السبت، 23 أغسطس 2014

حين دقت مسز عايدة بوابةَ الأهل وردت الولد التائه إليهم...

المستقبل، 24/8/2014

  
                                                                                               
لا يذكر الولد الناشئ أو المترعرع في بعض أسر المسلمين الصيداوية، المدينة الساحلية والمختلطة، أو البنت جبيلية، الداخلية الريفية والشيعية من غير استثناء والقريبة من عين إبل المسيحية ويارون المختلطة، شأني، ابتداءً لـ"علمه" بالمسيحيين، وحضورهم عالَمه، وهو عالم أهله ودنياهم القريبة في أربعينات القرن العشرين. والحق أن تعريف أصحاب هذا العالم، وهم الأهل ودائرتهم الاقرب، بالمدن والبلدات الكبيرة، وبمواقعها وقربها من بلاد ينزلها مسيحيون أو بعدها من هذه البلاد، لا يستوفي أسباب "العلم" المبكر (أو المتأخر) كلها، ولا معظمها. فإلى قرب مساكن المسيحيين من مساكن الأهل المسلمين وجوارها القريب، وهذا القرب تشاركه سَكَنُ الجماعات الدينية المتفرقة في معظم المدن الصغيرة والقليلة السكان أو في البلدات والقرى يومذاك، أدى عامل آخر الدور البارز في التعارف والاختلاط المبكرين، هو الدراسة والتدريس.
 فالأسرتان اللتان رعتا نشأتي، أسرة أمي في صيدا وأسرة أبي في بنت جبيل، وغلبتا على حضانتها، وقامتا محل العائلة النواتية التي قوضها انفصال الوالدين السريع، هاتان الاسرتان كان التعلم والتعليم في مدرسة رسمية أو أهلية مختلطة تقليداً جارياً فيهما. فلم يقتصرا، التعلم والتعليم، على والدتي ووالدي، وهما تعارفا في دار المعلمين ببيروت (حوض الولاية) في ثلاثينات القرن الماضي، بل سبقا الى جدتي لأمي، وهي توفي عنها زوجها، التاجر المتواضع، ولما تبلغ الاربعين. وترك لها ستة أولاد، 4 بنات وولدان فتيان، ولم يترك إرثاً يعود عليها، وعلى أسرتها، بما يعيلهم. فتوسط بعض وجوه العائلة، وعلاقتهم بموظفي الانتداب الفرنسي لا تشكو الجفاء، وهي كانت تحسن القراءة والكتابة، فوسعهم تحصيل عملٍ في التدريس لقريبتهم، ومع العمل مرتبه أو راتبه الشهري والنقدي الجاري.
 وجدي لأبي كان شيخاً معمماً، درس على عمه، أخي والده ووالد زوجته من بعد. وكان عمه نجفياً شاباً، ومدرساً معروفاً. وحالت الحرب الاولى، بين حواجز ومواضع أخرى، دون سفر الشاب، جدي، الى النجف. فخلف عمه، وهذا توفي شاباً، على بقية مدرسته. فكان أن طلب معظم أولاد جدتي لأمي، خالاتي وأحد الخالين، ومعظم أولاد جدي لأبي، أعمامي وواحدة من العمتين، "العلم"، ودرسوا (ودرسن). ومعظمهم انتهى مدرساً أو معلماً وأستاذاً في مرافق الدولة التعليمية. وقلة يممت شطر التجارة وزاولتها في المهجر وراء البحار، وفي الوطن، على قول الناس الشائع يومها.
 وكان التلامذة والمعلمون، أولاداً وأهلاً، مسيحيين ومسلمين (ويهوداً بصيدا)، يختلطون. فيحضرون المدرسة معاً، ويتداولون الرأي في شؤون التدريس. وبعضهم كانوا يتزاورون، فلا تبقى المعرفة والمودة والإلفة حكراً على العاملين معاً أو على المتتلمذين، وتتخطى هؤلاء وأولئك الى الاهل والاقارب والجيران. ولم يكن ليفوت الجيران الفرق الظاهر، في القيافة والملبس، بين الزوار وبين من يزورون. ويعود تذكري الاول زيارة أصحاب أو اصدقاء مسيحيين اهلي بمحلة المصلبية، بصيدا القديمة المملوكية، الى الوقت المدرسي هذا. فأذكر أنني في وسط جمع من الاهل، هم أمي وجدتي وخالاتي وخالي، على الارجح، والحاجة عائشة – مالكة الدار التي كان أهلي يؤجرون مسكنهم منها، ويختلفون الى اليوم في شهرتها العائلية، فيذهب بعضهم الى انها من آل العيتاني، وأذكر أنها من آل كشلي، وهي عائلة الحاج صاحب الدكان في أسفل المبنى-. وربما كان أبي بين المجتمعين.
 وفي الجمع العائلي القريب رجل وامرأة على حدة من الاهل. والمرأة طويلة، عنقها الطويل والأملس والطري يزيدها طولاً ووجهها مبتسم من غير انقطاع. وتكشف ضحكاتها عن صفي أسنان بيضاء وقوية الالتماع، تحوطهما شفتان حمراوان وممتلئتان، ولا ريب في عودة حمرتهما الى قلم حمرة. ويجلل الرأس شعر قصير غريب يميل كذلك الى الحمرة. وتلبس المرأة الشابة، البيضاء والجميلة والضاحكة، تاييراً، من سترة وتنورة زرقاوتين. والى جنبها رجل يبدو أقل فتوة وضحكاً وانفعالاً منها. فهي تتوسط الجمع، والاهل مشدودون اليها والى روايتها، ويعلقون على كلامها. ويتردد في التعليقات اسمها، عايدة، أو مسز عايدة، أو نسبتها الى شهرة زوجها أو شهرتها هي، مسز قرعوني. وموضوع الكلام والرواية والانفعال هو أنا، العائد من تيه خارج المدرسة القريبة، وكنت "أدرس" في حضانتها الاولى، قادنا الى السكة الحديد في ضاحية صيدا، بين المدينة وبين مدرسة الاميركان الانجيلية، بجوار ما صار مخيم عين الحلوة في أعقاب سنتين ربما من رحلة "ضياعي"، على ما سمى الأهل الرحلة المرتجلة الى موضع لا علم لنا به ولا داعي أذكره في وسعي أن أسميه دعانا إليه.
 وحملني ربطُ أجزاء المشاهد بعضها الى بعض ووصلُها، وهذا ما رواه الاهل من بعد علي مرات كثيرة، حملني على خبر متماسك هو اننا "ضعنا"، زميلي وأنا، ولم يدر الأهل كيف يقتصون أثرنا، ولا أين. وكان الوقت بعد الظهر، وقريباً من الغروب، والفصل ربيعاً أو آخر الشتاء. وقضوا ساعات مرهقة من القلق والتخمين في أبشع التصورات والخيالات. وقبيل المساء، دق بوابة الدار زائران، السيدة قرعوني ، إذا صح أن هذا اسمها، وزوجها، ومعهما ولد البيت الضائع. وروت السيدة على الجمهرة الصغيرة انها وزوجها كانا يمران بجوار خط السكة، عائدين من زيارة أهل في المية ومية القريبة، ورأيا الولدين، فقالت عايدة أن احد الولدين يشبه ابن أخت توفيقة، خالتي وزميلة دراسة السيدة أو تدريسها. وأدركت أن الولدين هاربان أو تائهان. فما كان منها ومن زوجها إلا حمل الولدين في سيارتهما، أو في حنطور (عربة يجرها حصانان) كان بعض أهل صيدا يستعملونه في انتقالهم القريب.
 وهذا الجزء من الخبر لم يبق شيء منه في ذاكرتي. فأنا أذكر مشيي وصديقي بجوار السكة الحديد وعلى عارضات الخط، ووقوفنا على مصطبة محطة تشرف على السكة، وكلامنا الى رجلين سوداوين ينبغي أنهما كانا جنديين فرنسيين. وأذكر بعد هذا الجمع الذي استقبلنا، وأحاط بنا، والمرأة الطويلة والجميلة في تاييرها الازرق الانيق وحديثها ووقع حديثها علينا كلنا. وأما متى تركنا المدرسة، وكيف نوينا الرواح في نزهة، وما أدرانا من أين الذهاب، ومراحل الرحلة والتماسها مرحلة بعد أخرى، فلا دليل إليها، أي الى خاتمتها، إلا رواية السيدة، وروايات الرواية على ألسنة الاهل من بعد.
