السبت، 16 نوفمبر 2013

الحرب هوى الدولة... الخمينية والاسدية والبوتينية: "التاريخ العظيم" والحياة الضئيلة

 المستقبل11 تشرين الثاني 2013

 لم يطق، إذن، الوزير الخطير، والمفاوض المبارز والمناضل، والديبلوماسي "البطل"، محمد جواد ظريف، وهو جمع أمانة مجلس الامن القومي العامة التي يتولى المرشد الامام الوصاية عليها الى تفويض وزارة الخارجية، وهي من قطائع رئيس الجمهورية الاسلامية المنتخب، لم يطق الرجل الشك في حسن تعهده الامانة التي أوكله بها المرشد والرئيس معاً (عطفاً على مقالة "نوافذ" – المستقبل، في 20/10/2013). فخارت قواه، ودب الوهن في أوصاله، واضطر الى مزاولة الرياضة، البدنية والروحية على الارجح، والى التنبه اليقظ الى ما يوحي به مرشد "الثورة" الى حجابه الكثر، قادة الحرس الثوري وأسلحته ومفوضيه وقادة شرطة الباسيج الشعبيين وأعضاء المجالس (حراس الدستور وصيانته وتشخيص مصلحة الثورة والشورى والامن القومي...)، والمستشارين على مراتبهم، وآيات الله على درجاتهم، ووكلاء الاوقاف والأضرحة على عتباتهم ودويلاتهم وعوائدهم. والولي، وولايته تتطاول الى أحكام العبادة وأحكام المعاملات ويلي من الناس الوساوس والهواجس، يلهم حجابه ووسائطه وسفراءه آراء أو مقالات لا تحصى أوجهها ولا معانيها.
 القول في الرأيين
 فمن قائل أن المفاوضة على تخصيب اليورانيوم في نسبة 20 في المئة، وهي مدخل الى الـ90 في المئة العتيدة والموصلة الى السلاح "الاعظم" (بعد الايمان والتصديق والطاعة)، جائزة. وربما جائزة المفاوضة على موقع فوردو الحصين، وعلى موقع بارشين ومياهه الثقيلة، وعلى البروتوكول الاضافي وإقراره بحق الوكالة الدولية في زيارة المواقع بغتة ومن غير سابق إخبار. ومن قائل أن هذه كلها "خطوط حمر". ومن قائل مرة أن المفاوضة جائزة، ثم عائد في قوله الاول الى قول آخر ينفي ما "نقل" عنه. والمرشد ينفخ في القولين والرأيين، ولا يجزم في تفضيل أحدهما أو ترجيحه. وفي الاثناء، تستفيق بلدية طهران، الممتازة، على انتهاك شعارات "الموت لأمريكا" شارات ولافتات رسمية فتنزعها من غير رحمة، بعد أن ندد بها مندوب المرشد الاول الى قيادة القوات المسلحة في أثناء حرب العراق وإيران، الشيخ رفسنجاني، وأسند رأيه الى أثر نقله عن شيخه وإمامه، وندد بالمندد أحد قادة "الباسدران" السابقين وكذَّب الرواية عن خميني.
 وتدور حرب الروايات والاسانيد على "البطولة" الايرانية، أولاً وآخراً. فالسلاح الذري، أو الصناعة الذرية ومفاعلاتها الحلال والمفضية الى سلاح أعظم حرام، هو مناط "عظمة" إيران وعلامة استوائها "قوة نووية" وعالمية "مركزية" على ما لا ينفك ضابط الاستخبارات السابق في "الباسدران" ورئيس مجلس بلدية طهران من بعد ومحظي علي خامنئي في دورة الانتخابات الرئاسية الثانية (في 2005) وفي الدورة الاولى في 2009، والشاهد على نور المهدي، محمود أحمدي نجاد، يردد ويعيد. ويترجم رأي "الخامنئي" أو قضاؤه عن عقيدة "الامة" الايرانية العظيمة، وهوى شعب (أو شعوب) إيران، وإجماعه. وذلك على قول لا يشكك فيه معظم الصحافيين الغربيين. وإذا جهر 80 الى 90 في المئة من الايرانيين، في الاسبوع الثالث من تشرين الاول 2013، على زعم استفتاء رأي تولته هيئة محلية عن تكليف الشيخ حسن روحاني، تأييدهم نهجه هذا، ونشدانه "التفاهم" والولايات المتحدة على فك الحصار النفطي والمصرفي المالي عن النظام الباسدراني الساعي في صناعة نووية وصاروخية عسكرية، طعن المرشد في الاستفتاء وجوازه، أصلاً وفروعاً، حين متعلق الامر هو فتاوى الفقيه غير المعصوم وإيحاءاته الكثيرة.
