الأحد، 27 مايو 2012

رانيا اسطفان تسألها وتحاورها وتوقظ ذاكرتها وذاكرتنا في "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة"

حوار أجزاء سعاد حسني وصورها في خضم مرايا متقابلة ومتلاطمة


حاورها وضاح شرارة

  "ما أنشده واتخذه ميزاناً لعملي هو أن أكون والكاميرا شيئاً واحداً، وان استخلص من الواقع ومشاهده بنية متماسكة ولكن من طريق الصدفة، فأحصل على فيلم قائم بنفسه ومن تلقاء نفسه، من غير تدخلي، (...) وينتظم الشريط وحده. أطرح سؤالاً ويجيب الناس، ثم ينصرفون الى المناقشة بعضهم مع بعض، وانا أسمع وأدون، الموقف من العنف وكيف يتدبرون أمرهم..."، تقول رانيا اسطفان، وهي تقصد شريطين سبقا "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة" (2011). الاول صنعته في 2005، عام اغتيال رفيق الحريري، والثاني في 2006، عام الحرب. ويعرض "اختفاءات..." في برنامج دفاتر يومية، شهر السينما اللبنانية، بميتروبوليس أمبير. وما تقوله المخرجة اللبنانية في أشرطتها الوثائقية يصدق في شريطها "الروائي" الطويل والغريب: فمادة روايتها هي روايات الآخرين في سعاد حسني، وروايات سعاد حسني في نفسها، وفينا نحن، مشاهديها منذ ابتدائها التمثيل، وطوال نحو 30 سنة، وبعد تركها التمثيل قبل 10 سنين من موتها الاليم، وبعد موتها بعقد كامل ومتجدد. وقد تكون رانيااسطفان جزءاً أو وجهاً من وجوه ولادة سينمائية لبنانية خصبة.
و.ش.

