المستقبل (نوافذ) 30/8/2015 |
تتوالى الحوادث السورية الفاجعة -
المعينة والمفردة تارة مثل قصف السوق بدوما ثم قصف المقبرة، والمجتمعة والمتصلة
تارة اخرى مثل بلوغ عدد الغارات الجوية التي شنها الطيران الحربي الرسمي في الاشهر
العشرة المنصرمة، الى منتصف آب، أكثر من 33 ألف غارة (تولت المروحيات 18038 منها
والطائرات الحربية 15337) - من غير ان تبلور مخرجاً سياسياً من الحروب المتفشية
والمتناسلة بعضها من بعض. وإذا كانت اعمال أو افعال «النظام» الحربية او
الديبلوماسية (المفاوضة على خروج المقاتلين من الزبداني) أو الاجرائية والادارية
(اشتراط موافقة الجهات الامنية على العمليات العقارية وسياسة التجنيس) تدعو من غير
لبس الى الادانة والتنديد، لم يخل عمل أو فعل تقدم عليه معارضة من المعارضات
العسكرية الميدانية الكثيرة من مطعن أو عيب يقوض إيجابيةَ مقاومةِ النظام العصبي
الامني والريعي الذي يتصدره الاسد الثاني، والقيام عليه. والاجماع المضمر في صفوف
جماعات المعارضات المسلحة على إدانة عصابة «الدولة الاسلامية» المزعومة ووحشيتها
لا يمهد الى ميثاق واحد أو «شرطة» واحدة، على قول الحركة الدستورية الايرانية مطلع
القرن السابق. فلم يملك المتحدث المتخفي باسم «النصرة»، أبو محمد الجولاني نفسَه
من الامساك عن إدانة «إخوته» في الاسلام والايمان على قوله، جماعة «الدولة» في
معرض الترويج لـ»اعتداله» وترشيح جماعته للانخراط في جبهة متضافرة. ولم يفلح نحو 3
آلاف قتيل من الجماعتين سقطوا في اواخر 2013 وأوائل 2014، في اقتتالهما على الرقة
وشرق حلب، في حسم ما بينهما من تداعٍ وانعطاف وعلائق.
والرأي في الجماعات المسلحة المعارضة التي تقاتل «داعش»، وقد تبلي في قتالها، وتعلن من وجه آخر معارضتها السياسية وربما المسلحة (على قدر أقل) للنظام البوليسي، لا يحمل هذا الرأي صاحبه على الانحياز الى هذه الجماعات، ولا على توسم الميثاقية المأمولة في قتالها وفي نهجها الاهلي والسياسي. والجماعات الكردية السورية هي المقصودة أولاً بهذه الملاحظة. فمهادنة هذه الجماعات، ولو على نحو سلبي، الاسدَ الكيماوي في دير الزور على الخصوص، على رغم مبادرة رأس العصبية المراوغ الى هذه المهادنة واستجابتها هي، آذنت بالسياسة السكانية القومية أو الاتنية التي أعقبت تقدم وحدات حماية الشعب الكردي في تل أبيض بعد كوباني، في اوائل 2015. وتستعيد مثل هذه السياسة، «التطهيرية» على مقادير متفاوتة، الانقسامات العشائرية والقبلية والمذهبية التي تفرّق الاهالي وتعصِّبهم أحزاباً وكتلاً، في شمال الوسط والشمال العراقيين قبل حملة «الدولة» على الموصل وبعدها.
