السبت، 14 ديسمبر 2013

على هامش المناقشات الدستورية العربية الجارية...الشعب السياسي والأمة الأهلية

المستقبل، 15/12/2013

  في المحافل واللجان التي أوكلت إليها الحركات الديموقراطية العربية، في ابتداء أمرها ومقاصدها، صوغ دساتير الدول الجديدة والمولودة من هذه الحركات، ظهرت علامات الاضطراب والتردد الاولى لما ألحت الجماعات السياسية والدينية وبعض هيئات الدولة والمجتمع والطبقات الاجتماعية والعرقية، أي ممثلو هذه وتلك، في تدوين ما ينص على فروقها وامتيازاتها وأدوارها الموروثة في متن مواد دستورية، صريحة أو مضمرة، تُفترض عامة. وبعض هذه المواد خرج عن دائرة التكليف الموجبة، وهي تشد المشرعين الى الشعب السياسي الذي يقترحون عليه شرعة حكمه نفسه بنفسه، الى دوائر بعضها عريض عرض "الأمة الاسلامية"، وبعضها الآخر ضيق وعلى مقاس طائفة دينية أو مهنية من الجماعات الوطنية المتفرقة. فبدا "الشعب"، التونسي أو المصري أو الليبي أو السوري، في مرآة الدساتير أو الاعلانات الدستورية أو الارادات والفرمانات "الدستورية" التي نشرت على الملأ أو انعقدت عليها المناقشات الجارية وبعضها لا يزال جارياً، بدا ركاماً من الموروثات والمكانات والمصالح والمنازع المتنافرة أو المتحاجزة والمستقلة بديرتها وربعها ومضربها. فلا يُفهم كيف تنشأ إرادة عامة أو عمومية عن نصوص تنص أولاً وآخراً على الخصوصيات، وتدير الظهر الى سبل إجراء المشتركات وإعمالها بعد استيلادها وبلورتها (عطفاً على مقالتي في المناقشات التي سبقت إعلان الدستور المصري المجهض في أوائل حكم محمد مرسي، "نوافذ - المستقبل"، 9/12/2012).
الغالبية الغالبة والعقد الدستوري
 ولعل مصدر الالتباسات الاول والراجح هو ما ينبغي أن يُفهم بـ"الشعب"، على المعنى القانوني الاساسي أو الدستوري الجامع، وعلى خلاف ركام الجماعات الفعلية، المتحدرة من الروابط الاهلية والعصبية والمولودة من القرابات ومن المصالح الجزئية. فتحسب جماعة "الاخوان المسملين" المصرية أن "ما استقرت عليه القيم والمبادئ الديموقراطية تنادي بأن تعكس الدساتير والقوانين توجهات وعقائد وأفكار الغالبية مع وجوب احترام حقوق الاقلية، إذ تؤمن غالبية الشعب المصري بضرورة ووجوب تطبيق الشريعة وتهيئة المجتمع بتقنينها. ولكن لجنة الخمسين (التي أوكلت إليها الحكومة الانتقالية المصرية اقتراح دستور جديد لمصر) ما زالت تصر أن تقهر الاقلية إرادة الغالبية وتعلوها" (صحف 30 تشرين الثاني 2013). فالشعب، على هذا المفهوم، يسبق الدستور وقتاً أو زمناً، ويسبقه مادة وبنياناً وعللاً. وليس على الدستور إلا اقرار الجماعات المتناقضة والمتقابلة على معتقداتها وهوياتها و"ثقافاتها"، وعلى جوارها بعضاً بعضاً، سواسية كأسنان المشط، من وجه، ثم تغليب الأغلبية (وهذا تحصيل حاصل) على القلة المغلوبة، من وجه آخر لا يناقض الاول بسحر ساحر. وحين تسنى للجماعة الاخوانية أن تتولى صوغ مسودة دستور، والحكم بموجبه بعد إقرار قلة غالبة إياه، انقسم المصريون على أنفسهم، وشارفوا الحرب الاهلية. وانقلبت الدولة التي يتربع الاخوانيون في سدتها هيئة أهلية تحاول بسط سيطرتها وغلبتها على عموم المصريين (وهم أقاموا على عموميتهم وقتاً قليلاً) من طريق القوة والامر الواقع والمراوغة. فـ"التوجهات والعقائد والافكار" تنتج أهالي و"شعوباً"، أو هي تصدر عن أهالٍ وشعوب. وأما الشعب السياسي، وهو ركن الدستور وثمرته معاً، فيولد من (ومع) دستور ينص على شرعة تعاقده وتشاركه القانونَ الواحد. فروابط الشعب السياسي إنما تنشأ، مبدئياً على ما يقال أو مثالياً، عن فعل التعاقد نفسه، على رغم سبق المتعاقدين، حقيقة وفعلاً وزمناً، عقدهم وميثاقهم. وحسبان الدستور مدونة تدلي الواحدة من الجماعات المتفرقة فيها بدلوها، وتقر بمرتبتها، الغالبة أو المغلوبة او المتوسطة على سلم الغلبة، فيقود الى نظام سلطنة أو امبراطورية، أو الى "دولة" على معنى تعاقب الادوار بين العصبيات وتداولها "الامر".
 ولعل إيجاب أو إثبات الشعب وقانونه معاً، من طريق "صنيع روحي بمنأى من ترجمته الى مصطلح السلطة أو نقله (الى هذا المصطلح)" لا يستقيم إلا إذا مهدت الطريق إليه "حال ذهنية لاواعية متبلورة في ثنايا سياقة تاريخية، ولا غنى عنها لكي يولد شعب وينخرط في كيان سياسي من صنف لم يسع الامبراطوريات معرفته" (برونو كارسينتي: "موسى وفكرة الشعب/الحقيقة التاريخية بحسب فرويد"، باريس، دار لوسيرف، 2012). والسؤال عما يقوم به شعب، أو يتقوم ويتماسك، عاصر السؤال عن شروط العقد الاجتماعي الذي ينشأ عنه الاجتماع السياسي الحديث، عشية الثورتين الاميركية والفرنسية. فيلاحظ الفرنسي جان – جاك روسو، صاحب "العقد الاجتماعي"، أن ثمة رابطة وثيقة بين دوام شعب وبقائه على مر الزمن وبين محافظته على قوانينه وأعرافه وسننه و"عروته الاجتماعية الاولى". وفي الاثناء، قد يطرأ تغير عظيم على الشعب هذا، فيدخل غرباء وأجانب صفوفه، ولا يبقى واحد منه يصدق القول فيه إنه يتحدر من أصلاب "أعراقه" الاولى، وتسوده ممالك مستبدة، ويتفرق أيدي سبأ- على قول ناعم قياساً على تفرق الشعوب في عصرنا وتناثرها وهجراتها- ولا ينفك من ينسبون أنفسهم اليه هذا الشعب. والتعريف القانوني والمعياري يخالف التعريف "الثقافي" أو التاريخي بواسطة الرسوم، اي السمات والخصائص المتوارثة مثل صور القرابة والاقامة والتبادل والحرب والمراتب والشعائر. وعلى خلاف هذه وإغفالها، تُحمل القوانين ونصوصها على مشرِّعين، بأسمائهم وأعيانهم، ولا تلابس الوجود الحسي أو المادي للأقوام والجماعات أو تحل فيه. والكلام على صنيع أو عمل "روحي"، على حدة من تمثيل عيني مرتبي، يقصد به وجوب معنوي ومعياري يتعالى عن التقرير والوصف، ويُلزم بأفكار وأفعال لا تماشي الانفعالات والمشاعر والاهواء والحاجات. ويستوي القوم أو الامة شعباً حين يوكل المشرِّع القانون، وهو على هذا "شريعة" أو طريق، والعملَ به أو إعماله الى الشعب، على شرط المساواة بين آحاده وأفراده. فالرابطة أو العروة وثيقة إذا أوكل العمل بموجباتها ومقتضياتها الى الشعب نفسه، وألزم هو نفسَه العمل هذا، وإذا استوى العاملون سواسية في أداء ما ارتضوا ندب أنفسهم الى توليه والقيام به.
 ويقحم روسو في "أصول الحق السياسي"، وهذا وسم "العقد الاجتماعي" الفرعي، على العقد والمتعاقدين اسماءَ رجال عظام أو "أنفس عظيمة" وكبيرة ينيط بها إرساء البنيان السياسي على أركانه. و"الانفس العظيمة" هذه، ومنها موسى المصري – العبري وليكورغ وصولون اليونانيان ونوما الروماني ومحمد (بن عبد الله) العربي، لا يستقيم استواء الجماعة شعباً سياسياً إلا بها. وغرابة الامر مردها الى ان هذه "الانفس" من خارج العقد والمداولة "الاولى"، وليست من معدن "الديانة المدنية" التي تتوج العقد وتختمه. فهي، ومعها "الديانة الدينية" التي تنسب اليها، شرط خارجي وضروري للعقد. فلا ينعقد هذا أو يسري وينفذ إلا من طريق "نفس عظيمة" تتمتع بدالة، أو سلطة نافذة ناجمة عن المهابة (وليس عن القوة أو المرتبة)، وتستجاب دعوتها الى القانون أو الشريعة. والمشرعون المحدثون هم، على زعم صاحب "العقد الاجتماعي"، "صناع قوانين" وليسوا مشرِّعين أو شارعين (جمع شارع أو صاحب شرع)، على المعنى الذي يصدق على من تقدمت أسماؤهم للتو. ويضطلع المشرعون الحقيقيون أو التاريخيون بتخطي الهوة بين العقد- جواباً فلسفياً عن مسألة الحق السياسي أو نشأة اجتماعه غير العصبي وغير الأهلي أو "الثقافي"- وبين الايجاب التاريخي والفعلي للشعب الذي يتولى الرابطة أو العروة التي تشد أفراده بعضهم الى بعض وأجزاءه. وتخطي الهوة، أو العبور بين ضفتيها، ليس جَسْرها أو تجسيرها ولا بالأحرى ردمها- فهي باقية ومقيمة، ولا سبيل الى المطابقة الزمنية بين استواء الشعب شعباً سياسياً وبين انعقاد عقده الاجتماعي، وهو (أي العقد) صورة رابطته السياسية وبيانها وآيتها. فالشارع يتولى الانشاء، على معنى التأديب بآداب القانون الذي يدعو إليه وعلى معنى التعليم. فإذا حصل هذا، وسع المتعاقدين التعاقد، وخرجوا من رابطة تحدرت اليهم، ولا يد لهم لا في إنشائها ولا في تعهد دوامها وتجديدها، الى رابطة يستأنفون إنشاءها بأنفسهم سواسية، ومن تلقائهم، وينيطون باختيارهم هذا دوام اجتماعهم ورابطتهم.
إعجاز العمومية
 ومهمة أو وظيفة المشرِّع، الموجب والمعلم والمؤدِّب، "محورية"، على قول كارسينتي شارحاً روسو. فهو يتولى الوصلة بين ارادة الجسم السياسي المتماسك وبين إدراكه أو فهمه. وذلك أن الآحاد، أو افراد الجسم المجتمع، على بصيرة بما يطّرحون ولا يريدون، وأما الجسم العمومي، أو المؤتلف من الآحاد، فيريد أمراً لا يراه. وفي عبارة أخرى دلالة على المعنى الواحد، يفتقر العمومي الى بصيرة ولكنه يتمتع بإرادة، ويفتقر الآحاد الخصوصيون الى ارادة ولكنهم يتمتعون بفهم وبصيرة. وهذا الفرق أو الفوت (التفاوت) هو ما ينهض الشارع بلأمه. فيجمع البصيرة أو البصائر المبثوثة في الآحاد، ويرتقي بها الى رتبة الشعب المؤتلف منهم، فيريدون (الآحاد أو الافراد) معاً وجميعاً "مصلحة مشتركة" هي مصلحتهم في أن يكونوا جسماً واحداً، ورغبتهم في أن يكونوا هذا الجسم. وتولي رجل فرد هذا العمل المركب، أو الدور، هو من قبيل "الاعجاز". ويجافي الدور، والعمل المناط به، نازع الحداثة الى تجريد الواحد الفذ أو الشخص أو الفرد من الاضطلاع بمهمة سياسية حيوية أو "رحمية"، ومن ارتقائه جراء ذلك مرتبة فوق مرتبة العامة أو العموم، وانفراده بها على خلاف العموم وعلى مقابلتهم. ويعلق روسو على قول منشئ الحق السياسي في العصور الحديثة، هوغو غروتيوس أو دي غروت (1583 – 1645م) صاحب "حق (قانون) الحرب والسلم" (1625)، أن في وسع الشعب نصب ملكٍ عليه، فيقول: إن الشعب على هذا شعب قبل أن ينصب الملك، والنصب أو التنصيب فعل أو عمل مدني ويفترض مداولة عمومية؛ فقبل تفحص العمل الذي ينتخب بموجبه الشعب ملكاً يستحسن تفحص العمل الذي يستوي بموجبه الشعب شعباً، فهذا العمل هو ركن المجتمع حقيقةً وفعلاً.
 فمن طريق الفعل تباشر الجماعة صنعتها السياسية وتحققها. والشعب شعب - "يكون شعباً في ترجمة مهلينة تخصص الرابطة أو "أداة" الكون والحمل والنسبة بلفظة خاصة- نظير فعله على صيغته هذه، ومقدار هذا الفعل. وهذه مطابقة يقتضي فهمها فهماً قويماً حمل "العمل" أو "الفعل" على معنى فقهي قضائي: المبادرة الى ما يترتب عليه اقتضاء، أو يرتب مقتضى بموجبه، مثل "رفع" الدعوى أو طلب معاينة أداة العدوان أو نتيجته أو تسمية الشاهد أو الشهود في الاثبات والرد... وعلى هذا، فالشعب "ذات" حقوقية، والعقد يبرم هذه الحال ويقرها. وعلى المثال نفسه، وعلى نحو ما ان التقاضي لا ينشئ القضاء بل هو "يحركه" ويُعمله، لا ينشئ العقد مجتمعاً سياسياً بل هو ينشئ إنشاء سياسياً مجتمعاً قائماً. والشعب هو اسم الانشاء هذا او الصيرورة هذه. وشرعة اجتماعه هي دستوره أو قانونه الاساسي، على غير معنى الدستور الصوري او الشكلي: فالشرعة هي "دستور الدولة (أو الاجتماع السياسي) الحقيقي"، قانون متصل حي ومتجدد، يبعث حياة متجددة في أوصال النظام الحقوقي والقضائي. فهي، الشرعة، ما يضمره النظام الحقوقي ويصدر عنه معاً، والمعين الذي تجلوه القوانين ومدوناتها مواد وبنوداً.
 ويتنازع عمل المشرَّع نازعان او زمنان: زمن مديد وبطيء لا ابتداء له ولا استهلال، يتعهد استواء الموازين والمعايير على شاكلة أعراف وسوابق يقيس عليها المتأخرون ويجتهدون، ويترسمون خطى "دليل" في شعاب أخلاقية متشابكة؛ وزمن آخر يكتسب في أثنائه الناس الدلالات التي استولدها الدليل (من) الاعراف والسوابق وصاغها في صيغة شرائع أو قوانين، فترفع شأن القانون "القانوني"، إذا جازت العبارة، ليتربع في سدة نظام معياري يتوج القانون و"يختمه"، على معنى الختام المهدوي والخلاصي للأزمنة، ويودعه السرائر والقلوب. والمشرِّع ، والحال هذه، هو حارس الوديعة والقائم على تناقلها، وتوارثها وتواترها، من جيل الى جيل في عتمة الطوايا والضمائر. ودالة المشرع هي من طينة هذا الدور وعلى شاكلته: فهو، أي المشرَّع، يحاكي، ظاهراً، بدايةً واستهلالاً، ويعمل خفية في مادة تاريخية سابقة ظهوره وعلانيته، وتضطلع السياسة الجديدة بتدبيرها ومعالجتها، أقرت بالأمر أم سكتت عنه. ويتيح الازدواج الزمني، واثنينية الظاهر والخفي، يتيح الامران للشعب التوسل بالأعمال والافعال و"الحركات" الى العبارة عن إرادته وأفكاره ورغباته. وليس جواب المشرِّع، في مرآة القوانين التي يخرجها من الاعراف والسنن ويستولدها وفي رعايته فشو أعراف وسنن جديدة وتناقلها، ليس جوابه هذا عن سؤال هوية الشعب: "من أنا؟" أو "من أكون؟"، بل عن سؤال موضوعه هو نظام التوليد القانوني المتماسك والصحيح (الحاكم في الدستور ونصوصه). فهذا النظام هو هوية الشعب و"أناه المشتركة"، وهو البيان عما يريده الشعب بواسطة القوانين التي يستنها و"يفعلها". والهوية سياسية، على هذا المعنى، وهي تعريفه من طريق فعله أو عمله القانوني والاجرائي، على ما تقدم.
الشعب والمجتمع
 والانشاء الدستوري، المدرَك والواعي، إنما هو إنشاء سياسي ثانٍ أو مستأنف. وهو سبق الإنشاء العرفي والسنني (أو السني!) الذي لا ابتداء له والشعب مادته. والانشاء الثاني أو المستأنف يتولى "تسييس الثقافة"، على قول كارسينتي، ويترجح بين العرف السائر وبين الشريعة، ويخلط الاثنين واحدهما بالآخر ويحملهما على سند واحد ومشترك. وعليه، فالشارع هو صانع ثقافة (آداب) سياسية، أو هو صانع سياسة في حلة آداب عملية تقر في السرائر والطويات، وتستبطنها هذه من غير ان تدرك الامر أو تعيه. وإذا كان لمجتمع من المجتمعات (على معنى القوم) أعرافه وسننه الخاصة، فالشعب يدخل في مِلك أعرافه وسننه من طريق قانونه أو شرعه. والشعب لا يوجب نفسه شعباً إذا هو لبس لباس آداب اجتماعه أو ثقافته "القومية"، ونسب نفسه إليها، وأحلها محل تصديه السياسي للتشريع والتقنين. فـ"الثقافة السياسية" تقتضي فك السياسة من الاعراف والسنن، أو فك الشعب من المجتمع وتمييزه منه. والفك والتمييز لا يستقيمان فعلاً وحقيقة إذا هما لم يحفظا أو يرعيا رابطاً ينبغي ألا ينقطع أو ينصرم بين القطبين تحت طائلة الفصام. والجمع المتنازع بين الوجهين يحول دون المطابقة التي يحسب "ديموقراطيون" ظرفيون وانتهازيون انها جوهر الديموقراطية الدستورية. والمجتمعات المدنية، من غير عقد يتعاقد عليه آحادها ويعقد بينهم، تتماسك بواسطة تقاليدها وعاداتها ومصالحها وحاجاتها، وهو ما يتخطاه دستورها، إذا قيض لها ان تصوغ دستوراً، على المعنى القانوني والسياسي. ولا ينبغي للدستور، على هذا المعنى، أن يُغفل المادة الاجتماعية الموروثة أو يتجاهلها حرصاً منه على إيجاب الاجتماع المدني والسياسي معاً إيجاباً جديداً وتاماً (على مثال "الدستور" الستاليني والسوفياتي وعلى مثال يتستر "الدستور" الخميني الايراني عليه).
وعلى خلاف تهمة يلصقها الذي يعرِّفون الشعب بتقاليده ورسومه "الثقافية" (وهم "إسلاميونا")، بخصومهم "الليبراليين"، فينسبون إليهم إرادة فصم العرى التي ينبغي أن تشد الدستور، أو شارة الشعب السياسي وعلمه، الى المجتمع وأعرافه وسننه وتراثه، ينم خللُ العقد الدستوري، وترجحُه الزمني وازدواجه وتعريفه بفعله، بإرادة "تأريخ اجتماعي" لا عهد للمجتمعات بها قبل التاريخ الحديث (على ما يلاحظ صاحبنا معلقاً على روسو وشارحاً). والقرينة على "التأريخ" هي الاقرار بأثر وفرق يخلفه دوام فعل الديني في السياسي الدستوري، وذلك من طريق المشرِّع وصورته. والمشرِّع، أو دوره، ليس احتيالاً على منطق الإنشاء، وعلى استحالة تصور "العقد" على شاكلة مداولة واحتجاج ينتهيان الى اقتراع يرسي الاجتماع السياسي على ركن إرادة عمومية صريحة. فهو كناية عن "الروح الاجتماعي". ويمتنع هذا من المثول على نحو أو وجه حجة معللة ومقنعة تحمل الفكر على الانقياد لها. وطريقه الى الاقناع هي رؤيا تستميل النفس بواسطة بيان خطابي. ولعل خطابة المشرِّع الحديث هي آخر معجزة يقر أهل الحداثة بصدقها أو حقيقتها، على شرط جليها في عبارة بليغة وجديدة، سامية المعاني، ينطق بها امرؤ من لحم ودم (وعلى سبيل المقانة والتمثيل القريبين والعربيين، لا بأس بالتذكير بالخيبة التي شعر بها مصريون كثر حين قرأوا دستورهم في ديباجة 2012 "الركيكة"، على قول بعضهم. ورئاسة محمد البلتاجي اللجنة التي تولت المناقشة والاقرار، وشروحه على النص وأسباب اختيار بعض صيغه، زادت الطين بلة وقرنت الركاكة بالمراوغة والدناءة؛ والدور الذي يضطلع به صاحب حزب النهضة التونسي، راشد غنوشي، في المناقشات التونسية، وهو من أعمل في كتابه "المرجع" الحذف والتحوير وسكت عن ذلك، لا يسبغ على مشاركة جماعته علواً ورفعة).
 ولكن المشرِّع، وهو العليم بمعتقدات القوم وأهوائهم (بأنسابهم وأخبار أيامهم وآثارهم، على قول عربي في بعض اعيان الصحابة)، لا يستوي مشرِّعاً إذا هو أقر الناس على معتقداتهم، وأقر هذه على حقيقتها. فالعلم، في هذا المعرض، لا ينفع إلا إذا أخرج المعتقدات من معانيها السائرة والمألوفة، ونفخ فيها معاني "سياسية" لا عهد للقوم بها، ولا يعقل قبوله إياها إذا هي لم تكن أفعالاً وأعمالاً فوق ما هي أفكار وأحكام مدركة ومعلنة. فالمشرِّع ليس مرآة "روح الجماعة"، أو صورة "عبقريتها" ولسانها، على قول تناقله مثقفو عقود الثلث الثاني من القرن العشرين العربي عن محمود عباس العقاد المصري (وآخرين سابقين نسج على منوالهم). وهو أقرب الى "الغريب" عنها منه الى صاحب النسب الصليبة والقح والصريح فيها. والقول ان الاسلام ولد أو نشأ غريباً هو استعارة لحال بينها وبين حال المشرِّع بعض الشبه. والغربة علامة على انشاء القوم أو الجماعة الانشاء الذي يخوله (أو يخولها) الاستواء بموقع الشعب المريد، أو صاحب الارادة العمومية، وإعمال هذه الارادة في أحواله وشؤونه على النحو العملي، أو الإعمالي الذي تقدم التنويه به.
 ويقتضي الاضطلاع بموقع المشرِّع أو معبِّر القوم والجماعة (والحق أن القوم أقوام والجماعة جماعات، أي كثرة وخليط) من ضفة الحال القومية أو الثقافية الى ضفة الحال السياسية، علاقة مزدوجة بالتقاليد الموروثة والمستقرة. فلا يتماسك مجتمع إلا إذا ثبت الافراد، عملاً وفكراً، على تكرار مقالات ورسوم متعارَفة، لا يسألونها عن عللها ومسوغاتها. وليس في وسع شعب (سياسي) دخول دائرة السياسة الحديثة، وإيجاب نفسه فاعلاً، إلا إذا سبق الدخول أو مهد الطريق إليه ميراثُ التكرار والتقليد من وجه أول، وتجديده الميراث بواسطة الفعل فيه وعلى شاكلة الفعل، من وجه آخر. وعلى هذا، لا يصدق ثبات "شعب" أو قوم على هوية تقليدية واحدة "دليلاً" على دوامه أو على حقيقة صفة الامة التي ينسبها الى نفسه، وتعلن بعض "طلائعه" الناهضة (أو النهضوية أو الاحيائية او الانبعاثية) التمثيل عليها وعلى حيويتها وعودتها الى التاريخ المعاصر بعد انحطاك أو سبات. فاقتصار دليل "الامة" ودوامها وانبعاثها، على مداومتها على سننها وآثارها ليس من السياسة، على معنى الشعب السياسي، في شيء. فهو يطرح من الدلالة ميزانها، أي عامل الاستئناف الذي يتسلل الى التقاليد والسنن والآثار خفية، ويجدد معانيها المضمرة فعلاً وعملاً. فما لم يزدوج الشعب هويةً متوارثة، ثابتة في رسومها وتقاليدها، وإنشاء جديداً ومستأنفاً يسري في الافراد ويجمعهم على "روح اجتماعي" ويلحم بينهم سواسية – بدد "حقيقته التاريخية"، على قول كارسينتي شارحاً فرويد، واحتفظ بحقيقة مادية صورية تبعث على الاختلاب والافتتان، وعلى إقامة الشعائر والمراسم، والنفخ الملحمي والبطولي في الرميم.        

الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

الهجوم الارهابي على سفارة ايران ببيروت ... الرد الاعلامي – "السياسي" وحدّاه الجهنميان

 المستقبل 24/11/2013

   لم تكد المتفجرتان تنفجران، في التاسعة وأربعين دقيقة صباح الثلاثاء في 19 تشرين الثاني، بالرجلين الانتحاريين الهاجمين على سفارة إيران (الجمهورية الاسلامية بإيران)، وتقتلان سبعة قتلى ("شهداء" قيل على تردد، ففيهم ربما الانتحاريان وفيهم مهاجرون من سريلانكا وغيرها ربما ومعظمهم مسيحيون) لم يلبثوا أن بلغوا 11 و14 فـ20 و23 ثم استقروا على 26 ضحية، حتى فتحت أبواب جحيم كلامي لا تقل نيرانه لهباً، وتعمدَ قتل وحرق وأذى من الجحيم الذي لف السفارة العتيدة وجوارها، ودمر وصدع الحجر والمعدن والرؤوس والاجساد. ففي غضون دقائق قليلة ذاع الخبر المقيت والفظيع، وتدافعت محطات التلفزيون الكثيرة، وبجوار مبنى السفارة مقرا تلفزيونين منها ("الميادين" و"العالم")، وتسابق مراسلوها الى بلوغ ميدان الحادثة وتصويره وهو على حاله الخام الحربية وغير المصنوعة: بؤر نيران مشتعلة وشرهة، وأسلاك واغصان متهدلة ومترهلة، ورماد أسود ومتجهم، وزجاج مفتت ومتناثر، وبشر هامدون ومتفحمون لوناً وسكوناً أخرس، وواجهات أبنية بكماء وفاغرة الافواه والعيون الكثيرة. ويلف هذا، على تفرقه وبعثرته اللذين أنزلهما به العصف المدمر والحارق وصنعه غيابُ البشر وجلاؤهم عنه قسراً وعنوة، خلاء وفراغ موحشان. وتظلل ميدان الحرب، المقفر إلا من آثار الاهواء المحمومة، الصورةُ الطالعة من سراديب "النفس" والارض والمحفوظات العربية: الحي الذي تركه أهله وحضوره ومن سكنوا اليه وحلّوه طللاً متهدماً. فعاثت به الأرياح المتلاطمة، ومحت معالمه وحدوده وساحاته وطرقه وما ينم بمعنى ووجه وقصد، وخلفت الخرابَ العاري وتجريده العمران أو أقل قليله من لائحة قسماته الانسية والمتعارَفة. ويصنع السيمتكس والتي إن تي، وغاز السارين وغاز الخردل (في البشر)، ما يصنعه التسونامي وتداعي اليورانيوم والبلوتونيوم المخصبين و"المحررين" في دوائر الطبيعة المعمورة أو الغمر. ويصنع الاجتماع البربري أو المتبربر، على قول بعض الباحثين في تسلط العسكر المستولي على مجتمعات عزلاء تنهبها الحروب الاهلية، في البشر وحواضرهم المكتظة بالسكن والمصانع ما تصنعه اعاصير الطبيعة والاسلحة الذرية والكيماوية والجرثومية، وترمي بهم في أرض يباب، مقفرة وموحشة شأن تلك التي ضربتها الاعاصير والاسلحة غير التقليدية والحروب الاهلية المتطاولة.