  يتوقع المشاهد، وهو ينوي مشاهدة فيلم يتناول سينما سعاد حسني، الممثلة السينمائية المشهورة، أن يقع على "صور" أو "وجوه" أو "مشاهد"، وكلها تدور على الحضور والظهور، فيقع على "اختفاءات" لا تقل عن ثلاثة، وأوكل اليها الاعراب عن الحضور...
 *أحدهم قال لي أن الاختفاءات هي 300 صورة أو 300 حضور. المسألة ميتافيزيقية: كيف بعثُ أو تذكر انسان رحل ومات. والشريط ولد من موت سعاد حسني العنيف، ومن الانفعال الحاد الذي خلفه موتها في مشاعري. فرأيت أن المادة الأقرب اليها، والوثيقة الاقرب، هي عملها، والعودة الى أعمالها. وهي مثلت في 82 شريطاً سينمائياً شاهدت منها 76. ومع سعاد حسني طوي نوع من السينما المصرية. وهي أقلعت عن التمثيل في نهاية الثمانينات. والسبب في إقلاعها، في هذا الوقت، هو وقوع السينما في ازمة معنوية أدبية ومادية أدت الى استحالة الاستمرار على الحال السابقة: فالانتاج تغيرت متطلباته ومعاملته الممثلين والممثلات والمخرجين، ولم تبق مصر مصدر الروايات السينمائية التي تعم العالم العربي وينتظرها الجمهور العربي. ولعل سعاد حسني شعرت في ذلك الوقت انها هي كذلك تحطمت، وتحطم جسدها، ونضب ما انتجته الثورة الناصرية في السينما وانتهى. فاجتمعت أزمة السينما وأزمة حسني وأزمة مصر معاً.
 وكان هذا الاختفاء الاول: تواري سعاد حسني عن السينما معنوياً وتمثيلاً قبل تواريها الثاني، المادي، وموتها بعد عشر سنوات. أما الاختفاء الثالث فهو طي السند المادي الذي كانت اعمال سعاد حسني تُتداول بواسطته وهو الفي إتش إس (VHS)، وهذا حادثة ثانوية ربما. وعندما بدأت أجمع نسخاً عن أعمالها، في 2001، جمعتها في هذه الصيغة، وعلى هذه الشاكلة، أي الفي إتش إس. وصادف أن هذا الوقت شهد نهاية مرحلة الفي إتش إس والانعطاف الى مرحلة الدي في دي (DVD). وكنت أحسب أنني قد أرجع الى الافلام في نسخ 35 ملم قبل أن استقر على السند الثاني...
 ... على رغم رداءة بعض الفقرات والصور...
*هذه الصور، على حالها المتعثرة والمتلعثمة في بعض الاحيان، هي مرتكز العمل، وهي مصدر الذاكرة ومرجعها. فأردت إعادتها وإحياءها في الذاكرة مع أمراضها واضطرابها وتفتتها. وكنت أحسب أنني قد استعمل النسخ الرديئة والثانوية مجرد وسيلة قبل العودة الى النسخ الاصلية. وأدركت شيئاً فشيئاً أن النسخ الثانوية هي مادتي الاولى، وأنها هي من صنع الذاكرة والزمن. ومنها نشأت الفكرة. الممثلة الميتة تتذكر حياتها الماضية، أي اعمالها، وهي "ذكريات" تعتريها فجوات وغبش وانقطاعات وخواتم غير واضحة ودخول صوت وأصوات في صور وأصوات اخرى.
  الفيلم من ثلاثة أقسام، ويسبق القسم الواحد ترتيبه ورقمه...
*خط بناء الفيلم العام رُسم على مثال مأساة من 3 فصول. والثلاثة رقم سحري. أردت أن استرجع ما  صنعته الممثلة طوال 30 عاماً كما قد تسترجعه هي بعد الموت! وما صنعته يلابس تاريخ مجتمعها ومجتمعاتنا، ويتناول موضوعاته ومشكلاته، مثل الاختلاط أو العمل أو التردد الى الاماكن العامة والظهور فيها... وتقود الاستعادة الى مأساة. وسعاد حسني ماتت ميتة مأساوية. وثلاثة هو عدد فصول المأساة ورقمي الشخصي والسري أو الحميم.
 والفصل الاول مادته من أفلام المرحلة الاولى، تلك التي تقع بين 1959 و1967، وفي أثنائها كانت سعاد حسني تعمل بنشاط وهمة، فتمثل في 4 أو 5 أفلام في السنة. وبلغ عدد أفلامها 34 فيلماً هي تقريباً نصف سيرتها المهنية. وهي افلام حقيقية، دراما اجتماعية تؤدي فيها دور الصبية المشاكسة واللعوب، وتروي قصص غزل واختلاط. وبعد الهزيمة، برزت أسئلة اجتماعية مختلفة، حادة وجدية. وتوجهت حسني الى مخرجين أقوى شخصية، واهتماماتهم أعمق من مشاغل الفتيان المراهقين والفتيات المراهقات المباشرة. فعملت في اشراف صلاح أبو سيف وهنري بركات وكمال الشيخ ونيازي مصطفى. والى 1973، وهو منعطف تاريخي آخر أصبحت عشيته، في 1972، نجمة، بلغت ذروة نضوجها التمثيلي وأدائها. أي ان الفصل الثاني هو أعوام 1967 – 1973. وفي 1972، تزوجت بعلي بدرخان، ومثلت 6 الى 7 أفلام تميزت بنظرة اجتماعية حادة. وفي 1973 – 1991، مثلت نحو 20 فيلماً.
 والفصل الواحد من الفصول الثلاثة ينقسم، بدوره، الى مشاهد. ويجوز القول عموماً، أن الفصل الاول هو فصل الطفولة والنشأة، والفصل الثاني هو فصل النضوج، والثالث هو الخاتمة. وأردت أن أقول رأياً في الفي إتش إس والتلفزيون، في الصورة الاخيرة.
 تتناول المختارات من الافلام المختلفة موضوعات تدور عليها، وهذه المختارات حظيت بحصص وشطور، قليلة أو كثيرة، وحظي المخرجون بحصص متفاوتة كذلك. والحصص هذه، من الافلام والموضوعات والمخرجين والمراحل، جزء من "صوغ" سعاد حسني ومن بلورتها في المراحل المختلفة. فما هي عوامل صوغها أو بلورتها؟
 *أعود الى المربع الاول أو الفكرة الاولى: ولد الفيلم من صدمة انتحار سعاد حسني. وعندما بدأت أعمل على الاشرطة وأشاهدها مرة ثانية وثالثة ورابعة، امتلكني حدس قوي أدركت معه أن في وسعنا، في وسعي، انشاء أو صنع عمل متخيل ومتماسك البناء والمعنى من مادة هي أعمال روائية وسينمائية متخيلة سابقة. وأنا لم أشاهد الاشرطة الشريط تلو الآخر بحسب سنوات صنعها وعرضها، بل شاهدتها من غير تدرج ولا نظام، على نحو مصادفات ورودها من مصر. وحدسي الاول بقي من غير قوام أو شاهد يصدقه. فكان عليَّ انجازه والبرهان عليه وعلى حقيقته اثناء العمل، أي التوليف، ومن طريق التوليف نفسه.
 فالعمل الروائي المتخيل والمتماسك لم يسبقه مثال قائم في نفسه، وما كان علي إلا أن أحتذي عليه، الرواية المتخيلة والمتماسكة كان عليَّ  صنعها من فتات الصور والفقرات والسعي في تماسكها من داخل ومن تلقاء نفسها. وأردت منذ ابتداء العمل، اطراح أي عنصر من خارج أعمال سعاد حسني، ويتولى الربط بينها أو الايحاء، من خارج، بمعنى يُقحم على المتفرج المشاهد وفهمه، ويعترض رحلته في ثنايا المادة السينمائية.
 وانضبط العمل على الاصلين هذين: البناء على رسم مأساة والاقتصار على المختارات. وفي ضوئهما اخترت الصور أو المقتطفات من الافلام. وانتقيت او اقتطفت ما يجاري بناء الرواية المتخيلة والمتماسكة، وليس ما استهواني أو يستهويني من أعمال سعاد حسني، وما أحبه منها. ففي "المتوحشة" (1978)، على سبيل المثل، مشهد مشادة مع محمود عبد العزيز، وتحاول هي القول أنها ترغب في رعايته واهتمامه، وأن الناس يحملونها على خليلة أو "مومسة". وهي لا تبكي في الاثناء، ولكن الدموع هنا، ويلمس المشاهد توترها أو كمونها. وهي حال مترجحة وعسيرة على الممثلة. ولم أدخل المشهد في توليفي لأنه يتصل بسياق قوي ومتماسك طويل، ولا يُختصر. فشرطا الانتخاب هما القابلية للانخراط والاندراج في روايتي، من جهة، وقوة التعبير عن أداء حسني وموضوعاتها، من جهة أخرى. وغلبت الشرط الاول على الثاني، أي تماسك الرواية على الانفعال.
 وما كانت النتيجة في ميزان الحصص والشطور؟
 *القسم الاول معظم مختاراته من الافلام بالابيض والاسود، الى 1967 كما قلت من قبل. والقسم الثاني معظم مقتطفاته من سينما النضوج والمشاهد القوية البناء والاداء. وفي هذه المقتطفات تؤدي حسني أدوار المرأة المتزوجة، أو المرأة الملهمة والمثالية. ولم اشأ أن أقيد نفسي في مختارات القسم الثالث، أو أن اقصر الانتخاب على معايير ضيقة. فقدمت قوة المشاعر والتأثير على سائر المعايير. ولما كانت الفكرة الاساس، أو خيط الشريط، هي تذكر الممثلة المنتحرة أوقات حياتها الماضية، فلا بأس بتلعثم الذكريات وتعثرها وتكرار بعضها، بل لا بد من التلعثم والتعثر والتكرار والتحريف. وعمدت الى التوسل بمشاهد الحلم في بعض المواضع، فجمعت في المشهد الواحد اضطراب الصورة الى ضعف التعرف والإلحاح في السؤال، والتفاوت بين الاوقات، ودمج أوقات في أخرى. وهذا طريقة من طرائق القص والرواية حين يكون موضوعهما التذكر: كيف تتذكر سعاد حسني "حيث" هي ومن "المحل" الذي تتذكر منه، ما قد تتذكره؟ وكيف تنبعث ذكرياتها وتأتيها؟ وهذا، أي الانبعاث والاتيان، من ركام صور أفلامها...
   هل "بئر الحرمان" هو نواة القسم الاول؟ وما حال الافلام الاخرى؟