 وأردد اليوم أصداء الحادثة القديمة، وألمّ شتاتها، وأترك تحقيقها (ففي وسعي مكالمة بعض من حضروا الحادثة، ويحفظون الأسماء وربما الأقوال حفظاً دقيقاً، ولكنني لا أفعل وهذا ليس موضوعي ولا مطلبي)، لأن ما تفتقت عنه، أو ما حفظها وتماسكت به ولم تكف عن ترديده، هو جمعها علامات فارقة ومتضافرة عرَّفت في الحال، ثم من بَعدٍ متطاول ومتصل، اسماً (مسيحياً) ومعنى. فالمرأة الشابة تتقدم الزوجين، وترجح كفتها، ظهوراً وعبارة وتألقاً، في الميزان. وهذا علامة أو إشارة لم يخطئها انتباهي، وأنا اليف مجتمع نسائي: الجد توفي، ورأس الأسرة جدة عاملة وبكر بناتها العاملة كذلك، وكبير الخالين في المهجر وصغيرهما تلميذ خجول يدرس... ولكن ألق السيدة قرعوني من صنف آخر، ولا يمت بشبه الى ألوان نساء أهلي القاتمة والداكنة. ولا يقيد عبارة الوجه وقسماته، وفيها الشعر القصير وربما المصبوغ، القيد الذي يحول بين وجوه أهل خؤولتي وبين العبارة المسترسلة والمتدافعة والصاخبة. ولا أذكر أنني رأيت تاييراً على امرأة قبل تايير السيدة عايدة الازرق، "السماوي" الزرقة. ولم تقتصر أناقته على لونه وقماشته، وبساطة رسمه وقَصَّته. فقبة السترة تحيط بالرقبة برفق، ولا تستعجل ستر أعلى الصدر العالي، فتتصل الرقبة الطويلة بفسحة الصدر قبل أن تشد السترة على النهدين. والزوجان، السيدة قرعوني والسيد قرعوني، يجولان في حنطور، على الارجح، أو في سيارة، ويخرجان من المدينة القديمة الى ظواهرها، والى زياة أهل. وهما يخالطان الأهل من طريق المدرسة.
 ومذ ذاك، لم تفك المصادفات المتواترة العقد الذي ربط بين الاسم والمعنى "المسيحيين"، وهما جلتهما المرأة الصيداوية الجميلة والانيقة في حلة استهلال بهية، وبين التعليم على وجوهه الكثيرة. فغداة "الضياع" القصير انتقلت من مدرسة المقاصد الى "مدرسة الاميركان"، بضاحية صيدا الشرقية (وهي "شرق صيدا"، على ما سمت الصحافة ووسائل الاعلام سبحة الضواحي والقرى والبلدات التي هاجمها مقاتلون مسلمون شجعان، وحرقوا بعض بيوتها، وهجروا معظم أهاليها، واطفأوا أنوارها، غداة جلاء القوات الاسرائيلية عن صيدا المحتلة في شتاء 1985). وفي "مدرسة الاميركان"، الانجيلية والبروتستانتية، كان ابتداء النهار المدرسي اجتماعاً غريباً في قاعة واسعة، ربما كانت هنغاراً من مخلفات القوات البريطانية، صفت لصق جدارها العاري والمنحني مقاعد واطئة ومستطيلة من خشب. وكان التلامذة يدعون الى الجلوس والسكوت. وينهض رجل ثلاثيني أو اربعيني، شاحب الوجه وصقيله، عيناه حزينتان، يلبس بذلة رمادية لم يبدلها بغيرها طيلة سنتين قضيتهما في المدرسة، ياقتها عند مقدم الرقبة متصلة، على ما كان قساوسة البروتستانت يلبسون. ويتلو حكاية من كتاب سمعت أنه "الانجيل". ويدعو الحضور، بعد انتهائه من التلاوة، الى تأييد الحكاية وعبرتها برواية حوادث شهدوها، أو سمعوا بها، تخلص الى العبرة نفسها.
 وكانت المدرسة مختلطة، وكثير من تلامذتها هم من أولاد أقارب سبق أن رأيتهم في زيارات الاهل. وبعض المعلمات (من غير المعلمين؟ لا يعقل) كن من صديقات خالاتي، وبعضهن يترددن الى البيت العائلي. وإذا التقينا في المدرسة، في أوقات الفرص بين الدروس أو في أثناء طعام الغداء وربما في الصفوف، كن يقبلن علينا، ويكلمننا ويمازحننا. وبقي من السنتين هاتين، الى دخول الصفوف صنف من التلامذة، وهو اقتصر على تلميذ واحد في صفي سمي بالفلسطيني- بقيت حادثة فاجعة ترددت بعض اصدائها في بيت الأهل.
 ففي صبيحة أحد الايام، بينما كان التلامذة يتوافدون على المدرسة، وعلى قسمها "العالي" الذي يقوم على رابية مستديرة تطل أبنيتها الخشبية، ومنها هنغار الصلاة، على السهل أسفل الرابية، وعلى ساقية تجري مياهها القليلة بمحاذاة الرابية- انحدرت دراجة هوائية يركبها احد التلامذة من أعلى الرابية بسرعة خاطفة، وانحرفت قليلاً عن الجسر الضيق الذي يصل الرابية بالسهل، واصطدمت بالسور الواطئ والمطل على النهير الناضب. وهوى انطوان على حجر مستديرة وكبيرة مثل حجر رحى في وسط مجرى الماء الطيني، وتكوم جسده وكأنه نائم على جنب وذراعه في قميص قصيرة الكمين تحت رأسه، وتتقدم ساقه المنحنية والعارية في البنطلون القصير ساقه الأخرى.
 ولم يقل أحد شيئاً أو كلاماً، ولم تنفجر صرخة بالبكاء أو العويل. وبدت الحادثة، وما بقي منها هو اضجاع انطوان وحيداً على صخرة عريضة في وسط مجرى نهري ربيعي وطيني، بدت واقعةً من وقائع الطبيعة التي لا يد للبشر فيها مثلَ وقوع صاعقة على شجرة كثة ومائلة في سهل فسيح، ولا شاهد على وقوعها وعلى حرقها الشجرة إلا تخوم السهل البعيدة والمغبرة. وعلى نحو قريب من هذا، خلا مشهد انطوان نائماً على سرير النهر القريبة، والمنحدر الأجرد الى شمالها وشرقها، والسروات التي تحف بيوت الرابية الخشبية، في مواضعها، وفي انتظار مريب ومديد.
 ولم يعد أحد الى الكلام في الحادثة. والوقت الذي انقضى بعدها انخلع منها، ولم تخلق أثراً فيه. ولكن حداد الاهل على انطوان، وهو أخو معلمة من معلمات المدرسة وصديقة من صديقات الخالات، وصل عالم الاهل الحميم بالاسم "المسيحي"، وتخطى دائرة الرابطة المهنية. وهذه لم تختصر يوماً علاقات الصداقة والصحبة التي جمعت الخالات الى صديقاتهن وصواحبهن، وإلى أهل الصديقات والصواحب. وإذا كان التعليم ذريعة الاختلاط والتعارف فهو سرعان ما كان يفضي الى شراكة قريبة وحارة في شؤون الحياة اليومية الخاصة. فأخت انطوان حلت ضيفة أثيرة على بيوت الاقارب. ولما مرضَت، واضطرت الى الرواح الى بيروت، كانت إحدى الخالات رفيقة سَفرها ورواحها الى عيادة الطبيب. وبتنا نحن الثلاثة، ولست أذكر لماذا كنت في الركب، ببيت أقارب هناك. وسرت في الاحاديث الخافتة، وعلى وجوه الاهل، همهمة أوحت بأن من مشاغل الساعة الملحة زواج لور (من أي ثنية من ثنايا زمن لا أذكره خرج الاسم الرقيق والخافت؟)، وأن قسطاً من المهمة تتحملها بنات العائلة الصيداوية المسلمة والطرفية. والميل من زمالة التعليم الى الصداقة الشخصية والعائلية، فإلى تشارك شاغل الزواج والتزويج وما يفترضه من قرب وعلم بخفايا المفاوضة على بنود العقد وشروطه، كان (الميل) أليفاً وجزءاً من الاختلاط الاهلي الصيداوي الذي شهدته. فأمي كانت معلمة في مدرسة البنات "الرسمية"، الحكومية بصيدا. وكانت مديرة المدرسة الصغيرة والمبتدئة معلمة مسيحية إما من اهالي صيدا أنفسهم أو من أهالي ضاحية من ضواحيها القريبة. وتقيم المديرة المكتهلة، والغائرة العينين السوداوين في محجرين واسعين ووجه ناتئ العظام، والخفيفة شعر الرأس، غير بعيد من مبنى المدرسة، وتقيم معها أمها، وأختها التي تشبهها وينم وجهها بحلاوة باسمة ومريضة وموشكة على الذواء، وأخوها العازب والبالغ منتصف العقد الرابع والموظف الملاحي البارز. وفي صالون السيدة المديرة الضيق، وعلى كنباته الفردية المختصرة والقاسية المَجْلَس، والملابسة على الدوام أغطية من قماش سميك تستبق سمرته الوسخ المتوقع، كان الملبَّس الملون والسكري الضيافةَ الغالبة والرتيبة. فتتصدر الأم المنحنية الظهر، والمجعدة الوجه، الصالون. وتجلس الأخت في ثياب النوم تحت "روب" زهري ثابت، غير بعيد من الأم، وتبتسم وتحادث امي وإحدى خالاتي، وتحاول استدراجي الى مصافحتها، وترك خدي الى قبلتها. وفي الاثناء، تروح المديرة الى مطبخ الشقة وغرفها وتجيء، وتتولى الضيافة، والكلام، أو الشطر المهم منه.
