7/8/2008
--> لا تشذ «ورقة النقاش» التي صاغتها «قوى الرابع عشر من آذار (مارس)»، ودعت الى تداول الرأي فيها، وعقدت «ورشة عمل» تناولتها في 23 تموز (يوليو) المنصرم، ونشرتها معظم الصحف المحلية أو لخصتها وأبدت رأياً فيها، لا تشذ الورقة هذه عن حال مثيلاتها الحزبية، أو الحركية أو التيارية. فالأوراق، أو البيانات، أو البرامج والخطط (أو مشروعات هذه)، يضطرها الاختصار، والموجب العملي والتنفيذي، الى الإلمام السريع والمبتسر بالحوادث وروابطها وتسلسلها، الى الكلام على المقاصد والوسائل كلاماً قاطعاً. فتستخرج من الكلام القاطع ومن الإلمام السريع معاني تبدو المناسبة بينها وبين الحوادث والمقاصد إما ضعيفة أو غير ظاهرة وخفية. وليس الاختصار والموجب العملي مسؤولين، وحدهما، عن عيوب الأوراق أو البيانات الحزبية.
فثمة عيب أعمق وأفدح مصدره نازع الكتل السياسية الى إلحاق الحوادث والأطوار والمنعطفات في ركبها و «قافلتها» هي، وإلى تصدر الركب هذا وترؤسه، أو الى القيام منه مقام الدليل والحادي، على أضعف تقدير. ولا شك في أن الأحزاب الشيوعية الغابرة، والآفلة اليوم، أورثت «الأدب» السياسي مثالاً ناجزاً ومزمناً. فهي نصبت مثال ما سمته «التناقض الرئيسي». وهو «تناقض» بين قوتين كبيرتين، إحداهما هي، من غير شك ولا تواضع، القوة التي ينتسب الحزب (أو الحركة أو التيار) إليها، أو يتكلم باسمها، أو يقودها ويختصرها. والقوة الأخرى هي «العدو»، على درجات ومراتب في العداوة. ولكنها عداوة تستأهل، في معظم الأحوال، انفجار الثورة وشيكاً، أو تسوغ انفجار حرب أهلية الغداة. ولا يلجم الانفجار الوشيك والمخيف إلا داعي الحكمة والحلم الذي يشير بالصبر، وتوسيع التحالفات، والإغضاء عن الفروق الثانوية، ومحاصرة العدو الرئيس، وسلخ حلفائه المضللين عنه وتبصيرهم بمصالحهم «الموضوعية» وبمكانهم الذي يليق بهم بين حلفائهم «الحقيقيين».
ومن موروثات أدب البيانات الشيوعي أن قوتين رئيسيتين تقودان «التناقض الرئيسي» هما ربانان وجنرالان «جماعيان»، أو فردان فذان. وتتولى الأوراق والبيانات وصف المنازلة، وقواها وموضوعاتها التي تدور عليها، وميدانها أو ميادينها وأسلحتها. فالأدب السياسي أدب حربي من وجوه كثيرة، تناولت بياناته الأزمة اللبنانية المتطاولة أم تناولت غيرها من الموضوعات. وهذا ما لا تنكره ورقة قوى الرابع عشر من آذار، «دفاعاً عن السلم الأهلي وبناء دولة الاستقلال»، وهي وضعت بين يدي ورشة عمل رابعة. وينزع الأدب «الحربي» الى توحيد كتلتي المتحاربين المفترضين، فإذا بهما معسكران أو كردوسان متجانسان، وليسا ائتلافين من كتل تترجح علاقاتها الواحدة بالأخرى، وعلاقات الواحدة الداخلية، بين التكتل المرصوص وبين المنازعة المعلنة. وينزع الأدب «الحربي» نفسه، من وجه آخر، الى قصر ميدان المنازعة أو الحرب على رقعة من المسائل، وعلى وقت أو زمن ضيقين وقريبين. فإذا بالخطوط الطويلة والمتعرجة من الجبهات الثانوية والخلفية تتوارى تحت الخطوط الغليظة التي ترسمها اليد القيادية والاستراتيجية على خريطة خططت على سُلَّم غليظ وبعيد من الدقة والتفصيل.
اتفاق الطائف ووليداه
وابتداء «الورقة» المرحلة التي تتناولها بـ «ما بعد 14 آذار 2005»، يوم التظاهرة الوطنية الكبيرة والمشهودة غداة شهر على اغتيال رفيق الحريري وأقل من أسبوع على تظاهرة القوى «القومية» الناصرة لسورية وسياستها، مثال على تضييق ميدان الخصومة ورقعتها، زمناً. وملء الميدان بـ «تعايش هش بين (...) مشروع بناء دولة الاستقلال و (بين) مشروع حماية دولة المقاومة...» اختصار لقوى المنازعة وجبهاتها وأغراضها، بعيد من استيفاء وصفها على وجه التقريب المفيد. ولا يخفى الأمر متولي الورشة، وصواغ الورقة. فيعمّقون مسرح المنازعة الزمني، ويمدونه الى اتفاق الطائف (1989). ولكنهم يؤرخون لـ «دولة الاستقلال» بالاتفاق العتيد. ويؤرخون لـ «تأجيله» وإرجائه بالاتفاق نفسه. وفي الأثناء ينسبون أنفسهم، و «قوى 14 آذار» معهم، الى الاتفاق، وإرادة إنفاذه والتقيد به. ويتركون «دولة المقاومة»، أو «مشروع حمايتها»، معلقة من غير نسب معروف. وهذا خلل في سياقة التناول والتصور والرسم ينم باضطراب في تعريف النفس وهويتها، أو هوياتها، على قدر ما ينم ربما باضطراب في تعريف علاقتها بغيرها، وهو خصمها ومنازعها. وقد يتصور في صورة عدوها في بعض الأوقات.
فقوى «دولة المقاومة (و) المواجهة المستمرة» هي وليدة اتفاق الطائف على نحو قوى «مشروع بناء الدولة». وربما هي وليدته «أكثر» (إذا جازت المفاضلة في الانتساب) من هذه. والحق أن الاتفاق العتيد تحدر من «حرب» أو حروب كثيرة ومتمادية، سابقة، اقتتلت فيها قوى «طورت»، في ميادين القتال وأوقاته، مشاربها وبرامجها وأحلافها. ووحَّد الاتفاق القوى المتقاتلة في جبهتين. فاختصرت الجبهتان القتال والبرامج والأحلاف، وموقتاً، في جبهة تحصيل حقوق «المسلمين» – العروبيين المنقوصة، لقاء إقرار قواها بـ «وطن نهائي»، وجبهة النزول عن فائض امتيازات وصلاحيات مسيحية و «انعزالية»، لقاء الإقرار المرجأ والمنتزع بـ «الوطن النهائي» إياه. ورعت القوة السورية، العسكرية البوليسية والأهلية، الاتفاق وإنفاذه. وهي المنحازة انحيازاً قاتلاً الى الجبهة الأولى، على رغم ترجح مدمر بين الجبهتين، والمبيتة ثأراً قومياً وعروبياً من غايات الجبهة الثانية، اللبنانية والاستقلالية.
فرعت، وهي «الراعي» المزعوم، استثناء الحزب الخميني والشيعي المسلح من حل الميليشيات. وأفردته عنوة بـ «الحق في المقاومة»، و «دولتها» ومجتمعها. وحصنته من حقوق الدولة، والمواطنين، المدنية والسياسية. فاقتطع إقليمه وولايته ورعيته من الدولة العامة والمشتركة. وشن حروبه، وعقد اتفاقات هدناته، ومد أحلافه وعداواته، في كنف «الرعاية» القومية المدمرة. واضطلعت هذه، أمام أنظار كليلة ومتواطئة، في الداخل والخارج، بنسج غلالة «بناء الدولة»، ومؤسساتها وإداراتها وقواتها العسكرية، على هواها ومقاس مصالحها وأغراضها. فأشركت معظم القوى المحلية والوطنية، رئاسات وكتلاً وجماعات أهلية و «شعبية»، في البناء الكاذب والمتداعي هذا. ولم تحجم الرئاسات والكتل والجماعات، إلا اقلها، عن المشاركة. وسوغت أولوية «التحرير» العملية المعقدة التي تولتها السياسة السورية. فاختصرت لبنان واللبنانيين، وبنيان هؤلاء وذاك السياسي والاجتماعي، والحاجات والحقوق والهويات والتاريخ بمخلوق مصطنع منذ نطفته الأولى. وتعود النطفة هذه الى تخزين المنظمات الفلسطينية المسلحة، التائهة والمشتتة والمتحاربة، في لبنان، ثم الى استدراج الدولة العبرية وتوريطها في بناء جدار فصل، سياسي وبشري وجغرافي، يرد عنها أعمال «القشرة» العسكرية. وأقر اتفاق الطائف، في رعاية إقليمية عربية ودولية، أولوية الكائن المصطنع هذا، ومصالح نافخي الحياة والدماء في عروقه الهزيلة، على حقوق المواطنين والمجتمع والشعب والدولة والهيئات.