*لا، ليس هو النواة، والحق أنه ليس هناك نواة بل ما يشبه المدار أو المحطة. ومدار القسم الثاني هو على عدد من الافلام. ولا شك في أن "بئر الحرمان" مركزي في مسير حسني. وهي تعلمت كثيراً من كمال الشيخ. وهو "جنتلمان" السينما المصرية، وأكثر المخرجين المصريين انكباباً على رسم "الكادر" واختيار الألوان، وأكثرهم رهافة، على رغم انخراطه في السوق الجماهيرية. وافلامه دقيقة البنيان، ويحرص على ادارة الممثلين بحرفة واحترام. وهو لا شك ساعد سعاد على حدس "الاشخاص" الذين أدت أدوارهم، وعلى بناء هذه الادوار واستبطانها او الاحساس بها من داخل. ولا شك في جرأة الدور وتعقيده: المرأة التي تقر بماضيها لخطيبها والخطيب الذي يعرف الماضي، والمرأة والرجل اللذان لا يخجلان لا بالماضي ولا بالحاضر... ويُشاهد الفيلم الى اليوم، بمتعة. وكمال الشيخ تعلم كثيراً من هيتشكوك ومن "مارني" على الاخص.
  والى "بئر الحرمان" هناك "البنات والصيف" (فطين عبد الوهاب، 1960) و"حسن ونعيمة" (بركات، 1959) في المرتبة الاولى. وجمعت توليف الصوت الى توليف الصورة، فأدخلت الاصوات في صور ليست لها في مصادرها أو افلامها الاصلية، وأدخلت الصور على اصوات هي اصوات صور أخرى. فمشاهد الركض مأخوذة من 15 فيلماً هي مجموع الافلام التي تركض فيها حسني.
 ومصادر الجزء الثاني هي على الخصوص "غروب وشروق" (كمال الشيخ 1968 أو 1969)، و"زوجتي والكلب" و"القاهرة 30" (صلاح أبو سيف) و"شيء من العذاب" (ابو سيف كذلك)، و"خللي بالك من زوزو" (1972)، و"حب في الزنزانة" ( ربما 1981)، و"أميرة هي أنا" و"نادية" (علي بدرخان)، وغيرها كثير. وهذه الاعمال تعالج الكوميديا الاجتماعية، وفصولها هي الزواج والصداقة والطبقات الاجتماعية والجامعة والطلاق. والسؤال البارز، في نهاية المطاف، هو قدرة المرأة على بلوغ مثالها الشخصي ومشاركة الرجل "متعته". وحين وقعت هزيمة 1967، آذنت بوداع عمر البراءة وقدوم عمر النضوج.
 وأفق الجزء الثالث هو النهاية المأساوية، والسؤال عما يدعو امرأة ممثلة الى الموت انتحاراً. ومصادر هذا الجزء هي أفلام "الخوف" (سعيد مرزوق، 1971)، و"موعد على العشاء" (محمد خان، 1980؟) و"شفيقة ومتولي" (علي بدرخان، 1978)، و"عصفور الشرق" (يوسف فرنسيس، 1989)، "المتوحشة" (1978). والمشاهد مختارة من افلام العنف والفراق هذه. فما الذي يحمل ممثلة، هذه الممثلة، بعد نضوجها وأدوارها الكثيرة، وفي ضوء "ذكرياتها" (في مرآة أفلامها)، على اختيار الموت؟
  هل وقائع افلامها هي وقائع حياتها؟ وهل تسوغ مشاهد الانتحار السينمائية في مقتطفات الجزء الثالث الكلام على انتحارها بلندن؟
 *لا شك ان المادة السينمائية متخيلة، وهي جزء من بناء الممثلة وعملها. ويبدو لي أن هناك توازياً قوياً بين السياقين. فالسينما كانت مرآة الاختبارات التي ربما لم تختبرها سعاد حسني على الشاكلة السينمائية التي يراها المشاهد، ولكنها تشبه شبهاً قوياً اختبارات ممكنة قد تجربها كل النساء ومنهن سعاد حسني طبعاً. ومشاهد العنف تصف ما يصيب جسد الممثلة وتصوره الكاميرا. والعنف غير مادي فعلاً ولا يصيب الجسد الحي ولا يؤلمه، ولكنه يوحيه ايحاءً حاداً، ويدعو الممثلة الى استبطانه، والى الاحساس به. والممثلة، وما يحل بها، هي داخل الفيلم وخارجه، تؤدي ما تمثل من داخل، وتراقبه من خارج. وطوال 30 سنة، اصاب جسدها السينمائي من القبل والرغبة والعبادة والركل والشتم والازدراء، ما يفوق التصور والاحصاء. والمعروف والمتداول عن سعاد حسني إعدادها أداء ادوارها إعداداً دقيقاً، وفضولها بإزاء أدوارها. فكانت تسأل عما إذا المرأة التي تؤدي دورها عسراوية أم لا، وتفضل الحليب على القهوة، واشياء أخرى من هذا القبيل.
 هل ترينها ممثلة كبيرة؟
*تتمتع بصفة نادرة هي ان المشاهد لا يمل مشاهدتها، وأرى أنها صفة الممثلات الكبيرات. وهي لا تتحفظ ولا تمسك، وحضورها كامل وغامر.
في الجزء الاول من المختارات المولفة المركبة يغلب وجه سعاد حسني وهي تحاول الخروج من غيبوبة ونسيان يصيبان هويتها، ويعلو صوت الرجل المعالج الطبيب، ويأمرها بالتذكر والاسترجاع والصدق والضبط. فيبدو أن الاختفاء والنسيان يسبقان الهوية وتعرفها واستعادتها. وفي مشهد مسابقة العدو والركض، تحتل حسني المكان الاول. والجزء الثالث يستعيد المشهد الطويل هذا وتصور الكاميرا الممثلة كاملة: الوجه والجسد والمنصة والرقم 1. فهل هذا، السبق والمكانة والتمام، هو جواب خلل الهوية؟
*استعادة الصور والمشاهد والاجزاء مثالها أو أنموذجها هو استعادة الذكرى أو بناء ما نتذكر من تقديم وتأخير وخليط وتقاطع. وتعريف الهوية في الزمن، التذكر والنسيان والفجوات والرضات، يتصل من وجوه كثيرة بتعريفها الاجتماعي. في "خللي بالك من زوزو"، الصبية تأتي من طبقة اجتماعية متواضعة، فهل يجوز أن تخالط أناساً من طبقة أعلى؟ ودخول الجامعة مسألة أخرى من الخط نفسه. ويروي "الحب الذي كان" قصة امرأة يتعثر زواجها وتلتقي الشاب الذي أحبته قبل زواجها، فتريد العودة اليه. فمن تكون المرأة والحال هذه؟ وأي أحوالها وأوقاتها أقرب إليها وإلى من هي وما هي على حقيقتها؟ وهذا جريء، ويذهب الى ان الحب وحده ليس جواباً، ويطرح أسئلة شخصية واجتماعية واخلاقية وجنسية. ومشكلة المرأة مع زوجها، في الفيلم نفسه، هي انهما لا يتشاركان المتعة. ولعل هذا التعقيد هو من نتائج خسارة 1967، فلم يعد ممكناً النظر الى العالم من غير الانتباه الى وجوهه الكثيرة والمتضاربة واعتبارها، ولا يسيراً تعريف الهويات في نفسها وبمنأى من سيرها أو سير أصحابها.
 في الجزء الثاني، سعاد حسني مثال للصورة وللوحة، وشبه للتمثال اليوناني (أفروديت)، وهي على هذه الحال من الهوية والمثال، تسأل عن الحب وعن الماضي والفن. وعلى هذا، فهوية سعاد حسني – الممثلة والمرأة الحية، التاريخ الفني الروائي والجسد موضوع العشق والانتقام – وهوية أي امرأة تتعرض للحياة والرواية، عصية على التوحيد والجمع...
*ما كان واضحاً في ذهني وانا اصنع الشريط من المختارات ان سعاد حسني تجيب عن أسئلتي بصوتها. وفي نص الترجمة أسفل الشريط، كتبت الاقوال الصادرة عنها بخط مائل للدلالة على هذا الحوار. والاسئلة التي رغبت في طرحها عليها، ولكنتُ طرحتها عليها لو أنها حية، مستقاة من خزانتها السينمائية هي. وتدور هذه الاسئلة، على نحو ما هو ظاهر في قيامها بدور المثال وفي كلامها، في الاثناء، على علاقة الفنان بفنه. وسذاجة اسئلة حسني وأقوالها لا تطعن في حقيقة الاسئلة، ولا في المسألة الجوهرية التي تتناول حياة الصور السينمائية وعلاقة الفنان، مخرجاً وممثلاً ومصوراً وكاتباً... بها، كان ذلك في اثناء الاخراج والتصوير ام بعد الفراغ من العمل واستعادته في الذاكرة أو في تاريخ الفن. وشريطي كله، من أول صوره الى آخرها، يجري في خضم مرايا متقابلة تتبادل الصور، وتتحاور حواراً متكسراً ومتعرجاً بواسطتها ومن طريقها.   
... وهذا  ربما يجعل العمل المركب، العمل الذي تنزع مادته من اشرطة روائية وليس من "الحياة"، يعصى السبر والاحاطة فوق ما تعصاهما المادة الاولى...
*...طبيعة السينما نفسها وفتنتها تقومان على كيمياء الضوء الذي يغسل وجهاً انسانياً، على المعجزة الاولية هذه. ويخلط هذا قوة متصلة تدوم ما دامت الصورة. واستعادة الصور، اليوم، في حبكة أخرى غير الحبكة الاولى، يبعث الحياة، أو يبعث حياة في معجزة التقاط الوجه والتعبير. وأثر الوجه أو الحياة، في الصورة، يكاد يكون واقعة ميتافيزيقية. ولا ينفك ظهور "الشخص"، أي من تثبته آلة التصوير على الشريط وتحضرُه الضوءَ امام المشاهدين، يتمتع بشحنة قوية وعميقة. وهذا لا يحول دون الانفعال بالشحنة المتأتية من علاقات الصور بعضها ببعض، على النحو الذي يقيمه التوليف. ولا شك في ان التوليف يومئ الى افق علاقات وامتزاج وتوالد لا يحصر ولا يحد. والمخرج المولف يَحرف مولفاته عن معانيها المباشرة، وهي نفسها معانٍ مضطربة وكثيرة، ويسوقها الى معانٍ أخرى مولودة من أسئلته وتوقعاته وحواراته مع الاشرطة، ومع سعاد حسني وتاريخها، وأفكاره وأخيلته... فثمة حياة تحياها الصور فيما بينها، وحاولتُ رواية أجزاء من هذه الحياة.