 ولعل هذا ما رمى الوهن والضعف في ظهر الوزير وركبتيه. و"هذا" هو احتمال الغلط في تأويل مقاصد المرشد، وتالياً جواز الحياد عن صراط هذه المقاصد، وخيانة عظمة ايران الخمينية – الخامنئية، ومكانتها الاقليمية – الدولية التي تبوأتها منذ شرعت في رفع مداميك الصناعة المباركة (بيد الشعوب المظلومة والمستضعفة) واللعينة (بيد قوى الاستكبار وسلاطين الكفر والظلم). ويصدر جواز الخطأ عن أمرين كلاهما مؤتلف من أضداد يعصى فهمها سواد الناس والرعية: احتجاب مقاصد أو غايات المرشد (و"فريقه") وراء غياهب المعاني "الالهية"، وسُدُفها الخفية، وسمو المرشد ولغته على لغات العامة واستبطانه ما لا تدركه العامة،  ويستغلق على الجمهور (وحَمَل هذا أبا حامد الغزالي، في "فضائح الباطنية"، على التنبيه الى استحالة "الترجمة" عن لغة الباطن المكنون والخفي الى لغة الظاهر المشترك والمتداول إلا بواسطة لغة ثالثة، متداولة ومفهومة في اللغة العمومية من غير زيادة ولا نقصان ولا مرتبة خصوصية في الفهم أو العبارة...).
 وزعم خصوصية لغة الباطن لا يستقيم إلا بزعم الصدور عن الغيب ومرتبته المفارقة صدوراً لا توسط فيه. وآية الصدور المباشر هي الاعجاز: إعجاز الكون والحدوث، وإعجاز البقاء (في السلطة)، وإعجاز الانتصار (الحرسي على الخصوص)، وإعجاز المكانة "المحورية" والدور والنفوذ، وإعجاز اجتراح الآلات والتقنيات و"العلوم" بقوة وسليقة "ذاتيتين" وأصيلتين مستغنيتين غنى ناجزاً عن علوم الغرب وآلاته وتقنياته. ولا يقدح في الزعم لا تجارة عبد القدير خان ولا سرقات بيونغ يانغ. والحصار الخانق والشديد، وعمره الفعلي لا يتعدى السنتين الاخيرتين، و"العدوان" المزمن والرمزي والظالم على نحو "مذهل"، هما القرينة القاطعة على "استقلال" إيران الخمينية، وقيامها بنفسها ورأسها، أي بأود حربها الماحقة على أمريكا وقواتها وعلى مواليها من دول ومجتمعات متواطئة ومنقادة وأراضٍ حاضنة وخانعة. وقبل أن يقر وزير الخزانة "الروحاني" الجديد بأن الاقتصاد الايراني لم يحدث إلا زهاء 127 الف فرصة عمل أو وظيفة طيلة 8 أعوام ميمونة، وليس 7 ملايين على زعم جوق الترويج والدعاوة المتحلق حول ضابط "الحرس الثوري" السابق، وبأن احتياط الحزينة قريب من الصفر ولم يبصر السبعين ملياراً من الدولارات ولا في المنام- كان المذهب الرسمي، وهو لا يزال سارياً في ولايات الاطراف وقطائعها العراقية والسورية واللبنانية، أن الحصار والمقاطعة الغربيين واللئيمين هما فرصة إيران المبارزة وذريعتها الى الاكتفاء الذاتي، وانتاج ما يحرمها منه الغرب الآفل والمأزوم حتى الزوال والانهيار.