 ولم تقتصر آلات التصوير وعدساتها النهمة والفاضحة على المشاهد، وعلى مسحها وذرعها على وجوهها وجهاتها ودقائقها المدماة، فأرفقتها بكلام نفاذ، عليم وخبير ومستكشف وبصير بما وراء حجب الدمار والموت. فاستدعت الشاشات، الى المذيعين والمراسلين والمصورين الميدانيين، فريق الخبراء والمعلقين والمذيلين وأصحاب الحواشي، والمفسرين والشارحين والمؤولين والعرافين. وفي غضون دقائق قليلة، وقبل ان يحصى الضحايا ويعرّفوا وتوصف الجريمة وكيفية إجرائها (وانتحارييها المتعاقبين)، وقبل ساعات من نسبتها الى احد فروع "القاعدة" أو الى العدو الصهيوني (السفير الايراني في لبنان والسيدة أفخم)، أطّرَ "أولياء الدم" الكلام الجائز والصادق والمأذون بحدين: حد يحصره في تناول الحادثة في نفسها، فلا قبل لها ولا بعد، وحد آخر يلزم الكلام بحملها على "الحرب" السورية التي تشنها "الصحراء"، على قول صحافي روائي مكنياً، على عمران الهلال الخصيب واصلاحييه ومقاومته وحضنه "العراقي والسوري واللبناني" وسنده الايراني.
 وترتب على الحد الاول نسيان طرابلس ومسجديها، التقوى والسلام، وضحاياها وقتلاها الخمسين، ومئات جرحاها، والمشتبهين في جريمتها المعروفين المشهورين منهم والمتخفين والمستترين و"الابطال" في الاثناء الى اليوم. ونسي "الجوار" السوري القريب وحوادثه القريبة والبعيدة، المقترنة في الاشهر الاخيرة كلها، سياسةً وقتالاً وقتلاً وتهجيراً وتشريداً وتجويعاً ونفياً، بـ"انتصارات" الجيش العربي السوري و"تحريره" البلدات والمدن والقرى والمخيمات والقواعد وعضده الحرسي ("مئات الكتائب" على قول نائب شوروي) والحزب اللهي (- لبنان) والعباسي (- العراق) والاستخباري الروسي. فتناول الهجوم الانتحاري والارهابي على السفارة الايرانية ببيروت من باب الحروب السورية، الاهلية الداخلية والاقليمية الدولية، وحلقاتها السياسية والاهلية والمذهبية والارهابية والمالية والتسليحية، هو على زعم "أصحاب الدم" المفترضين تبرير وقح للجريمة و"تغطية" يُتِمّان أو يكملان ما سبق من "دعم لوجستي ومالي". والسؤال عن علاقة مفترضة بين حلقات "الحوار" الدامي والقاتل، وهذا يدعو الى وضع المتحاربين والمتقاتلين على بعض المساواة والتضايف (الاضافة الى مضاف اليه لا ينفك من مضاف)، يوصم "أخلاقياً وسياسياً" بسوء القصد والنية، على قول احد من اقاموا بالشاشات طيلة يوم الثلاثاء.
 ويقود تناول الحادثة في نفسها وعزلها، وإخراجها من قرابة قد تشدها الى حوادث أخرى مثلها قام بها قتلة انتهى التحقيق الى معرفتهم أو هم يقودون أعمال القتل والحرب جهاراً نهاراً الى اختصار المتهمين والمشبوهين والمظنونين سراً او علانية، على رغم تباين مراتب التهمة والمسؤولية، في قاتل واحد. فتناقل "أولياء الدم" المفترضون، من أعلاهم رتبة ومأذونية ومقاماً وتكليفاً الى القائلة في نفسها "رغم انني امرأة"، اسم المسؤول المباشر والمادي عن القتل وشهرته وصفته ونعته. وقلبوا الاسم والشهرة والصفة والنعت كياناً سياسياً، وجماعات مذهبية ووطنية، ودولاً وأجزاء دول. وإذا كان التحقيق القضائي الجنائي العادي يميز درجات الضلوع في الجريمة، من مرحلة التخطيط الى الاشتراك الفعلي المباشر أو المساعد وبينهما العلم بنية الارتكاب والاسهام في تحصيل بعض وسائلها ثم اخفاء آثار الجريمة، ويعاقب أو يدين بحسب الدرجة، فـ"التحقيق" التلفزيوني الحار او المباشر يستثقل مثل هذه القيود، وينسبها الى "ثقافة" غربية مراوغة، شأن فكرة القانون أو الحق.
 فالظواهري، وعصاباته وقتلته ومُداه الاولى والثانية، ونواب كتلة "المستقبل" النيابية واحداً واحداً وواحدة، وبينهما خليط من الملوك والامراء والدعاة والموظفين الامنيين والاثرياء، سواء بسواء ولا فرق بين واحدهم وآخرهم. فمسؤولية الواحد عن الجريمة، منذ الدقيقة الاولى لارتكابها، هي مسؤولية الآحاد الآخرين من غير نقصان ولا زيادة. فلا تتردد المحطات، ولا الصحف من بعدها، وتدعو العابرين والعابرات الى التصريح بآرائهم أو رأيهم في الجريمة ووقائعها الماثلة. فلا يخطئ أحدهم، أو إحداهن، فهم الدعوة الكريمة. فالسؤال هو عمن وراء الجريمة المواربة ويتستر بها تستر العارية الخاطئة بورقة التين الاسطورية، أو تستر الملك الظالم بخوف رعيته وطاطأتها الرؤوس حين يخرج عارياً في موكبه. فيجمع من يسألون ويُسألن على قول " ما صرخ (به) مواطن يقطن في الطبقة الثانية من أحد المباني المجاورة للسفارة (الايرانية) منادياً (مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية صقر صقر): يا مدعي عام، يا قاضي مبسوط هيك. هيدا كلو من ورا السنيورة ووراك وورا السعودية. يا قاضي هول دمن برقبتك وبرقبة الحريري"، على ما روت صحيفة "أولياء الدم" المحلية. وتقف صبية حامت حول المراسل بعض الوقت فدعاها الى الكلام، وحدقت في آلة التصوير، ومهدت لكلامها بالقول إنها تريد أن توجه رسالة، وتأمل في أن يسمع من تخاطبه رسالتها، وهو بندر بن سلطان الذي تحمله المسؤولية شخصياً عن الحادثة. وهي طريقة في الخطابة والمخاطبة ليس عسيراً تعرف مثالها التعليمي والتربوي الذي تنسج عليه هي و"الأخوات" و"الاخوة".
 والحد الثاني للكلام التلفزيوني المتدفق هو، على خلاف الاول ظاهراً، الحد "الجيوبوليتيكي" أو "الجيوسياسي" والاستراتيجي، على ما يحب المعلقون والمحللون والخبراء الدعاة من ضيوف المحطات المزمنين القول والتذكير  عند تناول الحوادث المتفجرة، مجازاً أو حقيقة، حشر عدد كبير من الحوادث القريبة، الثانوية أو البارزة، وجمعها في دلالة واحدة تقوم من هذه الحوادث مقام البؤرة والقطب. وعلى حين يستبعد المحللون الدعاة إدراج الهجوم الارهابي في سلسلة متصلة ومتواردة من حوادث ارهابية أخرى اصاب بعضها الخصوم أو المخالفين، السياسيين والمذهبين، لا يترددون في إدراجه في سلاسلهم وسياقاتهم هم. وتصل سلاسلهم وسياقاتهم بين "الانتصارات" العظيمة والحاسمة والثابتة التي يحرزونها على الجبهة السورية شكلاً، والاقليمية والكونية حقيقة وفعلاً. وتصل، من وجه آخر ملازم الوجه الاول، الانهيارات العظيمة التي تنزلها بالعدو المطاط والاخطبوطي قوى "المقاومة" المظفرة والموعودة. وهذه كذلك ميادين جولات وصولات تبدأ بـ"تحرير" القصير ولا تنتهي بـ"استعادة" السفيرة وقارة ومقتل قادة في "كتائب التوحيد" و"لواء الاسلام" والجيش السوري الحر.
 و"الانتصارات" على الجبهة الايرانية، وهي إيرانية – أميركية هذه المرة ومن غير تردد ولا لعثمة، لا تحصى بدورها ولا يسبر عمقها "الإلهي". وأعظمها المفاوضة على المسألة النووية. وهي ثمرة انتصار حسن روحاني، حليف رؤوس "الفتنة" الموارب، على مرشحي محور الباسدران - خامنئي مجتمعين بأصوات انصار المعارضة، وذلك في خاتمة مطاف حصار قاسٍ على مصدر عوائد دولة ايران الاول وشبه الوحيد، أي النفط، وعلى أدواتها المالية  والمصرفية. وأدى الحصار الجاد والمشترك، الى الحصار الطوعي الذي تولته الولايات المتحدة ووكالاتها منفردة واستدرجت اليه بعض الحلفاء المترددين، الى تقليص مبيعات النفط الايرانية الى النصف. وبعضها استحال تسديد اثمانه جراء الحجر على التحويلات، وبعض آخر سددت أثمانه بعملات محلية ودولية أو مقايضة بسلع. ونجم عن الحصار المالي والمصرفي اختناق التجارة المحلية، وإفلاس بعض مرافقها وكساد بعض آخر، وتردي سعر صرف العملة وغلاء الاسعار، وانكماش سوق العمل ونضوب الاستثمارات. فكان انتخاب حسن روحاني، ووعده الانتخابي الاول هو "الانفتاح على العالم" وإعادة النظر في سياسة محمود أحمدي نجاد المتهورة، وهو جدد التزوير الحرسي – الخامنئي انتخابه الى ولاية ثانية، ثأر الاصلاحيين وأنصارهم من الحلف العسكري والحوزوي والاوليغارشي المحلي.
 وليس معنى هذا، على خلاف ما يحسب بعض أنصار الأجنحة المشققة والغالية في السلطة الايرانية، أن فريق روحاني يفاوض "راكعاً" و"ذليلاً". والحق أن مأتى حرجه ليس ضعف الكفة الايرانية في ميزان القوة العسكرية أولاً وحسب، ولا اضطراب الانتصارات الحرسية في العراق وفلسطين ولبنان وسوريا والبحرين، وإنما السبب في الحرج هو تشقق الحلف الحاكم، وتنازع قواه ومصالحه الاجتماعية، والصفاقة الحالكة التي تستر صراعاته وخلافاته وحالت (على سبيل المثل) دون اضطلاع رجل قوي وحاسم مثل رفسنجاني بما أوكل الى رجل رهين أحلاف معقدة وظرفية القيام به. ولا يزال ربيع 2009 يلقي بظله "الثقيل" على سياسات إيران، ويشكك في مشروعية هذه السياسات وطواقمها المزدوجة على منوال محمد جواد ظريف/ عباس عراقجي، وعلى مثال يتصدره حسن روحاني وجمهوره/ خامنئي وحرسه وباسيجه وبيروقراطيته وأصحاب ريوعه في الدولة والمؤسسات الوقفية...
والوقوف ببعض التطويل على مسألة المفاوضة، ووجهها الداخلي، يريد التنبيه على صنف الجيوسياسية، الذي يزاوله المندوبون الى التحليل الدعوي والبازاري في أجهزة الاعلام والخطابة والتحريض، وفي اجهزة الحرب في نهاية المطاف. فهم يخلصون، على نحو ما صنعوا في مقالاتهم وثرثرتهم في الهجوم الارهابي صبيحة الثلاثاء، الى ان المرونة غير البطولية التي أبداها الوفد الأميركي في لقاء جنيف الثاني، واعترضها التذكير الفرنسي باجتماع آلما آتا في شباط 2013 وبنود بيانه (فتح كل المراكز الايرانية أمام التفتيش، وضع البرنامج النووي كله في عهدة الوكالة الدولية، إلغاء تشغيل محطة آراك بالماء الثقيل، تحويل اليورانيوم المخصب الى وقود...) – يخلصون من المرونة هذه الى "عزلة قاتلة" تصيب أو أصابت في مقتل السعودية وتركيا وفرنسا و"اسرائيل" والجماعات الارهابية "الجهادية" (السنية وحدها) والسلطة الفلسطينية برام الله و"المستقبل" و"14 آذار" في لبنان و"كتائب عبدالله عزام" معاً وجميعاً في وقت واحد، وسلم بعض السلامة منها وليد جنبلاط وحاسة شمه الحديد الى بعض الوقت ربما، في انتظار مقالته الاسبوعية الآتية في "الانباء".

 فالسياسات العسكرية و"الاعلامية" "الجيوبوليتيكية"، وهي ركن من أركان الأنظمة الخمينية الحرسية والاسدية والحركات الفرعية التي ولدتها ورعتها و"الشخصيات" المتألقة التي جلتها، تفترض أولاً وآخراً إلغاء دواخل الدول والمجتمعات. فهذه الدواخل تلابسها، من دوانيها الى اقاصيها، تعقيدات مزعجة ومربكة على خلاف النورانية، في لغة القوم ومصطلحهم، التي لا تنفك "الجيوبوليتيكا" من المثول في بهائها. فإذا أوجبت هذه "فهم" المعمعة السورية – "سوريا الاسد" المفتاحية والاستراتيجية، واللاعب الكيسينجري، والمستقرة، والمقاومة والمتطاولة العهد فوق ولاية معاوية بن سفيان على قول الهولندي الكاتب، والنافذة الرأي والسطوة في الشاردة والواردة- على رسم القومية "الاجتماعية" العربية- الجماعات التكفيرية، زالت الغشاوة والشبهات عن العيون والافهام. وتبدد الاستبداد والحكم العرفي، والمجازر الخفية والمعروفة، واحتكار "العصابة"، وشراء الجماعات والشرائح بفتات الريوع، وعيش الكفاف، وتحجر أهالي المناطق والمذاهب على عصبياتهم، وانهيار الارياف، والهجرات، والعشوائيات، والعشائر، والاكراد، والمخيمات الفلسطينية، والجوار المتناحر القريب والبعيد، والقنوط والخواء - تبددت هذه كلها وتبدد هؤلاء كلهم وذَرَتها (وذرتهم) رياح صرصر هي من بشائر حمل الازمنة بوليدها الزكي ووشك وضعه لا محالة. وفي القياس على هذا، هجوم انتحاري على سفارة إيران من هنا، أو نظام الاسد من هناك (على قول محلل مأذون)... تفاصيل صغيرة. 