الأحد، 20 مايو 2012

السوريون المستميتون يهربون من مملكة الأوهام الأسدية إلى واقع الحرب الجارح

المستقبل - الاحد 20 أيار


"أُسِّست المملكة على صهوات الخيل

ولكنها لا تُحكم على ظهورها"

(أغوداي خان ابن جنكيز خان)

بينما كان الفتيان الماويون، في الصين الحمراء، وفي أقاليم ثورة أو حركة 1968 الأوروبية والعالمية، يشمرون عن سواعدهم المتحفزة، وينبرون للثورة الثقافية البروليتارية الكبرى الأولى على علاقات الإنتاج الرأسمالية وأبنيتها السياسية الأمرية والمرتبية الصلبة، ويقصفون "مقر الأركان" اليميني والمنيع، ويعدون بثورات ثقافية بروليتارية كبرى لا تقل من غير مبالغة عن الألف- كان فتيان ماويون آخرون، وربما هم أنفسهم، ينشدون، وقبضاتهم مشدودة ومرفوعة، "السلطة تخرج (أو تؤسس، على قول ابن الفاتح المغولي "الكبير") من فوهة البندقية". وفي المناقشات الدائرة على ثبات الحكم السلالي الأسدي، ودوامه منذ نحو نصف قرن او نيف وأربعين سنة، وبلائه وتماسكه في العاصفة التي تهب على سوريا منذ 14 شهراً وتنذر بالدوام نظيرها أو أكثر، يميل معظم المراقبين والمنخرطين الى تعليل الثبات والدوام والبلاء بالهتاف الماوي: السلطة مصدرها وركنها فوهة البندقية، وولاء حاملها الماشي في صف مرصوص وأعمى، وقيامه على مقر الأركان المنكفئ، في حال، أو على "الشعب" الأعزل والثائر، في حال أخرى.

مرض السلطة المميت

فيذهب المراقبون والمنخرطون أو معظمهم الغالب إلى أن العامل الأول في ثبات حكم الخان الثاني، بعد الخان الأول، الوقت الطويل المنصرم هو إرساؤه حكمه أو تسلطه ونظامه على احتكار السلاح وأجهزة القوة وأصولها وفروعها الاستخبارية والإدارية والرقابية والإعلامية والقضائية. فعلى رغم الخدمة العسكرية العامة، وشمولها فئة الشبان من غير تمييز من جملة سكان نحو 80 في المئة منهم من السنة غير العلويين ومن غير أنصار "السلالة" العصبيين، وسع حلف العشيرة الحاكم تمليك 70 في المئة من المناصب والأعمال النافذة والضاربة في أجهزة القوة لأهل العصبية والولاء الأقربين. واستيلاء طائفة تعد، اليوم، 9 في المئة من السكان (وخسرت نحو 2 في المئة من حصتها من السكان هما قربان ارتقاء شطر من نخبها)، على 70 في المئة من المناصب وعديد الأجسام والأسلاك القاهرة، هذا الاستيلاء يسد المنافذ على محاولات إضعاف القبضة المسلحة، ويحكم في هذه المحاولات بالإخفاق والتعثر. فإذا بلغ عديد القوات المسلحة والأجهزة المساندة نحو 400- 450 ألف "مجند"، وسع القيادة الآمرة خسارة 120 ألفاً الى 150 ألفاً من غير لحاق الشلل بها. وإلى اليوم، إذا صح أن المنضوين في صفوف الجيش السوري الحر بلغ عددهم حوالى 40 الى 60 ألفاً، لم تبلغ الخسارة إلا ثلث هذا العدد. والأغلب على الظن أن ثلثي الـ40 إلى 60 ألفاً "الأحرار" ليس في مستطاعهم القتال وربما لا يرغبون فيه، إما لنقص العتاد، وإما لعسر الانخراط في وحدات طرية العود وضعيفة التنسيق والانضباط، وإما لهول اختبار القتال الأهلي وفظاعته...

وتماسك العصبية المستولية من طريق العشير الجامع والواحد، واحتكار القوة والتصميم على القتل، علاج قديم ومشهور لتآكل السلطة و "مرضها" المميت خبرته المجتمعات العربية المشرقية والمغربية، وأعمل حكامها في سوس جماعاتها و "مجتمعات" هذه الجماعات أزماناً طويلة. ومن هذا الوجه، يشبه حكم العصبية الأسدية العلوية المستولية "ممالك" سابقة كثيرة ملأت قرون ضعف الدول الإسلامية الطويلة والمتمادية. ولم تغب ملاحظة هذا الأمر عن الخان الأول، ولا عن حلف الخانات الثلاثي، جديد- الأسد- عمران، الذي انفرط عقده إقصاءً وقتلاً. فتصدي ضباط أقلية ومذهبية وطرفية وريفية للاضطلاع بالدور الأول على رأس الدولة السورية خالف تقاليد عريقة وراسخة. فهذه قصرت الأقليات (المسيحية القومية على الأغلب) على المنافسة على المحل الثاني، أو الوزارة دون الإمارة، على قول فرنسوا زبَّال في تحليله "كليلة ودمنة" لابن المقفع. ويقتضي التربع في المحل الأول، وهو تقليدياً محل الكثرة السنية، عربية أو إسلامية سلطانية (سلجوقية عسكرية أو مملوكية غير قومية أو عثمانية)، يقتضي قوة معنوية وسياسية على الجمع والشبك تضوي إلى صاحب المحل الأول "عصبية الدولة"، وتقوم من الجماعات الفرعية الموالية مقام اللحمة و "النسب الوهمي".

وفصَّل حافظ الأسد جهازَ الحكم السوري على مقاس استيلاء ضابط الاستخبارات العلوي الريفي والجبلي على الدولة الوطنية، عاصمة ومحافظات. وشرطُ التفصيل والإلباس الأول هو اجتثاث أضعف مسوغ ولو شكلي لاقتسام مقاليد السلطة الفعلية، كان المسوغ طائفياً طبعاً (حقوق الطوائف في التمثيل) أم محلياً (حقوق المناطق أو المحافظات) أم تقنياً (حقوق الخبرة) أم طبقياً (حقوق أصحاب رأس المال أو المستثمرين أو ملاك الأرض). فالحكم كله للـ "واحد" وحده. وحمل الديكتاتور الجديد نفسه وسلطته ونظامه على ضدٍ للأبواب التي أراد اجتثاثها: فهو قومي على خلاف الطائفية والقطرية، وهو شعبي على خلاف الطبقات... وتفترض هذه الحال ألا يبقى اثر لنفوذ المكانات والطبقات القديمة في اي مرفق من مرافق الدولة، وهذا أمر يسير نسبياً على الديكتاتوريات الثورية والحزبية، أو من مرافق المجتمع، وهذا أصعب وأشد عسراً حتى على الأحزاب الكليانية الشيوعية. وإطفاء أثر المكانات والطبقات القديمة، وتوهين عصبياتها ولحماتها، ونخر مقومات نفوذها، يُبلغ (أو تُبلغ) من طريق واحدة هي نصب الولاء الشخصي والمباشر للقائد الأوحد والأعلى معياراً للأهلية الوطنية، السياسية والاجتماعية. وتوحيد معيار الولاء يتيح أمرين مختلفين وربما متضاربين: تقريب أفراد ينتسبون الى جماعات مذهبية ومحلية واجتماعية "غير صديقة" ورذل جماعاتهم، من غير غمط الجماعة العصبية المستولية والنواتية "حقها" في الاستيلاء والسطو، تدريجاً، على المحل الأول ومقاليد الأمر وموارده. فالمعيار محايد وغير عصبي شكلاً وظاهراً، وهو الولاء للدولة، وللدولة العتيدة و"الجديدة"، على خلاف الدولة التقليدية المائعة والرخوة، جسد شاخص، من لحم ودم ولغة (أو خطابة)، يملأ الدولة المجردة والبعيدة بقوة عينية، ويمتلئ بها.