الحرب الكونية
 فلا تنتاب الحيرة الايرانيين الذين يوالون القيادة الحوزية – الحرسية إذا هم سألوا السؤال الاميركي الممض بين يدي الارهاب القاعدي والجهادي: لماذا يكرهوننا؟ فالجواب الواثق سبق السؤال الذي لا يطرح، أصلاً، في هذه الصيغة. وهو (أي الجواب): هم يستميتون في حربهم "الكونية" (بشار الاسد وجوقه) علينا لأننا أقوياء ومحوريون و"مفتاحيون" (فاروق الشرع سابقاً) ومنتصرون على الدوام، ومسلمون أولاً وآخراً. ويفترض الجواب العتيد، والثابت على مر الرئاسات وأطوار الايرانيين، في مرآة اقتراعهم المتقلب وظروفهم المضطربة، أن مصدر القوة هو "النظام" الخميني، وعسكرته الدولة والمجتمع، وتعبئته الايرانيين والاشياع المذهبيين في "مقاومة" عالمية حاسمة تدك حصون الهيمنة حصناً بعد حصن، وموقعاً بعد موقع. وتقتضي "المقاومة" – على معنى الحرب الكونية المنتصرة والمفروضة وعلى رغم هذا المزمنة الى قيام الساعة والفَرَج القريب والمنظور (ولا تخلو خطبة من خطب حجة الاسلام حسن نصرالله نصف الشهرية من ضرب موعد تقريبي لها) – دمج الامة والشعب في الامة والشعب، ودمجهما في المرشد وقيادته، واستواء المرشد "جنرالاً" عاماً على أمة مقاتلين، قتالها فرض عين على آحادها واحداً واحداً، وليس فرض كفاية على من يفون بالغرض ويكفون غيرهم بهاء القتال وجماله وروعته.
 ويشتري النظام الخميني – الخامنئي والحرسي ولاء مواليه الايرانيين و"العرب" والباكستانيين والافغان بأنهم "قوة"، على قولهم في احد اعلامهم العراقيين، أو بأنهم "الاقوى"، على قول أحد نوابهم اللبنانيين متواضعاً، والمنتصرون على "أعظم قوة عسكرية في المنطقة" وكاسرو "آحادية أميركا"...، وهم يجددون قيامهم على حالهم هذه، وبقاءهم عليها، من طريق مناورات تتسلسل لا إلى نهاية، وتُعمل أسلحة فتاكة وسرية تخفى أسرارها الدقيقة على العدو اللدود ولا تهدد مسالماً ساكناً ومحايداً، بالغا ًما بلغ حقده الدفين والاكيد على عظمة ايران و"مقاومتها". ولقاء هذا الثمن، أي التربع في سدة القوة المخيفة التي يحفها العوز والفقر والبطالة والاعتيال على مورد واحد وتحفها العزلة والشكوك وتضطر الى الكذب والايهام المقيمين لقاء القوة على الايرانيين ورعية "الولايات" و"الاقاليم" النزول عن أي رغبة أو شهوة غير شهوة السلاح المدمر وانتصاراته الموعودة، الماضية والناجزة والآتية لا ريب فيها، ونظام السلاح الحاكم. ومرض الوزير ظريف هو من ثمار تربية نظام السلاح، وآثاره في اجساد رعيته، خاصتها أو نخبها وعامتها أو محكوميها.
 وما قد يبدو تكهناً وتخميناً في سرائر وطوايا الشطر الموالي من الايرانيين والرعية الآخرين، الواسطة اليه هي مقالات المتسلطين عليهم وأعرافهم وأحكامهم وسياساتهم "السلطانية" أو الامبراطورية، يفشي نظيرَه وشبَهَه، أو نظائره وأشباهه، ما يقوله جهراً سوفياتيون سابقون، من قبل ومن بعد، في دولتهم ومجتمعهم، وفي أنفسهم، اليوم وفي أمس قريب. وجمعت سفيلتانا الكسْييفيتش، في نهاية الانسان الاحمر أو زمن الخيبة (على ما مر في العجالة السابقة) اعترافات ناسٍ عاديين، من أعمار وأحوال وبلدان وأهواء متفرقة. وبعضهم اختارته، وضربت له موعداً، وحادثته وحاورته، وسجلت أقواله أو دونتها كتابة على مرأى منه. وبعضهم التقتهم صدفة واتفاقاً في ساحة عامة، ومناسبة أو غير مناسبة، وطرحت عليهم اسئلتها. وهي تعرِّف أسئلتها سلباً: "هي ليست أسئلة عن الاشتراكية"، ثم إيجاباً "... بل (أسئلة) عن الحب والغيرة والطفولة والشيخوخة، وعن الموسيقى والرقص وحلاقة الشعر وآلاف جزئيات حياة مضت". وهي ترى أن هذه الاسئلة "تدرج الكارثة في اطار أليف، وتحمل على رواية شيء ما" (من المقدمة).