 وأفضت الزيارات الكثيرة وغير المتبادلة، فأنا لا أذكر قيام المديرة وأختها وأخيها بزيارة الى بيت أهلي، الى أسفار صيفية قصدت بعض بلدات المتن، بكفيا وضهور الشوير والشوير وبولونيا وبتغرين، في سيارة عائلة المديرة بحثاً عن زوجة للأخ البحري العازب. والأمر لم يكن خفياً، ولا الكلام فيه موارباً. فيقال حال ركوننا السيارة، وجلوس الرجل بمقعد السواق، بعد شم العطور الغائمة والقبلات والسلام وتوزيع الملبس، أن مشوارنا اليوم الى البلدة الفلانية، حيت تنتظر فلانة زيارتنا. وفي الطريق، الطويل، الى البلدة البعيدة والغامضة تدور الاحاديث المفصلة على فلانة، فتتناول أوصافها على نحو ما قيل فيها، طولاً وعرضاً ووزناً ولونَ عينين ونظرة وحاجبين وجبهة وشعراً وأنفاً وخدين وبشرة وفماً وأسناناً. ولا يغضى عن "علمها" ودراستها، وعن عملها، إذا كنت تعمل، وعائد عملها. وينتقل التناول الى أهلها، ومن يكونون حسباً ونسباً وإسماً ومذهباً. فالخاطبون كاثوليك، على ما سمعت، ومن يقصدونها روم أرثوذكس. وأهلي لا يرون عيباً في روميتها. ويأمل الثلاثة، الخاطبون، ألا تنتبه والدتهم الى الهنة الهينة. وأما المسألة التي يكثر الكلام فيها، في هذه المرة وفي المرات كلها، فهي "الدوطة"، أو بائنة العروس المزمعة، أو "المال" الذي يهبه أهل العروس الى بنتهم حين يزفونها الى بيتها الجديد وزوجها.
فيأتلف من الكلام في الاوصاف والعيوب والحسب والنسب والممتلكات والعوائد، والمعروف المشهور والمقدر على التخمين، والقبض والبسط، وما تقدم إنفاقه وبذله وما لا يزال عالقاً، (يأتلف) ميزان دقيق لا يشبه ما كنت عرفته وفهمته من زيجات "المسلمين". فزواج الرجال على جهة الأعمام وأولادهم، مداره أو مدار الكلام فيه على "الحب" الذي يكنه هؤلاء، منذ طفولتهم البعيدة، لقريباتهم. وإذا بدا افتراض الحب عسيراً في أحوال تقتضي خطوبة امرأة غريبة وبعيدة المزار (بعيد مزار أهلها أو سكنهم)، دار الكلام على علاقات المناسبة الظاهرة بين الخطيبين، وعلى استحسان واحدهما الآخر وميله إليه. وسُكت عن المهر الإسمي، وهو جزء قليل من بنود العقد المضمرة أو المعلنة. وزواج الرجال، على جهة الاخوال وقراباتهم، لا يستدعي شروطاً طويلة، إذا استثنيت زيجات المغتربين والعائدين، أو بعضهم القليل، بثروة كبيرة تجيز الزواج ببنات الاعيان، وتجيز لبنات الأعيان استدراج بعض أبناء الفروع المتواضعة اللامعين والوسيمين واليافعين الى الزواج بهن.
 والحق أنه لم يكن لهذا كله، على جهاته المتفرقة، أثر يعتد به في مشاعرنا وميولنا وأهوائنا، نحن "الابناء". واضطلاع الاهل بدور بدا قوياً في ملابسات بحث الموظف البحري عن عروس ببلاد جبل لبنان النائية، لم يتستر على اضطراب دب في علاقات الاهل "العاطفية". ولا ريب في ان اختلاط الاهل الذي أجاز أسفار الخطوبة المشتركة، ولم يحل دون مناقشة كفتي الربح والخسارة من الميزان الذي توزن به العروس العتيدة، حمل الخالات الفتيات، وهن لم يبلغن العشرين، على تحكيم هواهن في عواطفهن ومشاعرهن وميولهن. ووقع هواهن، أو هوى بعضهن على أبناء جيران مسيحيين يقيمون بجوار مختلط، وبعض الابناء يتردد الى مدارس أخواتهم وهي نفسها مدارس الخالات والقريبات.
 وأتاح سكن أحياء الضاحية القريبة والجديدة، وجوارها المرسل والمختلط، وقربها من مدارس الارساليات، وضعف تماسك الأجسام العائلية وحداثة نزولها بهذه الجهة، وهي لم يبن بها مسجد الى اليوم غداة ستة عقود على ما تقدم روايته- التعارف والتقارب وتبادل الكلام والمجالسة. وبدا الشبان والفتيان المسيحيون، في أحوالهم وأفعالهم ودراستهم وخططهم وعلاقاتهم بأهلهم، مرآة سيرَ حياة وتواريخ شخصية متحررة، على مقادير متفاوتة، من قيود الاهل والسلف على الاقامة واللباس والدراسة والسينما والاجسام والمشاعر والكلام. واستخف ذلك هوى القريبات اللواتي تعلمن في مدارس الارساليات الاميركية أو الفرنسية، وسعين في كسب معاشهن من طريق التعلم، و"افتقرن" الى مثال والدٍ نافذ الكلمة والرأي والحكم أو الى أخ يخلفه على رسوم الصدارة الابوية. وبعض القريبات أُلزمن التخلي عن هواهن، وبعضهن تخلين طوعاً. فمنهن من أقام على "عهد" مستحيل، ومنهن من طوى العهد الى آخر أقرب من رسوم الاهل.
 وعاصَرَت هذه الحوادث، وهي لم تبلغ مبلغ الانعقاد على وقائع مشهودة ومشهورة، حوادث مشهودة وصارخة. فأحد أبناء عمومة أمي، وهو دارس فلسفة شاب وابن شيخ معمم، اعتنق الايمان المسيحي، أي تنصر وشهر نصرانيته ودخل الى سلك إحدى الرهبانيات. وقدم صيدا، ومولده ونشأته فيها، وأقام مدرساً بمدرسة الإخوة المريميين (الـ"فرير ماريست") على ألا يدعو الى ايمانه الجديد. وانتقل بعدها الى بيروت، ورعى ميتماً جمع بعض أيتام المسلمين، فأثارت رعايته حفيظة بعض دار الفتوى وتهمتهم. وكان يتردد على أهله وأهلي من غير تحفظ. ورأيته الى مائدة أمي غداة فض مخيم تل الزعتر بالقوة (في آب 1976)، وقدر عدد القتلى الفلسطينيين بألف أو 1200، وشغله أمن من بقي حياً ونقله الى مخيم صبرا القريب. وأحد أعيان أسرة أمي عرف بتردده علناً، عشية كل يوم من أيام الاسبوع، الى منزل أحد ميسوري المسيحيين، حيث يمضي السهرة الى ساعات الليل الاخيرة في حمع صغير من الوجهاء وموظفي الدولة. وزوجة الرجل الميسور إحدى جميلات صيدا الذائعات الصيت. فلم يشك أولاد الحي، وأنا فيهم، في ان السيدة الجميلة هي مدار السهر وقطبه. وحين تناول الحديث، فيما تناول، غداة خمسين عاماً على وفاة القريب ورجل الاسرة المضيفة، واقعة السهر التي دامت قرابة العقد من السنين، وألمحتُ الى رأيي وصحبي فيها، جزمت خالاتي في كذب الزعم وبطلانه. فالسيدة المسيحية الجميلة لم تبرح "طاهرة". ولما مر المشيعون بنعش القريب أمام شرفة السيدة، وألقت سلامها عليه، وهي غير القريبة وليست من الاهل، كان سلام الصديقة على صديق. 

