يبدو التراث الاسطوري مفطوراً على كثرة الصيغ وتناسلها عبارةً عن طبيعة قاعها الخصب، على نحو قبول الجملة الموسيقية وجوه التقليب الى حين انقلابها جملة أخرى.
هانس بلومينبيرغ: عقل الاسطورة
المستقبل 18/3/2012
تلابس مسألة "التراث"، على معنى النقل (أو المنقولات أو النقليات وعلى خلاف العقل العام المشترك أو الرأي والنظر الفرديين)، وجوه الحياة كلها في المجتمعات العربية والإسلامية. وتتناول دوائر الاعتقاد والتقاليد والمحافظة، مثل التدين والشعائر والقوانين والقيم الاجتماعية والأخلاق، على قدر ما تتناول دوائر العمل أو المعاملات الظرفية مثل السياسة والتربية والثقافة. ولابست مسألة "التراث" دوائر الحياة هذه منذ التنبه على تباين موازين القوة، بعد التنبه بوقت طويل على فروق "رسوم" أهالي البلدان المتفرقة، على قول المقدسي، ووصفها وصفاً بلدانياً أو جغرافياً وقومياً (نسبة الى القوم أو الجماعة أو اللون أو العرق). واتصال "التراث" بسلم القوة والسلطة والغلبة، وبمواردها، أحله محل الركن من الهوية. ووصفت هذه بالتاريخية، أو أضيفت الى التاريخ بينما المعنى المضمر والمنشود هو إضافة التاريخ الى ثباتها ودوامها المتعالي على حوادث التاريخ ووقائعه الكثيرة والمبهمة.
"ابتكار التراث"
وعلى هذا فـ "التراث"، وهو ديني وقومي من غير مناقشة ولا تفريق، مرجع أو مناط الهوية، والقوة تالياً. ويحسن به أن يكون واحداً وثابتاً، لا فرق في معانيه المجتمعة "في صدر (أمة واحدة)" – ("رجل واحد" على قول المبرد صاحب "الكامل في اللغة والأدب" في نعيه الاضطراب، و"التقديم والتأخير"، على مقالة يطعن عليها). ومن زعم أن التراث الإسلامي "كثير" نصب تراثاً واحداً وثابتاً آخر بإزاء التراث الواحد والثابت الأول، وقوَّله قولاً يخالف قول الأول: فإذا قال هذا في معنى اللفظة أو الجملة أنه "واحد"، قال الآخر أنه "كثير"، وإذا قال الأول انه "خاتم" قال الآخر بل "مستمر"، وإذا قال "دولة" أجيب "رسالة"... وهكذا دواليك. وبعضهم، من المعاصرين، وصل التراث بالحداثة وبـ "الثورة" السياسية والاجتماعية المفترضة ذروة الحداثة، ولو تصورت في صور لينين ستالين ماو غيفارا أنور خوجة كيم إيل سونغ (والسلالة). ووسّط في الوصل تراثاً غير منقطع من الإحيائيين الإسلاميين. وأوتي هؤلاء فضيلة العود على البدء من غير ثغرة أو تفاوت أو انحراف أو غلط، من وجه، وأوتوا فضيلة الاستئناف من غير انقطاع ولا خسارة.
والحق أن "الأعمال" المجددة والمستأنفة والإحيائية، والأمينة على "التراث" الواحد أو الكثير، معاً، غالباً ما تعد القارئ، ومن ورائه الأمة، على شاكلة ابراهيم في بعض التنزيل، بمعاني لفظة الإحياء. وهي، في الدين، صنو البعث في السياسة ونظيره. وقد لا يصح قياس إنجازَيْ الوعدين. ولكن الإحياء "العملي" – عن يد أو أيدي جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وحسن البنا وسيد قطب وعبدالله عزام ومصطفى نبوي وروح الله خميني ومريديه على رأس "الحرس" ووزارة الاستخبارات و "فيلق القدس" و "مكتب حركات التحرر في العالم" (تحت عباءة الفقيه محمد منتظري المستخلف السابق على ولاية الفقيه) – هذا الإحياء أفضى، على ما هو معلوم وغير منكر إلا إنكاراً خفيفاً إلى "الشيخ" أسامة بن لادن، على ما كان يقول "الشيخ" عصام العريان في بعض مسامراته على "الجزيرة" الفضائية غداة "الغزوتين المباركتين". وما صنعه "الشيخ" الأول لاقى، ميدانياً و (لمَ لا) فكرياً صنيع البعث في السياسة. والإثنان يتشاركان اعتقادَ التوسط في النشور. وهو اعتقاد يشبِّه لصاحبه، وهو ليس إلا وسيطاً، القيام مقام القطب الأول والركن. ويقود هذا لا محالة، على ما نبه أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإسلاميين"، لا محالة الى الغلو. فينسى الوسيط وساطته، وباسم من يخطب على المنبر، خشباً كان المنبر أو "باقة" لايزرية، وينسب الابتداء والقصد إلى نفسه، ويفتح "بالحق" بين جماعة مريديه وبين العصر وأهله، وبينهم وبين تراثهم.