أحمال الدولة

ويسَّر اجتثاث النظام القديم، العثماني والفرنسي والسوري المختلط، عقدٌ أول من الانقلابات العسكرية (1949- 1958)، أعقبته 8 أعوام من ناصرية أصيلة وناصريات مقلِّدة، ثم 4- 5 اعوام من اختبار استيلاء متعثر على المحل الأول، فاقمت عثرته خسارة الجولان في أثنائها. وفي أثناء ربع القرن هذا (1946- 1970) تصدعت أركان حكم "الجماعات" القديمة. فغرقت هذه في انقساماتها ومنازعاتها وعداواتها، الناجمة عن مصالحها المباشرة وعصبياتها الأهلية و "الجهوية" وأحلافها الوطنية والإقليمية. ولا ريب في أن أحمال إنشاء الدولة الوطنية وسوسها، وخلافة الانتدابات، وإواليات حكمها المعقدة، وقيام إسرائيل، وتبعات الصراعات الدولية والإقليمية، هذه الأحمال فاق ثقلها قدرة الطبقات الحاكمة والطبقات المحكومة على الاحتمال، فهي خرجت، ومجتمعاتها، لتوها من قرون طويلة من التبعية والانقياد. ولم تتول السلطة الفعلية والمستقلة طوال الزمن المديد هذا ولم تصدر عن نفسها في أثنائه. وورثت بين ليلة وضحاها، في ميزان التاريخ السياسي والاجتماعي، سلطة ومجتمعاً كانت هذه الطبقات والجماعات عالة عليهما حين كانت سياستهما. وتدبيرهما بيد قوة خارجية. فقصارى جهد الطبقات والجماعات، في أثناء العهود التي توالت على مجتمعها "الوطني" الموروث، هو محاكاة أساليب الحكم الخارجي ومناهجه، وتقليدها. وطوال العهود المتفرقة هذه كانت الطبقات والجماعات المحلية أو الوطنية في موقع ضعف واستضعاف. فجاءت ابنية الدولة الوطنية المركزية، بمواردها وإداراتها وقواتها المسلحة، فوق طاقة الجماعات الحاكمة على التدبير والتصرف بكثير. فاقتصر الحكم غالباً، على المكانة والمنافع الريعية المتأتية من المكانة والاحتكار والحماية، وعلى المنافسة بين أصحابها على اقتسامها.

ولم يكن النهج الناصري، وهو وارث دولة راسخة ومستأسدة على جماعات مجتمعها، لا قبل الوحدة العابرة ولا في أثنائها، مدرسة تؤهل الجماعات والطبقات المحلية، على جهتي السلطة، للحكم والتدبير والتحكيم في المنازعات والخلافات. ولا وسع الديكتاتوريات العسكرية الرثة، قبل الوحدة ثم بعدها مباشرة، تولي مثل هذا التأجيل أو تمهيد الطريق إليه. فلم يصعب والحال هذه على لواء "المخابرات" الجوية تحميل "النظام القديم" كله، الوطني (القطري) والطائفي المذهبي (السني) والطبقي ("البورجوازي") والحزبي العصبي والإيديولوجي، أوزار الركود والانقسام والهزائم والهشاشة "السورية". وبدا استيلاؤه على الحكم منقذاً من الترجح والتطرف اللذين أوقع سوريا فيهما استيلاء صلاح جديد وزميلته اللدودين والأخوة الجندي وسليم حاطوم على الدولة قبل سنين قليلة. وأورثت الناصرية الأنظمةَ والدول والبلدان العربية المشرقية، فيما أورثتها، معايير رأي سياسية، جماهيرية عامية وقومية إقليمية ودولية عالمثالثية، لا فكاك منها تقريباً، وزادتها "الثورة" الفلسطينية صرامة. فإذا حاول نظامٌ الانفكاك منها سلط على نفسه إدانةً قاطعةً بالمحافظة والعزلة والتأخر.

فملأ حافظ خان (الأسد)، حين نصب نفسه قائداً قومياً، "عربياً سورياً"، فراغاً عميماً وعظيماً بفراغ عميم وعظيم يفوق سابقه وطأة وإيهاماً وتشبيهاً. فالفراغ السابق كان أبقى على حطام مجتمع وجماعات، وفتات إدارات وكفاءات وأفراد، وعلى بواعث سعي وعمل. فأسرع النظام الجديد الى التضييق عليها، قبل عزلها وخنقها وتصبيرها مومياءات في متاحف الصمت والخواء مثل الجبهة الوطنية ومجلس الشعب واتحادات العمال والفلاحين والكتّاب والصحافيين. ولكن الطاغية العربي ليس من مخلفات عصر مضى وأفل، على خلاف رأي أدبي و "تنويري" فيه. فهو شديد المعاصرة، ومتنبه الى مقتضيات هذه فوق تنبه التنويريين المحترفين. فسعى في "الامتلاء"، على ما تقدم القول، بروافد وموارد دولة تتصاغر الدولية التقليدية، المدعوة "دولة العصر الليبرالي"... العربي، بإزائها وتتضاءل. وزعم، غير هيَّاب ولا متردد، القدرة على الاضطلاع، معاً وفي آن، بالمهمات العظيمة والساحقة التي ناءت بها الجماعات والطبقات الحاكمة والمحكومة طوال ربع القرن الذي انقضى على رفع الانتداب وجلاء القوات المحتلة الأجنبية، وهي (المهمات) إنشاء الدولة الوطنية من صفر، والتصدي لتركة الانتدابات، وجبه إسرائيل، وتحمل تبعات الصراعات الدولية والإقليمية وإداراتها من دمشق وقصر الرئاسة فيها.