السبت، 16 أغسطس 2014

القضاء المصري يقاضي مغتصبي نساء في ميدان التحرير: تقديم القانون على الحق يبطل الذوات والأفراد والحوادث

المستقبل، 17/8/2014







في الصورة الشمسية الملونة التي تتوسط مقالة صحيفة «الاخبار»، اليومية المصرية (26 يونيو/حزيران 2014)، في محاكمة «12 ذئباً بشرياً من المتهمين بهتك عرض السيدات والفتيات بميدان التحرير» القاهري، في 2 و8 حزيران من الشهر نفسه، وقبلها في 25 كانون الثاني (يناير) 2013، في الاحتفال بالذكرى الثانية «للثورة»- يرى القارئ 3 شبان يرفعون اليد اليمنى الى وجوههم، ويغطون الوجه باليد، ويديرون الرأس الى اليسار، وهو الجهة المقابلة لعدسة التصوير. ويتوسط الرجلين البالغين فتى يلبس، على خلاف صاحبيه، قميصاً قطنية بيضاء، قصيرة الكمين ومن غير ياقة، ويُدِل بقصة شعر دارجة: تتوسط الرأس لمة مجتمعة ومرفوعة بينما تكتفي أطرافه بشعر غير كث ولا «عبي».

والرجل القريب الى العدسة يلبس قميصاً طويلة الكمين، حرص على ثنيهما قبيل الكوعين، فبدت ذراعه عارية. وهو كذلك قص شعره قصة حديثة، على مثال «المارينز»: فحلق فوديه والجزء الاسفل من الرأس فوق الرقبة، عشية جلسة المحاكمة. ويتخلل رجال الامن وحرس السجن الثلاثة. فيتقدم الثلاثة حارس في زي قاتم يبدو انه يفتح القفل. ويتوسطهم ثان، من الامن المركزي، يلقي ذراعه على كتف الرجل ذي القميص المثنية الكمين. ويتأخر ثالث، من الامن المركزي، يسوق اثنين من المتهمين، الفتى والشاب الثالث الذي لا يظهر منه غير رأسه ويده التي تحجب وجهه. والستة يستقبلون بوجوههم وصدورهم الحاجز المعدني المخرَّم الذي يفصل قاعة المحكمة عن قفص المتهمين.
وقبل أن تدعو هيئة محكمة جنايات القاهرة، وهي من 4 قضاة، ممثلي النيابة العامة الى قراءة ما يسميه المصريون أمر الإحالة، وهو عريضة الاتهام أو تقريره في مصطلحنا اللبناني، أرادت إثبات حضورهم أو التحقيق في هوياتهم. فأداروا ظهورهم الى القوس وقضاته، والى الجمهور والمصورين، وحاولوا حجب وجوههم بأيديهم. وقالوا أنهم لا يريدون تصويرهم، وإثبات هوياتهم وحضورهم في صور شمسية تعرفهم بسيمائهم وليس بأسمائهم وأعمارهم ومهنهم ومحال إقامتهم وحسب.