وانتبه مؤرخون منذ بعض الوقت الى ان الجماعات ومجتمعاتها تجدد تراثها، وتبتكره. فتوجبه على أنحاء وصور ومثالات لا عهد للأزمنة التي نشأت فيها "وقائع" التراث ومروياته ومعانيه، بها، ولا يعقل ان يكون أهل هذه الأزمنة ذهبوا الى الأنحاء والصور والمثالات هذه، وهم من هم، وثقافتهم هي ثقافتهم. فلا يعقل، على سبيل المثل، أن يكون أحد كتّاب القرن السادس عشر الفرنسي ملحداً أو اعتنق الإلحاد، على ما زعم ماركسيون راغبون في اتصال نسبهم الفكري الى بدايات عصر النهضة الأوروبي. فالإلحاد يفترض، على ما احتج لوسيان فيفر، تاريخاً طبيعياً ذاتياً ومنتجاً ليس في متناول أهل العصر. واقتضى بلوغه أو صوغه حلقات وسيطة تولاها أهل قرن كامل في أعقاب منتصف القرن السادس عشر. وهذا شأن الحركات القومية أو الوطنية، على المعنى الذي ينسب إليها إنشاء دول – أمم سياسية، ومساواة الرجال والنساء في الحقوق والقدرات، على معنى يحل تقسيم العمل الاجتماعي في القلب من تاريخ المعتقدات ومعايير العمل وتصاريفه.
ويضيِّق هذا النحو في النظر على "ابتكار التراث" (أو التقليد، إمعاناً في الطباق والمفارقة) جولاته وصولاته، المقيدة اصلاً بدواعٍ وشروط صارمة يتصدرها أفول التقاليد وسطوة حداثة ركنها الإنشاء الذاتي والقيام بالنفس. ومن وجه آخر، يتغذى الابتكار من الأفول، ومن حمل الحداثة، وأطوارها المحدثة، المجتمعات كلَّها، من غير استثناء، على الإنشاء الذاتي والقيام بالنفس. و "حروب الآلهة"، على ما سمى أحد أعلام الاجتماعيات الألمانية في مطلع القرن العشرين نزاع الإمبرياليات القديمة والمحدثة (اليابانية والروسية والألمانية والعثمانية الإسلامية والأميركية، إلى الفرنسية والبريطانية)، هي بعض مرايا الحمل هذا، والإلحاح فيه. وخشية هينتنغتون "حرب حضارات"، غداة حرب الإيديولوجيات الباردة، تصدر عن التنبه إلى قوة التراثات ومقاومتها الاندماج في المجتمعات المتعولمة، وإلى قصور هذه عن حمل المهاجرين إليها على الانخراط في ثقافاتها الفردية والليبرالية.
رواية البدايات
وبعيداً جداً، والحق يقال، من هذا النحو العملي والسياسي والاجتماعي من المشاغل، كتب الألماني هانس بلومينبيرغ (1920 – 1996) كتاباً مختصراً، قياساً على أعمال أخرى له، فيما بين النظر (النظرية) والعمل ("التطبيق") من صيغ اتصال متفرقة، وسمه بـ "ضحكة الخادمة التراقية" (1987) أو من تراقيا، من بلاد اليونان يومها. وخص به بدايات النظر الفلسفي و "العلمي" والتشاغل به. وذريعته هي خبر، أو أثر أو قَصَص، يزعم رواية البدايات. وينسب الخبر البداية الى طاليس، من مدينة ميليه التراقية. وطاليس هو، على ما تعلم تواريخ الفلسفة (الغربية)، صاحب مقالتين: 1) الآلهة تملأ المحال والأشياء كلها، 2) الماء أصل كل شيء و(كل شيء) قار على الماء. وبينما كان طاليس، وهو صاحب فرضية هندسية وحسابية من الأصول الإقليدية احتسبت علو الأهرامات، يراقب نجوم السماء ليلاً، ونظره إليها، وقع في حفرة لم يرها. فرأته خادمة أضحكتها عثرته، وقالت له: هذا جزاء من يمعن النظر في البعيد ويغفل عن شؤون الأرض القريبة. وتتمة الأثر أن طاليس "رد" على ضحك الخادمة فاستبق كسوف الشمس، وقدَّر خصوبة موسم الزيتون فضمن معاصره وجنى ربحاً كبيراً. ويتابع بلومينبيرغ آثار نواة الخبر أو الأثر هذا من أفلاطون، ومعاصره ديوجين لاويرس، أحد أوائل الرواة وأصحاب الأخبار، إلى نيتشه وهايدغير وغادامير. وبين الأوليْن والآخرِين بضعة عشر فيلسوفاً.