واضطرت قيادة «الائتلاف» السوري، غداة انشاء جيش الفتح، وعموده الفقري «النصرة»، واستيلائه على معظم ادلب وحصاره جسر الشغور والاستيلاء عليها ومحاذاته الجبل والساحل العلويين، الى انكار قصف طيران التحالف قوات «النصرة» في أعزاز وبنش وجوارهما. ولم تلبث «النصرة» إياها أن هجمت على بقية مسلحي المعارضة «المستقلة» والمؤتلفة الذين دربتهم البعثة العسكرية والامنية الاميركية الى تركيا، وجردتهم من سلاحهم وأسرت بعضهم وقتلت 4 منهم (هم عشرهم تقريباً). وإحصاء امثال هذه المفارقات في سوريا وميادينها العسكرية والسياسية لا ينتهي الى غاية أو نهاية. فاللبننة- الاثيرة على قلوب الامنيين والكتاب و»المفكرين» السوريين، في عهد «رجال موت» حافظ ورفعت الاسد - تبدو قاصرة عن الالمام بالمنازعات السورية، وعَزَف عنها جمهور المعلقين. وهي اثنينية حيث الكثرة مسترسلة. وأما البلقنة فهي من موروثات عصور زاهية نجحت في ارجاء انفجار حرب عالمية أكيدة ووشيكة طوال قرن كامل من الزمن. واستخلصت من السلطنة أوطاناً ومجتمعات وقفت على ابواب أوروبا. ووسع الرجل المريض، العثماني، في الاثناء، أن ينازع غير مستعجل احتضاره أو سكرات هذا الاحتضار. وهذا، أي استخلاص الاوطان والمجتمعات من «سلطانات» مُقْوية ومتداعية، ما لا قِبَل به لا للسلطانات ولا لولاياتها السورية ومواليها المحليين.
فـ»الحرب» السورية المتشظية والمتناثرة حروباً أهلية ومحلية واجتماعية وايديولوجية واقليمية ودولية كثيرة لم يرسُ الاشتباك أو القتال فيها يوماً على ميزان جامع يحشد حزباً في وجه حزب، على رغم شهوة النظام العصبي الامني والريعي الى الانتصاب قطباً مقاوماً وقومياً وحدوياً ووطنياً علمانياً وشعبياً، في وجه قطب تكفيري عميل، وخليجي أعرابي ظلامي ودموي. وعلى رغم يقين القطب الاصولي بنهوضه نداً اسلامياً صادقاً يقاتل ردة تفوق شراستها ردة القبائل على الرسول غداة وفاته، تعددت المعارضات المدنية ثم المسلحة، على رغم ضعف روابط النسب بين المجموعتين، وتفرقت وتشرذمت على مثال غير معهود ولا مألوف. فكان تفرقها ردَّ جوابٍ مريضاً وهاذياً على خواء الوحدة «القومية» الاسمية التي رفعها نظام «العصابة» علماً على «دولته» القاهرة وسياساته القمعية والريعية. وسرى في الجماعات المقاتلة والمتكاثرة كالفطر، على عدد المشارب والولاءات المباشرة وجهات التمويل وموارده التي تصدر عنها، اقتناع حاد بأن كل ما يشبه النظام الامني والعصبي الاهلي والريعي ومزاعمه- في العروبة والقومية الواحدة والممانعة وحماية الاقليات والعلمانية والاستقرار والامن والدولة... - هو شر وكذب ويجب مخالفته.
وآثار النظام الباعثة على الشرذمة والانانيات المتخبطة لم تقتصر على المزاعم والدعاوى والافكار فتعدتها الى أبنية الروابط والمصالح. فعريت العلاقات الاجتماعية والانسانية من دواعي الاشتراك والثقة، ومن إعلان الخلافات ومناقشتها والتحكيم فيها. فالاحزاب شكلية والانتخابات مسرح دمى قيدتها المادة الثامنة السابقة من الدستور أم لم تقيدها، وجمعيات رجال الاعمال والنقابات أطر تتوسل بها القيادة العمودية الى المراقبة والامتحان والافساد وبذر الشقاق، والادارات الرسمية تتستر على مراكز قوى فعلية تتولى التعيين والعزل والوساطة المدفوعة تحت عباءة «الحلقة الضيقة». وعلى هذا، افتقرت التعريفات الجزئية والهويات الوسيطة، المذهبية والمحلية والقرابية والقومية والاجتماعية والمهنية... والفردية النفسية، الى قوامها ومسوغها. وعُلِّق السوريون، شأن العراقيين والليبيين وشطور من اللبنانيين على نحو آخر، في فراغ تعريف جامع ومانع، متحصل من نفي التعريفات الملموسة والحسية والحيوية المقيّدة التي تقدم إحصاء بعضها، وقُمعت «الانساب» والروابط كلها. وخص بأعنف القمع أقرب «الانساب» الى عقد آصرة أو عروة قوية وتلقائية بين الناس أو الاهل، وأبعدها من الاستمالة والشراء والتعويض (أي من الاصطناع والنسب الصناعي أو «الوهمي»).
