الحروب الداخلية اللبنانية، وهي فصول نزاعات داخلية وإقليمية أهلية واجتماعية وبلدية معلقة على أدوار ومصالح خارجية وملبننة، المثال الجليّ والحاد على مفاعيل الترتيب هذا. فما أنجزه اللبنانيون، وفي مقدمهم جماعاتهم المسيحية، غداة الحرب الثانية، أي قبل ثلثي قرن تقريباً، يفوق ما تسعى في بلوغه الحركات الوطنية والمدنية والديموقراطية العربية في حقول الحريات المدنية والسياسية، والحقوق الانسانية، وتقييد سيطرة الدولة والإدارة والقضاء. وحُصِّلت هذه من طريق روابط وثيقة وقديمة بالغرب الرأسمالي الاستعماري والليبرالي الديموقراطي، من غير انفصال. وبدا هذا في نظر المنظمات الفلسطينية المسلحة، وشطر من اللبنانيين العروبيين، والشارع العربي الناصري والإسلامي، ضئيلاً، ولا يقارن بالمكاسب القومية المتوقعة والمقدرة، وسرابها القاتل. وجاز إنكار قيمة الأبنية السياسية والاجتماعية الديموقراطية والليبرالية، وتأخيرها عن معيار العصبية الأهلية وحصادها "القومي" الاستبدادي والمدمر، جراء إدراجها المجتمعات الوطنية ودولها في سياقات عالمية مشتركة، مدنية وزمنية، ومجيئها من طريق جماعات محلية مسيحية.
  وتستر إنكار "الطائفية" (المسيحية دون غيرها، و"اللبنانوية" دون الطائفيات العربيات والاسلاميات) إنكاراً عنيفاً قومياً ومذهبياً وثقافياً، على نازع ساحق إلى إنكار استقلال المجتمع وجماعاته عن الدولة والسلطة، وغمط الجماعات حقوقها في كياناتها وتواريخها غير الانفصالية بالضرورة. وتستر أولاً على ازدراء مكانة الديموقراطية والليبرالية ومحلهما من مصائر المجتمعات والدول العربية. وها يعود ما طُرد وحطم معظمه في الباب اللبناني، وقبله في باب "التنظيمات" العثمانية، بذريعة غربيته ونصرانيته أو رأسماليته وامبرياليته، من أبواب عربية (وإسلامية) وشعبية مشرعة.   

الأحد، 7 أغسطس 2011

الجهاز العشائري ـ الأمني يشنّ حرب عصابات على مجتمع السوريين السياسي ورابطة الدولة الوطنية

المستقبل - الاحد 7 آب 2011
في مطلع الاسبوع الاخير من تموز المنصرم، قبل حملة حماة الثانية وغداة انقضاء 4 أشهر وأسبوع على خروج الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية السورية الى العلن، قتلت "قوات الامن" نحو 11 شخصاً، أو "ما لا يقل عن" هذا العدد على تقدير عمار القربي، رئيس المنظمة الوطنية لحقوق الانسان، في مدينة أو بلدة كناكر (25 ألفاً) بريف دمشق، الى جنوب دمشق الغربي. وأعلن "اتحاد تنسيقيات الثورة السورية" اسماء 7 من القتلى وسن معظمهم. و4 منهم لم يبلغوا العشرين حين قضوا. ونظمت "العملية الامنية" على شاكلة غارة تولاها تراكس، أو جرافة، هَدَم البيوت على أصحابها. وحمت الجرافة دبابات القوات المسلحة او قوات الامن، وقطعت الطرق الداخلية ورابطت على المفترقات وبوابات الدخول الى البلدة. وقامت هذه بحملة اعتقالات طاولت 250 من اهالي كناكر. والغارة "الامنية" أو الانتقامية، على البلدة الجنوبية الغربية، بريف دمشق المحاذي خراج درعا، هو رد جواب على تزويد البلدة، وغيرها من بلدات خراج دمشق، زميلاتها الدرعاوية المؤن، واسهامها في كسر الحصار التمويني الذي تضربه وحدات التدخل المتحركة على المدن والبلدات الناشطة.