 ويسوغ هذا الضرب من الاسئلة اعتناق بعض السوفياتيين المثال السوفياتي في أطواره الاربعة (طور أو جيل ستالين، ثم خروتشيف، ثم بريجنيف، فطور غورباتشيف، على ترتيبها) اعتناقاً يستحيل معه سلخهم عنه أو انتزاعه منهم. فالدولة السوفياتية، شأن شبهها أو نظيرها الخميني الحرسي والاسدي "السوري"، "ًصارت عالمهم، وقامت مقام كل ما عداها، وحلت محل حياتهم نفسها. فلم يقدروا على مغادرة التاريخ العظيم، ولا وسعهم وداعَه، والخلودَ الى الهناء والرضا على نحو آخر، والمغامرة بالارتماء في أحضان حياة خاصة وشخصية...". وتخلص سفيلتانا ألكسْييفيتش الى قول مجمَل لا تستثني منه نفسها ولا من هم مثلها:" الحق أننا في قراراتنا أهل حرب وقتال".  
الحياة الخاصة والشخصية
 وتخالف الحال الروسية الاحوال الاسلامية والعربية في مسألة بازة ومتصدرة هي مكانة الحياة الخاصة والشخصية، ودورها في التصدي لهيمنة "الدولة"، أو الجماعة القومية والدينية الغالبة على "الامر" (أحكام السلطة الدقيقة والوريدية) كله وعلى وجوهه المتداخلة والمتشابكة. والحياة الخاصة والشخصية، في مرآة أقوال الروس في أحوالهم وحوادث تاريخهم ومنعطفاتهم- من الحرب الاهلية الى العهد الستاليني وتصنيعه وسحقه الارياف والقوميات وتصفياته ومعسكرات اعتقاله والحرب الثانية التي اهمل الاعداد لها وأرجأه-، تتخطى الصورة الغائمة والذاتية النفسية "فالعاطفية" المفترضة، وهذه ننسبها نحن أهل العربية الى مصطفى لطفي المنفلوطي المصري "وعبراته" أو الى جبران خليل جبران اللبناني المهجري و"أجنحته المتكسرة" و"عواصفه" و"دمعة وابتسامة"، الى أنماط علاقات وانتاج وتوزيع واستهلاك الرأسمالية ومنازعها المتفرقة والمختلفة. فإذا كان ترتب على اشتراكية "ديكتاتورية البروليتاريا" وبيروقراطيتها اللينينية والستالينية هوى جارف بـ"التاريخ العظيم"، وهو لا محالة تاريخ حروب حديثة وعلى شفير الابادة المتبادلة وهاويتها الرادعة (على قول استراتيجي متفائل وعقلاني)، صرف العزوفُ عن العظمة النووية، وسدتها الالهية على ما لا يشك أئمة الصلاة السابقون في قرى "أرياف" تبريز وأصفهان ومشهد وعبادان وغيرها، عامةَ الناس والرعايا الى التشاغل بـ"توافه" الامور.
 ولا يفتأ محاورو الكاتبة المدونة، ناقلة الحديث العامي وغير النبوي ولا الإمامي، من السوفيات أو الذين ينسبون أنفسهم طوعاً الى "الامبراطورية" البائدة، (لا يفتأون) يحصون علامات الانحطاط والأمارات الدامغة عليه في السلع الجديدة التي تدفقت على السوق الروسية حال فتح منافذ في جدران الحزام الامني والعسكري والاقتصادي والذهني السوفياتي. فالمقانق، الى الجينز بديهة، وماركات السجائر الغربية والملابس المُعْلَمة الداخلية و"الخارجية"، والبرادات وأجهزة التلفزيون والمسجلات (قبل الهواتف الخليوية وفروعها الكثيرة والمتجددة) والسيارات وشقق السكن، والطائرات الخاصة للقلة المتربعة في الذروة الضيقة، هذه السلع، أو الكماليات أو المعمرة على ما سميت في خمسينات القرن الماضي، يرميها القوم السوفياتي، والمقيم على قوميته أو عصبيته، على نحو ما يرمي الشاتم الشتيمة أو البصقة في وجه مشتومه.