السبت، 16 نوفمبر 2013

الحرب هوى الدولة... الخمينية والاسدية والبوتينية: "التاريخ العظيم" والحياة الضئيلة

 المستقبل11 تشرين الثاني 2013

 لم يطق، إذن، الوزير الخطير، والمفاوض المبارز والمناضل، والديبلوماسي "البطل"، محمد جواد ظريف، وهو جمع أمانة مجلس الامن القومي العامة التي يتولى المرشد الامام الوصاية عليها الى تفويض وزارة الخارجية، وهي من قطائع رئيس الجمهورية الاسلامية المنتخب، لم يطق الرجل الشك في حسن تعهده الامانة التي أوكله بها المرشد والرئيس معاً (عطفاً على مقالة "نوافذ" – المستقبل، في 20/10/2013). فخارت قواه، ودب الوهن في أوصاله، واضطر الى مزاولة الرياضة، البدنية والروحية على الارجح، والى التنبه اليقظ الى ما يوحي به مرشد "الثورة" الى حجابه الكثر، قادة الحرس الثوري وأسلحته ومفوضيه وقادة شرطة الباسيج الشعبيين وأعضاء المجالس (حراس الدستور وصيانته وتشخيص مصلحة الثورة والشورى والامن القومي...)، والمستشارين على مراتبهم، وآيات الله على درجاتهم، ووكلاء الاوقاف والأضرحة على عتباتهم ودويلاتهم وعوائدهم. والولي، وولايته تتطاول الى أحكام العبادة وأحكام المعاملات ويلي من الناس الوساوس والهواجس، يلهم حجابه ووسائطه وسفراءه آراء أو مقالات لا تحصى أوجهها ولا معانيها.
 القول في الرأيين
 فمن قائل أن المفاوضة على تخصيب اليورانيوم في نسبة 20 في المئة، وهي مدخل الى الـ90 في المئة العتيدة والموصلة الى السلاح "الاعظم" (بعد الايمان والتصديق والطاعة)، جائزة. وربما جائزة المفاوضة على موقع فوردو الحصين، وعلى موقع بارشين ومياهه الثقيلة، وعلى البروتوكول الاضافي وإقراره بحق الوكالة الدولية في زيارة المواقع بغتة ومن غير سابق إخبار. ومن قائل أن هذه كلها "خطوط حمر". ومن قائل مرة أن المفاوضة جائزة، ثم عائد في قوله الاول الى قول آخر ينفي ما "نقل" عنه. والمرشد ينفخ في القولين والرأيين، ولا يجزم في تفضيل أحدهما أو ترجيحه. وفي الاثناء، تستفيق بلدية طهران، الممتازة، على انتهاك شعارات "الموت لأمريكا" شارات ولافتات رسمية فتنزعها من غير رحمة، بعد أن ندد بها مندوب المرشد الاول الى قيادة القوات المسلحة في أثناء حرب العراق وإيران، الشيخ رفسنجاني، وأسند رأيه الى أثر نقله عن شيخه وإمامه، وندد بالمندد أحد قادة "الباسدران" السابقين وكذَّب الرواية عن خميني.
 وتدور حرب الروايات والاسانيد على "البطولة" الايرانية، أولاً وآخراً. فالسلاح الذري، أو الصناعة الذرية ومفاعلاتها الحلال والمفضية الى سلاح أعظم حرام، هو مناط "عظمة" إيران وعلامة استوائها "قوة نووية" وعالمية "مركزية" على ما لا ينفك ضابط الاستخبارات السابق في "الباسدران" ورئيس مجلس بلدية طهران من بعد ومحظي علي خامنئي في دورة الانتخابات الرئاسية الثانية (في 2005) وفي الدورة الاولى في 2009، والشاهد على نور المهدي، محمود أحمدي نجاد، يردد ويعيد. ويترجم رأي "الخامنئي" أو قضاؤه عن عقيدة "الامة" الايرانية العظيمة، وهوى شعب (أو شعوب) إيران، وإجماعه. وذلك على قول لا يشكك فيه معظم الصحافيين الغربيين. وإذا جهر 80 الى 90 في المئة من الايرانيين، في الاسبوع الثالث من تشرين الاول 2013، على زعم استفتاء رأي تولته هيئة محلية عن تكليف الشيخ حسن روحاني، تأييدهم نهجه هذا، ونشدانه "التفاهم" والولايات المتحدة على فك الحصار النفطي والمصرفي المالي عن النظام الباسدراني الساعي في صناعة نووية وصاروخية عسكرية، طعن المرشد في الاستفتاء وجوازه، أصلاً وفروعاً، حين متعلق الامر هو فتاوى الفقيه غير المعصوم وإيحاءاته الكثيرة.
 ولعل هذا ما رمى الوهن والضعف في ظهر الوزير وركبتيه. و"هذا" هو احتمال الغلط في تأويل مقاصد المرشد، وتالياً جواز الحياد عن صراط هذه المقاصد، وخيانة عظمة ايران الخمينية – الخامنئية، ومكانتها الاقليمية – الدولية التي تبوأتها منذ شرعت في رفع مداميك الصناعة المباركة (بيد الشعوب المظلومة والمستضعفة) واللعينة (بيد قوى الاستكبار وسلاطين الكفر والظلم). ويصدر جواز الخطأ عن أمرين كلاهما مؤتلف من أضداد يعصى فهمها سواد الناس والرعية: احتجاب مقاصد أو غايات المرشد (و"فريقه") وراء غياهب المعاني "الالهية"، وسُدُفها الخفية، وسمو المرشد ولغته على لغات العامة واستبطانه ما لا تدركه العامة،  ويستغلق على الجمهور (وحَمَل هذا أبا حامد الغزالي، في "فضائح الباطنية"، على التنبيه الى استحالة "الترجمة" عن لغة الباطن المكنون والخفي الى لغة الظاهر المشترك والمتداول إلا بواسطة لغة ثالثة، متداولة ومفهومة في اللغة العمومية من غير زيادة ولا نقصان ولا مرتبة خصوصية في الفهم أو العبارة...).
 وزعم خصوصية لغة الباطن لا يستقيم إلا بزعم الصدور عن الغيب ومرتبته المفارقة صدوراً لا توسط فيه. وآية الصدور المباشر هي الاعجاز: إعجاز الكون والحدوث، وإعجاز البقاء (في السلطة)، وإعجاز الانتصار (الحرسي على الخصوص)، وإعجاز المكانة "المحورية" والدور والنفوذ، وإعجاز اجتراح الآلات والتقنيات و"العلوم" بقوة وسليقة "ذاتيتين" وأصيلتين مستغنيتين غنى ناجزاً عن علوم الغرب وآلاته وتقنياته. ولا يقدح في الزعم لا تجارة عبد القدير خان ولا سرقات بيونغ يانغ. والحصار الخانق والشديد، وعمره الفعلي لا يتعدى السنتين الاخيرتين، و"العدوان" المزمن والرمزي والظالم على نحو "مذهل"، هما القرينة القاطعة على "استقلال" إيران الخمينية، وقيامها بنفسها ورأسها، أي بأود حربها الماحقة على أمريكا وقواتها وعلى مواليها من دول ومجتمعات متواطئة ومنقادة وأراضٍ حاضنة وخانعة. وقبل أن يقر وزير الخزانة "الروحاني" الجديد بأن الاقتصاد الايراني لم يحدث إلا زهاء 127 الف فرصة عمل أو وظيفة طيلة 8 أعوام ميمونة، وليس 7 ملايين على زعم جوق الترويج والدعاوة المتحلق حول ضابط "الحرس الثوري" السابق، وبأن احتياط الحزينة قريب من الصفر ولم يبصر السبعين ملياراً من الدولارات ولا في المنام- كان المذهب الرسمي، وهو لا يزال سارياً في ولايات الاطراف وقطائعها العراقية والسورية واللبنانية، أن الحصار والمقاطعة الغربيين واللئيمين هما فرصة إيران المبارزة وذريعتها الى الاكتفاء الذاتي، وانتاج ما يحرمها منه الغرب الآفل والمأزوم حتى الزوال والانهيار.
الحرب الكونية
 فلا تنتاب الحيرة الايرانيين الذين يوالون القيادة الحوزية – الحرسية إذا هم سألوا السؤال الاميركي الممض بين يدي الارهاب القاعدي والجهادي: لماذا يكرهوننا؟ فالجواب الواثق سبق السؤال الذي لا يطرح، أصلاً، في هذه الصيغة. وهو (أي الجواب): هم يستميتون في حربهم "الكونية" (بشار الاسد وجوقه) علينا لأننا أقوياء ومحوريون و"مفتاحيون" (فاروق الشرع سابقاً) ومنتصرون على الدوام، ومسلمون أولاً وآخراً. ويفترض الجواب العتيد، والثابت على مر الرئاسات وأطوار الايرانيين، في مرآة اقتراعهم المتقلب وظروفهم المضطربة، أن مصدر القوة هو "النظام" الخميني، وعسكرته الدولة والمجتمع، وتعبئته الايرانيين والاشياع المذهبيين في "مقاومة" عالمية حاسمة تدك حصون الهيمنة حصناً بعد حصن، وموقعاً بعد موقع. وتقتضي "المقاومة" – على معنى الحرب الكونية المنتصرة والمفروضة وعلى رغم هذا المزمنة الى قيام الساعة والفَرَج القريب والمنظور (ولا تخلو خطبة من خطب حجة الاسلام حسن نصرالله نصف الشهرية من ضرب موعد تقريبي لها) – دمج الامة والشعب في الامة والشعب، ودمجهما في المرشد وقيادته، واستواء المرشد "جنرالاً" عاماً على أمة مقاتلين، قتالها فرض عين على آحادها واحداً واحداً، وليس فرض كفاية على من يفون بالغرض ويكفون غيرهم بهاء القتال وجماله وروعته.
 ويشتري النظام الخميني – الخامنئي والحرسي ولاء مواليه الايرانيين و"العرب" والباكستانيين والافغان بأنهم "قوة"، على قولهم في احد اعلامهم العراقيين، أو بأنهم "الاقوى"، على قول أحد نوابهم اللبنانيين متواضعاً، والمنتصرون على "أعظم قوة عسكرية في المنطقة" وكاسرو "آحادية أميركا"...، وهم يجددون قيامهم على حالهم هذه، وبقاءهم عليها، من طريق مناورات تتسلسل لا إلى نهاية، وتُعمل أسلحة فتاكة وسرية تخفى أسرارها الدقيقة على العدو اللدود ولا تهدد مسالماً ساكناً ومحايداً، بالغا ًما بلغ حقده الدفين والاكيد على عظمة ايران و"مقاومتها". ولقاء هذا الثمن، أي التربع في سدة القوة المخيفة التي يحفها العوز والفقر والبطالة والاعتيال على مورد واحد وتحفها العزلة والشكوك وتضطر الى الكذب والايهام المقيمين لقاء القوة على الايرانيين ورعية "الولايات" و"الاقاليم" النزول عن أي رغبة أو شهوة غير شهوة السلاح المدمر وانتصاراته الموعودة، الماضية والناجزة والآتية لا ريب فيها، ونظام السلاح الحاكم. ومرض الوزير ظريف هو من ثمار تربية نظام السلاح، وآثاره في اجساد رعيته، خاصتها أو نخبها وعامتها أو محكوميها.
 وما قد يبدو تكهناً وتخميناً في سرائر وطوايا الشطر الموالي من الايرانيين والرعية الآخرين، الواسطة اليه هي مقالات المتسلطين عليهم وأعرافهم وأحكامهم وسياساتهم "السلطانية" أو الامبراطورية، يفشي نظيرَه وشبَهَه، أو نظائره وأشباهه، ما يقوله جهراً سوفياتيون سابقون، من قبل ومن بعد، في دولتهم ومجتمعهم، وفي أنفسهم، اليوم وفي أمس قريب. وجمعت سفيلتانا الكسْييفيتش، في نهاية الانسان الاحمر أو زمن الخيبة (على ما مر في العجالة السابقة) اعترافات ناسٍ عاديين، من أعمار وأحوال وبلدان وأهواء متفرقة. وبعضهم اختارته، وضربت له موعداً، وحادثته وحاورته، وسجلت أقواله أو دونتها كتابة على مرأى منه. وبعضهم التقتهم صدفة واتفاقاً في ساحة عامة، ومناسبة أو غير مناسبة، وطرحت عليهم اسئلتها. وهي تعرِّف أسئلتها سلباً: "هي ليست أسئلة عن الاشتراكية"، ثم إيجاباً "... بل (أسئلة) عن الحب والغيرة والطفولة والشيخوخة، وعن الموسيقى والرقص وحلاقة الشعر وآلاف جزئيات حياة مضت". وهي ترى أن هذه الاسئلة "تدرج الكارثة في اطار أليف، وتحمل على رواية شيء ما" (من المقدمة).
 ويسوغ هذا الضرب من الاسئلة اعتناق بعض السوفياتيين المثال السوفياتي في أطواره الاربعة (طور أو جيل ستالين، ثم خروتشيف، ثم بريجنيف، فطور غورباتشيف، على ترتيبها) اعتناقاً يستحيل معه سلخهم عنه أو انتزاعه منهم. فالدولة السوفياتية، شأن شبهها أو نظيرها الخميني الحرسي والاسدي "السوري"، "ًصارت عالمهم، وقامت مقام كل ما عداها، وحلت محل حياتهم نفسها. فلم يقدروا على مغادرة التاريخ العظيم، ولا وسعهم وداعَه، والخلودَ الى الهناء والرضا على نحو آخر، والمغامرة بالارتماء في أحضان حياة خاصة وشخصية...". وتخلص سفيلتانا ألكسْييفيتش الى قول مجمَل لا تستثني منه نفسها ولا من هم مثلها:" الحق أننا في قراراتنا أهل حرب وقتال".  
الحياة الخاصة والشخصية
 وتخالف الحال الروسية الاحوال الاسلامية والعربية في مسألة بازة ومتصدرة هي مكانة الحياة الخاصة والشخصية، ودورها في التصدي لهيمنة "الدولة"، أو الجماعة القومية والدينية الغالبة على "الامر" (أحكام السلطة الدقيقة والوريدية) كله وعلى وجوهه المتداخلة والمتشابكة. والحياة الخاصة والشخصية، في مرآة أقوال الروس في أحوالهم وحوادث تاريخهم ومنعطفاتهم- من الحرب الاهلية الى العهد الستاليني وتصنيعه وسحقه الارياف والقوميات وتصفياته ومعسكرات اعتقاله والحرب الثانية التي اهمل الاعداد لها وأرجأه-، تتخطى الصورة الغائمة والذاتية النفسية "فالعاطفية" المفترضة، وهذه ننسبها نحن أهل العربية الى مصطفى لطفي المنفلوطي المصري "وعبراته" أو الى جبران خليل جبران اللبناني المهجري و"أجنحته المتكسرة" و"عواصفه" و"دمعة وابتسامة"، الى أنماط علاقات وانتاج وتوزيع واستهلاك الرأسمالية ومنازعها المتفرقة والمختلفة. فإذا كان ترتب على اشتراكية "ديكتاتورية البروليتاريا" وبيروقراطيتها اللينينية والستالينية هوى جارف بـ"التاريخ العظيم"، وهو لا محالة تاريخ حروب حديثة وعلى شفير الابادة المتبادلة وهاويتها الرادعة (على قول استراتيجي متفائل وعقلاني)، صرف العزوفُ عن العظمة النووية، وسدتها الالهية على ما لا يشك أئمة الصلاة السابقون في قرى "أرياف" تبريز وأصفهان ومشهد وعبادان وغيرها، عامةَ الناس والرعايا الى التشاغل بـ"توافه" الامور.
 ولا يفتأ محاورو الكاتبة المدونة، ناقلة الحديث العامي وغير النبوي ولا الإمامي، من السوفيات أو الذين ينسبون أنفسهم طوعاً الى "الامبراطورية" البائدة، (لا يفتأون) يحصون علامات الانحطاط والأمارات الدامغة عليه في السلع الجديدة التي تدفقت على السوق الروسية حال فتح منافذ في جدران الحزام الامني والعسكري والاقتصادي والذهني السوفياتي. فالمقانق، الى الجينز بديهة، وماركات السجائر الغربية والملابس المُعْلَمة الداخلية و"الخارجية"، والبرادات وأجهزة التلفزيون والمسجلات (قبل الهواتف الخليوية وفروعها الكثيرة والمتجددة) والسيارات وشقق السكن، والطائرات الخاصة للقلة المتربعة في الذروة الضيقة، هذه السلع، أو الكماليات أو المعمرة على ما سميت في خمسينات القرن الماضي، يرميها القوم السوفياتي، والمقيم على قوميته أو عصبيته، على نحو ما يرمي الشاتم الشتيمة أو البصقة في وجه مشتومه.
 ويعوِّل الناقم، أو الناقمة، على تصاغر السلع الضئيلة والتافهة وتلك التي يحسبها ضئيلة "بذيئة" (مثل "كيلوت" النساء وصداريتهن) بإزاء الانتصار على "النازية" وعدد قتلاه والصناعة العسكرية التي صنعت دبابات ت-55 وت- 62 وت -72 (التي تصب حممها المدمرة منذ نحو 30 شهراً على السوريين وقراهم وبلداتهم وأحياء مدنهم)، ثم حاكت القنبلة الذرية فالهيدروجينية والنيوترونية والقاذفات الاسراتيجية وحاملات الطائرات والغواصات. فـ"المواطن السوفياتي"، والعبارة خُلفٌ أو تناقض يسعى في القول، يرى سند العظمة في حصاد الحروب، الداخلية والخارجية "الوطنية"، من القتلى، وفي المهابة والاحترام اللذين يشعان من بلد نهض بهذا الحصاد المروع، واستأنف سيرته في قوات مسلحة تسليحاً ثقيلاً ويفترض ساحقاً (ولم يربح المتسلحون به حرباً كبيرة واحدة منذ الحرب الثانية).
 ويساوي الناقمون "السوفياتيون" الحريةَ – أو الحريات المدنية والشخصية والسياسية التي جبه بها بعض انصار غورباتشيف ثم يلتسن النظام الحزبي والعسكري (الستراتوقراطي، على قول كاستورياديس في ثمانينات القرن الماضي) السوفياتي – بهذه السلع "الوضيعة". فتتردد على ألسنتهم المعارضة القديمة، الغربية ثم السوفياتية، بين "المدافع وبين الزبدة"، كناية عن صرف الاستثمارات والموارد المالية والانتاجية والبشرية إما الى الصناعة الحربية وإما الى الصناعات الاستهلاكية والمعيشية. وكنى منكرو سياسة خروتشيف، في خمسينات القرن الماضي وأوائل العقد اللاحق، عن ازدرائهم سعي خالف ستالين في تقييد الفريق العسكري والصناعي الراجح والمهيمن وفي إيلاء انتاج السلع الاستهلاكية "الغولاش"، باسم النبات الغذائي الذي حض أمين اللجنة المركزية يومها على زراعته والعناية به. وإذا اثمرت "الحرية" التي دعا غورباتشيف الى تحكيم بعض معاييرها في سياسة الدولة السوفياتية ونظمها "المنزلية" والخارجية، وأعمل بعض أحكامها في تناول التاريخ السوفياتي وأبنيته الامنية والسياسية والثقافية، انحلالَ النظم هذه، حمل الناقمون الانحلال، والفوضى المروعة التي تفتق عنها، على "حرية" غايدير وتشوبايس السوقية الرأسمالية، وعلى زيف نشدان الرفاه و"تدبير الملذات" و"هَمْ ذاتِ النفس"، على ما وسم ميشيل فوكو بعض اعماله الاخيرة والمنشورة بعنايته. ومال هؤلاء الناقمون والمقيمون على "الحياة السوفياتية" والحنين اليها، الى وصم ما يحيد عن "المدافع" الى "الزبدة" بالخيانة والوضاعة.
 وتقوم معارضة "ضعف" الانسان، على وصف قرآني، وميوله الانانية والدنيوية السلعية والسوقية المستوردة في لغة العصر التي يتوسل بها الشيخ حسن روحاني وأنصاره الى انتقاد سلفه وتبديده 750 مليار دولار- تقوم من عظمة السياسة والولاية "العادلة" والعالمة الخمينية والامامية مقام الركن. وأنكر آية الله المنفي الى النجف بالعراق، في محاضراته في الحكومة الاسلامية أو ولاية الفقيه (1969)، على علماء الدين التلهي بأحكام "الحيض والنفاس" عن أحكام الولاية والسياسة والسلطان، وتركها الى الحاكم المدني الكافر والفاسد حكماً وطبعاً. وتابعه محمد حسين فضل الله وغيره على ركنية معارضته، وعلى انكاره وطعنه على العلماء القاعدين (عن الجهاد) والساكتين (عن الظلم). فعدوا الضعف كفراً أو بمنزلته. وحملوا طلب "الحاكمية"، ووضعها موضعها الالهي الاصيل، والصدور عن هذا الموضع و"تحريك المواضع والبؤر المعادية للاستكبار" والجهاد في هذا السبيل، (حملوا هذه) على انتهاج "منطق القوة" في القرآن والاسلام الصحيح. وتمجيد "الشهادة" و"الجهاد" و"خط الرسالة" و"سادة قافلة الوجود" (على قول الجماعة الخمينية المسلحة بلبنان في بعض قتلاها المعممين الاوائل) إنما هو الوجه الظاهر والسائر من العقيدة الحربية والعسكرية التي تختصر الاجتماع السياسي، او الاجتماع كله، في "المدافع" أو القوة النووية والرعب الذي يلقيه "الحرس الثوري" في قلوب الاعداء ("والاصدقاء"؟).
 النساء
 فليست "الحياة الخاصة والشخصية"، وهي في مناقشات واعترافات محادثي ألكسْييفيتش تشمل اختبار الصداقة والحب والدراسة والمهنة والموسيقى والقراءة ومحل الاقامة والسكن وروابط الاسرة والسفر وغيرها مثلها وائتلافها في سيرة مختارة على مقادير متفاوتة، هي قطب الاختيار الثاني في الحسبان الايراني أو الخميني الرسمي. ففي مقابلة الحكومة أو الولاية، أو سياسة الحرب، وعلى خلافها و"نقيضها"، ليس ثمة إلا ضعف الحياة الحيوانية التي تمثل عليها النساء وأحوالهن أي أحوال أجسادهن الوظيفية والطبيعية. وحين أراد خطيب الجماعة الخمينية (اللبنانية) المسلحة التنديد بسياسة رفيق الحريري الاقتصادية، في 2002 – 2003، خاطب الحكومة بالقول: تخلينا لكم عن شؤون الطحين والمازوت وقبلنا تحمّل أعباء المقاومة فأسأتم التدبير (على خلافنا، ضمناً). وعلى هذا، عاد الخطيب نفسه، غداة 2008 وأيامها المجيدة، الى القول أن في مستطاع حزبه المسلح، و"يحهم"، حكم بلد "مئة مرة أكبر من لبنان"، وهو يفهم الحكم شأن مرشده ولاية أمنية وعسكرية واعتقادية على رعية تفترض سادرة في ضعفها وملذاتها ولهوها، وشأن حليفه وصديقه السوري المتربع على القلوب المحبة والنابضة على إيقاع "السياسة الخارجية" التي ينتهجها على خطو والده المظفر (في لبنان وعليه وفي حلب وحماة في وقت قريب).