التنسيقية والائتلاف
ودرعا نفسها تحتل أسواقها، وعلى الخصوص ساحة الحرية فيها (سابقاً ساحة السرايا) قوات تدخل عسكرية وأمنية، في عشرات سيارات الامن، يحمل أفرادها هراوات. وعودة قوات التدخل، وسياراتها وهراواتها، الى احتلال المدينة، والى مداهمة "القرى" او البلدات التي تصلها بالعاصمة وتصل العاصمة بها مثل برزة والحجر الاسود والسيدة زينب والكسوة وحرستا، وهذه من دمشق "الكبرى" والمتصلة- على خلاف زعم قوى "الاعلام" الرسمية التي أخرجتها من الخريطة الدمشقية تهويناً وتصغيراً من شأن الحركة المدنية في دمشق نفسها- هذه العودة مردها الى دعوة أهلها الى التضامن مع ... حمص وحماة والمدن المحاصرة الاخرى. وهي المدن التي تتظاهر نهاراً و(أكثر فأكثر) ليلاً تضامناً مع درعا والمدن الاخرى المتضامنة والمتظاهرة والمحاصرة. وعلى هذا، نشأت روابط قوية وثابتة من المدن وبين المدن، من "درعا الى القامشلي"، وبين الارياف، في جهات سوريا المتفرقة كلها، بلاداً أو جهات وسكاناً وتجارة وادارة وهيئات مهنية، وأمست الروابط هذه دائرية. وتخطت التأثير الصادر عن بؤرة، شأن درعا في الفصل الاول من الحركة ثم حمص في الفصل الثاني ومعها بانياس فحماة فالحسكة فإدلب...، نحو بؤرة اخرى. وتجاوزت العلاقة الخطية او الرأسية الى شبكة متماسكة ومتضافرة أفعوانية، إذا جازت العبارة.
فالسوريون بنوا، ولا ينفكون يبنون تماسكهم وأواصرهم و"تنسيقياتهم" على مراتبها الوطنية والمحلية (شأن اتحاد تنسيقية حرستا وعربين وزملكا التي نعت في 27/7 محمود طه قاسم "المتزوج منذ ثلاثة أشهر" وقتيل قوات "الامن" على مفرق قرية سليمة وهو عائد على دراجته النارية من عمله)- في ثنايا حركتهم الوطنية والمدنية، وفي سياقتها الكثيرة الفروع والملتفة. وهم يسعون في النهوض جماعة وطنية متضامنة، ومؤتلفة من أهالٍ وأحياء ومدن وأرياف وعشائر وأقوام وطوائف وطبقات. ويرجو "المراقب"، المتعاطف والمتضامن والنصير، أن تكون "التنسيقية" إحياء وتجديداً "للائتلاف"، ولـ"حزب" الائتلاف أو تياره العثماني (في أوائل القرن العشرين) بإزاء "الحزب الاتحادي" المركزي والاندماجي والدمجي قسراً. وأورث ضباط قوميون تُرك اتحاديون البلدانَ والمجتمعات العربية انقلابييها الاوائل الى عتبة النصف الثاني من القرن العشرين. فكان حسني الزعيم، الانقلابي السوري الاول، أحد أواخر هؤلاء الضباط العرب. وهو خلف الضباط العراقيين الذين استولوا على حكم العراق في 1937 1941. ولعل حسم نزاع الاتحاديين، القوميين المتعصبين وقادة الجهاز العسكري البيروقراطي والمحترف، والائتلافيين، وهم ليبراليو الادارة المتحالفون مع ممثلي الاقوام والمجتمعات المحلية والوطنية، لمصلحة الاتحاديين كان فاتحة من فواتح بناء "الدولة" العربية المشرقية على الركن العصبي (العشائري والاهلي) والبيروقراطي العسكري والامني الذي غلب على معظم بلدان المشرق وحركاتها السياسية. وتمثل عليه "القيادة" السورية الاسدية خير تمثيل، غداة انهيار صدام حسين.