فجذور «دولة المقاومة»، وقيامها خارج الدولة الوطنية وعلى نقيضها، ونقيض أركانها الحقوقية والسياسية، إنما مردها الى الانقسام هذا، والى ظهوره في 1969 ثم في 1972 – 1973. ولا شك، من وجه آخر، في أن القوى المتفرقة التي دخلت الطائف، مضطرة أو مختارة، لم تدخله مجمعة على مفاعيله المتوقعة، أو على وجوه استعماله واستثماره، على خلاف مقالات الثأر والضغينة العونية. وفي وسع «قوى 14 آذار»، كتلاً وتيارات أو أفراداً و «ذرات»، الانتساب من غير خجل الى ميراث رفيق الحريري في الحقبة السورية والحزب اللهية هذه. فالنزاع الحريري – السوري كان جلياً منذ أوائل التمكن السوري الأسدي من الدولة اللبنانية واللبنانيين. واتصلت حلقات النزاع هذا الى اغتيال الرجل. فـ14 آذار 2005، وولادة «قواه» منه. وصورة تآخي «الإعمار» و «التحرير» التي روجتها السياسة السورية، وتلوح بها عند الحاجة خطيب الحزب الخميني المسلح، ويصطاد بها الاثنان أفئدة الشارع العربي والتلفزيوني، هذه الصورة كاذبة ومنحولة ومركبة. ويعود كذبها وانتحالها وتركيبها الى اتفاق الطائف، والى مقدماته ومسوغاته قبل نصوصه نفسها، وفوق نصوصه. ولكن حاله هذه لا تسوغ نفي التعسف السوري، وولادة «دولة المقاومة» المصطنعة في كنف التعسف هذا، من الاتفاق العتيد. ولا تسوغ إخراج الأمرين، التعسف و «دولته»، من النسب «الطائفي»، ومن صلبه.
وعلى هذا، فالتأريخ بـ «مرحلة ما بعد 4 آذار – 2005» لـ «تعايش هش بين (ال) مشروعين» المفترضين، مفتعل وبعيد من الصدق والدقة. والحق أن الانقسام العميق يعود الى اتفاق الطائف، والى اختصاره حروب الـ15 عاماً السابقة في مقايضة الحقوق السياسية والاجتماعية بـ «الوطن النهائي»، وتوكيله السياسة السورية، وهي قوة والغة في الحروب الملبننة وفي لبننتها، برعاية المقايضة. وإذا كانت الوكالة، في 1989، السلَّم الوحيد، في ضوء الحال القائمة وتلك التي أفضت إليها، الى الخروج من الحروب المدمرة والمتداعية، فلا عذر اليوم للإغضاء المستمر والمزمن عن دواعي دخول الحروب الملبننة، يوم دخلنا أو دخلت جماعات منا الحروب هذه، والإسهام في لبننتها. وأول الدواعي التي يغض عنها هو داعي «المقاومة»، «بوابة فلسطين والعروبة». وهو الداعي الذي يبدي فيه بعضهم ويعيدون. وهو داعٍ تبعثه، اليوم، أطياف النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين الكالحة، وتعود رافلة في ثوبه. ولا يسع دعاة بناء الدولة، وحزب هذا البناء، تناول المسألة المحورية هذه تناول «الكرام» العابرين والمارين مروراً سريعاً وخفيفاً. فالمقاومات العربية، من فلسطينية «فدائية» الى أردنية أو لبنانية أو مصرية أو سورية، الى آخر العقد، يلاحظ عليها كلها اشتراكها في أمور أو سمات تجمع بينها. فهي، من وجه أول، رد على سيطرة أجنبية أو نفوذ أجنبي، ظاهر أو مستتر، يسلب الداخل – دولة وشعباً وجماعات وأمة – هويته، ويحرمه التصرف الحر في شؤونه، وحماية مصالحه ومرافقه.
ولا يطوي الاستقلال السياسي، وجلاء القوات الأجنبية، وصدور هيئات الحكم والإدارة وطواقمها عن عمليات سياسية داخلية، لا تطوي النفوذ هذا، ولا تطوي تحكّمَه المزعوم في مصائر الداخل التاريخية. فأجهزة الدولة الاستقلالية (وسياساتها)، كيفما تولت السيطرة ومن أي طريق تسلمت السلطة، هي وارثة القوة الأجنبية، على ما ترى المعارضة (المعارضات) – المقاومة (المقاومات). وعلى هذا، تضمر «المقاومة»، في العهود الاستقلالية، القيام على السلطات، والدولة القاصرة عن إنجاز مهمات «التحرير» وفروضه. وهذا وجه ثانٍ يلازم الأول، ويجره جراً ويدخله في جهازه وأثاثه. فلا تنفك معارضة الحاكم من نسبته، هو والحكم والدولة، الى صنيع أجنبي مقيم ومهيمن، ولو تصور في صورة سفارة من 150 سفارة أخرى متفرقة. ويؤدي التلازم هذا الى حمل المنازعات كلها، الجوهرية والفرعية على حد واحد، وعلى منازعة أساس واحدة كيانية أو كينونية و «وجودية» محورها الهوية، من وجه ثالث. فالمعارضة، أو المقاومة، دفاع مشروع عن النفس والهوية بكل الوسائل المتاحة. ومن الوسائل المتاحة، وفي مقدمها وصدارتها، الحرب الفعلية والكلية على عدو لا يرمي الى أقل من محق «هويتك» و «وجودك» واستئصالهما.
--> وكان مفكر حقوقي وقانوني محافظ (خدم النظام الهتلري بعض الوقت)، هو كارل شميدت، نبه الى دور السياسة السوفياتية، غداة الحرب الثانية وتجربة حروب الأنصار في أثناء الحرب، في صوغ اتفاقات جنيف القاطعة في «الحق في المقاومة»، وفي استثنائها من مبادئ الحق والقانون العامة والملزمة. وتستقوي المقاومات – المعارضات العربية المتفرقة، ضمناً أو علناً، بالاستثناء هذا، وتحله هو وأحكام طوارئه العرفية، محل الحق والقانون العاديين، في الظروف كلها. وهي تسوغ استقواءها وإحلالها بتوحيد الظروف المختلفة على ظرف واحد هو «الإبادة» و «محق الهوية». وتنصب الجماعة المنتصبة للمحاماة عن الهوية نفسها، وهي على هذه الحال (والمزاعم) من الإجمال والشمول والعموم، أياً كان موقعها من «المجتمع» العام، تنصب نفسها قائماً مقام الجماعة الأوسع، ونائباً عنها، ومفوضاً تام التفويض «صلاحياتها» المطلقة وغير المقيدة ولا المعروفة، من وجه رابع. وجماعة هذا شأنها – أهلية كانت، أي مذهبية أم «عرقية» أم محلية أم جامعة بعض سمات هذه أو بعضها، أو كانت «سياسية» حزبية لا تنفك من أرجحية أهلية أو غلبة – هي مجتمع ودولة معاً، وشعب «وطني» وأمة. وهي قوة تشريع وقوة إنفاذ وهيئة مراقبة. وهي مرجع علاقات الداخل وعلاقات الخارج، والآمر في أعمال الشرطة وفي الدفاع. وفي آخر المطاف، وفي أوله فكراً و «تكليفاً» عملياً، جماعة هذا شأنها، وهذا رأيها في نفسها وحالها، هي سلطان كلي و «كينوني»، على قول بعض محدثي الشيعة الإمامية وفقهائها. وتنفي جماعة هذا شأنها مفهوم الدولة الوطني، والولاية السياسية والقانونية، نفياً لا توسط فيه. وتنفي تمييز حقوق الأفراد المدنية والسياسية من حقوق السلطان و «حقوق الله». وسبيلها الى تحقيق النفي هذا هو سبيل القوة والاستيلاء، إذا تيسر لها الأمر، واجتمعت أسبابه. وهو سبيل «الحوار»، على المعنى الذي يحمله عليه أحد الفقهاء اللبنانيين الإماميين، وهو المفاصلة، والحصار الصبور، واصطناع قواعد علاقة تسند ميزان القوى المائل، والإكراء المتقنع بقناع الإلزام، والاستيلاء المراوغ على مراحل، على ما نصحت به وأشارت كتب الحرب «الإسلامية».