 والروس الذين توجهت عليهم الكاتبة بأسئلتها، وتمضِّهم خسارة القوة السوفياتية المهابة والقاتلة في الداخل والخارج، لا يجهلون ما لحقهم وحل بهم وبأصدقائهم وأصحابهم وأقاربهم بذريعة سياسة القوة هذه، وعماها وتهورها في احيان كثيرة، وازدرائها حياة البشر وحقوقهم وكرامتهم. ولكن "التاريخ العظيم" وتصديق المشاركة فيه من طريق الاقبال على الموت، والانقياد للحض عليه، وتمجيد المشيرين به و"جنرالاته" وسدنته، يرمي ستارة سوداء على دلالة الوقائع. فيحشرها في باب "الثورة المضادة" أو باب "الفتنة". وفي الاحوال كلها يخرجها من إطار الحياة السوية والكريمة. وإذا برز عدو لا يقل استماتة وشهوة سلطة، و"عظمة" مطلب ومعتقد، شأن مقاتلي "القاعدة" وأشباههم الاسلاميين، تعرف الحرسيون، ومعهم "قوات الدفاع الوطني" و"المقاومة الاسلامية" (الخمينية – الخامنئية) والخبراء الروس، على عدوهم الذي يليق بهم ويليقون به. فساحات حروب هؤلاء وأولئك ومسارحها تدعو الى الابادة والقتل الذريع. ومرض الاجساد والنفوس أضعف الايمان. 