فما تضطلع به تنسيقيات الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية السورية المتحدرة من المنتديات والبيانات والمنابر والتيارات، منذ نحو 5 اشهر، لا يقتصر على جمع معارضة شعبية متراصة في وجه الحلف العصبي البيروقراطي الذي ينيخ بثقله على المجتمع السوري، ويحول دون استواء الحكم على صورة الدولة المدنية المشروعة. فهي، الى استيلاء هذه المعارضة، ورص صفوفها، تصنع خيوطاً وجسوراً بين الجماعات الاهلية والبلدية والافراد، وترسي النسيج أو البنيان على لحمة سياسية وطنية، عَرْضية وائتلافية، تنحو نحو التعاقد الحر أو تعاقد أحرار، على الاشتراك سواسية في دولة ووطن (أمة) جامعين ولا ينفكان في طور الجمع والتأليف. فلا تنزل "الدولة القومية" الناجزة والخاوية، وهي فعلاً متعينة في حلف عصبي اداري يتقاسم السلطة والاجهزة والعوائد، جسماً قاهراً وساحقاً على الرعايا والاهل، المتفاوتين كعباً ومكاناً، وعلى البلاد. والانشاء، الوطني والسياسي على هذا المثال، في مجتمع مثل المجتمع السوري سلط عليه الاستيلاء الانقلابي البعثي، في أطواره الثلاثة او الاربعة وفي الطور الناصري و"الوحدوي" السابق، عوامل تفريق وتآكل وتعصب، يقتضي (الانشاء) تدبيراً وحكمة، وحِلماً وحصافة وتأليفاً في المصطلح القديم، من ضرب أو صنف لا عهد للسياسات العربية الانقلابية والاستيلائية، في شقيها وركنيها الاهلي العصبي والجهازي المركزي، به.
التمرد الرسمي
ويحقق هذا الزعمَ ويؤيده نهجُ الكتلة السورية الاسدية في معالجة ما تسميه التنسيقيات "الثورة" (وما يليق به ربما أكثر وسمُ الحركة الوطنية المدنية الديموقراطية السورية، وينزهه عما علق بالثورات العربية الاقليمية وانقلاباتها العسكرية، وحركاتها المسلحة الاهلية والمتعسفة وفوضاها المدمرة، من دواعي النفور والصد). فالكتلة الاسدية المتسلطة تعالج حوادث الحركة الوطنية والمدنية ووقائعها، أي اجتماعاتها وتظاهراتها واعتصاماتها واعلاناتها، على الطريقة التي انتهجتها وعرفت بها حروب العصابات، أو حروب الغوار. وهي حروب غارات على الدولة وهيئاتها ومواطنيها ومرافقها. فـ"الدولة" المزعومة تغير على جماعات الاهالي، وعلى مساكنهم وطرقاتهم ومواصلاتهم وجسورهم ومحالهم ودكاكينهم ومساجدهم ومنتدياتهم، وتُعمل في هذه تقطيعاً وتخريباً وهدماً، وفي الناس ارهاباً وتخويفاً وعزلاً وتبعيداً وتحريضاً. وما يتولاه "التمرد" وهو الاسم البوليسي والعسكري الذي سمت به اجهزة مكافحة الانتفاضات الفلاحية، الاوروبية والاميركية، الحركات الاستقلالية و"العالمثالثية" والاجتماعية المسلحة في خمسينات القرن الماضي- وهو تقطيع أوصال جهاز الدولة المتصلة والمتشابكة، وعزل أجزاء البلاد والمجتمع بعضها عن بعض، وتخريب المنشآت وشل الاعمال وتهديد الامن، تتولاه اليوم في سورية (الاخوين الاسد ورهطهما ودوائر "الحلف" ومراتبه الجهازية المصلحية والطائفية) غارات العصابات الاهلية الرسمية و"ألوية الموت" والقتل والاغتيال. وذلك باسم "الدولة"، ونيابة عنها، وتعويضاً عن قصورها عن انجاز المهمات هذه في اطار الاجهزة الرسمية المتماسكة.