ولعل لبنان مسرح بلورة المبادئ هذه وإعمالها، ومختبرها الأثير والمقدم. وعلل الحال هذه غير خفية. فهو مهد الدولة والمجتمع الوطنيين الأقوى ملابسة للغرب (ولم يكتم الحاج محمد رعد، رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة»، ضغينته على «علاقة لبنان بالغرب» ورغبة أهل عصبيته وغرضيته في «قطعها»). والغرب هو الأجنبي، والقاهر والشرير والكافر والفاسد، بحسب الظرف والحاجة. ولبنان هو كذلك وفي آن حضن الجماعات الأهلية الأكثر استقلالاً عن سلطة مركزية، محضت أو غازية، منذ قرون طويلة، من غير أن يحصنه استقلال جماعاته من علاقات قوية بجماعات الجوار، وبحروبها الأهلية، وعداواتها الكثيرة، وتأليبها الأحلاف والحلفاء بعضها على بعض. واجتماع الأمرين، ملابسة الغرب واحتضان الجماعات الأهلية المستقلة عن سلطة مركزية، فحضنهم لبنان مجتمعاً – أي دوائر تملك ومبادلات وإنتاج وحاجات ونظر ومعايير، وأناساً يديرون هذه الدوائر – لا يقتصر على «خدمة» السلطان والانقياد له، ولا يدخل في بابه دخولاً تاماً، من وجه، ولا ينحل في المطاف الأخير في الجماعات الأهلية، القرابية والمحلية والمذهبية، ولا في رئاساتها، من وجه آخر.
ونهضت الدولة في لبنان على الركنين هذين. وهما ركنان غريبان، على هذا القدر أو ذاك، عن الجوار العربي والإسلامي، أو عن منازعه الغلبة. وورط ركنا الدولة اللبنانية، أو دولة اللبنانيين، الدولة واللبنانيين في منازعات أهلية وسياسية واجتماعية لا فكاك منها، ولا خاتمة لها. فلبنان وطن سياسي، «دستوري»، على قول يورغين هابرماز الألماني، الملم بعسر الوطنية الدستورية في مجتمعات تخلط الوطنية بالعصبية القومية و «اللحم والعظم» والدم والأرض والنسب. وجماعات اللبنانيين عصبية وأهلية، عموماً. ومعظمهم يؤول السياسة، الوطنية السياسية والدستورية أي قواعد العلاقات بين الجماعات والأفراد والعقد («الميثاق») الذي عقد بينها وبينهم، معظمهم يؤولها افتئاتاً، وانحيازاً، وقناع سيطرة، واستلاباً. وانتشاء شطر كبير من شيعة لبنان بعصبيتهم ووحدتهم ودولتهم ومجتمعهم ومقاومتهم ومعارضتهم وسلاحهم وشهدائهم وحروبهم وانتصاراتهم وهزائمهم، مرده الى خروجهم من الوطن السياسي، وانكفائهم الى الوطن العصبي وعليه، والى الجماعة الأهلية المرصوصة وعليها. ولعل بعض الـ «70 في المئة» من المقترعين المسيحيين (وهؤلاء هم ربع الناخبين المسيحيين تقريباً أي ان الـ70 في المئة هم من 25 – 30 في المئة من جملة الناخبين ليس إلا) الذين يفاخر بهم العماد الأسبق ومريدوه، هم من أثر نشوة عصبية أصابت «الشيعة» العونية على نحو ما أصابت شيعاً لبنانية أخرى، ولم تنفك تصيبها معاً أو تباعاً. والشيعتان، الحزب اللهية والعون اللهية، تتقاسمان وتتشاركان «المقاومة» (- المعارضة) مرجعاً وعلة تاريخية، وتحمل الواحدة منهما «المقاومة» على معنى فريد يشترك في اللفظة وحدها مع المعنى الآخر ووقائعه واحواله. وهما تريدان بـ «المقاومة» ما ينقض معاني الدولة والمجتمع اللبنانيين السابقة، ويخرج جماعتيهما من المعاني هذه، وتراثها وتاريخها، ويرسي سيطرتهما المأمولة على «حكم كامل»، على قول ساذج وغافل عن استدراجات الكلمات والصور والوقائع. و «الحكم الكامل» في هذا المعرض هو «حكمان كاملان» على شيعتين وفرقتين منفصلتين ومتناحرتين.
الموعد مع الشعب السياسي
فما يتهدد وحدة الدولة (اللبنانية) السياسية والحقوقية، وما امتحنها على الدوام امتحاناً قاسياً ومدمراً ويمتحنها اليوم وغداً، مصدره الأول «المقاومة»، على المعنى المركب الذي تقدم تعريفه. وهذا المعنى لم تبتكره «قوى 8 آذار» ، ولا ابتكرته «المقاومة الإسلامية» على خطى «المقاومة» أو «الثورة» الفلسطينية في العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين، ولا «المقاومة المسيحية» اللبنانية، ولا «المقاومة الشعبية»، على ما سمت نفسها الزمر التي رفعت السلاح، في ربيع 1958 وصيفه، على كميل شمعون و «حلف بغداد» وانتصرت للـ «عروبة»، على ما حسبت ويحسب الى اليوم وارثوها وخالفوها. فـ «المقاومة» هي صرخة حرب من يدعون الى تغليب قانونهم وعصبيتهم على قانون الدولة الوطنية المكبلة بالمنازعات والتسويات والضرورات، وصرخة حرب على الجماعات الأخرى، انضوت الجماعات الأخرى تحت قانون الدولة أم لم تنضو.
و «قوى 14 آذار» – على معنى المنظمات والتيارات السياسية والانتخابية والأهلية المتحدرة من الاحتجاج على اغتيال رفيق الحريري، ومن تحميل السياسات السورية المسؤولية السياسية والأدبية (وربما الجنائية القضائية) عن الاغتيال، وعن الاغتيالات والاضطرابات اللاحقة – ليست براء من علة «المقاومة» هذه ودائها، من غير أن يعني القول هذا مساواتها بـ «المقاومتين» الحزب اللاهية والعون اللهية في المسؤولية عن تصدع الدولة الوطنية وانتهاك قانونها وتماسكها. وليس هذا، كذلك، تعريضاً بانتساب معظمها الى «عهد الوصاية السورية»، وموالاتها «الوصاية» هذه، واقتسامها ريعها، على قدر أو آخر. فمعنى القول أو الرأي هو أن 14 آذار 2005، والشهر الذي سبقه ومهد الطريق إليه، لم يخلق «القوى» هذه خلقاً جديداً ووطنياً ناجزاً وواحداً. ولم ينشئ منها، بين ليلة وضحاها، قوة سياسية متماسكة ومؤهلة لقيادة الشعب اللبناني، وحكم دولته، على نهج ومثال «قويمين» (لا يعلم أحد على وجه الضبط ما يكونان).
ولا يحسب أحد أن هذا في الإمكان. ولكن ما لم يكن مستحيلاً ولا ممتنعاً، وليس مستحيلاً ولا ممتنعاً اليوم، هو مسير «قوى 14 آذار»، وعدد أظنه كثيراً من مواطنين وأفراد ليسوا «قوى» (على معنى الكتل المنتظمة)، الى علاقات في ما بينها تضعف احتمال ارتكاسها الى مزاعم «المقاومة» ومناهجها. فالارتكاس الى «المقاومة»، أي الى العصبية الأهلية وفروعها، ليس وليد إرادة خالصة، ولا هو ثمرة مصالح إقليمية وسياسات احتياطية واستباقية، وحسب. فهو حل من الحلول المتاحة والمتيسرة الناجمة عن عسر تصديع الأجسام الأهلية، وإضعاف لحماتها، وبلورة مجتمع مستقل بمصالحه وقيمه عن هرم العصبيات الأهلية ومنازعاتها وموازينها. فيقوم المجتمع هذا بإزاء السلطة السياسية، ويقيدها، ويندبها الى الاضطلاع بمصالحه المشتركة والمتنازعة معاً، والى رعاية التشارك والنازعة.