وموضوع المقالة هو تواتر النقل وإعماله "التحريف" فيما ينقل. ولو اقتصر تعقب التواتر و "التحريف" على تدوين صيغهما لدخل في باب الأخبار وجوامعها الموسوعية وطبقات أصحابها، على مثال اسلامي وعربي شائع. وهذا، أي تدوين الصيغ وتعقب الأخبار وترتيب الطبقات، ما لا يأنف بلومينبيرغ منه، ويقوم به على وجه مدهش. ولكنه يُعمل في تدوينه وتعقبه وترتيبه سؤالاً مزدوجاً عن أطوار الصيغ وتحولاتها وصورها، من جهة، وعن اتصالها وترديدها عناصر "مشتركة" أو تجديدها وحملها العناصر على معانٍ مبتكرة، من جهة أخرى. وهو، إلى هذا، يصل ما بين أطوار الصيغ وعلاقتها الداخلية الواحدة بالأخرى (بالأخريات)، وبين حال المسألة الأم، النظر (النظرية) ومعارضته بالعمل ومقاصده، في ثقافة العصر أو الوقت.
وفي سياقة المقالة تبرز معالم الخروج إلى كثرة المعاني وتوليدها، من غير افتراض وحدة أو واحدٍ "أصلاً"، أو في محل الأصل الكثير، على معنى مباشر وبسيط هو كثرة الروايات الأولى. وعلى خلاف النهج البنيوي، اللغوي والإناسي (الأنتروبولوجي)، الذي عاصر صاحبُ المقالة شيوعه في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، لا تقيد المقالة التوليدَ والتداول والتناقل بعدد محدود من الاحتمالات، محتسبٍ على قاعدة تبديل المنازل الأولى المستقلة وقرانها. ويدعو هذا بلومينبيرغ الى تقويم التراث، وتقويم تناقله الآثار وتحريفها. فهو ليس على سوية واحدة، غنىً وابتكاراً وتجديداً. وهذا يخالف كذلك التناول البنيوي المحايد والخارجي وافتراضه فهم الروايات الأسطورية أو تأويلها من موضع غفل وعارٍ من التعيين الزمني والثقافي.
فأول ما يصنعه "ضحكة الخادمة التراقية" هو تعيينه الموضع الذي يَتناول منه، ومن ملابسته، الأثر اليوناني. فينوه في سطوره الأولى بغموض النظريات المعاصرة، واستتارها بحُجُب رياضية ومختبرية متعاظمة التجريد والاختصاص. وأدرك عصر "الأنوار" اتساع الفجوة بين العلم النظري والتقني وبين ذهنية المعاملات اليومية، فأرسلت بعضُ قصصه الى الأرض زواراً من كواكب أخرى، على شاكلة زوار سواحٍ قدموا من بلدان غريبة "شرقية" (على مثال "الرسائل الفارسية")، أوكل القصص إليهم وصف غرابة الغرب أو غرائبه (على قول محمد كردعلي مطلع القرن العشرين) وحداثته. ويمثل بلومينبيرغ على انكفاء النظرية وأصحابها وهيئاتها، وانفصالها من عالم عمل اليوم والليلة، بترك بعض الباحثين في الرياضيات العمليات الحسابية الأولية، واستعانتهم بالآلات الحاسبة، أو بعجز بعض دارسي الفلك عن تعرف الكواكب المشهورة ومنظوماتها بالعين المجردة. ويترتب على هذه الحال تواري العالِم الباحث وتواري عمله النظري وراء الآلات التي تصنعها علومه، ووراء البيروقراطي الذي يدبر شؤون شركة ذرية أو ميكانيكية أو كيميائية أو جوية كبيرة، ويوقع عقوداً بمئات ملايين الدولارات أو بملياراتها. وتتحدر هذه الحال من "بدايات" يونانية، فلسفية – "علمية"، لا تزال خصبة الى اليوم، على شرط اتصال وسائطها وتوارثها في حاضر لا يهدأ ولا يفتر، على قول إسلامي في انقطاع الأنبياء. فيسع فيلسوف اليوم (بلومينبيرغ) القول إن لقاء الفيلسوف الجنيني، على التأريخ السائر وتمييزه "الحكماء" قبل سقراط من الفلاسفة بعده، بالخادمة التراقية لم يكن الاستباق المديد لمنازعات عالم الحياة وعالم النظر، والتباسات علاقاتهما الواحد بالآخر. فهو (اللقاء) صار هذا الاستباقَ، وأمسى هذا الاستباق من بعد. فليس في التاريخ بدايات توجب نفسها بنفسها، أو يوجبها صاحب بدايات في بداية أولى، بل يثبت المتأخرون البدايات ويوجبونها ويصنعونها في حاضرهم. وهذا ما تمثل عليه مقالة بلومينبيرغ، وتتعمد التمثيل عليه.