 ويعوِّل الناقم، أو الناقمة، على تصاغر السلع الضئيلة والتافهة وتلك التي يحسبها ضئيلة "بذيئة" (مثل "كيلوت" النساء وصداريتهن) بإزاء الانتصار على "النازية" وعدد قتلاه والصناعة العسكرية التي صنعت دبابات ت-55 وت- 62 وت -72 (التي تصب حممها المدمرة منذ نحو 30 شهراً على السوريين وقراهم وبلداتهم وأحياء مدنهم)، ثم حاكت القنبلة الذرية فالهيدروجينية والنيوترونية والقاذفات الاسراتيجية وحاملات الطائرات والغواصات. فـ"المواطن السوفياتي"، والعبارة خُلفٌ أو تناقض يسعى في القول، يرى سند العظمة في حصاد الحروب، الداخلية والخارجية "الوطنية"، من القتلى، وفي المهابة والاحترام اللذين يشعان من بلد نهض بهذا الحصاد المروع، واستأنف سيرته في قوات مسلحة تسليحاً ثقيلاً ويفترض ساحقاً (ولم يربح المتسلحون به حرباً كبيرة واحدة منذ الحرب الثانية).
 ويساوي الناقمون "السوفياتيون" الحريةَ – أو الحريات المدنية والشخصية والسياسية التي جبه بها بعض انصار غورباتشيف ثم يلتسن النظام الحزبي والعسكري (الستراتوقراطي، على قول كاستورياديس في ثمانينات القرن الماضي) السوفياتي – بهذه السلع "الوضيعة". فتتردد على ألسنتهم المعارضة القديمة، الغربية ثم السوفياتية، بين "المدافع وبين الزبدة"، كناية عن صرف الاستثمارات والموارد المالية والانتاجية والبشرية إما الى الصناعة الحربية وإما الى الصناعات الاستهلاكية والمعيشية. وكنى منكرو سياسة خروتشيف، في خمسينات القرن الماضي وأوائل العقد اللاحق، عن ازدرائهم سعي خالف ستالين في تقييد الفريق العسكري والصناعي الراجح والمهيمن وفي إيلاء انتاج السلع الاستهلاكية "الغولاش"، باسم النبات الغذائي الذي حض أمين اللجنة المركزية يومها على زراعته والعناية به. وإذا اثمرت "الحرية" التي دعا غورباتشيف الى تحكيم بعض معاييرها في سياسة الدولة السوفياتية ونظمها "المنزلية" والخارجية، وأعمل بعض أحكامها في تناول التاريخ السوفياتي وأبنيته الامنية والسياسية والثقافية، انحلالَ النظم هذه، حمل الناقمون الانحلال، والفوضى المروعة التي تفتق عنها، على "حرية" غايدير وتشوبايس السوقية الرأسمالية، وعلى زيف نشدان الرفاه و"تدبير الملذات" و"هَمْ ذاتِ النفس"، على ما وسم ميشيل فوكو بعض اعماله الاخيرة والمنشورة بعنايته. ومال هؤلاء الناقمون والمقيمون على "الحياة السوفياتية" والحنين اليها، الى وصم ما يحيد عن "المدافع" الى "الزبدة" بالخيانة والوضاعة.