وتترجح «قوى 14 آذار»، في ورقة ورشة العمل الرابعة، وفي مرآة أحوال علاقات بعضها بأبعاضها الأخرى، بين دعوات «الدفاع الذاتي» وبين التسليم للدولة الموعودة، وبين الانتساب الى الدولة الجامعة وبين الاعتصام بالعصبيات الخاصة والاحتماء بها. وتترجح بين (زعم) الذوبان في كيان معنوي وسياسي واحد (ليس أقل من «كتلة تاريخية» خطابية) وبين المفاوضة المريرة والممضة على الحصص. وقد يكون الترجح هذا قرينة بليغة على عسر بلورة نهج سياسي، وثقافي سياسي، يتولى في مرافق الحياة اليومية العامة، وفي دوائرها، التمهيد لبناء الدولة الوطنية اللبنانية، على نهج لبناني تاريخي. فيبدو، في «الأوراق» والمقال وفي الحال، أن هذا البناء وقف على طاقم الحكم، وأن ما على طاقم الحكم إلا أن يجيد الحكم، ويحسن التدبير والمفاوضة. وعلى «الرأي العام»، على قول يوسف بزي («المستقبل»، في 27 تموز/ يوليو)، وهو اسم آخر مستحدث للقواعد الحزبية، مساندة الطاقم القيادي، وهمزه، وثنيه عن الضعف وعن النزول عن المكاسب.
وأرى أن صور الترجح والتردد هي، في شطر منها ظرفي، ثمرة يوم 14 آذار، وتركه نصباً يدعو الى الدهشة والانبهار والتأويل المسترسل وقلما يدعو الى الفعل. فـ «شعب» اليوم العتيد والرائع ضرب موعداً، يومها، مع نفسه، مع ولادته شعباً سياسياً رائداً قوام لحمته عموم حقوقه المدنية والمساواة في الحقوق السياسية، وتمييز المجتمع من الدولة. وضرب الموعد ليس إنجازه. وهو «ثورة»، على معنى أعرض بما لا يقاس من المعنى الذي حمله عليه جمال عبدالناصر، وآل الى المعنى الذي يحمله عليه محمود أحمدي نجاد وأمثاله. وهو جاء ساحة الحرية روافد كثيرة لا تنكر مصادرها، ولا كثرتها. ولا تخلو هذه من تنافر وتباعد. وربما جمع الكثرة هذه إنكار قوي، لا تزال أصداؤه تتردد الى اليوم، للتعسف الفظيع الذي حمل على اغتيال رفيق الحريري جزاء تحفظه عن السياسات القومية السورية، وخروجه على إجماع قسري وكاذب على «المقاومة» صنعته السياسات هذه، وفرضته مذهباً واحداً، وحزباً حاكماً (أوكلت مقاليده الى إميل لحود وطاقمه، وتجديده الى الجهاز الخميني، وغلالته الى الفقه «الأملي»). ولعل الإنكار هذا، ومرتباته السياسية والأهلية، هو نواة فكرة الحق والقانون والسياسة المتضافرة، والقائمة من الدولة الوطنية اللبنانية مقام الركن.
--> فلم ينكر «شعب» 14 آذار روافده ومصادره، ولكنه أنكر إنكاراً شديداً سوس «دولته» وهيئاتها، وسوسه هو تالياً، من طريق إجماع كاذب على «مقاومة» هي، فعلاً وحقيقة، أداة تصديع الدولة وعزلها وإفشالها، وآلة تمييز المواطنين والجماعات طبقات ومراتب، وإطلاق يد التعسف في امتهان الحقوق بذريعة «اختصاص» في قتال العدو وتعريفه، والدلالة عليه. ولو لم يكن هذا مؤلماً، وعنوان خسائر متمادية ولا تحصى، لكان مضحكاً حتى «الفحص بالقدمين»، على قول الأصبهاني. فزعم اختصار سعي ملايين من الناس، حرثهم ونسلهم واختيارهم وعلمهم وتعارفهم وتفرقهم واجتماعهم وتحكيمهم في منازعاتهم، في إنشاء جهاز عسكري محترف وتكتيكي، من وراء ظهر الناس هؤلاء ومن غير إسهام منهم سوى رضوخهم للموت والدمار والتشبيه، هذا الزعم لا ينم بـ «علم» أصحابه، ولا بعلو كعبهم في السياسة، على ما يتبجحون.
وإنكار أهل اليوم المشهود الاغتيال هو ركن اجتماع نقيض «المقاومة»، ونقيض مقالاتها قبل سلاحها وفوق السلاح هذا. ولعله (الإنكار) الخيط الناظم بناءَ حركة سياسية متماسكة الحلقات من روافد الجماعات التي صبت في الساحة، مادياً ومعنوياً. فليس في وقائع الحياة والعلاقات السياسية اللبنانية اليوم ما يجسد، على نحو تقريبي، الخيط الناظم هذا. والردود على الحوادث الكبيرة والمنعطفات (من الانتخابات الى الانتخابات، وما بين هذه وتلك من اغتيالات وتظارهات ومخيمات واعتصامات وحروب واستقالات وحوارات...) تشي بصدورها عن حساسيات وثقافات لا تزال صبغتها بصبغة الجماعات الأهلية واضحة وقوية.
ولا تطعن الصبغة الأهلية هذه في صدق الردود وحقيقتها، ولا بالأحرى، في جدواها. والتنبيه الى «طائفيتها»، وتسويغ الطعن فيها، والتنديد بها وإبطالها بذريعة «طائفيتها» (السنية أو الدرزية، اليوم)، على ما يصنع خطباء الحارات والخطط والسكك المذهبية المحترفون، يقصد به مضمون الردود، وبرنامج الحركة الوطنية والاستقلالية اللبنانية. وبنود البرنامج الرئيسة هي طلب الجلاء السوري عن الداخل السياسي، وضبط العلاقات السياسية اللبنانية بإرادات ومصالح لبنانية وطنية «أولاً»، وتقديم الحقوق المدنية والحريات على «المصالح الاستراتيجية» البوليسية والأمنية، «الداخلية» المزعومة والخارجية الفعلية. والناعون على «الطائفية» صبح مساء، والمعيدون إليها العلل كلها، البيولوجية والنفسانية والكونية، لم ينددوا يوماً بخدماتها عندما تسدى إليهم، والى «قضاياهم» الكبيرة. وهم يسمون طائفية عصبية الغير، ولا يسمون بهذا الاسم عصبيتهم وعصبية حلفائهم وأولياء أمرهم. والى هذا، وهو كثير، قلما يقصد بالتنديد بالطائفية العصبية نفسها، وانتهاكها الحقوق المدنية، والحقوق السياسية، والحريات العامة والخاصة. فيقصد بالتنديد، أولاً، إدانة اللبنانيين السياسة السورية - الإيرانية، وقوميتها أو إسلاميتها المزعومة، في لبنان، بعد إدانة عيث المنظمات الفلسطينية المسلحة فساداً واقتتالاً وانتهاكاً فيه. ويقصد به السعي اللبناني الوطني في تصفية ذيول السياسة هذه، من رعاية ولاية خمينية مسلحة ومعزل أمني احتياطي، الى إلحاق اللبنانيين بقيادات فقيرة ومتهورة لا شاغل لها غير تربعها في سدة خواء اجتماعي وإنساني عميم.
واضطلاع عصبيات أهلية بدور سياسي دفاعي ووطني إيجابي، في بعض الظروف، لا يعصمها من الارتكاس الى دور «المقاومة»، والتصدي للدولة الوطنية، وإرساء السلطة على القهر والفتح والتمييز والاستتباع. والى اليوم، كان على الحركات السياسية اللبنانية أن تختار بين منزع سياسي واجتماعي نخبوي ومجرد، يعزلها من «الجماهير»، ومن العامة ومشاعرها واختباراتها والفعل السياسي، وبين منزع عامي وعصبي، «جماهيري» ويميني (على معنى القومي الاتني وغير الليبرالي)، يسلط عليها أ هواء «المقاومة». ولعل «14 آذار»، اليوم التاريخي والمعاني المتاحة، فاتحة خروج من الاختيار المغلق والعقيم هذا. وهذا متاح ليس إلا. وتتيحه «التركيبة» اللبنانية، على قول بعض أعيان العصبيات في مجالسهم الخاصة، وحضانتها مجتمعاً وعلاقات اجتماعية تقيد السياسة، على معنى السلطان أو «المقاومة». وتتيحه دعوة «التركيبة» اللبنانيين الى التعاقد على نظام دولتهم ومجتمعهم، وترك الإذعان والامتثال لقدر غشيم، منذ اليوم، وخارج الحكم وداخله. وربما منذ البارحة قبل اليوم.