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

مرض الوزير الباشكاتب حين أشكلت عليه إرادة المرشد المبرقع

المستقبل 20/10/2023

قرأ احد ابرز السياسيين الديبلوماسيين في ايران، السيد محمد جواد ظريف، وزير خارجية الرئيس الجديد والمنتخب في الدورة الاولى بعدد اصوات ساوى ما جمعه منافسوه جميعاً، وهم بعض أبرز سدنة الجمهورية الخمينية الامامية الاثني عشرية، على ما اثبت دستورها بالحرف- قرأ في صحيفة "كيهان" شبه الرسمية عنواناً أول (مانشيت)، عريضاً ومفصلاً، يبلِّغ الجمهور على الملأ أن الوزير أقر بأن المحاورة الهاتفية بين الرئيس الشيخ حجة الاسلام حسن روحاني وبين باراك أوباما، الرئيس الاميركي الخامس والاربعين، والاول على وشك الاقلاع من مطار نيويورك قافلاً الى إيران، "لم تكن مناسبة"، وأن "المحادثات الطويلة" بينه وبين محمد جواد ظريف وبين جون كيري، نظيره الاميركي، "خطأ في خطأ". وطُبعت إدانة حسن شريعتمداري في صدر الصحيفة اليومية في 8 تشرين الاول، الشهر الجاري، غداة عودة الفريق الرئاسي الديبلوماسي الايراني "منتصراً" من دورة هيئة الامم المتحدة العامة، الثامنة والستين، والخطابة فيها.
وفي الاثناء أو قبلها بقليل (في 6 تشرين الاول)، التأمت لجنة الامن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الايراني، وناقشت تقريراً أعده وزير الخارجية العتيد، تناول فيه رحلته ورئيسه الميمونة والمظفرة الى مدينة مقر الامم المتحدة. وتعد اللجنة بضع عشرة نائباً شوروياً، بينهم حسين نقوي حسيني، وهو من السادة على ما ينم اسمه أو تنم أسماؤه. وفيهم، حكماً، رئيس اللجنة، الثابت في رئاستها ثبات رفسنجاني في بعض رئاسته، الشيخ بروجُردي، وهو من وجوه "النظام" البارزة. وإليهما، ثمة منصور حقيقت- بور، نائب رئيس اللجنة، والمتغيب عن الجلسة على الاغلب. فلما قرأ الوزير عناوين "كيهان"، وهي صحيفة على سبيل المجاز مثل بعض الصحف المحلية الهستيرية وورقة تبليغ أمنية وإدارية في غد وشيك إن لم يكن اليوم، كتب على حائطه في وسيلة الاتصال الاجتماعي الاشهر، "فايسبوك"، أنه أصيب، في اليوم نفسه، بـ"ألم شديد في الظهر والساقين (أم الركبتين؟) و(عجز) عن المشي أو الجلوس"، فاضطر الى إلغاء مواعيد واعدها في مقر وزارة الخارجية.
ولكن "4-5 ساعات من الإخلاد الى الراحة لم تعالج المشكلة"، على قوله. فذهب الديبلوماسي القلق والمرهق من محادثاته الطويلة مع وزير شرس على شاكلة جون كيري، وهي دامت نحو 45 دقيقة أو 2700 ثانية (على ما كان الجنرال الرئيس إميل لحود أحصى)، الى المستشفى وعرض جسمه، أو بالأحرى نفسه المعذبة على آلة تصوير بالرنين المغناطيسي، وليس على آلة تصوير بالاشعة السينية العامية والتافهة على نحو ما تصنع العامة الآمنة من تحريض "كيهان" و"مانشيتاتها" المدمرة. فأفشى الرنين المغناطيسي سر الالم الشديد في الظهر، وهو آية الصلابة والتماسك والسند، وفي الركبتين، وهما من آلات الرجولة والثبات في أبدان المحاربين الفرسان. وقال (الرنين): ان مشكلتـ(ك) سببها إرهاق وتشنج عضلات". وعلى غرار العرافات والعرافين أو الكاهنات والكهنة، أوصى أو أمر الرنين العائد من نيويورك غازياً (على قول أنصار طيب رجب اردوغان في بطلهم حين عودته من دافوس في 2009 ومقاطعته شمعون بيريس الاسرائيلي بالمعالجة) "بواسطة مزاولة الرياضة".
وتطرق المفاوض الحديد(ي) الى الجمل الأربع التي صدرها حسين شريعتمداري "حميم" المرشد آية الله العظمى والسيد حاج آغا (وهي ألقابه المضمونة) علي خامنئي الموسوي، ووكيله على رأس "كيهان"، ولسانه في القضايا القومية الكبيرة مثل "قضية" البحرين وإيرانيتها التاريخية صحيفتَه، فلاحظ هادئاً ومنصفاً، أن "ساعة ونصف الساعة من المحادثات الجدية والصريحة والخاصة (لا تلخص) بأربع عبارات لا يتماشى مضمونها مع ما (قاله)". ويلوم صاحب الحساب "الاتصالي" من "يقضون من تلقاء أنفسهم في نزاهة (الآخرين)"، ويدعون ولاءً خاصاً للمرشد، وصدوراً عن إرادته وإدانته المفترضة. ويختم المفاوض المؤتمن على بلوغ أجهزة تخصيب اليورانيوم في الخنادق الجبلية الحصينة بفوردو بعد نانطنز عتبة الخصوبة النووية العسكرية بقول عميقٍ عمق المراوغة والمكر "الإلهيين" والخامنئيين استطراداً وفيضاً: "ألم يبن لهم أن المرشد، لو أراد، لكان أعرب عن موقفه واضحاً من غير لبس؟".
وهذا بيت القصيد. المرشد ومقاصده وعزائمه ومسالك إبانته عن هذه وتلك. والمرشد من لحم ودم، وجُبِل من طين ولم يجبل من نور، على قول أثر من آثار "المعصومين" في جبلَّتهم هم الاثنا عشر المكتوبون بنور أخضر على قائم العرش. وهو حاضر، ملء البصر والعين، وكلامه ملء السمع، وبلاغته ملء العقول والصدور والافهام. وحضوره أو شهوده، في لغة القوم ومصطلحهم، يحمله السفيرُ الدولي الايراني والمفاوض القديم الذي يتذكر الامين العام لجامعة الدول العربية المغمور نبيل العربي لطفه ودماثته (وجه "المرونة" من "المرونة البطولية")، على غيب أو غيبة تنطوي على معاني لا يسبر غورها. فالغالب على الشاشات البيض ومحطات الاذاعة والمواقع الالكترونية من غير منازع، والخارج على الدوام منتصراً من الاشتباكات الانتخابية الايرانية و"ليل نقعها" حين لا شمس ولا قمر إلا جبين المرشد ووجهه الصبوح، هو نفسه لم يستبن لأقرب المقربين إليه، وهم ألسنته وأذرعته وأعصابه وهم "عيناه" (خميني في "الباسدران")، ما أراده، وما بيَّنه، وما تعمد الإغماض فيه والاشارة، وربما الجمجمة على طريقة عرف بها الاعاجم على زعم العرب قبل الشعوبية.
والمناقشة في "إرادة" المرشد ومعاني "بيانه" كأنها عود على بدايات الكلام الاسلامي:" فأراد (هل أراد الله) أن يُعصى؟"، سأل واحدهم وقد وقف في مسألة حرية المخلوق في ارتكاب المعصية والله خالق السماوات والارض وحوادثهما، وذهب ضمناً الى أن حمل المعصية على الخالق، وتحميلها المخلوق، خُلف أخلاقي لا يحتمل. فرد الآخر: "أفعُصي كارهاً؟"، مرغماً ومضطراً وهو الجبار وقاهر الجبارين، على ما ذكرت بيانات "الجهاد الاسلامي" حين ابتدأ "الجهاد" العتيد، في 1985، جهاده الإلهي فخطف فيمن خطف ميشال سورا، المستشرق "البشع"، والمنكر جبروت القاهر، والحاجب نور العرش بيده. والسؤالان وجهان جدليان لاستحالتين متماسكتين منطقياً، وتماسكهما قرينة على خلوهما من قضية يقضي فيها الرأي من طريق التجريب والاختبار.
والرأي أو الحكم من طريق التجريب والاختبار في إرادة المرشد وقصده، في مسألة المفاوضة على السياسة النووية والعسكرية الايرانية، ممتنع أو مستحيل أو متناقض، على رغم أن الفقيه وولي "المسلمين" وأمورهم حي يرزق، ويستعجل فرج إمام الزمان مثلنا كلنا وهو يصرف الامور الثقيلة، مثل محمد خاتمي ومير حسين موسوي وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني وغيرهم مثلهم، نيابة عنه. والقرينة الدامغة على جدلية المقاصد الخامنئية، وإيجابها أو إثباتها الحقيقة في الضدين والرأيين، هي تملص "الواقعة"، موضوع الاختبار والتجريب المفترضين، من الرواية والخبر. فما دار أو حصل في لجنة الامن القومي والسياسة الخارجية في 6 تشرين الاول من عام السعد 2013 (م)، ودام ساعة ونصف الساعة، على أحد قولين، وحضره الوزير والنواب الشورويون وفيهم حسن نقوي حسيني ومنصور حقيقت- بور، يعصى الرواية المحكمة، على ما يقال في التفسير أو على ما قالت المعتزلة، ويترجح أو يتعثر في الرواية المشتبهة، على قولهم كذلك. فيصر مخبر "كيهان" ومدارِها الشرعي، النائب حقيقت-بور، على ان وزير روحاني قال ان المحادثة الهاتفية بين الرئيسين غير مناسبة وأنه، هو الوزير، استرسل في محادثة نظيره الاميركي اللعين واستمرأ. ويصر النائب حسين نقوي حسيني، الناطق باسم اللجنة، على "ضعف" الخبر الكيهاني، والشريعتمداري تالياً، والخامنئي من بعد لو جاز الرفع الى "الحلقة" الاولى او السبب غير المشروط.
وهذا ليس لاهوتاً، بل هو ناسوت خالص على قول حسن قبيسي. وهو ناسوت، على معنى لاهوتي، أي "طبيعة" بشرية وإنسية، وجسد من لحم ودم وعظم وأعصاب، مرة أخرى. فإنكار المنكرين، من نواب شورويين سمعوا بآذانهم ورأوا بأم العين، وتصديق المصدقين وهم شأن المنكرين سمعوا ورأوا، على قول الانجيلي، هذا الانكار أنزل "المرض" والوهن في معاون الرئيس الايراني على تصريف الشؤون والعلاقات والعداوات والحروب الخارجية. فمرض الرجل- وهو صاحب رجال أشداء خاضوا بحوراً من الدماء والاشلاء في العقود الثلاثة ونصف العقد التي انصرمت منذ شباط 1979، وقتلوا وقُتلوا واغتالوا واغتيلوا، ونصب أعينهم منذ عقدين من الزمن تقريباً امتلاك السلاح "الاعظم" والقاضي في "القرار الاخير"- حين أذاعت صحيفة "يحجب" صاحبها أو مديرها بابَ المرشد أو الولي، ويميط بعض الحجاب عن مكنون سره وإرادته وقصده.
و"مرض" محمد جواد ظريف، التقني ووزير التدبير والتنفيذ من غير تكليف (وهي أبواب من الاحكام السلطانية نبهت اليها مقدمات رضوان السيد في "التراث"، من غير تخصيص)، سبق أن تناوله أحد الأناسين الفرنسيين الاوائل، مارسيل موس، في عشرينات القرن العشرين. وخصه ببحث فحص عن موت (لا قدر الله!) أناس استراليين أوائل أو أصيلين، من بعض قبائل أهل البلاد، يقودهم الى حتفهم حسبانهم أو يقينهم بأنهم "ملعونون"، وأن لاعِنَهم أفلح في استمالة قوة سحرية نافذة الى جانبه. فلا جدوى من مقاومة الإصابة ومعاندتها، ومن التمسك بأسباب الحياة والبقاء على قيدها. فينتحي الموقن باللعنة ناحية من قرية قبيله وأهله، ويقطع أواصره وروابطه بهم وبمعاشهم، ويقلص حركاته وسعيه الى أقل القليل. وينقطع من الصيد والحرب والكلام والطعام والمخالطة، ويقبض تنفسه، ويثوي على احد جنبيه، ويغرق في سبات عميق لا يشبه "نعاس" الموت بين الاهل، على زعم جبور الدويهي في أقاصيصه الاولى.
ولا يصدق القول في الميت لعنةً أو ملعوناً انه انتحر، أو أنه قتل نفسه عمداً. فـ"الانتحار الغيري"، على خلاف "الانتحار الأناني"، على ما سماهما إميل دوركهايم (خال مارسيل موس قرابةً)، مشروط بفعل معلوم النتيجة هو الارتماء فيما يؤدي الى موت محقق مثل تفجير حزام ناسف أو سيارة مفخخة... أما الميت ملعوناً فيدخل سيرورة بطيئة وطويلة تُسْلمه الى ثأر لاعِنه، وقوة سحره المميتة، من سبل أو طرق لا علم له بها. فالفاعل، في هذا المعرض، خفي القصد والارادة، تلفه غيبة تحجبه عن الافهام والتعليل. ولا يستقيم الخفاء والغيبة والحجاب إلا في إطار "عالم" أو "دنيا" خلقهما خالق مفارق تلتبس معاني خليقته، وبالأحرى أن تلتبس معانيه هو، على مخلوقاته الفاهمة والعاقلة. فمدحت كتب آداب السياسة "المدنية" المدونة بالعربية والمتداولة في مجتمعات غلب عليها الحكام المسلمون، وهي معظمها فارسي، حسن غوص الوزير على معاني الحوادث المشتبهة والحيل التي جبلت منها، وجبل منها البشر وشؤونهم.
والوزير ظريف، شأن ملايين من المريدين المقاتلين ("المبارزين") وغير المقاتلين، يسعى بين ظهراني اجتماع سياسي موكول به التشابه. وعموم المتشابهات يحمل "الناس"، المريدين والانصار والباسدران والباسيج والمتحزبين، على قطع الأنفاس بين يدي المحتجب أو المبرقع، وهو اسمه في إحدى قصص بورخيس أو "خيالاته". فهو الفقيه، العارف، وهو ولي العمل أو الأعمال. وهم، المريدون والأنصار...، يضبطون أعمالهم على إرادات ومقاصد يختلفون على تفسير متشابهها، ويقتتلون فيه. والمبرقع "يمسك" عالم المريدين والانصار والجنود "أن يسوخ"، على قول محمد بن علي الباقر، ويلحم نثاره وشراذمه في اجتماع أو مجتمع. فلا يدين أهل هذا المجتمع، "الإمامي"، لإمامهم ومرشدهم ونائب صاحب زمانهم ونبيهم "المستمر"، بلُحمتهم وحسب، بل يدينون له بـ"كيانهم" أو "كينونتهم". فهم "نحن"، وليسوا هملاً وعمى وفوضى من غير هوية ولا مرجع تقليد وضبط وفهم وعمل، من طريقه. فإذا اختل فهمهم إرادته، أو حسبوا أن فهمها اشكل عليهم، "مرضوا" و"ساخوا": ضعفت ظهورهم واصطكت ركابهم، واستحال عليهم تقرير ما قيل وما لم يقل، وتبلبلت ألسنتهم في انتظار تصدي المرشد الإمام العدل لتقويمها.

وبعيداً من طهران ونيويورك، على المنقلب الشرقي والشمالي من الهضبة الايرانية وما يليها من بلاد القوقاز، روت البيلاروسية (الروسية البيضاء) سفيلتانا ألكسييفيتش، وهي روسية الاقامة والرحلة والعمل (الأدبي والصحافي) سير مئات من أمثاله أو أشباه محمد جواد ظريف، على هذا القدر أو ذاك من الشبه والمثل. ووسمت كتابها بـ"نهاية الانسان الاحمر أو زمن الخيبة" (بالفرنسية، عن "أكت سود"، باريس، 2013، أيلول، وطبع بالروسية في السنة نفسها، بفروميا، موسكو). وفي أخبار سفيلتانا ألكسييفيتش يموت نساء ورجال كثيرون، على شاكلة موت "ملعوني" مارسيل موسل الاستراليين، اشتباهاً وإشكالاً وفهماً مستوحداً، إذا جازت العبارة، غداة موت ستالين فعلاً، وانهيار المجد السوفياتي والامبراطورية والوطن، وحسر التاريخ برقعه ولثامه عن بحور دماء وجبال اشلاء امتنع صرف معناها أو استغلق. وقد يستحق هذا فصلاً آخر أو عجالة أخرى.
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=591536