وإدارة الظهر الى هيئة القضاء سبق إليها قادة الاخوانيين المصريين، في غضون السنة المنصرمة على خلعهم عن «عروش» مصر التي استووا عليها ولاة لا قيد على بيعتهم، على ما قال يوسف القرضاوي في اصحابه ومشايعي فقهه، في حزيران 2013. ولكن ظهور القادة الاخوانيين كانت قرينة على ظهار «شرعي»: فهم أوكلوا الى ظهورهم القول الى هيئة القضاء المصرية أن وجوه القضاة حرام عليهم وعلى وجوههم حرمة محارمهم. وهذا تمهيد للطلاق والانفصال إذا لم يطرأ ما يصلح ذات البين، وشروع في التخلي عن الكلام والمخاطبة وحمل هذين على تعسف محض، وعلى منطق قوة، لا سبيل معهما الى الاحتجاج. وهو جوهر القضاء والمقاضاة. فالمواجهة، أو الوجه الى الوجه، تستقبل، ولو على مضض وتحفز، العبارة التي ينم بها المتقاضي أو المخاصم ومقاله.
وأما الظَّهر، أو القفا، فلا «يقول» إلا انقطاع الكلام واستحالته، وإرادةَ من يولي ظهره العدو الاحتكام الى الانكار وحده. وبعض طرق التقاضي، مثل مرافعات القطيعة، يشكك في مشروعية هيئة القضاء، وفي القوانين التي تصدر عنها، وتتلفظ بأحكامها في ضوئها وبالرجوع إليها. فيُقال في محكمة تقاضي احد قدماء النازيين المتخفين انها من ذرية استعمارية ليست أقل توحشاً وبربرية من التوحش والبربرية النازيين. ويقال في قاضي التحقيق الذي تولى التمهيد لانشاء المحكمة الخاصة بلبنان، في لاهاي، ميليس، انه ابن يهودية او زوج يهودية، وأنه «عميل» سياسات تناهض سوريا «الاسد» والمقاومة والاسلام الخ.
وانكار المتهمين بالتحرش بضحاياهن وتعذيبهن واغتصابهن سلك طريق القول بعد الفراغ من قراءة النيابة العامة أمر الإحالة. وهو انكارٌ جملةً أو بالجملة: «ولا عملت إي حاجة، وما ارتكبتش يا بيه ولم ننزل الميدان للاحتفال» بفوز عبد الفتاح السيسي برئاسة الجمهورية، ولا بذكرى 25 (يونيو) الثانية، «ظلم يا باشا». وهذا غداة 62 سنة على إلغاء «ثورة يوليو» الألقاب. وفي رواية وقائع المحاكمة، وأمرُ الإحالة فاتحتها الاجرائية والعملية، لم ترد لفظة «اغتصاب»، على خلاف الملخص الذي تقدم للتو. واللفظة الاصطلاحية التي تنوب عن اسم الفعل الصريح والفج هذا هي «هتك العرض». وإذا أمعنت النيابة العامة (الاتهامية) في التفصيل والتدقيق قالت في المغتصبين المتحرشين انهم «جردوهن (أي جردوا النساء ضحاياهن) من ملابسهن وأحدثوا إصابات في أجسادهن من جراء الاعتداء عليهن وهتك عرضهن». ولا يشذ الخبر الصحافي عن التحفظ. وهو يماشيه ويلتزم نهجه في الكلام على الحادثة وتقيده بما يحسبه ربما مبنى قانونياً أو قضائياً وحقوقياً (فقهياً)، موضوعياً، للقول والعبارة. وإذا تمادى التقرير الجنائي في التخصيص، وتخلى عن المصطلح المتعارَف والانشائي مثل «هتك العرض» أو «استباحته»، كتب ان الجناة «انقضوا على (المجني عليهن) وطرحوهن أرضاً وجردوهن من ملابسهن عنوة كاشفين عوراتهن وتداعوا على موطن عفتهن غير عابئين بتوسلاتهن واستغاثتهن، وأبرحوهن تعذيباً تاركين بجسدهن الاصابات الواردة بتقرير الطبيب الشرعي».
والالفاظ الاصطلاحية والاجتماعية المتوارثة التي يرددها التقرير القضائي، ولا يحيد التقرير الصحافي عن جادتها، إنما تتناول موضوعها على نحو مخصوص. فالقول أن مجامعة عصابة من الرجال، قد لا يعرف واحدهم الآخرين من قبل، غصباً وبالقوة القاهرة امرأة لم تسبق لهم بها معرفة ولا سبقت لها معرفة بهم، في الطريق «العام»، وعلى مرأى من عابري سبيل ومحتشدين اتفق مرورهم بالمكان وأشهدوا على الواقعة الخاصة أو الفعلة- القول انها «هتك عرض» و»تداعٍ على موطن عفة» منحاز انحيازاً لا يحتمل الى ما تسميه السينما المصرية «المجتمع». فالعرض تشترك فيه المغتصبة مع الذين يحملون اغتصابها، ولم يمسهم هم أذى من أي نوع أو صنف، على انتهاكهم. ويصدق هذا في أحوال ليس فيها اغتصاب ولا قسر أو قهر: إذا أحبت المرأة صديقاً أو صاحباً، وإذا تزوجت بمن لا يرضاه أهلها، وإذا أظهرت في حفل زواجها ميلاً «فاضحاً» الى زوجها الذي عقدَ عليها للتو عن يد المأذون (وقتل الاخ أخته في حفل زواجها ببعض نواحي الصعيد، على ما روت الصحف المصرية غير مرة، قد يكون فعل آحاد ولكنه معروف). وهو شأن «العفة»، وهي أوسع معنى وحملاً. فمستودع العرض أو الشرف ليس النساء وحدهن، وقد لا يكون النساء أولاً بل هو الاهل ومن يدين الاهل بأحكامهم ومعاييرهم المشتركة.
والتحقيق، على هذا، يسمي الحوادث والوقائع والمشاعر بأسماء «اجتماعية»، ويغفل أسماءها النسائية، أو هو لا يسأل عنها ولا يتحرى حقيقتها. فليس في الإحالات عناصر أو أوصاف ترد الى المغتصبات وشهاداتهن وأقوالهن وأحوالهن. وإذا عرضت الإحالات الى «خوف» المفجوعات بالعدوان الصارخ عليهن، أو الى «التأثير في إرادتهن» و»إلقاء الرعب في نفسهن»، التزمت الجانب الآلي (المادي) والخارجي من الافعال. وحرصت الإحالات، ما وسعها، على إشهاد تقرير الطبيب الشرعي على صحة مقالتها. وتقرير الطبيب الشرعي، في المواضع التي يستشهده التحقيق الجنائي عليها، يقرر «أثر الجروح» في «جسدهن» (لماذا صيغة الواحد؟)، أو يصف «الإصابات» التي ألحقها المعتدون في النساء اللائي اغتصبوهن و»عذبوهن بدنياً».
و»الآثار» و»الاصابات» و»الجروح» التي يستشعرها من تقتحم الاصابع والايادي والذكور والأسنان والشفاه والألسنة، وربما الآلات الحجرية والمعدنية والزجاجية والبلاستيكية، منه (منها) الفم والوجه والشعر والرقبة والابطين والصدر والبطن والدبر والفرج والفخذين والركبتين، هذه (الآثار...) ما حكمها الطبي الشرعي؟ وهل اقتصر الامر، وهو على هذا كثير وفظيع، على التخويف والتأثير في الارادة وإلقاء الرعب في النفس وتكدير الأمن والمساس بالحرية الشخصية؟ ويبلغ الانحراف المهني والحرفي من أصحاب التقرير مبلغ الكتابة: «واحتجزوا وآخرون مجهولون (كذا) المجني عليهن في غير الأحوال المصرح بها قانوناً.». ولا تسوغ سياقة معقولة ولا مفهومة استثناء الفعلة الجرمية الموصوفة من «الأحوال المصرح بها قانوناً» والتنبيه إليه. فيذهب الظن بالواحد الى الأحوال التي تقدم ذكر بعضها، ويصفها الأهل بالانتهاك وقد تحمل على إرادة النساء أو رغبتهن ومبادرتهن. فإذا أطرحت إرادات النساء، ورغباتهن، ومشاعرهن وأحاسيسهن وآراؤهن في ما يُفعل فيهن، لم يبق إلا العرض والعفة، وهما من متعلقات الاهل، والقضاء الاهلي، أولاً والارجح أخيراً.
وليس في التقرير، على نحو تلخيصه في الصحيفة، صدى مباشر ومسموع لآلام النساء وعذاباتهن وأوجاعهن. فلا يحضر التقريرَ قولُهن في مصابهن وجلجلتهن. ويروي مراسل «الاخبار» المصرية أن «إحدى الفتاتين المجني عليهما... قامت (كذا) بالبكاء الشديد» في أثناء قراءة قرار الإحالة. لماذا يعصى الصحافيَّ القولُ المباشر: بكت إحدى الفتاتين، أو انتحبت؟ أو انفجرت باكية؟ وهي المرة الوحيدة التي تخرج فيها امرأة مغتصبة من «التقارير»: التقرير الجنائي والتقرير الطبي والتقرير الصحافي، ويضج بكاؤها في الجمع والسمع، ويجهر ما تتكتم عليه الاعراض والعفة، ويتكتم عليه الاهل و»المجتمع» من قبل ومن بعد. وقد تكون هذه المرة فريدة: فالقاضي قضى باستكمال المحاكمة في «جلسة سرية بغرفة المداولة». فلن يبلغ بكاء امرأة مغتصبة ومكرهة آذان الشهود أو آذان القراء، بعد.
وهذا كله من باب تقديم الموضوعي على الذاتي- على ما كان يقال في لغة فائتة، وعلى ما يُفكر ويُحس اليوم في لغة متخثرة، أو عظمية إدارية، أو تترجح بين الوجهين والمثالين الجمعي على الفردي، والاجتماعي أو المجتمعي على النفسي، و»الحزبي» على العفوي والفوضوي. ولا يقتصر التقديم بهذه الحال على ترتيب، بل تتعدى الترتيب (وهذا يقضي باحتفاظ الصفات الدنيا بحقيقة لا تجاري قوة الحقيقة «الاعلى» ولكنها لا تعدم بعض القوة) الى نفي حقيقة المرتبة التالية أو الاخرى. فيقضى في المسألة كلها، على رغم تعقيدها وكثرة وجوهها وخلطها الموضوعي بالذاتي والجمعي بالفردي، إلخ.، في ميزان واحد، وعلى سلم معايير وحيد ولا شريك له. وفي مرآة هذا الميزان لا يبدو الحق (والقانون، على ما ينبغي الاستدراك سريعاً في العربية) جامعاً ومانعاً وقاطعاً، وحسب. فإلى الجمع والمنع والقطع يبدو الحق مقتصداً، وحائلاً بين الذات والفرد والنفس وبين الاسترسال في لغوها الذاتي والفردي والنفسي بذريعة الاحاطة بوجوه الواقعة كلها.
وتقديم الموضوعي، الطب الشرعي وتقاريره، على الذاتي، آلام المرأة المغتصبة و»أحوالها»، يتستر على تقديم القانون، وهو شأن الدولة (الغربية: العقلانية والادارية البيروقراطية والقانونية)، على الحق أو الحقوق، وهي شأن المواطنين الافراد والمحكومين ومجتمعهم. وقد يؤدي تقديم القانون على الحقوق، على مثال التحاكم الى القضاء المصري في قضايا الاغتصاب الاخيرة، الى نفي الحقوق باسم القانون، والى الغاء «الذوات» وحقها في العبارة والعلانية والتطهر المسرحي، وفي تثقيل التهمة والدعوى على خلاف العذر المحل أو المخفف، وذلك باسم حقوق الدولة و»المجتمع» والاخلاق وأوامر الشريعة ونواهيها، وتحصيل هذه وتلك. ومرافعة القطيعة هي من صنف المذهب القاضي بتقديم القانون على الحقوق. و»قانونها» أو مرجعها هول ليل التاريخ الأليل، وعتمته الحالكة التي يسوي سوادها العكر بين البقرات، ورمادها الداكن بين الفأرات، على قول فيلسوف التاريخ الالماني.
وطريق هذا التقديم هي طريق قوامية «الدولة»، وكيل الامة (أو الشعب) ومفوضها بتفويض ناجز لا تخصيص او تجزيء فيه ولا عودة عنه، المطلقة على «رعيتها» أو شعبها وجماعاتها وأفرادها وهيئاتها وعمرانها ومعاشها... ولا سبيل الى مقاضاة «دولة» هذا شأنها، أو حاكم يتربع في سدتها بعد استفتاء (أو «انتخاب») محضه ثقة أو بيعة 90 في المئة ساحقة من «المواطنين» المقترعين والناخبين. ومثل هذه الدولة لا غير لها من داخلها «الصديق» (وخارجها عدو مميت)، ولا مخالف أو متحفظ أو معارض أو مشاق أو صاحب حق يسعه التعويل على دوام وطنيته أو مواطنيته، وحريته وبقائه على قيد الحياة وسلامته الجسدية، إذا هو شهر غيريته أو مخالفته أو تحفظه... وهذا في صيغة الفرد فبالأحرى في صيغة الجميع.
ولا يبدو تظاهر تقديم القانون على الحقوق في قضية الاغتصاب المصرية عارضاً ثانوياً أو اتفاقاً ومصادفة. فالتقديم هذا يشارك بعض أقوى وأعم المضمرات والأحاسيس والاحكام الجمعية والفردية العربية والدينية، قسوتها وفظاظتها الحربيتين. فـ»المرأة» (أي النساء الكثيرات) تتصور معينَ خوفٍ يحمل على الهلع، ومصدر فوضى تعصى السيطرة والقيد والوصاية والعقل- الحسن التسمية في معرض القول العربي. وحين يقاضي القاضي، المصري المسلم، مغتصبيهن فهو لا «يثأر» لهن، بعد أن استغنى بشهادات شرعية في الجروح والاصابات والكدمات عن شهاداتهن، بل يثأر «للمجتمع» وهيبته ومعتقداته في العفة والعرض، ويقتص من الاخلال بالأمن والادلال بالعيب، على اسم قانون مصري يعود الى نحو عقد من السنين، وسبي السبايا والاماء واقتسامهن غنيمة حلالاً خارج «ميدان» القتال وفي ميدان الاحتفال


في الصورة الشمسية الملونة التي تتوسط مقالة صحيفة «الاخبار»، اليومية المصرية (26 يونيو/حزيران 2014)، في محاكمة «12 ذئباً بشرياً من المتهمين بهتك عرض السيدات والفتيات بميدان التحرير» القاهري، في 2 و8 حزيران من الشهر نفسه، وقبلها في 25 كانون الثاني (يناير) 2013، في الاحتفال بالذكرى الثانية «للثورة»- يرى القارئ 3 شبان يرفعون اليد اليمنى الى وجوههم، ويغطون الوجه باليد، ويديرون الرأس الى اليسار، وهو الجهة المقابلة لعدسة التصوير. ويتوسط الرجلين البالغين فتى يلبس، على خلاف صاحبيه، قميصاً قطنية بيضاء، قصيرة الكمين ومن غير ياقة، ويُدِل بقصة شعر دارجة: تتوسط الرأس لمة مجتمعة ومرفوعة بينما تكتفي أطرافه بشعر غير كث ولا «عبي». 