--> لا تشذ «ورقة النقاش» التي صاغتها «قوى الرابع عشر من آذار (مارس)»، ودعت الى تداول الرأي فيها، وعقدت «ورشة عمل» تناولتها في 23 تموز (يوليو) المنصرم، ونشرتها معظم الصحف المحلية أو لخصتها وأبدت رأياً فيها، لا تشذ الورقة هذه عن حال مثيلاتها الحزبية، أو الحركية أو التيارية. فالأوراق، أو البيانات، أو البرامج والخطط (أو مشروعات هذه)، يضطرها الاختصار، والموجب العملي والتنفيذي، الى الإلمام السريع والمبتسر بالحوادث وروابطها وتسلسلها، الى الكلام على المقاصد والوسائل كلاماً قاطعاً. فتستخرج من الكلام القاطع ومن الإلمام السريع معاني تبدو المناسبة بينها وبين الحوادث والمقاصد إما ضعيفة أو غير ظاهرة وخفية. وليس الاختصار والموجب العملي مسؤولين، وحدهما، عن عيوب الأوراق أو البيانات الحزبية.
فثمة عيب أعمق وأفدح مصدره نازع الكتل السياسية الى إلحاق الحوادث والأطوار والمنعطفات في ركبها و «قافلتها» هي، وإلى تصدر الركب هذا وترؤسه، أو الى القيام منه مقام الدليل والحادي، على أضعف تقدير. ولا شك في أن الأحزاب الشيوعية الغابرة، والآفلة اليوم، أورثت «الأدب» السياسي مثالاً ناجزاً ومزمناً. فهي نصبت مثال ما سمته «التناقض الرئيسي». وهو «تناقض» بين قوتين كبيرتين، إحداهما هي، من غير شك ولا تواضع، القوة التي ينتسب الحزب (أو الحركة أو التيار) إليها، أو يتكلم باسمها، أو يقودها ويختصرها. والقوة الأخرى هي «العدو»، على درجات ومراتب في العداوة. ولكنها عداوة تستأهل، في معظم الأحوال، انفجار الثورة وشيكاً، أو تسوغ انفجار حرب أهلية الغداة. ولا يلجم الانفجار الوشيك والمخيف إلا داعي الحكمة والحلم الذي يشير بالصبر، وتوسيع التحالفات، والإغضاء عن الفروق الثانوية، ومحاصرة العدو الرئيس، وسلخ حلفائه المضللين عنه وتبصيرهم بمصالحهم «الموضوعية» وبمكانهم الذي يليق بهم بين حلفائهم «الحقيقيين».
ومن موروثات أدب البيانات الشيوعي أن قوتين رئيسيتين تقودان «التناقض الرئيسي» هما ربانان وجنرالان «جماعيان»، أو فردان فذان. وتتولى الأوراق والبيانات وصف المنازلة، وقواها وموضوعاتها التي تدور عليها، وميدانها أو ميادينها وأسلحتها. فالأدب السياسي أدب حربي من وجوه كثيرة، تناولت بياناته الأزمة اللبنانية المتطاولة أم تناولت غيرها من الموضوعات. وهذا ما لا تنكره ورقة قوى الرابع عشر من آذار، «دفاعاً عن السلم الأهلي وبناء دولة الاستقلال»، وهي وضعت بين يدي ورشة عمل رابعة. وينزع الأدب «الحربي» الى توحيد كتلتي المتحاربين المفترضين، فإذا بهما معسكران أو كردوسان متجانسان، وليسا ائتلافين من كتل تترجح علاقاتها الواحدة بالأخرى، وعلاقات الواحدة الداخلية، بين التكتل المرصوص وبين المنازعة المعلنة. وينزع الأدب «الحربي» نفسه، من وجه آخر، الى قصر ميدان المنازعة أو الحرب على رقعة من المسائل، وعلى وقت أو زمن ضيقين وقريبين. فإذا بالخطوط الطويلة والمتعرجة من الجبهات الثانوية والخلفية تتوارى تحت الخطوط الغليظة التي ترسمها اليد القيادية والاستراتيجية على خريطة خططت على سُلَّم غليظ وبعيد من الدقة والتفصيل.
اتفاق الطائف ووليداه
وابتداء «الورقة» المرحلة التي تتناولها بـ «ما بعد 14 آذار 2005»، يوم التظاهرة الوطنية الكبيرة والمشهودة غداة شهر على اغتيال رفيق الحريري وأقل من أسبوع على تظاهرة القوى «القومية» الناصرة لسورية وسياستها، مثال على تضييق ميدان الخصومة ورقعتها، زمناً. وملء الميدان بـ «تعايش هش بين (...) مشروع بناء دولة الاستقلال و (بين) مشروع حماية دولة المقاومة...» اختصار لقوى المنازعة وجبهاتها وأغراضها، بعيد من استيفاء وصفها على وجه التقريب المفيد. ولا يخفى الأمر متولي الورشة، وصواغ الورقة. فيعمّقون مسرح المنازعة الزمني، ويمدونه الى اتفاق الطائف (1989). ولكنهم يؤرخون لـ «دولة الاستقلال» بالاتفاق العتيد. ويؤرخون لـ «تأجيله» وإرجائه بالاتفاق نفسه. وفي الأثناء ينسبون أنفسهم، و «قوى 14 آذار» معهم، الى الاتفاق، وإرادة إنفاذه والتقيد به. ويتركون «دولة المقاومة»، أو «مشروع حمايتها»، معلقة من غير نسب معروف. وهذا خلل في سياقة التناول والتصور والرسم ينم باضطراب في تعريف النفس وهويتها، أو هوياتها، على قدر ما ينم ربما باضطراب في تعريف علاقتها بغيرها، وهو خصمها ومنازعها. وقد يتصور في صورة عدوها في بعض الأوقات.
فقوى «دولة المقاومة (و) المواجهة المستمرة» هي وليدة اتفاق الطائف على نحو قوى «مشروع بناء الدولة». وربما هي وليدته «أكثر» (إذا جازت المفاضلة في الانتساب) من هذه. والحق أن الاتفاق العتيد تحدر من «حرب» أو حروب كثيرة ومتمادية، سابقة، اقتتلت فيها قوى «طورت»، في ميادين القتال وأوقاته، مشاربها وبرامجها وأحلافها. ووحَّد الاتفاق القوى المتقاتلة في جبهتين. فاختصرت الجبهتان القتال والبرامج والأحلاف، وموقتاً، في جبهة تحصيل حقوق «المسلمين» – العروبيين المنقوصة، لقاء إقرار قواها بـ «وطن نهائي»، وجبهة النزول عن فائض امتيازات وصلاحيات مسيحية و «انعزالية»، لقاء الإقرار المرجأ والمنتزع بـ «الوطن النهائي» إياه. ورعت القوة السورية، العسكرية البوليسية والأهلية، الاتفاق وإنفاذه. وهي المنحازة انحيازاً قاتلاً الى الجبهة الأولى، على رغم ترجح مدمر بين الجبهتين، والمبيتة ثأراً قومياً وعروبياً من غايات الجبهة الثانية، اللبنانية والاستقلالية.
فرعت، وهي «الراعي» المزعوم، استثناء الحزب الخميني والشيعي المسلح من حل الميليشيات. وأفردته عنوة بـ «الحق في المقاومة»، و «دولتها» ومجتمعها. وحصنته من حقوق الدولة، والمواطنين، المدنية والسياسية. فاقتطع إقليمه وولايته ورعيته من الدولة العامة والمشتركة. وشن حروبه، وعقد اتفاقات هدناته، ومد أحلافه وعداواته، في كنف «الرعاية» القومية المدمرة. واضطلعت هذه، أمام أنظار كليلة ومتواطئة، في الداخل والخارج، بنسج غلالة «بناء الدولة»، ومؤسساتها وإداراتها وقواتها العسكرية، على هواها ومقاس مصالحها وأغراضها. فأشركت معظم القوى المحلية والوطنية، رئاسات وكتلاً وجماعات أهلية و «شعبية»، في البناء الكاذب والمتداعي هذا. ولم تحجم الرئاسات والكتل والجماعات، إلا اقلها، عن المشاركة. وسوغت أولوية «التحرير» العملية المعقدة التي تولتها السياسة السورية. فاختصرت لبنان واللبنانيين، وبنيان هؤلاء وذاك السياسي والاجتماعي، والحاجات والحقوق والهويات والتاريخ بمخلوق مصطنع منذ نطفته الأولى. وتعود النطفة هذه الى تخزين المنظمات الفلسطينية المسلحة، التائهة والمشتتة والمتحاربة، في لبنان، ثم الى استدراج الدولة العبرية وتوريطها في بناء جدار فصل، سياسي وبشري وجغرافي، يرد عنها أعمال «القشرة» العسكرية. وأقر اتفاق الطائف، في رعاية إقليمية عربية ودولية، أولوية الكائن المصطنع هذا، ومصالح نافخي الحياة والدماء في عروقه الهزيلة، على حقوق المواطنين والمجتمع والشعب والدولة والهيئات.