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

تهمة الكيمياء غير المردودة

المستقبل، 23/9/2013

حسب الرئيس الروسي البوليسي، فلادمير بوتين، أن في مستطاعه إبراء ذمة حليفه ومولاه ودخيله (أو محميِّه) الرئيس السوري، بشار حافظ الاسد، من محرقة غاز السارين بغوطة دمشق الشرقية، في 21 آب (أغسطس)، قبل أيام قليلة من صدور تقرير لجنة تحقيق الامم المتحدة في استعمال الأسلحة الكيماوية. وأعلن رجل الاستخبارات السابق، وبطل "أيام" غروزني وبيسلان ومسرح بطرسبورغ ومجازرها، براءة مولاه في صدر صحيفة أميركية "كبرى" أهدته موقع افتتاحياتها. فقبل الهدية، وأقبل عليها إقبال النهم، الطفيلي الأشعبي، على مآدب الأعراس والأتراح. فمدَّ يديه وقدميه، ولم يقتصر على دفع التهمة عن "زبونه"، ومَدينه المثقل بديونه القاتلة. فمضى على تجريم السوريين المقاتلين في الغوطة، وجزم بإدانتهم ومسؤوليتهم عن قصف الضاحية الريفية القريبة بالغاز المميت، وبصواريخ أرض – أرض، وهي تشير زوايا محركاتها، أو بقيتها، المغروسة في الارض، إلى اطلاقها من هضبة قاسيون ومخازنها الحصينة، على ما لاحظ مراقبون ومصورون قبل ثلاثة أسابيع من تقرير التحقيق الاممي.
 ولا ينتهك استعجال التهمة وصدورُها عن الاتحادي الروسي الاول ورأس الفيديرالية الامني المزمن، دعوةً روسية ديبلوماسية الى الأناة، وانتظار ختام التحقيق، والاتعاظ بسابقة خان العسل واشتباهها وإلقائها بعض الشبهة على مقاتلين إسلاميين، وحسب. فالاستعجال يضرب عرض الحائط بكل هذا معاً، ولكنه ينم على نحو صريح وصارخ بسياسة بوتينية و"سوفياتية" راسخة وأصيلة انتهجها عقيد الكي جي بي في معالجة قيام الشيشان على استبداد موسكو وصلفها واحتقارها "الوطنيين المحليين"، على ما سمت القوى الفاتحة والاستعمارية كلها أهل البلاد المستعمرة الاصليين، و"إدارتهم" إدارة كولونيالية لا تتورع عن الاستئصال. واستوى في هذا الصنف من "الادارة" الاستعمار الهولندي وصنوه البرتغالي ووارث الاثنين الانكليزي والمنافس الفرنسي فالألماني. ولم يقصر "الوجود" السوري في لبنان، ولا قصر "ضحايا (الفلسطينيون) الضحايا (اليهود)"، بحسب عبارة إدوارد سعيد الخالدة، في المضمار. والعمائم الخمينية والحراب الحرسية  تسوس البلوش وأهل سيستان بما هم أهل له جزاء ضلوعهم في سفك الدماء الزكية وقتل المظلومين...
 فأعمل "القيصر"، أو قيصرون، في بلاد الشيشان- عدا القصف بالمروحيات المدرعة والمصفحة وهي من مفاخر الصناعة الحربية المحلية، وهدم البيوت على رؤوس الناس والاعتقال الجماعي، والتعذيب المدمر، والخطف والاغتصاب والتهجير- أعمل سلاحاً ماضياً يكاد يكون "ميتافيزيقياً"، على قول لورنس في سند الدعوة الشريفية المجازية الديني، هو حمل الثائرين على القهر الروسي على ارهابيين أصوليين وسفاحين إسلاميين. وسوغت التهمة ، وهي نظير تهمة الادارات الاستعمارية العسكرية المحاربين الاهليين بالتوحش او على وجه التخفيف والتلطيف بالبربرية، حرب الابادة على بلاد الشيشان، واستعمال "المولى" قديروف ولجانه وقوات دفاعه الوطني على الابادة، وندبه من بعدها الى إنهاض غروزني العاصمة من أطلالها وأنقاضها، وإطلاق يد قديروف الشاب في اغتيال صحافيين محققين روس في مقدمهم أنَّا بوليتكوفسكايا. وبعثت الحرب البوتينية، وبعض فصولها المصطنعة والبوليسية وفصلها "الوطني والمحلي" الاهلي الاخير، في صفوف الحركة الوطنية الشيشانية إرهابيين حقيقيين وقاعديين أصيلين.
 وهذا نهج قلما يخطئ دلالةَ المستولين وأهل القوة العارية الى الحروب الاهلية، والغرق في رمالها وأوحالها المتحركة والمعتمة. وبوتين لم يبتكر هذا النهج. وليس بشار حافظ الاسد السائر الاول على خَط أو طريق أهل السابقة. وهو خالفُ حجة في الحرب على الظلاميين المبتدعين وفي فقه هذه الحرب، ومعاصر أحد أئمة هذا الفقه وآياته وحليفه الصدوق. وحين تلجأ مساعدة الرئيس السوري، الدكتورة اللغوية والألسنية بثينة شعبان، الى رواية المحرقة الدمشقية على طريقة "ألف ليلة وليلة" فرنكشتينية ودراكولية (قالت: الارهابيون التكفيريون الوهابيون أغاروا على قرى ريف اللاذقية وطرطوس، في 20 آب أو قبله بقليل، وقتلوا 1428 نفساً من السكان، العلويين، ونقلوهم الى الغوطة، وكفنوهم هناك بأكفان بيض وصوروهم، وقالوا انهم قتلاهم، أي صرعى بشار الاسد وحلقة ضباطه القريبة، حين هم ضحايا الارهابيين الخليجيين)، فهي لا تنافس بعض الروائيين "اللبنانيين – الفلسطينيين" فحسب، وتبزهم في مضمار التراث والابداع، بل تلقن أحد سادة التجسس الروسي سابقاً على ألمانيا، والمنصور على الشيشان، درساً في التخييل والإصعاد في معارج الغرابة والعَجَب.
 وتوسل غيرُ مشكك في مسؤولية الرئيس السوري عن محرقة السارين بالغوطة بحجة حسبها لا ترد: لماذا انتظر المقاتل الشريف، على ما قال أبوه في نفسه، والمستقيم عشية قدوم لجنة تحقيق أممية الى دمشق ليقصف الارهابيين الوهابيين، وبعض أولادهم (426 من 1428) ونسائهم، بالغاز المميت؟ ألا يدل الامر على غباء تكذبه إدارة "الملف اللبناني" في 2000-2005 ثم 2005 – 2013؟ ومجابهة المحكمة الدولية المختلطة في قضية رفيق الحريري والقضايا المتصلة الاخرى؟ وخلافة الجماعة الحرسية والخمينية المسلحة على الادارة العتيدة والبارعة؟ وغيرها من بينات الذكاء وآياته التي لا ترد. والحق أن التسليم بمنطق المناقشة، حين يتولى تقصٍ مادي التحقيق والفحص والتثبت، مضيعة وقت لا طائل منها.
 ولكن الداعي الثقيل والمرير الى القلق والحزن هو استحالة الرد على مزاعم العين (الجاسوس) والمشيرة الدكتورة بالقول: القتل بالسارين، أو بغيره مثله من آلات القتل الخسيسة والارهابية، ليس من شيم أي فريق من فرق المعارضة أو الثورة (على المعنى الحرفي) السورية، وهو وقف على قوات "العصابة" وأعوانها. والرد على هذه الشاكلة، أي بإطلاق، مستحيل حتى لو ثبت أن المواقع الـ14 التي ذهب تقرير التحقيق الدولي الى ان سلاحاً كيميائياً استعمل فيها ليس فيها موقع واحد يتحمل فريق من المقاتلين التبعة عن استعمال السلاح فيه. فالحق أن في صفوف المقاتلين المتفرقين والمختلفين، ومن ينسبون الى "الثورة" أو ينتسبون إليها، ولم تكذب بعض تظاهرات الأهلين نسبتهم وعلاقتهم حين ظهرت فرق "المسوِّدين" بجوار باب الهوى قبل عام وبعض عام- من استجابوا النهج الاسدي والبوتيني والحرسي، وولغوا فيه، وساروا عليه.
 وحين طرحت على "ثورات" عربية سابقة، مثل الفلسطينية وربيبتها اللبنانية ("الوطنية" أو العروبية) واليمنية قبلها وبعدها والجزائرية قبلها كلها والعراقية اليوم (!)، مسألة الطوارئ والاستثناء العرفي أجمعت هذه "الثورات"، وأهلوها ومناضلوها، على ازدراء المسألة، وانكار حقها في المناقشة وحظها من التشاغل. وحُملت الانتهاكات، وهي لم تلبث أن انقلبت نهجاً معتاداً وسائراً، على استثناءات ظرفية ومؤسفة قبل أن يرمى بالمسؤولية عنها "مستوى وعي" المقاتل العادي، وإرث القمع والاستغلال الماضيين، وعنف العدو وشراسته، والطائفية التي خلفها الاستعمار وينفخ فيها عملاؤه، و"النيوليبرالية" المتوحشة والمتربعة في سدة العولمة، والحاجة الى المَدَد الخارجي... ولم تشذ "الثورة" السورية، وعلى الاخص في فصلها الثاني غداة تدمير قوات الاسد باب عمرو بحمص، عن السنن العربية الموروثة. ويتفق هذا مع تعهد حركات الاحتجاج المتناثرة قادة طارئون ومرتجلون، تساقطوا من الابنية الاجتماعية في اثناء انحلالها وتصدعها الطويلين قبل الانفجار، ولم "تهذبهم" أو تؤدبهم وتعركهم حياة سياسية مجربة.
 وهذا وغيره مما يتداوله، منذ بعض الوقت، كتاب سوريون متكاثرون، أو أتاحت "الثورة" نشر كتاباتهم على نحو ما دعتهم الى الرأي والكتابة والعلانية، صحيح. فإذا اضيفت إليه كثرة الجماعات السورية، وتنافرها الموروث، وانتهاج "العصابة" وأسلافها سياسة تفريق وتمييز وترهيب متصلة، بدا التعليل متماسكاً ومعقولاً. وبدت المقارنة بحركات التحرر، واضطرارها المفترض الى الارهاب جواباً عن وطأة السيطرة الاستعمارية وتحجيرها الشعب المغلوب على سلبيته، جائزة. وعلى هذا، ساغ قول من دفعوا تهمة الارهاب عن جبهة النصرة، حين قدمت بعض فصائلها القليلة والهزيلة بعد أشهر على ابتداء حركة الاحتجاج السورية، ورأوا أن بشار الاسد هو مصدر الارهاب الوحيد في سوريا، ولا إرهابي غيره وغير أنصاره وقيادته. ومن يقاتل هذا الارهابي لا يجوز أن ينسب بدوره الى الارهاب.
 وهذا "مذهب" جبهوي واعتقاد ستاليني سوفياتي. وهو يترتب على احتجاج أو قياس مقدمته الاولى والكبيرة أن عداوة الشر السياسي توحِّد على نقيضه وخلافه، وتجرد النقيض من أوساخ نقيضه وعلائقه، موقتاً. فلا ينبغي أن يدب الخلاف في "الجبهة" التي تقاتل الرئيس السوري وعصابته وحوشيته. وأما لماذا تقاتل "الجبهة"، وأجزاؤها وجماعاتها وكتلها، "العصابة" فسؤال مبكر وفج على الدوام، على زعم الجبهويين الأقحاح. وهؤلاء، على شاكلة الشيوعيين بين الحربين، قد يديرون الظهر لحلفاء الامس "المتآمرين"، ويرتمون في أحضان هتلر، ويتقاسمون بولندا وجمهوريات البلطيق وإياه من غير تردد. ويفترض الجبهويون، وهم في سوريا اليوم كثيرون وعلى رأسهم شيوخ "الحمر والسمر" أو المزيج الشيوعي والقومي، أن رص الصفوف اليوم حنكة شأن فضها غداً. ويفتقر الحساب والتعليل هذان الى عامل أو بعدٍ رئيسي، مكانة معنوية ودوراً عملياً، هو العمومية. فإذا لم تحتسب الأجزاء، الاهلية والقومية والدينية، مكسباً مشتركاً وجامعاً من ثورتها وانتصارها، وخشيت أو خشي بعضها انتكاسته حين انتصار الحركة، تهدد الثورةَ خطر مميت. وليس التفكك أو التصريح هو مصدر الخطر الوحيد. فافتقار الثورة الى العمومية المعنوية والعملية المصلحية يحط بها الى ذرائعية فقيرة. والتنديد بالارهاب الذي يصيبنا، وغض النظر عن إرهاب يصيب العدو، قصر نظر وعمى عن شروط مصلحة عامة، وإرادة عامة لاحقاً. وحين يدعو بعض أعلام المعارضة السورية اليوم الى التهوين من شأن السلاح الكيميائي، وحمله على تفصيل يتعلق بأمن اسرائيل ولا يقدم أو يؤخر في حرب الموت السوري الذريع، يستأنف هؤلاء إطراح العمومية، ويقللون من شأنها، على شاكلة الساكتين عن الارهاب ما لم يصبهم هم وأصاب "أهل" بشار الاسد ومقاتليه.

  والطَلب الى "العالم"، والى "الاصدقاء الاميركان" (على قول سليم إدريس) على نحو خاص، حماية السوريين من جرائم "العصابة" وسلاحها لا يستقيم إذا لم يحمِ السوريون أنفسَهم من بعض "اصدقائهم" والمقاتلين نصرة لهم أو "للاسلام"، على زعمهم. فواجب الحماية أو المسؤولية عنها واجب عمومي ومسؤولية دولية. والارهابيون سواسية، كانوا في المباني الحكومية المحصنة أم في اللجان الشرعية والدوريات التي تقتل الاولاد حين تتناول ألسنتهم "المقدسات". وهذا ليس درساً في الواقعية السياسية، على المثال المدرسي والامني... السوري أو الاسدي، وإنما دعوة الى عمومية تقدم المعنى السياسي الجامع، وهو في هذا المعرض المعنى الوطني السوري، على المعاني الاقليمية والدولية المضمرة أو المعلنة. والدروس الاخلاقية في الأنانيات الدولية والقومية، وفي الانحياز الى هذه المصلحة أو تلك، هذر مكرر وشديد الشبه بالبذاءة.  

جان – بيار فيليو يضبط وقت "الشرق الاوسط الجديد" على ساعة الثورة السورية: ثورة من تحتٍ وداخلٍ وحاضر رداً على تاريخ فوقي وخارجي ومفوَّت؟