الأحد، 3 أغسطس 2014

نفي السوريين إلى المخيمات والمَهاجر يعول على إضعاف روابطهم ومقاومتهم



المستقبل، 3/8/2014
أورثت روايات وتواريخ حركات التحرر من الاستعمار والتسلط الغربيين- و»الشرقيين» إذا أدخلت روسيا القيصرية فالسوفياتية فالبوتينية اليوم في باب القوى المستعمِرة، ومعها الصين وارثة امبراطورية الهان، وتركيا العثمانية فالأتاتوركية... - تسمية المتمردين على السلطات القاهرة بأسماء قبيحة تنم بتوحش هؤلاء وقسوتهم وعنفهم. فمن الفييتمنْه في الهند الصينية (وهي فيتنام وكمبوديا ولاوس لاحقاً) إلى الفِلاّحة الجزائريين، ومن ماوماو كينيا إلى المخربين الفلسطينيين، سبحة متصلة من الاسماء الدالة على القتل الأعمى والاقتصار عليه. والتوحش والقسوة والعنف والقتل لابست من غير شك ملابسة عميقة وعضوية خروج الجماعات الوطنية والمحلية أو الاهلية على تسلط القوة المستعمرة، وقسمتها الخلق إلى أسياد وعبيد وقلة من هم بَيْن بَيْن. ولا يعذرها، لئن كان من معنى للعذر أو الاعتذار في مثل هذا المعرض، مباشرتها التوحش والعنف والقسوة في أهل الجماعات أضعافاً فوق مباشرتها في العدو المستعمِر. فالحروب الاهلية لم تنفك وجهاً ملازماً للحرب على الاجنبي. ولم تنفع وحدة العدو، أو وحدانيته المفترضة، في لم شمل الثوار أو المجاهدين أو الاخوة المناضلين، على خلاف ما يوجب التناقض الاساسي والرئيسي، وفرق ما بينهما، معاً.

وشم المجد

ولكن الحربين، حرب التحرير على الاجنبي والحرب الاهلية «في صفوف الشعب»، لا تستويان مكانة وشأناً على رغم خوضهما معاً. فالاولى قد تتوسل بقمع أخوة السلاح، والفصائل الوطنية، والولوغ في دمهم من غير قيد أو حساب، إلا أن «قيادة» حرب التحرير تسوغ هذا كله، وغيره مثله، من غير تحفظ. وتجلل هامة أصحابها والقائمين بها، بمجد باقٍ على الزمن كالوشم على الخد أو الجبين، على قول الاردني الذي مدح منتظر الزيدي، رامي جورج دبليو بوش في بغداد المالكية بالحذائين الخالدين والمنسيين. فالحق في التحرر يضمر حقاً آخر قد يكون أقوى من الاول، هو الحق في إبادة العدو الاهلي أو الداخلي. والحرب على العدو الخارجي، أو البعيد في رطانة سيد قطب و»الجهاد» المصري و»القاعدة»، مدخل إلى الحرب الفعلية على «الجاهلية» أو «الشعوبية» أو «الانعزالية» الداخلية. وقد يتعذر استئصال العدو الخارجي، وهو كثير وقوي ومن ملة أخرى قد لا تعود إلينا هدايتها. وأما العدو الجاهلي أو الشعوبي أو الانعزالي فإما أن يدخل في صحيح الدين أو يقتل.

وحين خلا الجو للحرب الاهلية الاستئصالية، على قول كبار ضباط الجيش الجزائري في تسعينات القرن العشرين وقول الخمير الحمر من قبلهم، لم يفهم «مجاهدو» حرب التحرير، وهم الحزب الغالب والحاكم في حقبة «ما بعد الاستعمار»، التحفظ الذي جبه في بعض الاحيان سعيهم في إرساء سلطتهم على مجتمع جماعاتهم، واستئصال بقايا المجتمع القديم في المجتمع الجديد. ولعل أحد مصادر عسر الفهم، أو العجب، هو المديح الذي كيل من غير حساب لعنف التحرر والتحرير، توجَّه هذا العنف على المستعمِر أم على الرعية الوطنية والاهلية. فبعض منظري التحرر وكبار فقهائه وأصولييه، وفرانتز فانون أحد اعلامهم البارزين، لم يرَ في العنف على المتسلط والمستكبر الغربي الا سيرورة التحرر النفسية وجدلها العميق: فلا يُعقل الخروج من جلد العبد وأسره إلى عيد الاخوة والمساواة الناجزتين والتامتين إلا من طريق التمثيل في النفس (الاكتئاب أو لبس أقنعة البيض والتشبه بهم) والتمثيل في الغير (تكثير الجروح فيه). وجماع هذا هو ثورة المستضعفين في الارض.

وكان انقضى اقل بسنتين من العقد حين توفي فانون، في اوائل عقده الرابع، ولم يلاحظ ان جبهة التحرير الوطني الجزائرية قتلت من انصار حركة التحرير الوطني، الجزائرية والعمالية والمسالية (نسبة إلى مسالي الحاج)، عشرات الآلاف من المناضلين والانصار والاصدقاء والاهل نسباً. وأغضى فانون عن هذه المقتلة التي بلغ عدد ضحاياها، إذا جمع إليهم الـ70 ألفاً من الحركيين والمتعاونين مع السلطة الاستعمارية عشية رحيلها وغداته في صيف 1962، نحو ثلث عدد القتلى العام وهو اقل من 300 مئة ألف بقليل (نظير «ثورة المليون شهيد» التي أشاعتها وتشيعها رواية رسمية وشعبية أجمع عليها أعيان «المجاهدين» الحكام وعامتهم المحكومون والمنشقون والمتمردون). فالمثقفون التقدميون، والثوريون على وجه التخصيص، لا يسعهم «العلم» بالمنازعات التي تعتمل في صفوف حركات التحرر والتحرير، وهم لا يرغبون في مثل هذا العلم المزعج والمربك. فهو يشكك في مساغ ركن السلطة الجديدة الخارجة من الحرب، حرب التحرير والتحرر، أي اتحادها بالمجتمع الذي أرست مقدمات حكمه والسلطان عليه في أثناء الحرب. وحروب التحرير والتحرر أهدت مجتمعاتها المستقلة أنظمة كيم إيل سونغ (كوريا الشمالية) والخمير الحمر (كمبوديا) وبومدين (الجزائر)، وغيرها مثلها كثير.

ولقاء التحرير والتحرر، وكأنهما هبة الحزب الذي قاد الحرب قسراً في أحيان كثيرة وليسا ثمرة ما لا يحصى من المبادرات الفردية والجماعية، يتوقع أي يريد الحزبُ القائد والمجاهد أن يدين له الشعب الواحد والمتحد بطاعة لا يشق عصاها. وعلى الشعب أن يغضي عن الشقوق او الفطور التي لا تلبث ان تدب في جدران البنيان المرصوص وتتسلل إلى أساساته وأركانه، وتباعد بين كتله أو جماعاته. وتتولى الحروبُ الملحمية والاسطورية، الكونية والمزمنة، على الجيوش الجرارة التي تؤازرها قوى العدوان التكنولوجي والنيوليبرالي الامبريالي وجحافل التكفيريين الظلاميين، سدَّ الشقوق والفطور الثانوية والمزعومة. فلا محل للحروب الصغيرة، على قول منظري الحرب في القرن الثامن عشر الاوروبي، «حروب الدانتيلا» الداخلية والمتواضعة، شأن «الحروب» السورية الاولى، حيث لا مكاسرة على حوافي الهاويات السحيقة. ولا تهدر صواريخ سكود والبراميل والخزانات المتفجرة ويَقتلُ غاز السارين المئات في دقائق معدودات.