وماشى تفصيل حافظ الأسد جهاز حكمه على مقاس استيلائه وسعيه في اجتثاث مسوغات اقتسام السلطة أهواءً وبواعث سورية وعربية قائمة وفاعلة، على نحو ما ماشى زعمه مكافأة "دولته" المهمات العظيمة والساحقة المتخلفة من تصفية ذيول السلطنة العثمانية والاستعمار الغربي المباشر والمرحلة الوطنية والاستقلالية المتعثرة والمرحلة الناصرية المتلعثمة أهواءً شعبية، سورية وعربية، محمومة. وعلى رغم تحفظ عربي عريض، شعبي ورسمي، عن المثال القيادي الفظ والسري والباهت الذي جسده حافظ الأسد، وعن استيلائه على سوريا في أعقاب هزيمة 1967 وأيلول 1970 "الأسود" وشراكته فيهما على هذا القدر أو ذاك، على رغم التحفظ المزدوج طابقت أخيلة الخان الجبلي والعلوي السياسية والقومية أخيلة جماهيرية معاصرة. ولولا هذه المطابقة لما تمكن ضابط الاستخبارات المستولي من ممارسة الوصاية العدائية والثأرية على المنظمات الفلسطينية المسلحة منذ طردها من الأردن الى حين استقرارها و"تخزينها" (صلاح خلف) في لبنان، قبل نفيها الى اليمن وتونس وعودتها الى فلسطين مشرذمة ومتحاربة. ولما وسعه الإسهام الراجح في ابتكار اللبننة، ومزاولتها وتطويرها وإثرائها، طوال عقد ونصف العقد، وإغراق الفلسطينيين والإسرائيليين وغير هؤلاء وأولئك في "وحولها"، ثم توريثها نمطاً سياسياً ناجزاً ومدمراً يصلح لميادين ومسارح وطنية وأهلية متفرقة الى اليوم. وحالت الأخيلة المتطابقة، دون الانتباه الى انقلاب القائد العروبي والقومي الأول والمفترض الى قائد "إسلامي" ثانوي يعتال ويتعيش على نفوذ إيران الخمينية في أوساط الحركات الإسلامية الناشئة والقديمة، ويحتمي به من غائلة قمعه الدامي والفاجع لتمرد إسلاميين محليين عليه. ويتوسل بالمسألة الفلسطينية شأن إيران إلى تحصين نظامه من التحفظ العربي وعداوة الغرب.

الأخيلة المتضاربة

فقبل التماسك النسبي والجزئي والمترنح بعض الوقت في قلب العاصفة السورية، أرسى الخان الجبلي والأقلوي صروح "دولة" شامخة وطاغية ومقلقة على أسس غير قائمة إلا في الوهم. فـ "الدولة المفتاحية" (فاروق الشرع) في الملعب الشرق أوسطي وفيلته السكانية والاقتصادية والوسيطة والعسكرية تفترض كل ما لم يتوافر لحافظ الاسد: الموارد والعدد والتوزيع المقسط والقوات المقاتلة والمجهزة والديبلوماسية الخانقة. فالدولة التي أوجبها واحدة ومتشابكة في الوهم والتخييل والحسابات الاستراتيجية، لا تنتمي جماعاتها الى حيز سياسي أو تاريخي مشترك او متضافر: فبعض جنوبها ينظر الى الأردن بعض آخر الى فلسطين أو إلى شطر طائفي منها. وبعض شمالها ينظر الى العراق (أو الى شطر منه) وإلى شطر من تركيا. وبعض آخر هواه في كردستان على جبهتي الفرات أو وراء تركيا. والسهل السوري الفسيح بعضه يتصل بالساحل وامتداده اللبناني التجاري والمصرفي، وبعض آخر جزء لا يتجزأ من "الداخلية" العربية والبدوية النفطية وأسواقها وتجاراتها وأهوائها السياسية والمذهبية. وأما أقليات الجبال والمدن الكبيرة فيحلم بعضها بـ "حلف أقليات" خائفة ومنكفئة، حين يحلم بعضها الآخر بالهجرة واستيطان مهاجر بعيدة وغريبة. و"الأرياف" دوائر سكن وعمل واستنقاع ضيقة. ويحيط فقراؤها ومهاجروها الداخليون بالمدن أو بقاياها، إحاطة حبل المشنقة برقبة المشنوق (لينين). وهذا كله بقي على حاله طوال نصف قرن.

وهذا الإرث، وهذا المركب الأهلي والبلداني والسياسي والاجتماعي، رفعهما الخان المستولي إلى مرتبة القدوة والعلاج والأداة الاستراتيجية والتاريخية. وصدق الدعوى معظم السوريين والعرب معظم الوقت. وأرسى على هذا التصديق سياسة إقليمية فاعلة ومخربة. فلم يدر أحد من ضحاياها أو من الرابحين منها من أي طريق خَسِر أو من أي طريق ربح. ويعد هذا، أي النظام، قرينة على المهارة والإبداع والإعراب عن "روح الأمة". ووسعه شق السوريين والعرب، والمجتمع الدولي، شقين وشطرين، وحال الى اليوم بين هذه الدوائر وبين الإجماع على رأي فيه، على رغم "هجنته" وغرابته الفاضحتين، وعلى رغم فصامه المروع، قولاً وعملاً.

ونظير "صمود" الخان الابن، وهو يبدو معقولاً أو قابلاً للاعتقال في شباك الفهم فوق قابلية ضده، ينهض مراس حركة السوريين وعنادها ودوامها على طرف نقيض. فيعصى النقيض أو الضد الفهم السببي، ذاك الذي يزاوله نشطاء هيئة التنسيق الوطنية على وجه التخصيص وبعض "مخضرمي" معارضة "الداخل"، والفهمَ الحدسي الذي يزاوله بعض محترفي التحليل التاريخي والأدبي. وما يُتناقل واستقر رواية جامعة لواقعتي تظاهرة 14 آذار 2011 بدمشق ("الشعب السوري ما بينذل") وتظاهرة 18 من الشهر نفسه بدرعا (والعَلَم عليها جواب ضابط الأمن قريب الخان الأهل: "انسوا أولادكم" ثم "هاتوا نساءكم إذا كنتم عاجزين عن استنتاجهن أولاداً محل أولادكم")، يدعو الى العجب. فإلى 14- 18 آذار 2011 لم ينتبه سواد السوريين الى انهم، ومن ولدوهم قبل جيل من اليوم وبلغوا 50 الى 60 سنة، إنما عاشوا في ذل عميم ومقيم ليس بعده ذل. ولم يدركوا، على هذا، أن "المجد" الذي أعطيه الخان والفاتح الجبلي والمذهبي إنما ارتفع سراباً خلاباً في صحراء خالية إلا من الكذب وأشراكه التي لا تحصى، ومن عظام عشرات آلاف القتلى عنوة وملايين الموتى كمداً وخيبة وخسراناً ممضاً.

ولكن السوريين الذين يقومون على طاغيتهم، "الواحد"، ويرمون بأنفسهم في مرامي نيرانه، ولم يبالوا بثمن هائل يسددونه لم يتستر الطاغية يوماً على هول فاتورته ولوح به منذ أيامه الأولى عِدْلاً وكفواً لأضعف اعتراض أو تحفظ وصدَّق التلويح في شتاء 1982 بحماة، هؤلاء السوريون يفزعون الى مقاتلهم اليوم من انهيار صروح الكذب والتشبيه العالية التي رفعها الطاغية. فكأن (على سبيل الاستقراء) الاستماتة، الباهظة الثمن والموقَّعة والمتمايلة والمنتشية، هي جواب تصدع "سوريا الأسد" وثمرة هذا التصدع. فيصدق في السوريين ما قاله بوريس باسترناك، صاحب "دكتور جيفاغو"، في "ترحيب" الروس بدخول بلادهم الحرب العالمية الثانية، وإقبالهم عليها على رغم أثمانها العظيمة. فهو قال في تعليل الترحيب والإقبال هذين ان الحرب والموت والقتل فيها كانت واسطة الروس "السوفياتيين" و"الستالينيين" إلى الواقع، وطريقهم أو جسرهم إليه، بعد 23 سنة من التخييل الاشتراكي والأممي الشامخ. فالموت في حرب حقيقية ومادية، هي عزاء "مواطني" ممالك الوهم التي يبنيها طغاة عقيمون