وينتدب المركز، وهو النواة القيادية المزدوجة الصفة، قوات مختلطة، أمنية وعسكرية رسمية في زيها المتميز والظاهر وأخرى "مدنية" أهلية في حل من امساك العسكريين والامنيين الرسميين المفترض، وتتولى قتل المتلكئين والمترددين، ينتدب المركز القوات المختلطة الى مواقع ومناطق ذات أدوار معنوية وجغرافية بارزة. ويمهد لتجريده حملتَه تمهيداً "اعلامياً" ومسرحياً حاداً، على شاكلة ذاك الذي سبق الحملة التأديبية والدامية على جسر الشغور ثم على البوكمال. واليوم على حماة. فيعلن عن مقتل عدد كبير من رجاله، ويعزو القتل الى جماعات مسلحة محلية، ويسوغ حملته المختلطة بتلبية نداء الاهالي واستغاثتهم. وكأن الدول تفتقر الى مسوغ مباشر من القانون ومن وظيفتها يدعوها الى بسط الامن. فتوَسِّطُ المواطنين وتلتمس العذر منهم. ويسدل المركز الغفل ستاراً صفيقاً على وقائع الحملة نفسها. فلا شهود من الاهالي، ولا من الصحافة، ولا من جمعيات حقوق الانسان، ولا من البعثات الاجنبية، ولا من الجهاز الذي نفذ العملية. وحين دعي بعض الديبلوماسيين الاجانب، وفيهم السفير الاميركي، الى جسر الشغور بعد حملة التأديب التي لا شاهد عليها، ولا أثر لها في وثيقة مصورة معاصرة، جيء الى البلدة ببعض اهل بلدات مجاورة أو قريبة، وعُهد اليهم بأداء دور العائدين الى بلدتهم الآمنة بعد أن تحررت من مروعيها ومرهبيها بإنعام من القوات المختلطة...
وتشبه الحملات البوليسية والارهابية المختلطة، وعزلها المناطق التي تقصدها، وفرزها السكان والاهالي فريقين، وتصفيتها في ظل يضطرب بين السر والعلن الفريق "المشبوه" والتمثيل به نهج العمليات الثورية الذي انتهجته حركات كاستروية وغيفارية وماوية في أميركا اللاتينية لعل "الطريق المضيء" في قيادة غوزمان بالبيرو المثالَ عليها. فالعمليات الثورية والحملات التأديبية التي تشنها الطوابير الاسدية المختلطة ترميان الى حماية "البؤر" و"القواعد" المحررة، أو المسلوخة من كيان المجتمع المتصل في كنف دولة (طيفية في احيان كثيرة) مشتركة، وإخراجها من هذا الكنف الى عراء سيطرة مباشرة لا قيد عليها من طيف الدولة. وقبل اقتحام حماة في الاول من آب، سلّط جدولُ جمعية حقوقية مدنية ("أفاز" ومعها "انسان" وسام طريف) أحصت 3 آلاف مخطوف ليسوا في عداد الـ13 ألف معتقل الى يومها (من 26 ألفاً اعتقلوا في وقت من الاوقات وأفرج عن بعضهم في اثناء الاشهر الخمسة المنصرمة) ولا هم في عداد الـ1650 قتيلاً، الضوءَ على وجه آخر شبيه بأعمال العصابات الخاصة، الثورية وشبه الرسمية، في كولومبيا الاميركية اللاتينية. (وهذه الارقام يضاف اليها نحو مئتي قتيل وبضعة آلاف من المعتقلين وربما مئات من المفقودين). فمعتقلات قوات كولومبيا الثورية ("فارك")، وهي المنظمة التي احتجزت بيتينكور المرشحة الرئاسية الكولومبية الفرنسية نحو 5 سنوات، تعج بآلاف المخطوفين المدنيين من الاصناف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كلها. والصيغة الاسدية والمحلية تبلورت في فصل "القيء الاهلي"، على ما سمى أحدهم أعوام 1979 1982 وغداتها المباشرة. فمذ ذاك لا يُعلم شيء عن مصير عشرات الآلاف (40 ألفاً؟ 60 ألفا؟ 70 ألفاً؟) من المفقودين الذين تبددت آثارهم بين السجن والتخفي والتوقيف والتحقيق والخطف والتصيفة المواربة.