وثمة وجد آخر لحمل البدايات على مصائر الحاضر ونفي الابتداء عنها. فهي لا تبدا فعلاً حيث يزعم ابتداؤها. وقولة طاليس أن الآلهة تملأ المحال والأشياء كلها كانت شائعة في مدينة ميليه، وجوارها مدينة ديديم المشهورة بعرافها. والمدينتان التراقيتان كانتا تحتفلان، في أيار من كل عام، على "الدرب المقدسة" التي تصلهما الواحدة بالأخرى، بأنصاب كثيرة على جانبي الطريق البالغة 16 كلم. فـ "الامتلاء" بالآلهة لم يكن مجازاً. وقولته في الماء وعمومه وطوف الأكوان عليه ليست بدعة قاطعة، وهي تستأنف ما ذهب إليه هوميروس في "الإلياذة" من أن إله الأنهر، أوقيانوس، هو "اصل" الآلهة، بل هو "أصل الكل". وتعالق القولين ليس ابتداء العقل. ولعله أقرب الى شرح نص أو "كتاب" من كتب الأوائل، على قول إسلامي شائع.
والجدَّة القاطعة هي تقدم طاليس من اليونان، هو من تحوم شبهة فينيقية على أصله، بحَساب علمي دقيق لكسوف الشمس. وهذا وحده "أورد إليه المعاني"، كما تورد الإبل الماء، ولكنه ترك موقوفة مسألة المادة الخبرية الأولى والإضافة الثانية. وتصدُّرُ طاليس الفلكي الأثر للدلالة على معنى اضطلاع الفلسفة بالنظر ودورها في تخفيف حمل القلق والحصر عن البشر. وما رأته الخادمة بينما عينا طاليس مشدودتان الى النجوم، وفهمته من رفعه رأسه وليّه عنقه، أولته على الأرجح عبادةً لآلهته. فلا غرو إذا هو تعثر، ولم تسعفه آلهته المصطنعة والكاذبة. ولا ريب في أن انفراد طاليس، أو غيره، بآلهته، من دون الناس، غير مستحب أو هو مكروه.
من الضحكة الى الكراهية القاتلة
وغداة نحو قرنين على "الحادثة"، شبَّه أفلاطون مصير معلمه سقراط بمصير طاليس، الفيلسوف الجنيني. وكان الخبر شائعاً بأثينا في صيغة حكاية "نظمها" شاعر الحكايا الأخلاقية، أو القَصَص، إيزوبي، وحفظها الأثينيون، وكان ديوان إيزوبي في متناول سقراط بزنزانته قبيل شربه السم. وتقول الحكاية أن فلكياً، أو منجماً (يتعاطى "صناعة" النجوم وعلم الأفلاك) كان يتأمل السماء في ظاهر المدينة حين سقط في بئر، وصرخ من الألم، فمر به رجل علم بما وقع للفلكي – المنجم فقال له مؤنباً: تريد فهم أحوال السماء وأحوال الأرض لا تراها. وهذه الحكايا – المثل يرويها سقراط، في إحدى محاورات أفلاطون، ويسمي الفلكيَّ الغفل طاليس الميلي، أول الفلاسفة، والشاهدَ الغفل أمةً رقيقاً من تراقيا. ويبلور التعيين الحكاية، ويجلوها في حلة زمنية واجتماعية موصوفة، ويخلص منها الى "درسها" فيقول: والسخرية نفسها تصلح في من يصرفون العمر الى الفلسفة (التفلسف). والحكمة هذه، أو "الدرس"، ليست روايةً عن الخبر "الأول"، وهي تعليقة أو حاشية، متأخرة زمناً، عليه. وموضوع الحاشية الحكمية ليس الإنسان عموماً بل غرابة الفيلسوف على التخصيص.