فجذور «دولة المقاومة»، وقيامها خارج الدولة الوطنية وعلى نقيضها، ونقيض أركانها الحقوقية والسياسية، إنما مردها الى الانقسام هذا، والى ظهوره في 1969 ثم في 1972 – 1973. ولا شك، من وجه آخر، في أن القوى المتفرقة التي دخلت الطائف، مضطرة أو مختارة، لم تدخله مجمعة على مفاعيله المتوقعة، أو على وجوه استعماله واستثماره، على خلاف مقالات الثأر والضغينة العونية. وفي وسع «قوى 14 آذار»، كتلاً وتيارات أو أفراداً و «ذرات»، الانتساب من غير خجل الى ميراث رفيق الحريري في الحقبة السورية والحزب اللهية هذه. فالنزاع الحريري – السوري كان جلياً منذ أوائل التمكن السوري الأسدي من الدولة اللبنانية واللبنانيين. واتصلت حلقات النزاع هذا الى اغتيال الرجل. فـ14 آذار 2005، وولادة «قواه» منه. وصورة تآخي «الإعمار» و «التحرير» التي روجتها السياسة السورية، وتلوح بها عند الحاجة خطيب الحزب الخميني المسلح، ويصطاد بها الاثنان أفئدة الشارع العربي والتلفزيوني، هذه الصورة كاذبة ومنحولة ومركبة. ويعود كذبها وانتحالها وتركيبها الى اتفاق الطائف، والى مقدماته ومسوغاته قبل نصوصه نفسها، وفوق نصوصه. ولكن حاله هذه لا تسوغ نفي التعسف السوري، وولادة «دولة المقاومة» المصطنعة في كنف التعسف هذا، من الاتفاق العتيد. ولا تسوغ إخراج الأمرين، التعسف و «دولته»، من النسب «الطائفي»، ومن صلبه.
وعلى هذا، فالتأريخ بـ «مرحلة ما بعد 4 آذار – 2005» لـ «تعايش هش بين (ال) مشروعين» المفترضين، مفتعل وبعيد من الصدق والدقة. والحق أن الانقسام العميق يعود الى اتفاق الطائف، والى اختصاره حروب الـ15 عاماً السابقة في مقايضة الحقوق السياسية والاجتماعية بـ «الوطن النهائي»، وتوكيله السياسة السورية، وهي قوة والغة في الحروب الملبننة وفي لبننتها، برعاية المقايضة. وإذا كانت الوكالة، في 1989، السلَّم الوحيد، في ضوء الحال القائمة وتلك التي أفضت إليها، الى الخروج من الحروب المدمرة والمتداعية، فلا عذر اليوم للإغضاء المستمر والمزمن عن دواعي دخول الحروب الملبننة، يوم دخلنا أو دخلت جماعات منا الحروب هذه، والإسهام في لبننتها. وأول الدواعي التي يغض عنها هو داعي «المقاومة»، «بوابة فلسطين والعروبة». وهو الداعي الذي يبدي فيه بعضهم ويعيدون. وهو داعٍ تبعثه، اليوم، أطياف النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين الكالحة، وتعود رافلة في ثوبه. ولا يسع دعاة بناء الدولة، وحزب هذا البناء، تناول المسألة المحورية هذه تناول «الكرام» العابرين والمارين مروراً سريعاً وخفيفاً. فالمقاومات العربية، من فلسطينية «فدائية» الى أردنية أو لبنانية أو مصرية أو سورية، الى آخر العقد، يلاحظ عليها كلها اشتراكها في أمور أو سمات تجمع بينها. فهي، من وجه أول، رد على سيطرة أجنبية أو نفوذ أجنبي، ظاهر أو مستتر، يسلب الداخل – دولة وشعباً وجماعات وأمة – هويته، ويحرمه التصرف الحر في شؤونه، وحماية مصالحه ومرافقه.
ولا يطوي الاستقلال السياسي، وجلاء القوات الأجنبية، وصدور هيئات الحكم والإدارة وطواقمها عن عمليات سياسية داخلية، لا تطوي النفوذ هذا، ولا تطوي تحكّمَه المزعوم في مصائر الداخل التاريخية. فأجهزة الدولة الاستقلالية (وسياساتها)، كيفما تولت السيطرة ومن أي طريق تسلمت السلطة، هي وارثة القوة الأجنبية، على ما ترى المعارضة (المعارضات) – المقاومة (المقاومات). وعلى هذا، تضمر «المقاومة»، في العهود الاستقلالية، القيام على السلطات، والدولة القاصرة عن إنجاز مهمات «التحرير» وفروضه. وهذا وجه ثانٍ يلازم الأول، ويجره جراً ويدخله في جهازه وأثاثه. فلا تنفك معارضة الحاكم من نسبته، هو والحكم والدولة، الى صنيع أجنبي مقيم ومهيمن، ولو تصور في صورة سفارة من 150 سفارة أخرى متفرقة. ويؤدي التلازم هذا الى حمل المنازعات كلها، الجوهرية والفرعية على حد واحد، وعلى منازعة أساس واحدة كيانية أو كينونية و «وجودية» محورها الهوية، من وجه ثالث. فالمعارضة، أو المقاومة، دفاع مشروع عن النفس والهوية بكل الوسائل المتاحة. ومن الوسائل المتاحة، وفي مقدمها وصدارتها، الحرب الفعلية والكلية على عدو لا يرمي الى أقل من محق «هويتك» و «وجودك» واستئصالهما.
--> وكان مفكر حقوقي وقانوني محافظ (خدم النظام الهتلري بعض الوقت)، هو كارل شميدت، نبه الى دور السياسة السوفياتية، غداة الحرب الثانية وتجربة حروب الأنصار في أثناء الحرب، في صوغ اتفاقات جنيف القاطعة في «الحق في المقاومة»، وفي استثنائها من مبادئ الحق والقانون العامة والملزمة. وتستقوي المقاومات – المعارضات العربية المتفرقة، ضمناً أو علناً، بالاستثناء هذا، وتحله هو وأحكام طوارئه العرفية، محل الحق والقانون العاديين، في الظروف كلها. وهي تسوغ استقواءها وإحلالها بتوحيد الظروف المختلفة على ظرف واحد هو «الإبادة» و «محق الهوية». وتنصب الجماعة المنتصبة للمحاماة عن الهوية نفسها، وهي على هذه الحال (والمزاعم) من الإجمال والشمول والعموم، أياً كان موقعها من «المجتمع» العام، تنصب نفسها قائماً مقام الجماعة الأوسع، ونائباً عنها، ومفوضاً تام التفويض «صلاحياتها» المطلقة وغير المقيدة ولا المعروفة، من وجه رابع. وجماعة هذا شأنها – أهلية كانت، أي مذهبية أم «عرقية» أم محلية أم جامعة بعض سمات هذه أو بعضها، أو كانت «سياسية» حزبية لا تنفك من أرجحية أهلية أو غلبة – هي مجتمع ودولة معاً، وشعب «وطني» وأمة. وهي قوة تشريع وقوة إنفاذ وهيئة مراقبة. وهي مرجع علاقات الداخل وعلاقات الخارج، والآمر في أعمال الشرطة وفي الدفاع. وفي آخر المطاف، وفي أوله فكراً و «تكليفاً» عملياً، جماعة هذا شأنها، وهذا رأيها في نفسها وحالها، هي سلطان كلي و «كينوني»، على قول بعض محدثي الشيعة الإمامية وفقهائها. وتنفي جماعة هذا شأنها مفهوم الدولة الوطني، والولاية السياسية والقانونية، نفياً لا توسط فيه. وتنفي تمييز حقوق الأفراد المدنية والسياسية من حقوق السلطان و «حقوق الله». وسبيلها الى تحقيق النفي هذا هو سبيل القوة والاستيلاء، إذا تيسر لها الأمر، واجتمعت أسبابه. وهو سبيل «الحوار»، على المعنى الذي يحمله عليه أحد الفقهاء اللبنانيين الإماميين، وهو المفاصلة، والحصار الصبور، واصطناع قواعد علاقة تسند ميزان القوى المائل، والإكراء المتقنع بقناع الإلزام، والاستيلاء المراوغ على مراحل، على ما نصحت به وأشارت كتب الحرب «الإسلامية».