سوريا (الاسد) من غير السوريين
وقطع الاتصالات الهاتفية والالكترونية، واغراق المناطق المستهدفة في الظلام وحجب التيار الكهربائي عنها، والحؤول بينها وبين التموين بالسلع الاساسية، ومراقبة أماكن الاجتماع المتوقعة والمقدرة (مثل المساجد وصالات الاعراس والفنادق ونوادي النقابات المهنية) ومحاصرتها وإحراق بعضها، وتعقب الجرحى الى المستشفيات والعيادات الخاصة- هذه كلها وسائل يتوسل بها الجهاز العصبي والبيروقراطي المستولي الى انتزاع الاهالي من الكتلة الوطنية السورية، والى فك عرى العمران والاجتماع والخيوط التي نسجتها الدولة، منذ عهد الولايات فالانتداب فالاستقلال فالديكتاتورية، بين الاهالي. وذلك من تلقاء (قيام) الدولة والادارة واضطلاعها بوظائفها. ومهاجمة الجهاز العصبي - البيروقراطي الاسدي وشائج العمران والاجتماع المدنيين وروابطهما وأبنيتهما الحيوية، جزء من الحرب الاهلية العميقة التي استولى من طريقها هذا الجهاز على آلات الغلبة والقهر والعزل، واختصر الحُكم والدولة فيها.
فلا يطيق الجهاز دوام روابط اجتماعية بين جماعات السكان والافراد، ولا سريانها في عروق عمران مشترك، ولو في حدودها الخدمية والاجرائية الدنيا. فهو يقحم وساطته ومشيئته في عمل الخدمات الاجتماعية والاقتصادية الاساسية، وفي العلاقات المتبادلة التي تنشئها بين الاهالي. فلا ينزع الناس الى التوهم في أنفسهم القوةَ على التواصل التلقائي، خارج مشيئة الرأس العشائري الاهلي والاجهزة الامنية والادارية التي تصدر عن إرادته وأمره القاهرين. فإذا أقدرت الابنيةُ الاجتماعية والادارية، المتخلف بعضها عن "انجاز" الجهاز الاسدي، السوريين على التواصل ارتد الجهاز على ابنية التواصل ومسالكه، وأعمل فيها تحطيماً وتدميراً، على نحو ما يصنع في مداخل حماة ووسطها. فهي، الابنية والمسالك، تنم بكيان عمراني وطني مستقل وقائم بنفسه، وملازم لكيان الجماعة الوطنية والاهلية السورية وأجيالها المتعاقبة.
وعلى هذا، "ينزل" التسلط الارعن والاحمق من الابنية المعنوية والسياسية، شأن الصحافة والاعلام والانتخاب والتحزب والتحالف، الى الابنية الادارية والمادية. ففي الاوقات "العادية"، وجَّه الجهاز المستولي شفرة سكينه (سكاكينه ومقصه ومقصاته) الى الابنية المعنوية والسياسية هذه. فحال بينها وبين انشاء دائرة علانية عامة ومشتركة يسهم في رفعها، وفي رصف حجارتها ومداميكها، من يمثلون جماعات واجساماً خاصة متفرقة، بلدية وأهلية واقتصادية واعتقادية وعصبية، ويسعون في بلورة لحمة سياسية جامعة تتعالى عن الجماعات ومصالحها، وتؤلف بين بعض كتلها وأجنحتها، وتنافس على التمثيل والحكم. واحتكر الجهاز المستولي مُلكية الابنية المعنوية والسياسية، على المعنى المادي والحقوقي للملكية، وانفرد بها، أو نصَّب بعض فروعه ومراقبيه ولياً مطلقاً عليها. فلفّق في حق من ارتضى، في وقت أول، شراكتَهم الانتخابية والنيابية، وأقر لهم بصفة تمثيلية واجتماعية مستقلة، تهماً أحالتهم بين ليلة وضحاها مجرمين ومتآمرين ومحتالين. وضيّق تضييقاً خانقاً على هامش اعلامي هزيل وطرفي. ولم يقصر انقلابه وتضييقه على إعمال الوسائل القانونية والادارية الكثيرة والطيعة التي لا ينازعه عليها منازع. فعمد الى وسائل من خارج اطار العدة القضائية والادارية، وهي المتاحة على مصراعيها، مثل حوادث السير القاتلة، والسطو على الممتلكات والاموال، والتحريض الخاص والغفل على "المنحرفين" وسد أبواب العمل في وجوههم.