ويقود تخصيص الفيلسوف إلى سقراط. وحين كتابة المحاورة كان سقراط دين بالموت، جزاء تعكيره صفو أثينا وأمنها ودعتها الأخلاقية وتوهينه عزيمة فتيانها وشبانها. فما ابتدأته ضحكة الخادمة كانت خاتمته كراهية قاتلة. وسقراط المحاورة لم يكن يحدس بعد في الحكم القضائي (الفتوى) الآتي، ولا في إدانته وموته. وهو يسخر من نفسه، ومن "واقعية" الفلسفة التي يزاولها، ويدعو إليها. وأما أفلاطون فيجلو النظرَ في صورة مصير يجمع معاً المثال الطاليسي وسقراط الذي ينهض عَلَماً على ذروة فهم عالم الحياة الإنسية. والمقارنة بين المثالين الفلسفيين، ومآليهما، تكشف تقابلَ مفهومات مختلفة عن الواقع يقود استغلاقها الواحد على الآخر إما الى التضاحك الساخر وإما الى القتل. وكان سقراط، في محاورة سبقت تلك التي ساق فيها حكاية طاليس، انتهى إلى نصب الحيرة الساخرة تتويجاً لكل جدل، وجسَّدها في شخص يقول: "أنتما، بروتاغوراس وسقراط، امرآن غريبان حقاً!".
ويروي سقراط، في محاورة "غورجياس"، كيف أثار ارتباكه، وهو يحصي أصوات المقترعين في محكمة جلس للحكم فيها مع مندوبي ناحيته، ضحك الجمهور الصاخب وقهقهاته. فنبهه ذلك منذ وقت بعيد الى ان تناوله المسائل لا يتفق وتناول الجمهور. وكان كيركيغارد لاحظ، في أطروحته التي عالجت مفهوم السخرية، أن أريستوفان لم يجاف الحقيقة حين أدخل سقراط في عداد من أضحك الجمهور منهم في كوميديا "السُّحب". ولكن سقراط "السحب" كان لا يزال تلميذ طاليس وفلاسفة الطبيعة، ولم ينصرف بعد الى الحكميات الإنسية، على ما روى في محاورة "فيدون". وفي كلتا الحالين موضوع السخرية واحد، وهو انتفاء المتشاغل بالنظر، المنظر أو النَظَّار، من دائرة معاملات عالم الحياة، تشاغل بالنجوم ومواد الكون الأولى أم تشاغل بفضائل المواطن وشروط العدل في المدينة. وعلى هذا، فالبعد أو القرب ليسا، في حديهما، معيار غرابة المتشاغل بالنظر (الفلسفي)، وإنما هما القرينة عليها. فالنظر في العمل وأحكامه ليس أقل نظراً، أو نظرية أو تنظيراً، من النظر في النجوم. والسؤال عما يكونه إنسان، وعما يليق به فعله أو تفاديه ويبين به من غيره، لم يحد قيد شعرة عن التنظير. وقصاراه أنه نفض عن موضوعه إلفته اليومية المباشرة وأبعده إلى المجاهل التي تسبح فيها النجوم. فأثار الصنيع حفيظة المدينة، ونبهها إلى غربة فيلسوفها عنها بالروح والعقل، واقتصار إقامته بين أظهرها على الجسد. ولكن الجمهور الذي يسعه إدراك الأمر، وفهم هذا الضرب من الغربة أو الفرادة، ليس جمهور الخادمات الإماء أو غيرهن من الرقيق، بل هو جمهور متعلمين صقلت السفسطة التي شاعت في أثينا القرن الرابع (ق. م.) أذهانهم ومداركهم، ودربتهم على تشخيص الثغر وإعمال الازدراء. فخلافُ تربية العبيد وضدها هو عثرةُ الفيلسوف المميتة. فإذا تعثر هذا بضحكة الأَمَة الرقيق، أو بسخرية المرأة التراقية، أمعن الضحك في توسيع الهوة بين جد الفيلسوف وبين هزل الخادمة. والخادمة التراقية، بحكم نسبها ومدينتها، تصدر عن عالم آلهة أجنبية وأنثوية ليلية وأرضية معاً. ويدعو هذا القارئ الى احتساب تفكير الخادمة بآلهتها تلك حين رأت الأرض تبتلع طاليس. وفي فاتحة محاورة "الجمهورية" يروي سقراط أنه عائد للتو من احتفال البيريه، مرفأ أثينا، بعيد الإلهة التراقية بينديس لأول مرة – وهذا بمنزلة تأريخ – وشارك التراقيين، وهم طائفة تجار نافذين بأثينا، عبادتهم. ويتحدر