ولعل لبنان مسرح بلورة المبادئ هذه وإعمالها، ومختبرها الأثير والمقدم. وعلل الحال هذه غير خفية. فهو مهد الدولة والمجتمع الوطنيين الأقوى ملابسة للغرب (ولم يكتم الحاج محمد رعد، رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة»، ضغينته على «علاقة لبنان بالغرب» ورغبة أهل عصبيته وغرضيته في «قطعها»). والغرب هو الأجنبي، والقاهر والشرير والكافر والفاسد، بحسب الظرف والحاجة. ولبنان هو كذلك وفي آن حضن الجماعات الأهلية الأكثر استقلالاً عن سلطة مركزية، محضت أو غازية، منذ قرون طويلة، من غير أن يحصنه استقلال جماعاته من علاقات قوية بجماعات الجوار، وبحروبها الأهلية، وعداواتها الكثيرة، وتأليبها الأحلاف والحلفاء بعضها على بعض. واجتماع الأمرين، ملابسة الغرب واحتضان الجماعات الأهلية المستقلة عن سلطة مركزية، فحضنهم لبنان مجتمعاً – أي دوائر تملك ومبادلات وإنتاج وحاجات ونظر ومعايير، وأناساً يديرون هذه الدوائر – لا يقتصر على «خدمة» السلطان والانقياد له، ولا يدخل في بابه دخولاً تاماً، من وجه، ولا ينحل في المطاف الأخير في الجماعات الأهلية، القرابية والمحلية والمذهبية، ولا في رئاساتها، من وجه آخر.
ونهضت الدولة في لبنان على الركنين هذين. وهما ركنان غريبان، على هذا القدر أو ذاك، عن الجوار العربي والإسلامي، أو عن منازعه الغلبة. وورط ركنا الدولة اللبنانية، أو دولة اللبنانيين، الدولة واللبنانيين في منازعات أهلية وسياسية واجتماعية لا فكاك منها، ولا خاتمة لها. فلبنان وطن سياسي، «دستوري»، على قول يورغين هابرماز الألماني، الملم بعسر الوطنية الدستورية في مجتمعات تخلط الوطنية بالعصبية القومية و «اللحم والعظم» والدم والأرض والنسب. وجماعات اللبنانيين عصبية وأهلية، عموماً. ومعظمهم يؤول السياسة، الوطنية السياسية والدستورية أي قواعد العلاقات بين الجماعات والأفراد والعقد («الميثاق») الذي عقد بينها وبينهم، معظمهم يؤولها افتئاتاً، وانحيازاً، وقناع سيطرة، واستلاباً. وانتشاء شطر كبير من شيعة لبنان بعصبيتهم ووحدتهم ودولتهم ومجتمعهم ومقاومتهم ومعارضتهم وسلاحهم وشهدائهم وحروبهم وانتصاراتهم وهزائمهم، مرده الى خروجهم من الوطن السياسي، وانكفائهم الى الوطن العصبي وعليه، والى الجماعة الأهلية المرصوصة وعليها. ولعل بعض الـ «70 في المئة» من المقترعين المسيحيين (وهؤلاء هم ربع الناخبين المسيحيين تقريباً أي ان الـ70 في المئة هم من 25 – 30 في المئة من جملة الناخبين ليس إلا) الذين يفاخر بهم العماد الأسبق ومريدوه، هم من أثر نشوة عصبية أصابت «الشيعة» العونية على نحو ما أصابت شيعاً لبنانية أخرى، ولم تنفك تصيبها معاً أو تباعاً. والشيعتان، الحزب اللهية والعون اللهية، تتقاسمان وتتشاركان «المقاومة» (- المعارضة) مرجعاً وعلة تاريخية، وتحمل الواحدة منهما «المقاومة» على معنى فريد يشترك في اللفظة وحدها مع المعنى الآخر ووقائعه واحواله. وهما تريدان بـ «المقاومة» ما ينقض معاني الدولة والمجتمع اللبنانيين السابقة، ويخرج جماعتيهما من المعاني هذه، وتراثها وتاريخها، ويرسي سيطرتهما المأمولة على «حكم كامل»، على قول ساذج وغافل عن استدراجات الكلمات والصور والوقائع. و «الحكم الكامل» في هذا المعرض هو «حكمان كاملان» على شيعتين وفرقتين منفصلتين ومتناحرتين.
الموعد مع الشعب السياسي
فما يتهدد وحدة الدولة (اللبنانية) السياسية والحقوقية، وما امتحنها على الدوام امتحاناً قاسياً ومدمراً ويمتحنها اليوم وغداً، مصدره الأول «المقاومة»، على المعنى المركب الذي تقدم تعريفه. وهذا المعنى لم تبتكره «قوى 8 آذار» ، ولا ابتكرته «المقاومة الإسلامية» على خطى «المقاومة» أو «الثورة» الفلسطينية في العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين، ولا «المقاومة المسيحية» اللبنانية، ولا «المقاومة الشعبية»، على ما سمت نفسها الزمر التي رفعت السلاح، في ربيع 1958 وصيفه، على كميل شمعون و «حلف بغداد» وانتصرت للـ «عروبة»، على ما حسبت ويحسب الى اليوم وارثوها وخالفوها. فـ «المقاومة» هي صرخة حرب من يدعون الى تغليب قانونهم وعصبيتهم على قانون الدولة الوطنية المكبلة بالمنازعات والتسويات والضرورات، وصرخة حرب على الجماعات الأخرى، انضوت الجماعات الأخرى تحت قانون الدولة أم لم تنضو.
و «قوى 14 آذار» – على معنى المنظمات والتيارات السياسية والانتخابية والأهلية المتحدرة من الاحتجاج على اغتيال رفيق الحريري، ومن تحميل السياسات السورية المسؤولية السياسية والأدبية (وربما الجنائية القضائية) عن الاغتيال، وعن الاغتيالات والاضطرابات اللاحقة – ليست براء من علة «المقاومة» هذه ودائها، من غير أن يعني القول هذا مساواتها بـ «المقاومتين» الحزب اللاهية والعون اللهية في المسؤولية عن تصدع الدولة الوطنية وانتهاك قانونها وتماسكها. وليس هذا، كذلك، تعريضاً بانتساب معظمها الى «عهد الوصاية السورية»، وموالاتها «الوصاية» هذه، واقتسامها ريعها، على قدر أو آخر. فمعنى القول أو الرأي هو أن 14 آذار 2005، والشهر الذي سبقه ومهد الطريق إليه، لم يخلق «القوى» هذه خلقاً جديداً ووطنياً ناجزاً وواحداً. ولم ينشئ منها، بين ليلة وضحاها، قوة سياسية متماسكة ومؤهلة لقيادة الشعب اللبناني، وحكم دولته، على نهج ومثال «قويمين» (لا يعلم أحد على وجه الضبط ما يكونان).
ولا يحسب أحد أن هذا في الإمكان. ولكن ما لم يكن مستحيلاً ولا ممتنعاً، وليس مستحيلاً ولا ممتنعاً اليوم، هو مسير «قوى 14 آذار»، وعدد أظنه كثيراً من مواطنين وأفراد ليسوا «قوى» (على معنى الكتل المنتظمة)، الى علاقات في ما بينها تضعف احتمال ارتكاسها الى مزاعم «المقاومة» ومناهجها. فالارتكاس الى «المقاومة»، أي الى العصبية الأهلية وفروعها، ليس وليد إرادة خالصة، ولا هو ثمرة مصالح إقليمية وسياسات احتياطية واستباقية، وحسب. فهو حل من الحلول المتاحة والمتيسرة الناجمة عن عسر تصديع الأجسام الأهلية، وإضعاف لحماتها، وبلورة مجتمع مستقل بمصالحه وقيمه عن هرم العصبيات الأهلية ومنازعاتها وموازينها. فيقوم المجتمع هذا بإزاء السلطة السياسية، ويقيدها، ويندبها الى الاضطلاع بمصالحه المشتركة والمتنازعة معاً، والى رعاية التشارك والنازعة.