حروب غير لائقة

فالحرب على غير الامبريالية اليهودية والصليبية غير لائقة. ولا تخلف بطولات وأبطالاً، وأحياناً «آلهة» على تصنيف فيكو الايطالي والثامن عشري (قرناً ميلادياً). وهي غالباً ما ترتكس بأصحابها، وهم من العامة «الاجتماعية» إلى مرتبة البشر والانس، على تصنيف أو ترتيب صاحبنا نفسه. ومقارنة أنباء الحروب السورية منذ 3 أعوام ونصف بأنباء «الحرب» الغزاوية الواحدة في الاسابيع الثلاثة الاخيرة من تموز، قرينة حادة على ما تقدم. وما على المواطن الفضولي، بعض الفضول ومن غير مبالغة، الاستدلال إلى الامر بمعالجة ناجية الحصري النموذجية في تحقيق من جزءين («الحياة» اللندنية، 14 و17 تموز 2014، موسوم بعنوان واحد: «عن مآسي السوريين والاعباء الامنية والاجتماعية والاقتصادية على لبنان»). فنظير شن الهجوم والمباغتة والهجوم الاستباقي والاصطدام والمصادر المقربة وأَسْر مسلحين يحملون 40 الف دولار وأمراء ألوية ومقتل العشرات وسقوط اعداد هائلة من الجرحى والاجتياحات والهزائم والاوهام وقوات النخبة واستشهاد شبان في ارض المعركة والاستفادة الاميركية الكبرى ودرء الاخطار والاستنزاف والفشل والسيطرة على القلاع وفصل الجرود بعضها عن بعض واجتثاث التهديد والحسم السريع، الخ. إن كان ثمة من آخر للمسلسل البطولي والملحمي ولغوه الرتيب، تقتصر ناجية الحصري على الاصغاء إلى «حكايات المرارة»، على ما سمى الصينيون مرويات الفلاحين في عهد أسياد الحرب ويسمون اليوم مرويات المشردين في عهد أسياد «اقتصاد السوق الاجتماعي».

و»أبطال» ناجية الحصري هاربون ومهاجرون من القنص الذي شل يد الابن الولد وهو يحمي الناس، على ما تروي أمه، ويحتاج إلى جراحة أعصاب ممتنعة. وبعضهم هرب من القصف الذي يهدم «ثلاث طبقات (من خمس) من المبنى»، فلا يبقى حياً، ويهرب، إلا من كان في القبو و»نقطته» الطبية، على ما تروي أم عبيدة التي سلكت إلى عرسال «طريق الحية» المتعرجة بجوار طريق أخرى هي «فتحة الموت». وآخرون هربوا من «الطلب». فإذا قُتل أخ شقيق، أي استشهد على قول شقيقته، طلبت الاجهزة الامنية شقيقه. وإذا وقع في أسرها تحسّب أخوته الطلقاء لمطاردتهم الوشيكة. وكثرة هربوا مستبقين قتلهم والتمثيل بهم: ففي أثناء سنتين، على ما يروي طبيب من القصير أو «الهرمل الجديدة» إذا صدقت خطط الجماعة الخمينية المسلحة (- لبنان)، سقط في القصير التي كانت تعد 50 ألفاً 3 آلاف ضحية قبل مهاجتمها واحتلالها. وحين رأى «حزب الله» ان الهجوم خير من الدفاع والتربص والحصار، والصواريخ الفراغية خير من الهواوين البائسة والرثة، حزم أمره. فأجمع من بقي من أهالي البلدة الكبيرة على الهجرة ليلاً تحت جنح الليل. فمنهم من هاجر إلى يبرود والدار الواسعة وغيرهما، ومنهم من قصد عرسال. ويقول الطبيب القصيري:» منعنا حصول مجزرة بخروجنا من القصير»، وكأنه يعتذر من «قوات النخبة والرضوان» الحزب اللهية عن تفويت الهاربين عليها مأثرة جليلة تضاف إلى مآثرها.

وبعضهم خلف وراءه النزوح والهرب. فبعض المخيمين في أحد مخيمات البلدة اللبنانية الحدودية يروي أنه ترك حمص، مدينته الاولى ومقامه الاصلي، إلى القصير. واضطره حصار القصير إلى مغادرتها إلى يبرود. وكان في وسعه النزوح من محطة إلى محطة، شمالاً أو شرقاً أو شمالاً فغرباً، وأن يمضي على سيرته. وقطعت المهاجَرة إلى لبنان القريب السيرة. وتقول إحداهن، وهي حائزة شهادة ماجستير في اللغة العربية، «نقد وبلاغة» على ما لا تنسى التدقيق والتخصيص من غير تنطح :»أعلم علم اليقين أن لا عودة لي إلى سوريا». هنا رودس، هنا الوردة، فارقص هنا، على ما كان يكثر كارل ماركس وصاحبه فريدريش انغيلز من الاستشهاد ويكثر حسن قبيسي من التذكير.

والذين امتحنهم شهود الموت من غير قوة على جبهه أو درئه في صورة أم وابنها أصابت قذيفة بيتهما فبَترت ساقي الابن وجرحت بطنه جرحاً غائراً وجرحت رأس الام وصدرها، فبقيا ينزفان ساعة ونصف الساعة ولا حيلة للجيران إلا الفرجة عليهما ينازعان؛ أو في صورة أطفال تحت الانقاض فقأت شظايا المتفجرات عيونهم، أو قطعت أطرافهم، أو بقرت بطونهم، فتتلو الممرضات آيات من التنزيل عليهم وإذا قدرن على لمسهم حقنهم بالمخدرات تخفيفاً عنهم هؤلاء الممتحنون يحاول بعضهم تعويض عجزهم عن الاسهام في عمل مجز أو نافع. ويحسب أن خيرَ ما يتركه وراءه وَلَد يحمل اسمه. فالولادات في مخيمات عرسال كثيرة، وتبعث الطبيب القيصري على «الحياء» من اللبنانيين. والرائحون إلى الموت لا يشكون في حتمه يورثون «أهاليهم»، من غير تعيين، أولاداً وحيوات جديدة تبتدئ، بدورها، زمناً لا ينهشه الطاغية ولا نظامه ولا عبيده.

تحضر وبداوة

ففي وسط المخيمات بعرسال، شيد معلمون سوريون تركوا يبرود وجوارها، حيث «المتعلمون» كثرة، على قول أهاليها، مدرسة من الحجر بأيديهم. وبأيدهم صنعوا الطاولات والخزائن والابواب. وتوجوا صنيعهم اليدوي والحرفي و»الغرامي» بتسمية المدرسة باسم زميلهم مهدي عباس، صريع القصف على مدرسة القصير، واقفاً واللوح الاسود وراءه، والطبشورة البيضاء بين سبابته وإبهامه. ولم يفترق زملاء مهدي عباس حين هاجروا إلى المهجر اللبناني القريب. وعزموا على استئناف عملهم طوعاً ومعاً. ولم يحوجهم «صديق مغترب» إلى المال. فهم، وآلاف التلامذة الذين يتوافدون صبيحة كل يوم إلى المدرسة والالاف من اهاليهم الرازحين في مهاجر العوز والعراء والمهانة، لم يفارقهم إيمان يعصى الفهم بالتعليم:» لولا التعليم لكنا متنا من القهر»، تقول إحداهن، زوجة ضابط منشق. وتلاحظ على زوجها:» لا يعرف العمل بأي مهنة»، قرينة ربما على منافع العلم «الحقيقي» في الاحوال كلها، وعلى الخصوص في حال الهجرة والتشرد والنزوح.

وإقامة المستشفى وتدبيره وإدارته ليست أقل شأناً من تشييد المدرسة، والتدريس فيها على «المنهاج السوري»، وكأن «المنهاج» يعبق برائحة التفاح. وكانت تهمة مساعدة المصابين المدنيين وغير المدنيين في المدن والبلدات السورية تودي بمن تصيبه إلى الموت. وهذا يعظم مكانة المساعدة الطبية والاغاثة في المهاجر. فهي بيِّنة على رابطة اجتماع لم يتوحش، ولم تحطمه وطأة العنف المحموم. وعلى هذا، يُدل الطبيب «الميداني» بمستشفاه، ويحصي خدماته «الفلكية» مفتخراً: يستقبل المستشفى في اليوم نحو 800 مريض، وينجز في الشهر 200 عملية جراحية، ويتولى 200 عملية ولادة، إلى عمل عيادات طب الاسنان والامراض الجلدية. ويخلع الصوت الخفيض إدلاله حين يعرض لالتهاب الكبد، والوفيات جراءه «بشكل مخيف». فمياه الشرب مصدرها الصهاريج الموبوءة، ولا راد لفعل جراثيمها وبكتيرياتها في المعد والامعاء والدم والغدد. والمدرسة والمستشفى معلمان حضريان وصناعيان بارزان، وهما حجتان قاطعتان على البداوة وخرابها.