الخميس، 10 مايو 2012

كورين شاوي وشريطها القصير "أحبك فوق ما تسع الظنون" (لا إلى غاية أو نهاية)... السينما الوثائقية وكناياتها من غير طريق الفولكلور

المستقبل /6 /أيار 2012
صنعت كورين شاوي، المخرجة السينمائية اللبنانية "الناشئة" (شريطها مادة شهادة ماستر)، في الشهر الأخير من 2010، فيلماً وثائقياً، على ما تقتضي الحال الجامعية والدراسية، وصنعته على موضوع هو، من غير مفارقة ولا مراوغة، الحب العظيم أو الحب المجنون. وهو الحب الذي لا تسعه الظنون، على قول الشاعر العربي، ولا يحده حد، ولا ينتهي إلى حد أو نهاية. فهو حب لا إلى غاية يبلغها وينتهي إليها، "لا نهائي"، على قول يشي بإرادة قائله أو صاحبه التخلص، ونفاد صبره، وطلبه الحسم. وكورين شاوي لا ترى ما قد يغمض أو يشكل في "توثيق" هذا اللانهائي، وليد المخيلات والمهج والأشواق المحمومة والمريضة. وهي تقول هذا في اسم شريطها الذي لا يتخطى الدقائق العشرين إلا قليلاً. ولا يسع المشاهد، أو الجمهور، أن يحدس في ابتسامتها، الساخرة أو الماكرة، ربما، تنديداً بالحب، أو بالجنون، أو بالسينما. ويخص مكرها التوثيق، ومزاعمه في الحقيقة، بسهمه، من غير أن يقع المشاهد على أثر ظاهر للمكر الساخر.

ففي 17 إحاطة عدسة مفردة- أو فقرة متمادية ومصوبة على "شيء" أو نواة منظر، أو حادثة لا تجمع واحدتها الى الاخرى، رابطة أو آصرة عدا موسيقى موكبية تسكن الصور، وتخيم على بعضها على شاكلة الغيم ونزوله على المنحدر العريض والربيعي الى الوادي، وإحالته بطرفة عين الألوان الزاهية، الأحمر والاخضر والاصفر والترابي، منظراً ليلياً مقلقاً. وتتنقل الفقرات إذا جاز الكلام على تنقل فيما لا هوية له ولا يصدر عن سياق أو فاعل متصل، بين المرأتين المسنتين والمتداعيتين، والمتبادلتين حديثاً عنيفاً ومتقطعاً يدور على رجل تسميه المرأة الاولى خليل وتروي عنه فيها هي كلاماً مقذعاً ومنهما الى المنحدر الربيعي والخريفي. ومن المنحدر الى رجل يحمل منجل "الحاصدة"، على ما يسمي الأوروبيون ملاك الموت، ووراءه صلبان على قبور مقبرة، ويتردد في ارجاء الصورة العريضة والمنيرة طنين الطوافة البعيدة، وصرير مروحتها وهي تخبط الهواء الساكن، وتقطعه إرباً.

وفجأة يظهر قرميد كنيسة ومبناها وجدرانها الملساء "بلا دنس"، "قرميدي" اللون، في حلة بطاقة بريدية مصورة. وفي الجزء القريب من الصورة مضرب بدو، خيمتان الواحدة بجوار الأخرى، الخيمة الأقرب من قماش لا يخالطه بناء "صلب"، ووراءها حجرة من طين لصيقة بالأرض، ويخالط مواد بنائها الكرتون وربما التنك. وعلى عتبة الخيمة البدوية الخالصة أوقف "شيخ" الخيمة، أو ربما زائر من أهل المدن، دراجة نارية من دراجات التنقل الداخلي والقريب، متكئة على قدم وحيدة. وفي الخلف، بين الكنيسة وبين الحجرة الحدودية رجل يعمل، وولد يتوارى. وتعود الصورة، أو يعود التصوير الغفل المصدر والرواية والمتنقل على غير هدى أو غرض واضح، الى المرأتين. ولا يظهر منهما غير يد معروقة، قديمة وضخمة، غارقة في قماشة داكنة الحمرة. ويملأ صوت جميلة الحلقي والأنفي الفضاء الخانق والضيق والقاتم، ويحيط بالمشاهد إحاطة المدفن أو التابوت بالمسجى فيه. ويتناول صوت جميلة "القهر"، وقهره المقهور.

وعلى نحو العدوى، يدخل المشاهد محراب كنيسة أو محلاً لبيع "التحف" الكنسية: صلبان وصور وصحون وتماثيل السيدة العذراء. وفي وسط "التحف" رجل جالس على كرسي، مفتح العينين من غير نظرة، ولولا العينان هاتان لقطع الناظر أن الرجل نائم ومنخطف، على رغم العينين وخلوهما من نظرة تنم بقصد لا يفارق النظر. وبينما المشاهد يترجح بين رأي وآخر، أو بين رأي وضده، تضيء شمعة ذاوية صفحة طاولة تعج بصور لا يُرى منها شيء. فلا الشمعة للإضاءة، ولا الصور للرؤيا، ولا الطاولة للعرض على النظر، على حين ان نور الشمعة ممتلئ وقريب من سمنة بذيئة، وظلال الصور لا شك في حقيقة رسومها والتماعها...

ويخرج الشريط الى الضوء والفضاء كما يخرج المسافر من عتمة نفق الى نهار ساطع ولئيم القسوة والوضوح. فيقع على بقايا جثة كلب مهترئة، منبطحة على حاشية الطريق الترابية. ويتعاظم انبطاحها، وتغلغلها في الأرض، مع كل وطء سيارة. فتحفظ الدماء القليلة وحدها رسم الكلب الذاوي والنازع الى الذوبان في تراب الطريق، لوناً ومادة متحللة. ومن أطراف الصورة غير المرئية، على شاكلة طنين الطوافة وصريرها في فقرة سابقة، يطلع نباح متقطع، أم هو مواء مخنوق؟ يتردد المشاهد في حمله على بقية الكلب المتآكل وروحه الهائمة بين "الأقبر"، على قول الشاعر في صدى الحبيبة، أو يؤوله بكاءً يُشيّع القلب الى غباره المتطاير.

ويعود "التوثيق" الى المشهد الأول، والمرأتين الهرمتين والمتحاورتين، على نزقٍ من الأولى واستحياء من الأخت، جانيت. وتسأل جميلة الأخت عما إذا كانت رأت حية، وعما تريده الحية منها. ومن غير جسر أو تمهيد، في وقت جميلة وأجزائه المتجاورة، ووحداته المنفك بعضها من بعض والمؤتلفة في كلٍ أو جميع يرعاه إله لايبنتز المفارق والمحايث معاً، تنشج جميلة نشيجاً أليماً ورتيباً، : "نحنا شراميط، نحنا الحية"، في حجرة الجلوس الفردوسية وضوئها الصافي والصباحي، وأريكتيها الثابتتين واللصيقتين الواحدة بالأخرى. وتميل المتحدثة الى أمام، وتكلم الاطياف التي تحوطها وترف حولها، ويخرج بعضها منها، هي جميلة الجنية المسكونة بالجنيات ومخاطبتها الأثيرة وقائدة أوركستراها. فتخوض المتكلمة، في الوسط النوراني والابليسي الذي يحوطها في قصص لا يدري المشاهد السامع كيف يراه أو يسمعه. فهي تخاطب أطيافها وظلالها تحت بصر جانيت، ووجهها المستطيل والثابت وجسمها المتين، وابتسامتها المطوِّفة بالوجه، والمتقاسمة بين الشك فيما تقوله الاخت وبين حملها على محمل التصديق، على ما توحي آلة التصوير وكورين شاوي وراءها.