فولاية السلطات العامة واحتكارها من غير استثناء، وانتداب الموالي المطواعين والمقيدين الى تصريف بعض اعمالها التنفيذية، لم تحمل على اقتسام السلطان، على أدنى درجات الاقتسام وأقلها. ومثل هذا الانقسام على أدنى درجاته، يفترض الاشتراك في شيء عام ومشترك، ويقر بقصور السلطان، وصاحبه (رأس) الجهاز العشائري البيروقراطي، عن الاضطلاع وحده، ومن غير حاجة الى شركاء متعاقدين، بالتمثيل على "سوريا" (الاسدية)، وتجسيدها وجمع متفرقها (المنكر والمبطل) في نفسه. وينكر السلطان الاسدي و"دولته" انكاراً ضارياً وشرساً حاجته الى شركاء يتعاقد معهم على تمثيل "سوريا". وهذه تعلو السوريين، الافراد والاعيان، وتلتهمهم وتبطل حقيقتهم المادية المتفرقة والتاريخية والاجتماعية. والنظام الاسدي في غنى عن ولاء السوريين، وبالاحرى عن محبتهم واقتناعهم. ويريد منهم، على معنى الاكراه، الطاعة والسمع. ولا يترتب هذا على ضرب من الدهاء والمواربة المعقدة، بل على صنف الاستيلاء الخاص الذي ينفر من أي قيد لا بد أن ينجم عن العقد والشراكة والائتلاف والاقرار بالكثرة الاهلية والاجتماعية. وهذا "سر" الكراهية الحاقدة التي يصليها الجهاز المستولي وأنصاره اللبنانيون الاعراف السياسية اللبنانية، وجهرها الوقح طائفتيها وميثاقيتها، أي كثرتها.
حملة التطويق
وعلى هذا، لا يدعو الاستيلاء على مقاليد الدولة ومرافقها وهيئاتها النيابية والقضائية وادارتها، وعلى مواردها، واحتكار السلطان، وملء قلبه الرمزي والتمثيل عليه من غير شريك، لا يدعو هذا كله الجهازَ أي رأسَه الى الفعل من داخل الدولة ومقاليدها وأبنيتها وأحكامها. فهو يؤثر إعمال الوسائل الخاصة، والمنافية للقانون والخارجة عليه. ويتعمد مهاجمة سفارات الدول الاجنبية بواسطة محازبين انصار وأجراء، وليس من طريق أعراف ديبلوماسية واجراءات تؤدي معاني الانكار والتحفظ والتنديد. والاعراف والاجراءات الديبلوماسية،شأن طرق القضاء والادارة ولوائحهما، قرينة على كيان دولة مقيد بإقرار ملزم، ويبادل الالتزامات بمثلها ونظيرها. وأما المحازبون الانصار والموالي فلا قيد عليهم، ولا يلزمهم اقرار أو تبادل. وهم عَرَض الاستيلاء الخاص، الاسدي العشائري والجهازي، على "سوريا" وتمرد هذا الاستيلاء على العمومية الديبلوماسية القانونية. فهم، على الاراضي السورية هذه المرة، صنو "حلفاء" الجهاز الاسدي وصنائعه وأجرائه ومُديِّه أو "سكاكينه الثانية"، على قول أجنبي، في لبنان وفلسطين والعراق، وفي المنظمات "الجهادية" التي ترعى مرابع المشرق وجنباته. ولا غنى للجهاز عن "الحلفاء" والصنائع والاجراء والمدي "الثانية" بإزاء أنواع وأصناف كثيرة من الخصوم والاعداء والمعارضين والمتحفظين المحليين والاقليميين. وبعض "الحلفاء" انخرط في أبنية دول، وكيانات دول وطنية، ولم يكف عن خوض حرب عصابات وطياحة على دولته الوطنية المفترضة. وآية حربهم انشاء مرافق موازية لمرافق الدولة، وإخراج مناطق "محررة" من ادارتها، واقتطاع "شعب" أو "أمة" من الكيان السياسي والحقوقي المتصل. وتترتب "الطائفية" في سوريا ولبنان والعراق، وفي غيرها، على تسليح الطوائف الغالبة واللابسة زيّ "الدولة"، والمتسلطة باسمها.