فكان الاسلام- في صيغ الاسلام الاهلي فالسياسي، والاسلام «المقاتل» قبل الجهادي والاصولي، والاسلام الصوفي، و»الاسلام الاجتماعي على ما سمي الاسلام التعليمي والمسجدي والخيري والارشادي شبه الرسمي- وسوريا هي ما هي، صنو «العروبة السياسية» أو «الحزب -الدولة» التي اشتركت في فبركتها الاحزاب القومية واليسارية، والحركات الاستقلالية الاهلية الحزبية والعسكرية، وتوجتها حركات «الكفاح المسلح» ومنظماته الوطنية. وهذا الاسلام هو صنو «العروبة السياسية»، ونازعها الى تجريد الافراد والجماعات من اعلاقهم الجزئية والحيوية الوسيطة، المتحدرة اليهم من مجتمعاتهم، وهو ندها وخصمها. ونزعت علاقة الاثنين، في صيغهما المتفرقة والمختلفة، الى الحرب الاهلية، على ما رأى مراقبون ومؤرخون في احوال مصر عشية الانقلاب العسكري «القيصري» في صيف 1952. فالانقسام الاخواني والوفدي، وغلبة التيارين على شطرين عريضين من المصريين، تقدم على انقسام ملكي وجمهوري ظاهر، وحال دون انفجار الحرب الاهلية من غير اطفاء عواملها الكامنة والمزمنة. والحق ان «الحزب - الدولة» في العراق الصدامي وسوريا الاسدية وفي ليبيا القذافية على نحو فرعي، دعا الاسلام السياسي والاصولي الى تجاوز الندية والخصومة المركبتين نحو حروب الاهل والجماعات العامة.
فاستيلاء «الحزب - الدولة» العام، ومرونة صيغته المترجحة بين الضبط الديني الشرعي وبين الضبط البوليسي والاداري، واستحواذه على موارد القوة والمعاش وعلى المناصب ومباني الاجتماع، وتولي مركزه وحده التوزيع والحظوة، وتحجيره المجتمع افراداً وجماعات على انقسام أهلي متوتر- هذه كلها مجتمعة تحمل السياسة والاجتماع معاً على الاحتكام الى حروب عددها على عدد النزاعات المعروفة والخفية والناشئة. وهي حروب غير متكافئة ولا متناظرة، ولا يسع «المعارضة»، الكلية وغير المؤتلفة من افراد وآحاد، جبه سلطان «الحزب- الدولة» أو «العصابة- الدولة» ببؤرة مركزية تقوم، بإزائه وتنازعه المشروعية. فلا يدعوها داعٍ ملح الى خوض حرب وطنية تنزع الى التأليف بين الجماعات والكتل الجزئية، على مراتبها، في اطار متماسك. وعلى الضد من هذا، تدعوها دواعٍ كثيرة وحيوية الى ابتداء حروب أهلية منفصلة تردد، بدورها، أصداء عداوات الكتل بعضها لبعض. وعلى مثال قضاء القرون الوسطى الحربي، لا يُتوقع ان تنطق الحروب الاهلية بالحق، ولا أن يحتكم المتخاصمون الى معايير أو موازين متعارفة. فالمتخاصمون إما ان ينتصروا، ودليلهم على عدالة قضيتهم هو إبادتهم عدوهم، وإما أن يُسحقوا، وهذا دليل على بهتان قضيتهم.
والرأي في الجماعات المسلحة المعارضة التي تقاتل «داعش»، وقد تبلي في قتالها، وتعلن من وجه آخر معارضتها السياسية وربما المسلحة (على قدر أقل) للنظام البوليسي، لا يحمل هذا الرأي صاحبه على الانحياز الى هذه الجماعات، ولا على توسم الميثاقية المأمولة في قتالها وفي نهجها الاهلي والسياسي. والجماعات الكردية السورية هي المقصودة أولاً بهذه الملاحظة. فمهادنة هذه الجماعات، ولو على نحو سلبي، الاسدَ الكيماوي في دير الزور على الخصوص، على رغم مبادرة رأس العصبية المراوغ الى هذه المهادنة واستجابتها هي، آذنت بالسياسة السكانية القومية أو الاتنية التي أعقبت تقدم وحدات حماية الشعب الكردي في تل أبيض بعد كوباني، في اوائل 2015. وتستعيد مثل هذه السياسة، «التطهيرية» على مقادير متفاوتة، الانقسامات العشائرية والقبلية والمذهبية التي تفرّق الاهالي وتعصِّبهم أحزاباً وكتلاً، في شمال الوسط والشمال العراقيين قبل حملة «الدولة» على الموصل وبعدها.