أرسطو وأنتيستين (الطاغية المشرع) وتوقيديديس (المؤرخ) من نسب تراقي. فلم يغرب عن بال الأثينيين ما ربما دار في خلد الخادمة التراقية قبل قرنين وهي ترى طاليس يسقط في البئر، وتضحك من الرجل الذي حط من قدر آلهتها. وأهل أثينا لا ريب فكروا في آلهة دولتهم وفي ما يصيبها من تعليم يزعم ان الفضيلة علم، وأن الفضيلة تعلم علماً يقول أنه لا يعلم إلا جهله. وضحك الخادمة، وأفلاطون هو مبتكره وراويه الأول، قريب من الحكم بالقتل، على ما فهم جمهور أفلاطون حين قرأ المحاورات أو قُرئت عليه. وهو فهم، أعواماً بعد الاغتيال الرسمي، الوجه المأساوي من الشخصية الهزلية من غير عون خطابي. وسقراط المحاورات يترك الآلهة في الظل ويبرز تنازع المفهومات عن الواقع، واستحالة التوفيق بينها. ومرآة الاستحالة هي الضحك هناك والحكم بالقتل هنا، على رغم ان مكافأة أو مساواة الحكم بالقتل الضحكَ تبددت في سياقة تناقل الخبر وتراويه، وبقي التباس المضحك بالمأساة.
العقل والمدينة
وعلى هذا المنوال من الفحص ينقِّل هانس بلومينبيرغ الأثر أو الخبر بين المؤولين والرواة الفلاسفة الذين تناولوه وذيلوه بحاشية أو تعليقة جهاراً أو كناية، الى "يومنا" (النيتشوي فالهايدغري). ومن فلاسفة اليونان الى فلاسفة الرومان فالمتكلمين القروسطيين في الإلهيات، فأصحاب النظر النقدي و "التنويري" (بايل وفولتير وقبلهما فرنسيس بايكون)، يتقصى صاحب المقالة ما يسميه "شرائط الورود"، على مثال أفلاطون الذي تقدم إيجازه. والمحل المتبقي من العجالة يضيق على ما يتجاوز بعض ملاحظات بلومينبيرغ على نيتشه. وتطرق هذا الى أول أهل الحرفة من صنفه أو طائفته (الحرفية)، في 1875، فسأل: "كيف وسع طاليس التحلل من الأسطورة! طاليس، رجل دولة! ينبغي ان يكون حصل أمر ما". وكان نيتشه، في 1872، التفت الى آخر الفلاسفة، هيغيل، وخلف مكانه أسطورة جديدة في الفن. وطاليس هذا أراد، من طريق الماء الكوني، الانقطاع من الأسطورة، وجهر خروجه عليها، فوق ما رمى الى الحصافة والإصابة. فإذا به، في عين الخادمة، يقاضى باسم واقعية عملية استغلق مفهومها عن الواقع على الخادمة. فلم يسعها فهم "الدلالة العميقة" التي يفترضها الانقطاع الحاد من "العالم الأكبر" والسقوط في المادة الكونية الأولى.
وكان نيتشه، في محاضرة من كرسي الدراسات الفيلولوجية (1872)، جزم بأن طاليس كان من أعيان قومه. واستدل على مكانته بنصيحته إلى أهل الجزر الإيونية، القريبة من بر الأناضول، بالاتحاد في دولة فيديرالية تُقْدرهم على مدافعة التهديد الفارسي. ويعزو نيتشه نازع طاليس الى التجريد، وإلى مخالفة الأسطورة ومخالفة التمثيل (ضرب الأمثال)، الى تضلعه من الرياضيات. فمن الغريب، والحال هذه، انه حُمل على الحكمة وعُد في الحكماء الكهان في الهيكل الديلفي. وعاد نيتشه الى طاليس في 1882، بصقلية، حيث كتب "مفاتحة عاشق"، وطبعت هذه ملحقاً بكتابه "العلم الفرِحان". وفي "المفاتحة" فقرة شعرية لا لبس في ردها الى طاليس: "ارتفع إلى الذروة. السماء بنفسها/ تحمل الآن الطائر المنتصر/ وهو يسكن ويحلق/ ناسياً النصر والمنتصر". وشطب نيتشه الفقرة، وذيل عنوان الكتاب "العلم الفرحان" بذيل يقول أن العنوان "رمى بالشاعر في حفرة". وجعل محل الفقرة فقرة أخرى: "مثل النجم والأزل/ يقيم الآن في علياء تخافها الحياة/ حانياً حتى على الحسد./ ومن يراه محلقاً، يطير كذلك عالياً".