وتترجح «قوى 14 آذار»، في ورقة ورشة العمل الرابعة، وفي مرآة أحوال علاقات بعضها بأبعاضها الأخرى، بين دعوات «الدفاع الذاتي» وبين التسليم للدولة الموعودة، وبين الانتساب الى الدولة الجامعة وبين الاعتصام بالعصبيات الخاصة والاحتماء بها. وتترجح بين (زعم) الذوبان في كيان معنوي وسياسي واحد (ليس أقل من «كتلة تاريخية» خطابية) وبين المفاوضة المريرة والممضة على الحصص. وقد يكون الترجح هذا قرينة بليغة على عسر بلورة نهج سياسي، وثقافي سياسي، يتولى في مرافق الحياة اليومية العامة، وفي دوائرها، التمهيد لبناء الدولة الوطنية اللبنانية، على نهج لبناني تاريخي. فيبدو، في «الأوراق» والمقال وفي الحال، أن هذا البناء وقف على طاقم الحكم، وأن ما على طاقم الحكم إلا أن يجيد الحكم، ويحسن التدبير والمفاوضة. وعلى «الرأي العام»، على قول يوسف بزي («المستقبل»، في 27 تموز/ يوليو)، وهو اسم آخر مستحدث للقواعد الحزبية، مساندة الطاقم القيادي، وهمزه، وثنيه عن الضعف وعن النزول عن المكاسب.
وأرى أن صور الترجح والتردد هي، في شطر منها ظرفي، ثمرة يوم 14 آذار، وتركه نصباً يدعو الى الدهشة والانبهار والتأويل المسترسل وقلما يدعو الى الفعل. فـ «شعب» اليوم العتيد والرائع ضرب موعداً، يومها، مع نفسه، مع ولادته شعباً سياسياً رائداً قوام لحمته عموم حقوقه المدنية والمساواة في الحقوق السياسية، وتمييز المجتمع من الدولة. وضرب الموعد ليس إنجازه. وهو «ثورة»، على معنى أعرض بما لا يقاس من المعنى الذي حمله عليه جمال عبدالناصر، وآل الى المعنى الذي يحمله عليه محمود أحمدي نجاد وأمثاله. وهو جاء ساحة الحرية روافد كثيرة لا تنكر مصادرها، ولا كثرتها. ولا تخلو هذه من تنافر وتباعد. وربما جمع الكثرة هذه إنكار قوي، لا تزال أصداؤه تتردد الى اليوم، للتعسف الفظيع الذي حمل على اغتيال رفيق الحريري جزاء تحفظه عن السياسات القومية السورية، وخروجه على إجماع قسري وكاذب على «المقاومة» صنعته السياسات هذه، وفرضته مذهباً واحداً، وحزباً حاكماً (أوكلت مقاليده الى إميل لحود وطاقمه، وتجديده الى الجهاز الخميني، وغلالته الى الفقه «الأملي»). ولعل الإنكار هذا، ومرتباته السياسية والأهلية، هو نواة فكرة الحق والقانون والسياسة المتضافرة، والقائمة من الدولة الوطنية اللبنانية مقام الركن.
--> فلم ينكر «شعب» 14 آذار روافده ومصادره، ولكنه أنكر إنكاراً شديداً سوس «دولته» وهيئاتها، وسوسه هو تالياً، من طريق إجماع كاذب على «مقاومة» هي، فعلاً وحقيقة، أداة تصديع الدولة وعزلها وإفشالها، وآلة تمييز المواطنين والجماعات طبقات ومراتب، وإطلاق يد التعسف في امتهان الحقوق بذريعة «اختصاص» في قتال العدو وتعريفه، والدلالة عليه. ولو لم يكن هذا مؤلماً، وعنوان خسائر متمادية ولا تحصى، لكان مضحكاً حتى «الفحص بالقدمين»، على قول الأصبهاني. فزعم اختصار سعي ملايين من الناس، حرثهم ونسلهم واختيارهم وعلمهم وتعارفهم وتفرقهم واجتماعهم وتحكيمهم في منازعاتهم، في إنشاء جهاز عسكري محترف وتكتيكي، من وراء ظهر الناس هؤلاء ومن غير إسهام منهم سوى رضوخهم للموت والدمار والتشبيه، هذا الزعم لا ينم بـ «علم» أصحابه، ولا بعلو كعبهم في السياسة، على ما يتبجحون.
وإنكار أهل اليوم المشهود الاغتيال هو ركن اجتماع نقيض «المقاومة»، ونقيض مقالاتها قبل سلاحها وفوق السلاح هذا. ولعله (الإنكار) الخيط الناظم بناءَ حركة سياسية متماسكة الحلقات من روافد الجماعات التي صبت في الساحة، مادياً ومعنوياً. فليس في وقائع الحياة والعلاقات السياسية اللبنانية اليوم ما يجسد، على نحو تقريبي، الخيط الناظم هذا. والردود على الحوادث الكبيرة والمنعطفات (من الانتخابات الى الانتخابات، وما بين هذه وتلك من اغتيالات وتظارهات ومخيمات واعتصامات وحروب واستقالات وحوارات...) تشي بصدورها عن حساسيات وثقافات لا تزال صبغتها بصبغة الجماعات الأهلية واضحة وقوية.
ولا تطعن الصبغة الأهلية هذه في صدق الردود وحقيقتها، ولا بالأحرى، في جدواها. والتنبيه الى «طائفيتها»، وتسويغ الطعن فيها، والتنديد بها وإبطالها بذريعة «طائفيتها» (السنية أو الدرزية، اليوم)، على ما يصنع خطباء الحارات والخطط والسكك المذهبية المحترفون، يقصد به مضمون الردود، وبرنامج الحركة الوطنية والاستقلالية اللبنانية. وبنود البرنامج الرئيسة هي طلب الجلاء السوري عن الداخل السياسي، وضبط العلاقات السياسية اللبنانية بإرادات ومصالح لبنانية وطنية «أولاً»، وتقديم الحقوق المدنية والحريات على «المصالح الاستراتيجية» البوليسية والأمنية، «الداخلية» المزعومة والخارجية الفعلية. والناعون على «الطائفية» صبح مساء، والمعيدون إليها العلل كلها، البيولوجية والنفسانية والكونية، لم ينددوا يوماً بخدماتها عندما تسدى إليهم، والى «قضاياهم» الكبيرة. وهم يسمون طائفية عصبية الغير، ولا يسمون بهذا الاسم عصبيتهم وعصبية حلفائهم وأولياء أمرهم. والى هذا، وهو كثير، قلما يقصد بالتنديد بالطائفية العصبية نفسها، وانتهاكها الحقوق المدنية، والحقوق السياسية، والحريات العامة والخاصة. فيقصد بالتنديد، أولاً، إدانة اللبنانيين السياسة السورية - الإيرانية، وقوميتها أو إسلاميتها المزعومة، في لبنان، بعد إدانة عيث المنظمات الفلسطينية المسلحة فساداً واقتتالاً وانتهاكاً فيه. ويقصد به السعي اللبناني الوطني في تصفية ذيول السياسة هذه، من رعاية ولاية خمينية مسلحة ومعزل أمني احتياطي، الى إلحاق اللبنانيين بقيادات فقيرة ومتهورة لا شاغل لها غير تربعها في سدة خواء اجتماعي وإنساني عميم.
واضطلاع عصبيات أهلية بدور سياسي دفاعي ووطني إيجابي، في بعض الظروف، لا يعصمها من الارتكاس الى دور «المقاومة»، والتصدي للدولة الوطنية، وإرساء السلطة على القهر والفتح والتمييز والاستتباع. والى اليوم، كان على الحركات السياسية اللبنانية أن تختار بين منزع سياسي واجتماعي نخبوي ومجرد، يعزلها من «الجماهير»، ومن العامة ومشاعرها واختباراتها والفعل السياسي، وبين منزع عامي وعصبي، «جماهيري» ويميني (على معنى القومي الاتني وغير الليبرالي)، يسلط عليها أ هواء «المقاومة». ولعل «14 آذار»، اليوم التاريخي والمعاني المتاحة، فاتحة خروج من الاختيار المغلق والعقيم هذا. وهذا متاح ليس إلا. وتتيحه «التركيبة» اللبنانية، على قول بعض أعيان العصبيات في مجالسهم الخاصة، وحضانتها مجتمعاً وعلاقات اجتماعية تقيد السياسة، على معنى السلطان أو «المقاومة». وتتيحه دعوة «التركيبة» اللبنانيين الى التعاقد على نظام دولتهم ومجتمعهم، وترك الإذعان والامتثال لقدر غشيم، منذ اليوم، وخارج الحكم وداخله. وربما منذ البارحة قبل اليوم.