واضطرت قيادة «الائتلاف» السوري، غداة انشاء جيش الفتح، وعموده الفقري «النصرة»، واستيلائه على معظم ادلب وحصاره جسر الشغور والاستيلاء عليها ومحاذاته الجبل والساحل العلويين، الى انكار قصف طيران التحالف قوات «النصرة» في أعزاز وبنش وجوارهما. ولم تلبث «النصرة» إياها أن هجمت على بقية مسلحي المعارضة «المستقلة» والمؤتلفة الذين دربتهم البعثة العسكرية والامنية الاميركية الى تركيا، وجردتهم من سلاحهم وأسرت بعضهم وقتلت 4 منهم (هم عشرهم تقريباً). وإحصاء امثال هذه المفارقات في سوريا وميادينها العسكرية والسياسية لا ينتهي الى غاية أو نهاية. فاللبننة- الاثيرة على قلوب الامنيين والكتاب و»المفكرين» السوريين، في عهد «رجال موت» حافظ ورفعت الاسد - تبدو قاصرة عن الالمام بالمنازعات السورية، وعَزَف عنها جمهور المعلقين. وهي اثنينية حيث الكثرة مسترسلة. وأما البلقنة فهي من موروثات عصور زاهية نجحت في ارجاء انفجار حرب عالمية أكيدة ووشيكة طوال قرن كامل من الزمن. واستخلصت من السلطنة أوطاناً ومجتمعات وقفت على ابواب أوروبا. ووسع الرجل المريض، العثماني، في الاثناء، أن ينازع غير مستعجل احتضاره أو سكرات هذا الاحتضار. وهذا، أي استخلاص الاوطان والمجتمعات من «سلطانات» مُقْوية ومتداعية، ما لا قِبَل به لا للسلطانات ولا لولاياتها السورية ومواليها المحليين.
فـ»الحرب» السورية المتشظية والمتناثرة حروباً أهلية ومحلية واجتماعية وايديولوجية واقليمية ودولية كثيرة لم يرسُ الاشتباك أو القتال فيها يوماً على ميزان جامع يحشد حزباً في وجه حزب، على رغم شهوة النظام العصبي الامني والريعي الى الانتصاب قطباً مقاوماً وقومياً وحدوياً ووطنياً علمانياً وشعبياً، في وجه قطب تكفيري عميل، وخليجي أعرابي ظلامي ودموي. وعلى رغم يقين القطب الاصولي بنهوضه نداً اسلامياً صادقاً يقاتل ردة تفوق شراستها ردة القبائل على الرسول غداة وفاته، تعددت المعارضات المدنية ثم المسلحة، على رغم ضعف روابط النسب بين المجموعتين، وتفرقت وتشرذمت على مثال غير معهود ولا مألوف. فكان تفرقها ردَّ جوابٍ مريضاً وهاذياً على خواء الوحدة «القومية» الاسمية التي رفعها نظام «العصابة» علماً على «دولته» القاهرة وسياساته القمعية والريعية. وسرى في الجماعات المقاتلة والمتكاثرة كالفطر، على عدد المشارب والولاءات المباشرة وجهات التمويل وموارده التي تصدر عنها، اقتناع حاد بأن كل ما يشبه النظام الامني والعصبي الاهلي والريعي ومزاعمه- في العروبة والقومية الواحدة والممانعة وحماية الاقليات والعلمانية والاستقرار والامن والدولة... - هو شر وكذب ويجب مخالفته.