ويصل نيتشه في محاضرته الأولى، حين يتناول "شقاق" طاليس، إشارتين الواحدة بالأخرى: افتراض اسكندراني يزعم أن اصل الفلسفة فينيقي، وأثر يروي أن طاليس سافر الى مصر. فمن أين إنكار طاليس على الأسطورة وطعنه عليها؟ هل المنكِر الطاعن هو الرياضي (التعاليمي، في مصطلح عربي إسلامي) أم هو السياسي الذي أراد محو مفعول الخصوصية الناجم عن الأساطير المحلية و "القومية" (نسبة الى القوم أو الأهل) وتقديم مواضعات جزئية على مسائل أعرض؟ ومهما كان من أمر الداعي الى الطعن، فقولته في الماء تحتمل تأويلها أسطورةً عامة اقترحها طاليس على مدن الساحل الإيوني، وناشدها الاتحاد عليها. ويمدح نيتشه مقالة الميلي في الماء وعقلانيتها. ويذهب إلى أن الوقائع حققت فرض طاليس. فالعوالم الصلبة التي نعرفها ونختبرها سبقتها على الأرجح أحوال أقل صلابة وتماسكاً، أشبه بالغاز، بحسب افتراض كانط ولابلاس. وحمل الكون كله، وهو المشعث والمتفاوت، على أطوار مادة أصلية واحدة، قرينة على إقدام لا يصدق ولا ثاني له من بعده. ويعارض إثبات الماء أصلاً عاماً وواحداً امتلاء العالم بالآلهة، عَلَم الخصوصيات الكثيرة والمنيعة، والحاجز بين المدن وبين الاتحاد. ولكن المدينة، وهي بؤرة الإرادة الإغريقية وعصارتها، نهضت على الأسطورة، فترك الأسطورة يقود حتماً إلى ترك مفهوم المدينة. ويفوق هذا طاقة الفلسفة على العمومية. وقوة العمومية إما أن تخلف على الأسطورة الضعيفة، على مثال روما، وإما أن تنشأ عن الديانات الكبيرة ومعتقدها الذي يخولها التوحيد من طريق الإكراه وبواسطته. وبإزاء القوتين العموميتين هاتين يكني انصراف طاليس الى مراقبة ليل النجوم عن الرضوخ. فالتجأ الى الفلسفة وباشر مناقشة الاسطورة، الحصينة في وقت أول. وحين حيّا أفلاطون طاليس، وأثبته صنواً لسقراط "الافلاطوني"، كانت الحروب الفارسية – اليونانية وضعت أوزارها، وأرهق أثينا عبء هيمنتها، وأخفقت الفلسفة في الاضطلاع بدور سياسي في شخص أفلاطون نفسه (ومحاولته نصيحة الطاغية الصقلي). وينسب نيتشه الى طاليس تأويلاً نيتشوياً لمقالته في الآلهة: فمعناها، على زعمه، هو أن الطبيعة لا قوام ولا حقيقة لها من نفسها، فهي خلق انساني، وعلى هذا حلول (ثمرة حلول التصورات الانسانية فيها) خالص. والتأويل النيتشوي صدى للأساطير اليونانية نفسها ولاستمرار فلسفتهم عليها، لا يستثني ذلك برمينيديس نفسه وهو من نفى حقيقة كل ما عدا وحدة المكون، وحصَّل الباقي من طريق الظن.