المستقبل، 6/10/2013
 يصدِّر جان – بيار فيليو كتابه "الشرق الاوسط الجديد/ الشعوب على توقيت الثورة السورية" (أواخر تشرين الاول 2012، باريس، مكتبة آرتيم فايار) برواية طرفة أو خبر من أخبار سوريا "الغائمة" او المضطربة في 2012، اي السنة التي كتب في اثنائها كتابه الثاني في "الثورة العربية". والخبر يروي حكاية ضابط سوري انشق عن جيش النظام و"عصاباته"، ويقسم في أواخر الشتاء بشمال غرب البلاد على علم الاستقلال أمام جمع من المقاتلين المسلحين التزامه التنديد بجرائم عصابات النظام وحماية المتظاهرين والابرياء، جنباً الى جنب الجيش السوري الحر. وتستخف الحماسة الضابط، وهو يختم قسمه، فيهتف، على ما هتف على الدوام طيلة "حياة عبودية" متأصلة: "عاشت سوريا الاسد!". فينفجر الحضور بالضحك. ويعقب الكاتب على الخبر، ويمهد لإهدائه عمله، فيكتب: "هذه هي الحرية، أن تدرك مدى إذعانك من قبل وأن تضحك منه". فالضحك هو وليد الايقان بأن الرجوع الى ما مضى أو استئناف الماضي مستحيل، وبأن غاشية الموت لا تعف عن مكان أو عن أحد والحياة على وشك الانتصار: "هذا الكتاب هدية (مهدى) الى كل الذين ضحكوا وانتصروا". ويعلِّق بصدر الصفحة التالية شاهداً من "يوميات ديكتاتور" (2011) لزكريا تامر، كاتب الأقصوصة السوري، يجري على لسان الطاغية قوله أنه رفع جداراً بينه وبين شعبه، ليس خوفاً من شعبه على ما حسب الاغبياء، بل حباً به، و"حماية له من غضب(ه)". 
حرية وقتامة
 والحق أن الاهداء والتصدير يستوقفان القارئ، وهو أحد القراء الكثر على ما أرجو، أو قد يستوقفانه في ضوء الكتاب كله وصفحاته الاربعمئة، وفيها نحو 70 صفحة من الهوامش والملاحق والمراجع والفهارس. فهتاف الضابط المنشق بحياة "الاسد"، والاسد الاب لم يتورع عن "ملاعبة" الأبد (على مثال ملاعب الأسنة، الفارس والشاعر) وهو يعاني سكرات المرض الفاتك، يقود الى الضحك من طريق "انفجار" التناقض أو التفاوت الحاد بين حاضر القسم، المنقلب على الابد الاسدي، ودوام "التعييش" الآلي أو الميكانيكي الذي يفترضه سارياً ونافذاً. وفيليو يقف معنى الضحك في المشهد الطريف وخبره على التناقض هذا، وعلى إدراك المفارقة ومباغتتها الشهود حين هم يحتفلون بما يحسبونه طيهم، من غير لبس، ماضي عبودية اعتادوها وسلموا بها دهراً أو أبداً عصى الطيَّ وامتنع منه. والقول ان معنى الضحك، في هذا الظرف أو هذه الحال، هو الحرية، لأنه إقرار أو تقرير بالتخفف من ماضٍ ثقيل، اجتزاء مجحف وشديد التفاؤل.
 والتأويل يغفل بعض إيحاءات المشهد وتلويحاته القاتمة. فالضابط العتيد انتظر سنة كاملة، على ابتداء الثورة والقيام على الطاغية الشاب، اقترف هو وعصاباته وميليشياته و"جيشه" (رغم كل شيء) في اثنائها الفظائع والجرائم التي تدينه، ولا يبرئه شهود مبايعته علمَ الاستقلال متأخراً من ارتكاب فظائع أُمر بارتكابها في اثناء السنة المنصرمة، وأطاع الامر طاعة صاغرة أو متحفظة، فسلم رأسه من الجز والاطاحة. ولا تخفى في صوت الضابط نبرة الانكار والتنصل: فهو يقسم على ألا ينصاع بعد اليوم لما انصاع له وسكت عنه وسوغه من جرائم في حق المتظاهرين. فالشهود قوامون، شأن "الثوريين" على العموم، على طهارة المقاتلين، ليس حاضراً أو مستقبلاً وحسب، بل ماضياً كذلك. والشكوك في ازدواج بعض الانصار والمقاتلين الجدد ليست كلها تهمة ظالمة، ولا افتئاتاً خالصاً، حين "يتمتع" العدو بالمقدار الذي تتمتع به "العصابة" من المراوغة والمخاتلة والتحلل من قيود المحظور الاخلاقي والانساني. فالضحك، والحال هذه، الضحك الصريح والساخر من النفس، يجلو مفارقة الجمع بين ترك "غاشية الخنوع" (محمد مهدي الجواهري) وبين إزمان لغتها ودوام هذه اللغة وشعائرها. ولكن لا يؤمن ألا يضمر هذا الضحك كذلك، حين امتحان الهزائم ويقظة الشكوك وانفجار الخلافات أو "مثلث" النفط والطائفية والعنف الأسود، سؤالاً عن طوية صاحب القسم الجديد، واستقامة عهده وقوة التزامه. فيسأل بعض الحضور نفسه، في أثناء الضحك أو بعده: ألم يفضح الهتاف ركاكة "إيمان" الضابط المعلن وحقيقة ولائه؟
 والإيحاءات الستالينية والبوليسية التي تنم بها هذه الملاحظات المتشككة لا تقتصر على إساءة الظن في صريح المعنى، ولا تزعم الفطنة. ولكنها مرآة التباس الاحوال السياسية، من غير شك، والوجدانية والبلاغية "العربية"، والسورية على الخصوص، كذلك. وعلى المنوال نفسه، لا أرى موجباً للاعجاب بخاطرة زكريا تامر، وانتخابها أو تعليقها بصدارة الكتاب. فهي لا تعدو طباقاً على افتراض عداوة الطاغية لـ"شعبه"، وبغضه له. فيقلب الكاتب الافتراض الى خلافه ونقيضه، ويجعل الحب والحماية محل البغضاء. ويوكل بالضد اللفظي وغير المتوقع، والعصي تخيله على "الاغبياء"، اجتراح معنى عميق ولا يدرك قاعه أو غوره، ويلقي بالتبعة عن إدراك العمق على القارئ وحده. ومثل هذا كثير في بعض الشعر العربي "الحديث"، على مثال طباق "الإقامة في التيه" المعروف والعريق. ومسايرة جان – بيار فيليو إيجاب المعنى وحقيقته من غير دليل أو شبهة، هي تثنية على فعل تامر، وتزكية له ومشايعة عليه.
 داخل / خارج
 وظاهر ما تقدم أنه تقويل عشرة أسطر نافلة، هي من حشو الكلام، وتمهيده، ما ينبغي ألا يُحمّله المتن الصلب والتحليل المتماسك. وهذا صحيح لولا تجاوب وتواشج قويان ومتينان يشدان حشو الكلام الى صلب التحليل والتعليل. فما يؤخذ (آخذه) على المتن والاحتجاج في أعقاب قراءة متقصية، على زعمي، هو ما قد يؤخذ على افتتاحه وتصديره الخاطفين والمستعجلين. فالكاتب يحتج (على معنى كتب الاحتجاج الديني والاعتقادي وعلى شاكلة الاسقف عمار البصري في منتصف القرن التاسع م أو أفلاطون في سقراط) لرأي يراه في "الثورة العربية" في صيغة الفرد، وهو قصد، في كتاب وسابق طبع أيلول 2011 (عن مكتبة فايار، باريس)، جميعاً من تونس ومصر والبحرين وليبيا واليمن وسوريا، الى الجزائر والمغرب وفلسطين... ويذهب فيليو الى ان "الانتفاضة الديموقراطية" العربية، في فصولها المتفرقة والمؤتلفة، هي جواب من تحتٍ (شعبي) وداخلٍ (اجتماعي وتاريخي) وحاضر معاصر عن معضلات البناء المصنطع، الخارجي والاستعماري، الذي فرضته القوى المتسلطة على الشرق الاوسط عشية الحرب العالمية الاولى، من طريق السلطنة العثمانية، وغداتها الانتدابية.
 وهو يعني بالاضطلاع، الفوقي والخارجي والفائت أو المفوَّت زمناً ووقتاً، أموراً  كثيرة، معظمها مضمر، مثل تقسيم بلدان الشرق الاوسط الى دول وكيانات سياسية وحقوقية جديدة ومبتدعة. فهي لم تستأنف كيانات على شاكلتها، داخل حدود جغرافية وأهلية وسياسية وثقافية راسخة ومتعارفة. وهو يمثل على رأيه هذا، بديهةً، بسوريا، "العربية" قوماً، والسورية أو الشامية طبيعة وأرضاً وتاريخاً امبراطورياً قديماً. فسوريا هذه، على نحو ما استقرت في حدودها الجمهورية والانتدابية بعد وأد "الحلم" الفيصلي الهاشمي والعسكري العثماني والاعياني المحلي، خرجت من نظام الولايات، وهو نصبها على رغم تقلبه الرجراج "قلب" الولايات العربية، الى نظام دول (-أمم) قسمها، على خلاف منطقه وأعرافه وما ندب إليه، دويلات وأقاليم ومذاهب وإدارات توسَّطها، وتوسط روابطها "الرأس" الانتدابي وأداته العسكرية القاصمة. وألحقها بالساحل، البيروتي اللبناني، وبتجاره وجمركه ومرفئه و"نصاراه" وخليطه. وهذه أثارت  في دمشق، كرسي الولاية الام قبل 1887، تاريخ انتخاب بيروت اسم ولاية ساحلية طويلة ومركبة، حفيظة حانقة. وسعت الادارة العثمانية، ومعها أعيان دمشق وعلماؤها وموظفوها، في إبطال الاسم والدور زماناً طويلاً. ولكنها اضطرت الى الصدوع بأحكام الوقائع الجغرافية والاقتصادية والاستراتيجية الجديدة. وهذه قضت بالاقرار بـ"حقوق" الجماعات الاهلية في السلطة والثروة والثقافة والائتلاف في كيانات اتحادية ذاتية. ولكنها، من وجه آخر، سلخت اسكندرون عن الدولة.
 فيلاحظ الباحث الفرنسي والديبلوماسي السابق (كان مستشاراً أول في السفارة الفرنسية بدمشق ونائب السفير، على ما يوضح وينبه) أن "السوريين" حملوا الاختبار الانتدابي على محنة تمزيق وإذلال قاسية، أنزلتها بهم، من فوق ومن خارج، القوة الاستعمارية المنتدبة. وتماشي الملاحظة التأويل السوري، العروبي والتقليدي، السائر والمتداول في أوساط السياسيين المحليين والمتعلمين الى اليوم تقريباً. وهو يستدرك على هذا التأويل، أو على بعض النتائج التي تحمِّلها "العقيدة" العروبية إياه. فـ"العقيدة" ترى أن "التجزئة القطرية" محنة عمت الأمة، أي فعلاً المشرق القريب، وعلاجها صدارة "سوريا" وغلبتها الاقليم الاستراتيجي الواحد. ويذهب الباحث الديبلوماسي الى أن ما تراه "سوريا" تقطيعاً وتجزيئاً لم يشك "اللبنانيون" في عوده عليهم، وعلى وطنهم الكبير، توسعاً وامتداداً. ولا شك "الاردنيون" في إيلائه جماعتهم دور الحاجز بين شبه جزيرة العرب وبين المشرق، والممر الضروري بين الشطرين. وانصرف العراق الى التأليف بين حواضره الثلاث، بغداد والبصرة والموصل.
 وينبه استدراك ثان الى أن احد مصادر الحقيقة والحيوية في ثورة السوريين هو تسليمها بسوريا، في حدودها الاقليمية الانتدابية والاستقلالية، دولة – أمة، وإطاراً مشتركاً لجماعاتها ونزاعاتها وإجماعاتها (أو تفاهماتها، في لغة ديبلوماسية العصر). ويتخلل التعليل والسرد التاريخيين استدراك ثالث مضمر يعزو الحقبة الاسدية، والبعثية عموماً، واستنقاعها "البريجنيفي" المنهك، الى ارساء حافظ الاسد عهده الطويل والعقيم على مقايضة اقليمية متراكبة: مقايضة الإمساك الاميركي بضبط المنظمات الفلسطينية المسلحة وتوريطها وشرذمتها والحؤول دون سيطرة "الحلف" الفلسطيني – اللبناني ثم الجماعة الحرسية والخمينية المسلحة على لبنان، ومقايضة المساندة السوفياتية بتسليح "اشتراكي" كثيف وبالتوسط بين موسكو وبين الخليج ورعاية تماسك "قومي" بإزاء اسرائيل لحمته مناهضة الامبريالية الغربية وحدها والسكوت عن الامبريالية السوفياتية... وتفترض المقايضة العتيدة، الاقليمية والدولية، مثالاً قومياً، وظيفياً وذرائعياً خالصاً، يشتري من السوريين استقالتهم وتسليمهم السياسيين والعلنيين لقاء "الدور" القومي والدولي المسرحي ورعاية موجباته التي لا تحصى ولا تدرك. وتنكر "الانتفاضة الديموقراطية" والوطنية الصفقة التي أرسى عليها جهاز الاسد سلطانه وامتيازات بعض دوائره، وتطعن عليها. وحسب الاسد الآخر قبيل اندلاع الحركة السورية، أن سلطانه حصين، وما يحصنه هو الصفقة "القومية" الموروثة. فخيبت الثورة، أي القيام الشعبي (تحت) والوطني (من داخل) على الاستيلاء العصبي والبيروقراطي الريعي حسبانه.
طيف "النهضة"
 ويلوح في ثنايا احتجاج الكاتب لرأيه أن ثمة نظيراً تحتياً وطنياً ومعاصراً (حديثاً)، سورياً، للمصادرة، المتسلطة والاجنبية (الاستعمارية) والمفوتة، على سوريا والسوريين. ويلوح في هذه الثنايا طيف يسميه الكاتب "النهضة"، ويستعيض بالاسم والطيف عن الايضاح. ويمثل عليه بانتفاضات و"حركات" (على ما سمت مرويات درزية لبنانية انتفاضات القرن التاسع عشر المحلية) معاصرة، يروي منها بشيء من التفصيل قيام جبل الدروز، في 1925، على الانتداب، والمقاومة الانتخابية البرلمانية التي أعقبته وأفضت الى 1936 ومعاهدتها. ولا يستوقف الكاتبَ اضطلاع جماعة "طرفية"، معتقداً ومقاماً او منزلاً وعدداً، بالمبادرة الى معارضة الانتداب وقتاله. فهو يقرر الواقعة، وصفتها، فلا يدعوه تقريرها الى مساءلتها عن معناها أو معانيها، ولا عن تساميها الى منزلة "الثورة العربية"، "الكبرى" أحياناً، ثم "السورية"، تواضعاً وتمييزاً من تاليتها الفلسطينية في 1936-1939. وسبقت ثورة جبل الدروز، "جبل العرب"، في النصف الثاني من العقد الثالث، ثورة اللجا الحوراني، أي جبل الدروز الداخلي، على ابراهيم بن محمد علي باشا المصري. وأثخنت حرب الساقة، أو المؤخرة، هذه في قوات الحملة المصرية على السلطنة، وعجلت في انسحاب الفاتح "العربي" وحليفه الفرنسي من الولايات العربية المشرقية وقلبها "السوري".
 والانتفاضتان الدرزيتان و"السوريتان" على سلطانين مختلفين، وهما يفصل بينهما نحو قرن من الزمن، ليستا انتفاضة واحدة في وقتين. ولكن ما يجمع بينهما هو "المواقع" التي ينزلها القوم المنتفض: الموقع المذهبي المنفصل والاقلوي، والموقع العصبي المنكفئ والمناهض الجباية "الحديثة" على الرأس والمساواة في التسليح بين أهل المذاهب والديانات المتفرقة، والموقع البلداني والقبلي المقدم "الارض والعرض" (وليد جنبلاط مفتتحاً معركة الجبل في صيف 1983) والحرب على غيرها من المعايير. ولا تحول هذه "المواقع" بين صاحبها، القوم المنتفض، وبين عقده على العروبة الجامعة والواحدة "الى الابد"، وبنائه بها. فالعروبة، في صيغتها السلالية والحربية الغالبة (وغير الحصرية)، تجيز أو تبيح "تعليق" الجماعة الجزئية الفرعية على الاصل المشترك والمفترض من غير وسيط "سياسي" ومادي (إداري أو مالي أو تمثيلي أو عسكري). وسوَّغ هذا تصدي بعض المسيحيين "العرب" الى تصدر الدعوة "القومية" العربية وشق تيار "النهضة" تيارين فكريين على ما يلاحظ بيار فيليو عرضاً. وعلى مثالهم، معنى وليس وقتاً، تصدرت أقليات متفرقة الى "قيادة" حركة قومية طيفية ومعنوية، على شاكلة التعليق النسبي والسلالي، وغلت في تصديها وبالغت على نحو المبالغة والغلو الاسديين العلويين.

 وأسهم هذا بسهم راجح في إنشاء عصبية الدولة أو عصبية السلطنة، أي في تنصيب العصبية المستولية والغالبة، وهي جزئية أو فرعية، عصبية جامعة وواحدة. ويتولى الطيف القومي، العروبي في هذا المعرض والاسلامي في معارض أخرى، توحيد العصبيتين في واحدة، من غير أن تنفكا اثنتين. وهذه العملية، اللاهوتية السياسية في جوهرها، هي ركن حمل "مصالح" العصبية المستولية على مصالح قومية مشتركة. وهي مسوغ نزع ما تتماسك به الجماعات المتفرقة، قومية أم مذهبية أم محلية أم اجتماعية أم اقتصادية، من روابط داخلية. ودخلت تحت هذا المسوغ، مع سيادة الناصرية ومثالها "القومي – الاجتماعي" على هذا القدر أو ذاك، سياسات التأميم وحل الاحزاب في الحزب الواحدة و"جبهته"  وبناء القاعدة المادية الاشتراكية والدولة الادارية والمرحلة "الوطنية الديموقراطية"، المتضافرة والمتواشجة. فالرابطة "القومية" المستولية تنهض على نفي الروابط والاواصر الاخرى كلها، عصبية دموية أم اعتقادية أم مصلحية أم سياسية مركبة، من غير أن يكون في مقدورها تدميرها او استيعابها ودمجها. وعلى هذا،  يبطن الاستيلاء العصبي، مهما بدا مستتباً وراسخاً، اضطراباً وقلقاً. فإذا نشدت الجماعة، أو "رمادها" ورميمها، حصتها من الهوية، على قول مايكل فالزير، أو من العوائد ومن السلطة، تصدع البناء، وتزعزت أركانه. فهل يلد التداعي، على هذا النحو، ثورة من تحت وداخل وحاضر؟ لا يجيب التأريخ شبه اليومي لوقائع الثورة، على ما يصنع الكاتب، عن السؤال. وبين أواخر تشرين الثاني من العام الماضي وبين اليوم انقلبت موازين ومعايير ومقاييس انقلاباً حاداً ولكنه لا يؤذن بارتسام ما يرغب الكاتب في ارتسامه، ويقول أنه يوشك أن يرتسم، ولو على سبيل الكناية، على نحو ما ابتدأ كتابه.