ويروي معارضون سوريون كرد أن بعض "الامن" الاسدي دعاهم الى التظاهر الآمن في أيام الجمع على شرط ترك العلم السوري الواحد، والتلويح محله وبدلاً منه بعلم "حزب العمال الكردستاني". وذلك آنَ عبدُالله أوجلان، زعيم الحزب وأسير قلعة في عرض بحر استانبول، يفاوض الحكومة التركية على ترك حرب حزبه على الدولة التركية وجيشها ومناطقها المختلطة. وحمل مراقبون كثر عمليات "الكردستاني" الدامية الاخيرة على قيادة الحزب الطليقة والمتعاطفة مع الامن السوري والمتمردة على أوجلان وسياسته المعتدلة. ويُصدَّق رأي المراقبين هذا في ضوء نهج "القيادة" الاسدية في أثناء الاشهر الخمسة الاخيرة. فهي سعت في تقسيم السوريين طوائف ومذاهب. فاستجابت المطاليب "الفئوية": إعادة المحجبات الى التدريس، وغلق الكازينو "المنكر"، وتجنيس "الاجانب" الكرد في الحزام العربي، ورشوة الموظفين وبعض أهالي الارياف بعلاوات على الرواتب وبمساعدات عينية، وزيادة علامات الاستلحاق في امتحانات الشهادة الرسمية، وتخفيض سن تقاعد العاملين... وهذه اجراءات صريحة ومباشرة. وأما المطاليب السياسية والمشتركة، مثل حرية العمل السياسي وحرية الاعلام والاحتكام الى القوانين المدنية وإلغاء القيادة الفرعونية، فرد عليها رأس الجهاز المستولي بالتسويف و"التشاور" وبالقتل والاقتحام والخطف والاعتقال والتهجير، أي بحملة التطويق الاخيرة على قول ماوي سائر. فحيث يفترض الجواب السياسي، والتوجه الى السوريين على صفة المواطنين العامة والجامعة، يصيب البكم والعيّ رأسَ الجهاز وسياسته. وهذا مفهوم وجلي: شرط الجواب السياسي اطار الدولة الواحدة والمتماسكة والمشتركة. وهذا على طرف نقيض السلطان الاسدي. فإذا اجتمع السوريون، من غير انكار جماعاتهم أو اختلاف أحوالهم ومشاربهم، على وطنية سياسية مدنية وديموقراطية، دعاهم "النظام" الى الانفراط اسلاميين وكرداً ومعوزين ومتقاعدين وتلاميذ. فأما أن يكون السلطان الاسدي، العشائري والبيروقراطي، ركن "سوريا" وكتلتها ولحمتها ومسكتها وحده من غير شريك، وإما كان حُكم السوريين التفتت والتشرذم والاقتتال والعمالة. ولا لبس في خروج السوريين، والوطنية السورية، من أسر التخيير بين الامرين العقيمين.