غير أن اخفاق النقض على الاسطورة ليس محنة طاليس الخاصة إلا ظاهراً. فهو الشاهد على أيلولة الاخفاق، والصمم عن النقض على الاسطورة وخصوصياتها "القومية" الاهلية، الى استعباد المدن الايونية. وهذه محنة عامة، بديهة. والمحنة العامة الاخرى هي محنة الفلسفة اليونانية ومأساتها، ربما الوحيدة، على قول نيشه. فطاليس، و"طبقة" الفلاسفة من بعده حذت حذوه، أرسى السؤال الفلسفي على معالجة المسألة الام: هل في وسع العقل الواحد الانتصار على كثرة الأساطير؟ وهو حدس في ضعف الباعث على تنكب العمل إذا هو اقتصر على العقل. وكان بقاء المدن اليونانية ونجاتها من الاسترقاق السياسي الذي يتهددها به الفتح الفارسي، عضداً قوياً لوحدة العقل. لذا، ليست غرابة النظر الفلسفي، قياساً على إلفة عالم الحياة، على ما تبدو عليه في حسبان الغريبة القادمة من تراقيا. فأهل اليونان أنفسهم لم يفهموا ما ظن الآخرون أن في مستطاعهم فهمه، وما أتاحه الظرف والوقت لهم. ومأساة الفلسفة متأتية من أن أحوال ابتدائها، وملابسات الابتداء، محال تكرارها. والاستنتاج، أو القياس التوليدي المتصل، عاجز عن الالمام أو الاحاطة بالصدع أو الفطور الذي ينهض عليه فعل انسان فرد في لحظة فريدة. وقد ينهض بالأمر مشهد أو خبر أو صورة.
وهذا ما أراد نيتشه تزكيته، والانتصار له، حين انتصر للغويات الفيلولوجية في محاضرته الافتتاحية ببازل، في 1869. واحتج لها على المنزع الرومنطيقي الذي مال الى نسبة الملاحم الهوميرية الى "الشعب" وشعره "التلقائي"، وأراد انتزاعها من الشاعر الفرد، ومن مدرسة الشعراء المحترفين. وعلى المثال نفسه، نافح نيتشه عن "تاريخية" ثورة طاليس على الاسطورة، وإخفاقه في كسر سطوتها، وسقوطه في البئر أمام شاهد غافل عن معنى ما يرى ويحضر. فالاثر هذا ينبغي ألا يطيحه "النقد التاريخي". وطاليس هو الواقعي، وداعية النظر في أعماق الطبيعة، من غير قصص سحري أو "عبقري" سبيلاً الى بقاء المدينة. ومن يرَ الى العقل محجة تجاوز الأسطورة يقرأ قولة طاليس أن الآلهة تملأ المحال كلها على معنى يخالف المعنى الذي يذهب إليه من يحسب أن العقل هو دواء تفريق الاسطورة حلفَ المدن وتصديعَه. فكان ينبغي لهذه القولة أن تقود الاسطورة الى خاتمتها، وترعى الانتقال الى ما يقوم مقامها. والحال أنها ابتدأت سلسلة لا تنتهي من المقالات غير المقيدة بقيد التعيين القاطع، الظرفي والوظيفي الفريد. وهذه المقالات تقلِّب "الكل" (المحال كلها، كل شيء) على معانٍ ووجوه لا تحصى.
ولم يقتصر نيتشه، في تناوله المدونة اليونانية ومحل الأثر الطاليسي منها، على تقرير التقليب، وإرساله لا إلى غاية. فاختبر في مقالاته أثر الكثرة والارسال، أو أثر "الكتابة" وعملها، على قول المحدثين. فهو لا يَغفل عن أن سقراط "أتم" تدمير الاسطورة الذي نشده طاليس، وسعى فيه. فأرسى الفلسفة على ركن ظاهر، وكان العِلم من ذريتها البعيدة. وأنزل سقراط الفلسفة من المبادئ والأصول الأولى و"العالية" الى دائرة عالم الحياة والمعاملات البورجوازي، المديني والذُري (على معنى الوقف) والحربي. فخصخص روحها العامة، وطواها على مشاغلها الخاصة، وأعدها، على أمد بعيد، الى استقبال المسيحية التي يحملها نيتشه التبعة الأولى، عن قتل المأساة، والتخلق بأخلاق العبيد، وإحلال سلب الضغينة محل فرح الايجاب. وطاليس، من وجه آخر، هو مبتدئ العلم، وعماه الذي يحمله على مساواة الأشياء بعضها ببعض، ويصرف عن ترتيبها بحسب طبقتها وشأنها. وتقرير تسوية العلوم والمعارف يتجاهل، على قول بلومينبيرغ، انطواء المجهول، قبل العلم به، على مكنونه. فلا يسبق العلم بالمرتبة المعلوم نفسه. ونيتشه يدعو الفلسفة الى النظر في المراتب والمكانات والمقادير أولاً، وينعى على العلم تشاغله بما لا قيمة له، وبحال الانسان الحيوانية والدودية. وحري بالفلسفة، على هذا، أن تعنى بغايتها الجمالية، المعيارية، فوق العناية بغايتها السياسية الظرفية التي أخفقت في بلوغها.