 وتقوم معارضة "ضعف" الانسان، على وصف قرآني، وميوله الانانية والدنيوية السلعية والسوقية المستوردة في لغة العصر التي يتوسل بها الشيخ حسن روحاني وأنصاره الى انتقاد سلفه وتبديده 750 مليار دولار- تقوم من عظمة السياسة والولاية "العادلة" والعالمة الخمينية والامامية مقام الركن. وأنكر آية الله المنفي الى النجف بالعراق، في محاضراته في الحكومة الاسلامية أو ولاية الفقيه (1969)، على علماء الدين التلهي بأحكام "الحيض والنفاس" عن أحكام الولاية والسياسة والسلطان، وتركها الى الحاكم المدني الكافر والفاسد حكماً وطبعاً. وتابعه محمد حسين فضل الله وغيره على ركنية معارضته، وعلى انكاره وطعنه على العلماء القاعدين (عن الجهاد) والساكتين (عن الظلم). فعدوا الضعف كفراً أو بمنزلته. وحملوا طلب "الحاكمية"، ووضعها موضعها الالهي الاصيل، والصدور عن هذا الموضع و"تحريك المواضع والبؤر المعادية للاستكبار" والجهاد في هذا السبيل، (حملوا هذه) على انتهاج "منطق القوة" في القرآن والاسلام الصحيح. وتمجيد "الشهادة" و"الجهاد" و"خط الرسالة" و"سادة قافلة الوجود" (على قول الجماعة الخمينية المسلحة بلبنان في بعض قتلاها المعممين الاوائل) إنما هو الوجه الظاهر والسائر من العقيدة الحربية والعسكرية التي تختصر الاجتماع السياسي، او الاجتماع كله، في "المدافع" أو القوة النووية والرعب الذي يلقيه "الحرس الثوري" في قلوب الاعداء ("والاصدقاء"؟).
 النساء
 فليست "الحياة الخاصة والشخصية"، وهي في مناقشات واعترافات محادثي ألكسْييفيتش تشمل اختبار الصداقة والحب والدراسة والمهنة والموسيقى والقراءة ومحل الاقامة والسكن وروابط الاسرة والسفر وغيرها مثلها وائتلافها في سيرة مختارة على مقادير متفاوتة، هي قطب الاختيار الثاني في الحسبان الايراني أو الخميني الرسمي. ففي مقابلة الحكومة أو الولاية، أو سياسة الحرب، وعلى خلافها و"نقيضها"، ليس ثمة إلا ضعف الحياة الحيوانية التي تمثل عليها النساء وأحوالهن أي أحوال أجسادهن الوظيفية والطبيعية. وحين أراد خطيب الجماعة الخمينية (اللبنانية) المسلحة التنديد بسياسة رفيق الحريري الاقتصادية، في 2002 – 2003، خاطب الحكومة بالقول: تخلينا لكم عن شؤون الطحين والمازوت وقبلنا تحمّل أعباء المقاومة فأسأتم التدبير (على خلافنا، ضمناً). وعلى هذا، عاد الخطيب نفسه، غداة 2008 وأيامها المجيدة، الى القول أن في مستطاع حزبه المسلح، و"يحهم"، حكم بلد "مئة مرة أكبر من لبنان"، وهو يفهم الحكم شأن مرشده ولاية أمنية وعسكرية واعتقادية على رعية تفترض سادرة في ضعفها وملذاتها ولهوها، وشأن حليفه وصديقه السوري المتربع على القلوب المحبة والنابضة على إيقاع "السياسة الخارجية" التي ينتهجها على خطو والده المظفر (في لبنان وعليه وفي حلب وحماة في وقت قريب).

 والروس الذين توجهت عليهم الكاتبة بأسئلتها، وتمضِّهم خسارة القوة السوفياتية المهابة والقاتلة في الداخل والخارج، لا يجهلون ما لحقهم وحل بهم وبأصدقائهم وأصحابهم وأقاربهم بذريعة سياسة القوة هذه، وعماها وتهورها في احيان كثيرة، وازدرائها حياة البشر وحقوقهم وكرامتهم. ولكن "التاريخ العظيم" وتصديق المشاركة فيه من طريق الاقبال على الموت، والانقياد للحض عليه، وتمجيد المشيرين به و"جنرالاته" وسدنته، يرمي ستارة سوداء على دلالة الوقائع. فيحشرها في باب "الثورة المضادة" أو باب "الفتنة". وفي الاحوال كلها يخرجها من إطار الحياة السوية والكريمة. وإذا برز عدو لا يقل استماتة وشهوة سلطة، و"عظمة" مطلب ومعتقد، شأن مقاتلي "القاعدة" وأشباههم الاسلاميين، تعرف الحرسيون، ومعهم "قوات الدفاع الوطني" و"المقاومة الاسلامية" (الخمينية – الخامنئية) والخبراء الروس، على عدوهم الذي يليق بهم ويليقون به. فساحات حروب هؤلاء وأولئك ومسارحها تدعو الى الابادة والقتل الذريع. ومرض الاجساد والنفوس أضعف الايمان.