ويراجع بعض النازحين فصول حياة سبقت كانوا فيها «أصحاب بيوت»، على قولهم معتزين، ولا «تختصر حياتـ(هم) بخيمة» أو تصبح «الخيمة» فيها «حلماً»، على ما يردد بعضهم. فيبعث معارضةَ الخيمة البدوية والمترحلة والمقصية بالبيت الثابت والحجري والمأهول في وسط بيوت مثله. فصاحب البيت هو صاحب «وطن» أو ابن وطن وسليله. وبعض من بقوا، قتلتهم قذيفة سقطت على منزلهم، مثل أم حيان. فهذه «تشبثت بالوطن»، ولم تترك فيمن تركوا، هي وابنها. وخلاف الوطن والبيت والاقامة الحصينة والمنيعة والتعليم، البداوة، على ما مر، وغزواتها ونهبها وتبديدها: «سرقوا كل شيء، بيوتنا وسياراتنا ومحلاتنا وحرقوها». ويسمي السوريون ترحيلهم عن أراضيهم وأرزاقهم وبلداتهم ومجتمعاتهم سياسة «الارض المحروقة». وفي إجراءات الارض المحروقة، عدا القصف المتقطع أو المتصل أياماً وأسابيع تمهد للهجوم الاخير ورفع الاعلام والرايات والبيارق على المآذن (وهي مآذن «شيعية»، ولم تغصب من «إخواننا السنة»، على تنبيه خطيب مأذون)، حرق السجلات العقارية وأوراق الطابو وحجج المِلك والتوريث. فأراضي الاستيلاء فيء على المجاهدين، وغنيمة يغنمونها على المهزومين والمشردين الذين يُحسبون سواقطَ قبائل أو أقوام «بائدة»، جزاء كفرهم أو «تكفيرهم».

مراجعات

ومن مراجعات المهاجرين المشردين، اليوم، رأيهم في بعض أحوالهم الماضية. فيقول «أحدهم» على ما تكتب ناجية الحصري مغفلة الاسم بعد شواهد منقوله عن أصحاب أو مخبرين تسميهم بأسمائهم، وذلك في معرض عام لا يستجر «جريرة»- يقول أحدهم هذا: «أكثر ما نندم عليه أننا علمنا طلابنا ثقافة النظام، أهلنا صفقوا للنظام فصفقنا له». فيلاحظ القائل الغفل آصرة أو قرابة بين الهجرة وبين الخروج على التقليد، أي بين الهجرة وبين ولادة الوعي الفردي، وأوبة النفس إلى نفسها ومحاورتها نفسها، على قول ابن رشد في الفكر. وسياقة الخروج على التقليد «الاهلي» هي خروج سِفْري، على شاكلة الخروج التوراتي، من «أرض مهانة»، على قول محمد أبي سمرا، وبداوة وسيبة، إلى أرض لجوء وضيافة واحتكام إلى الرأي والاجتهاد، وانقطاع من «التصفيق» والتقليد.

ويلاحظ الرجل نفسه، ولا يبعد أن يكون امرأة، أن «من كان مع النظام وتعرض للعقاب، أسوة بالآخرين (المعارضين)، أصيب بالضياع، ولم يعد له خيارات (أخرى)». والملاحظة نفاذة، ويفوق نفاذها عدداً من ملاحظات فانون على أمراض الرجل المستعمَر. فهي تنبه إلى ان جموح النظام وتماديه يحولان بينه وبين الاضطلاع بدور القطب «الابوي» الذي يزعمه لحربه على المارقين والتكفيريين والغرباء المجلوبين من أصقاع الارض والمختلطي الأنساب والهويات والاعراق، على ما يردد تضليله الأخباري. وإذا كان المستعمِر، أو مثاله، يستهوي بعض من يخضعهم ويسودهم وتدعوهم غوايته إلى انكار من يكونون، على زعم جوهري وماهوي يقبع في قلب الجدل الفانوني المنحول- فالنظام «الوطني»، الجامح والمتمادي، يطيح الغواية، ويترك من أغواهم خالي الوفاض من «سيد» يليق بالسيادة، وتطأطئ له الرعية الرأس طوعاً وامتثالاً أو جبناً. وعلى هذا المثال نسجت «دولة» الخلافة، ومن قبلها جبهة النصرة، والزرقاوي قبلهما.

فالسيد الاسدي والبعثي، والعلوي على الارجح (في سهل حمص وأريافها)، قاصر عن القيام بالوجه المعنوي، غير العسكري والقمعي المباشر، الذي لا تستقيم سيطرة ولو غاشمة إلا به. وعلى خلاف المستعمِر بإزاء المستعمَر، لا يترك الطاغية «الوطني» الجامح للشطر من رعيته الذي يقهره ويقتله على رغم ولائه، إلا الضياع. فالقطب الاهلي والمحلي الذي يسع المقهور في المستعمرات الرجوع إليه إذا اخفق انتحاله سبباً أو نسباً بالقاهر، ممتنع على الاهليين والوطنيين السوريين والمخذولين وتنبه ملاحظة «احدهم» المزدوجة إلى جدة معايير السياسة المولودة من الثورة على المحتل الاجنبي. فإذا كانت وحدة الجماعة الوطنية الناشئة عن الثورة على المحتل ملاذاً ودواء شافياً من أمراض اختلاط الهوية، على ما حسب الطبيب فرانتز فانون واهماً بعض الشيء، فتحطيم الطاغية الجماعة الوطنية أو لحمتها المعنوية والرمزية يسرق من المتحصنين بها «بيتهم» المفترض، ويحملهم على الاستعاضة عنه بالخيمة.

والحق أن تمادي الطاغية الاهلي والوطني في تحطيم الاجتماع السوري قوض بيتاً معنوياً من صنف آخر. وتجمع ناجية الحصري في ملاحظة واحدة ما تقول أنه «شعور واحد» يتملك الاطباء والجراحين والصيادلة والممرضات وأساتذة النقد والادب... ويسودهم، هو أنهم «كانوا على رغم الحرب التي تشن عليهم، بحال أفضل يوم (كانوا) يقاومون الظلم في بلدهم قبل أن تتعرض (ثورة الحرية والكرامة) للتشويه، فتصبح حرباً مذهبية، وحرب مصالح وكراهية، وتصور على انها ارهاب». ولعل أقسى ما يصنعه التهجير المتعمد، على الاراضي السورية الوطنية وخارجها (وهو يصيب نحو 12 مليون سوري)، إلى الاضطراب «البدوي» الذي يرمي بالسكان في خضم حياة متلاطمة من غير مرسى، هو خسارة الاهالي مسرح مقاومتهم الطاغية وعداوته، أو ماء هذه المقاومة، ونهرها وبحرها. وهو ما يسميه المهاجرون قسراً «الثورة».

تقول أم عبيدة:» في يبرود (محطة الهجرة الثالثة) عشنا أجمل أيامنا، كانت همة الشباب تزيدنا قوة واندفاعاً وإحساساً بأهمية الحياة». ويردد خالد رعد وزياد الواو أصداء مقالة المرأة: على رغم القتل والبراميل المتفجرة وطمر الردم الاحياء والجرحى والموتى، «كنا مبسوطين». وعدد القتلى الذي قد يبلغ في اليوم الواحد 30 «نصفهم استشهد فيما كان يشيع القسم الاول» لا يلغي «الانبساط». فالعودة من التشييع إلى «المخابئ»، وطعام العشاء المشترك، والاعداد لليوم التالي معاً، واستراق ضحكة لعلة تافهة قبل النوم، كلها تُشعر أصحابها بمشاركتهم الإرادية في أمر يتقاسمونه، سموه «الحرية والكرامة». وآنسوا في أنفسهم قوة كانت معطلة: «ولادة تحت القصف في القصير، وعبور فتحة الموت مع طفلين من دون الزوج تحت وابل من القصف والقنص، واختباء من الشبيحة في مزارع السياد... ومغادرتها فجراً بعد اقتحام الجيش النظامي (المزارع) وذبح من بقي من نساء وأطفال» هذا سجل حياة «فيتنامي»، تحل فيه البراميل الوطنية محل النابالم الاميركي، ومخيمات النزوح محل القرى الاستراتيجية، وسيادة رئيس مثلوم محل هوشي منه وروبرت ماكنمارا معاً، وروبرت فيسك محل ويليام بورشيت، والقصير محل مان لي وعشرات القرى المستأصلة، و»حزب الله» محل القوات الخاصة في مشاة البحرية، وبيارق أسماء الائمة المعصومين محل العلم المرصع بالنجوم...