وآثار النظام الباعثة على الشرذمة والانانيات المتخبطة لم تقتصر على المزاعم والدعاوى والافكار فتعدتها الى أبنية الروابط والمصالح. فعريت العلاقات الاجتماعية والانسانية من دواعي الاشتراك والثقة، ومن إعلان الخلافات ومناقشتها والتحكيم فيها. فالاحزاب شكلية والانتخابات مسرح دمى قيدتها المادة الثامنة السابقة من الدستور أم لم تقيدها، وجمعيات رجال الاعمال والنقابات أطر تتوسل بها القيادة العمودية الى المراقبة والامتحان والافساد وبذر الشقاق، والادارات الرسمية تتستر على مراكز قوى فعلية تتولى التعيين والعزل والوساطة المدفوعة تحت عباءة «الحلقة الضيقة». وعلى هذا، افتقرت التعريفات الجزئية والهويات الوسيطة، المذهبية والمحلية والقرابية والقومية والاجتماعية والمهنية... والفردية النفسية، الى قوامها ومسوغها. وعُلِّق السوريون، شأن العراقيين والليبيين وشطور من اللبنانيين على نحو آخر، في فراغ تعريف جامع ومانع، متحصل من نفي التعريفات الملموسة والحسية والحيوية المقيّدة التي تقدم إحصاء بعضها، وقُمعت «الانساب» والروابط كلها. وخص بأعنف القمع أقرب «الانساب» الى عقد آصرة أو عروة قوية وتلقائية بين الناس أو الاهل، وأبعدها من الاستمالة والشراء والتعويض (أي من الاصطناع والنسب الصناعي أو «الوهمي»).
فكان الاسلام- في صيغ الاسلام الاهلي فالسياسي، والاسلام «المقاتل» قبل الجهادي والاصولي، والاسلام الصوفي، و»الاسلام الاجتماعي على ما سمي الاسلام التعليمي والمسجدي والخيري والارشادي شبه الرسمي- وسوريا هي ما هي، صنو «العروبة السياسية» أو «الحزب -الدولة» التي اشتركت في فبركتها الاحزاب القومية واليسارية، والحركات الاستقلالية الاهلية الحزبية والعسكرية، وتوجتها حركات «الكفاح المسلح» ومنظماته الوطنية. وهذا الاسلام هو صنو «العروبة السياسية»، ونازعها الى تجريد الافراد والجماعات من اعلاقهم الجزئية والحيوية الوسيطة، المتحدرة اليهم من مجتمعاتهم، وهو ندها وخصمها. ونزعت علاقة الاثنين، في صيغهما المتفرقة والمختلفة، الى الحرب الاهلية، على ما رأى مراقبون ومؤرخون في احوال مصر عشية الانقلاب العسكري «القيصري» في صيف 1952. فالانقسام الاخواني والوفدي، وغلبة التيارين على شطرين عريضين من المصريين، تقدم على انقسام ملكي وجمهوري ظاهر، وحال دون انفجار الحرب الاهلية من غير اطفاء عواملها الكامنة والمزمنة. والحق ان «الحزب - الدولة» في العراق الصدامي وسوريا الاسدية وفي ليبيا القذافية على نحو فرعي، دعا الاسلام السياسي والاصولي الى تجاوز الندية والخصومة المركبتين نحو حروب الاهل والجماعات العامة.
فاستيلاء «الحزب - الدولة» العام، ومرونة صيغته المترجحة بين الضبط الديني الشرعي وبين الضبط البوليسي والاداري، واستحواذه على موارد القوة والمعاش وعلى المناصب ومباني الاجتماع، وتولي مركزه وحده التوزيع والحظوة، وتحجيره المجتمع افراداً وجماعات على انقسام أهلي متوتر- هذه كلها مجتمعة تحمل السياسة والاجتماع معاً على الاحتكام الى حروب عددها على عدد النزاعات المعروفة والخفية والناشئة. وهي حروب غير متكافئة ولا متناظرة، ولا يسع «المعارضة»، الكلية وغير المؤتلفة من افراد وآحاد، جبه سلطان «الحزب- الدولة» أو «العصابة- الدولة» ببؤرة مركزية تقوم، بإزائه وتنازعه المشروعية. فلا يدعوها داعٍ ملح الى خوض حرب وطنية تنزع الى التأليف بين الجماعات والكتل الجزئية، على مراتبها، في اطار متماسك. وعلى الضد من هذا، تدعوها دواعٍ كثيرة وحيوية الى ابتداء حروب أهلية منفصلة تردد، بدورها، أصداء عداوات الكتل بعضها لبعض. وعلى مثال قضاء القرون الوسطى الحربي، لا يُتوقع ان تنطق الحروب الاهلية بالحق، ولا أن يحتكم المتخاصمون الى معايير أو موازين متعارفة. فالمتخاصمون إما ان ينتصروا، ودليلهم على عدالة قضيتهم هو إبادتهم عدوهم، وإما أن يُسحقوا، وهذا دليل على بهتان قضيتهم.