ويخرج الشريط، فجأة كذلك، من الحجرة والمرأتين والضوء والجن الى علياء سماوية تطل على حفرة عميقة معتمة، تصلح غاراً على طريق هجرة او نزوح نبوي. وعلى ضفة الحفرة الصخرية، بين الصخور الكلسية المدببة، يروح ويجيء بشر ضئيلون كالنمل، ليليبيتيون على شاكلة "الشعب" الذي كبل غوليفير الغارق في سكرة نومه العوليسي، يتجولون حول خيم مضرب بدوي على كتف جبل هائل. وعلى شاكلة كل مرة تحضر فيها الأرض "قديمة وعنيدة"، على قول أندريه مالرو، تطوِّف بها موسيقى الأرغن الباخية، فتحتفل بالولادة من رحم عظيمة وتشيِّع الخلق الى مثوى الظلال، من غير افتراق.

وينعطف الشريط الى رجل مستلق نائم على أريكة طويلة، ينتحي هو ناحية منها، وإلى جنبه ما يشبه رداء مركباً ومزركشاً، ملقياً على الأريكة الصيفية الألوان والنسيج. وتغشى الصورة ضوضاء راديو متقطعة ومتذبذبة، تستدخل الصورة وأشياءها من غير إثقال عليها ولا وطأة. فكأن الضوضاء بعض الضوء أو بعض فضاء الصورة، من غير حضور ولا جسم. وتعود، في فقرة لصيقة بالرجل النائم والمستلقي، جثة الكلب على اسفلت الطريق. وتمضي السيارات والمركبات على نهبها، وتبديدها، وتجريدها من رسمها، وحملها على الدم المتبقي والجاف. وتهرب الصورة، متعمدة القطع، من الكلب والاسفلت والسيارات، الى صوت جميلة الحلقي والأنفي في فضاء حجرة استقبال صيفية خالية، تتوسطها ساعة زجاجية تدور فوق الطاولة الواطئة، ويملؤها الضوء تارة ويغشاها الظل تارة اخرى، على ما مر من قبل في فقرة المنحدر المنقلب من الضوء الى غاشية الظل والغيم. ويتدافع كلام جميلة في السعدان وطيزه، وفي خليل، "وينك يا خليل؟".

وتعود المرأتان، ويعود كلامهما في الحجرة، كلام جميلة:" شو بدي اعمل؟ شو بدي قول؟ إيه، ما على شي شرموطة، بتصير منيحة، يشرمط عليك...". وقبل أن تعودا منفصلتين: جانيت مستلقية على سرير لا يبدو منها إلا رأسها، وعلى مقربة منه مقعد أبيض من البلاستيك السائر، على خلاف الأرائك التي مرت في الحجرات الصيفية والفردوسية وجميلة من فتحة بابا أو حائط من لون الكريم الصافي والمتصل، المجرد أو التجريدي على حاله في المستشفيات والمصحات، وأمامها، في الفتحة العمودية والضيقة، "شيء" ابيض محدودب، قد يكون بوظة وقد يكون قبعة، وتغشى الصورة أصوات أجراس بعيدة وعميقة وتوقيعات الأرغن المتطاولة-، قبل أن تعود المرأتان منفصلتين على هذه الشاكلة، تمر فقرة الشريط السادسة عشرة، أي قبل الأخيرة، بحية مقطوعة الرأس، من لون الاسفلت الأسمر، وتحوم على موضع الرأس ذبابة تشرب من خيط الدم الرقيق الذي خلفه الرأس المقطوع في الاسفلت، وتذروه عجلات السيارات والدراجات. والفقرتان المتبقيتان، الثالثة عشرة والرابعة عشرة، عَوْدٌ على امرأة تدخن في عتمة ضوء أو نهار مضاد، على ما يسميه الفرنسيون، ثابتة فيما هي تنفث الدخان، وامامها طاولة تعج بأغراض متفرقة، وتملأ فضاء الحجرة موسيقى ملحة ومضرب بدوي يتناوله التصوير من تحت ومن بعيد، ثم يتناول قطيعاً من الماشية من أعلى الهضبة المطلة على المنحدر، ثم يلم بالمضرب الغارق في الضباب، وبين العدسة والمضرب حمار أسود لا يرعى ولا يمشي، ثابت مثل المرأة المدخنة أو مثل الرجل النائم جالساً على الأريكة أو مثل الرجل النائم في حجرة التحف والتماثيل من غير أن يغمض عينيه...

وعلى هذا، لا يقص شريط السينمائية اللبنانية "الناشئة" قصة متصلة الحلقات والسياقة، ولا يلمح إلى نهج قراءة أو تأويل يفتح "الاقفال"، ويفك "رموزها". ولكن التقطع الصريح والتعرج الواسع والمتباعد لا يخرجان المشاهد عن طوره السينمائي والصوري، ولا يرميانه في عماية. وتنفذ لغة الشريط القصير واللجب الى بصر المشاهد وسمعه وفهمه وأحاسيسه من نوافذ ومداخل كثيرة أحصى الوصف المتقدم بعضها. ولا أتستر على أن الباب الذي (أحسب أنني) دخلت منه إلى الشريط هو الباب البدوي المترحل والتوراتي والعربي. فالحب المجنون الذي أصاب جميلة (مؤنث جميل... بثينة؟) منذ صباها الأول، وتتجاذب حديثه مع اختها، وتتقلب صوره وكلماته بين الكنائس والمقابر والايقونات والتماثيل اليسوعية والمريمية، ويطوِّف خياله بين المضارب وفوق الهضاب والمنحدرات والوديان وعلى طريق الرعي، ويستعير للكناية عن نفسه حيوانات الرعاة الظاعنين ("العابرين") مثل الكلب والحمار والحية، وإلى هذا وربما قبل هذا كله يضطرب (الحب المجنون) على الحدود الغامضة بين حضور نيِّر فردوسي وجنبات وحواشٍ تغشى الحضور وتصدعه وتنشر ثناياه المطوية والمنسية على ملأ كثير الثنايا بدوره. ويكاد المدخل البدوي هذا يسوغ انتساب الشريط الى الصنف أو الفن الوثائقي. ويتردد الحب المجنون، ذاك الذي لا تبلغ غايته ولا غاية يحج إليها، بين رواية معقولة ومفهومة، فتخبر عن خليل، وسفره وعودته وطعنه في "شرمطة" المرأة، وترد هي بخبر عن العودة المتوقعة، وصلاح "الرذيلة"، والحية الغاوية والمخيفة، وتضرب قُدماً وغرقاً في أخيلة الجن وبين اختلاط الصور وتناثرها و"تجددها" تحت عجلات السيارات، وعلى صورة الدراجة النارية على باب الخيمة، وتبدد رسومها وأجسادها، ورُسُوها على خيط الدم على الاسفلت "الحديث". وتتضافر رسوم القص والتقطيع والكناية وأشكالها، على إيقاع موسيقى مات جونسون، ووصلها الأرض بالسماء، والهضاب بالوديان، والولادة بالتشييع، والزمن بالأبدية، والقلب بالحواشي، والضوء بالغيم، تتضافر على نفي "الوثيقة"، وتقريرها المفترض من الفولكلور. وربما كان هذا النفي، العسير على الدوام، والممتنع في معظم الاحيان، مطهر شريط كورين شاوي وانجازه: محاورة صمويل بيكيت وطرفة بن العبد.