الجمعة، 20 نوفمبر 2009

السياسات اللبنانية وقد تحولت إقطاعات مستقلة

الحياة 20 نوفمبر 2009
تتوج «حكومة كل لبنان» الائتلافية في ختام مخاض طويل و «فودفيلي»، على شاكلة مسرح البولفار الشعبي أو العامي والبورجوازي، مساعي حثيثة ومحمومة في تجزئة الحياة السياسية والوطنية اللبنانية، وتقطيعها إرباً وقطعاً تحول دون لحمها من جديد في معنى وطني جامع ومشترك. ويتصدر المساعي هذه فك الطاقم الحكومي والوزاري، أي التأليف السياسي والتمثيلي، من الانتخابات النيابية العامة القريبة. ورُبط التأليف أو التشكيل بإنكار فوز تكتل سياسي معلن، هو تكتل قوى «14 آذار» (مارس)، بأغلبية المقاعد النيابية. وأبطل تكتلُ قوى الأقلية الغلبة العددية الانتخابية، ونتائجها الحكومية، من طريق رجحان قوة التكتل «الواقعية»، اي المستمدة من «أمر واقع» ينتهك انظمة الدولة المدونة والثابتة. و «الأمر الواقع»، في لغة التداول والاقتتال السياسية والمحكية، هو السلاح والمال الحزب اللهيان، ركنا دولته ومجتمعه النقيضين، أو «ولايته» المستقلة بحبل سرتها، ومصادر غذائها وتسويغها.

وعلى هذا، فالحكومة العتيدة هي ثمرة تنازع غالبية نيابية صريحة، وإن لم تكن «كاسحة» أو «ساحقة»، و «أكثرية وطنية» (على قول «الرئيس» القومي السوري والاجتماعي) أو «شعبية»(على قول الخطيب الحزب اللهي الأول). وفي التنازع بين تكتل رخو المفاصل واللحمة، على شاكلة العلاقات السياسية «الفيديرالية» او الائتلافية المحلية والوطنية، وبين تكتل مرصوص بني على شاكلة معسكر حربي أو خندق حصين ومعاد، يستقوي التكتل المرصوص، النيابي الأقلي، بـ «حق» نقض يستمده من لحمته الأهلية، ومن حبل سرته الطائفية والإقليمية.

وهو لا يُعمل النقض في الهيئات والمؤسسات العامة والرسمية وحدها، بل يعمله كذلك في الجماعات والدوائر الأهلية التي يصدر الناخبون عنها، وتتقيد كثرتهم بميولها وأهوائها. فإذا خاف الزعيم الدرزي الهجمات المسلحة، في مناطق السكن المختلطة ببيروت وساحل بعبدا وعاليه، على قومه وأهله، وأخافهم على أنفسهم، مال من جديد الى «العلاقات المميزة» بالجهاز السوري الحاكم، وجدد النفخ في الانقسام الأهلي والوطني على «القوات المشتركة» (الفلسطينية واللبنانية) وفتوحها ومغازيها. وكانت الغالبية السابقة، المولودة من انتخابات صيف 2005، شُلت وعلقت بواسطة حروب طياحة وقتل وحجر ومقاومة، شعبية ونيابية عامة، أفضت الى الدوحة، وإلى رئيس الجمهورية المولود منها.

و «اتفاق» الدوحة كرس تقطيع السياسة، أو السياسات الوطنية اللبنانية، قطعاً كثيرة. فاستقلت القطعة منها، النيابية و «الرئاسية» والحكومية والوزارية والإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية والاجتماعية والاقتصادية، بأحكام وموازين ومعايير ظرفية تخصها. وما بدا تهافتاً محموماً على الاستيزار عموماً وعلى الوزارات، وزارة وزارة وبالاسم، وعلى الوزراء، بالاسم كذلك، لم يكن ثمرة شهوات أنانية و«حزبية» وحسب. فنظام التجزئة والتقطيع، أو «نظام السَّلامي» على التسمية الأجنبية، استدرج الشهوات وغذّاها. وبنى النظامُ هذا على «فضائل» سبق استغلالها في زيادة عدد النواب من 108 الى 128، وفي الحمل على الإقرار بـ 30 وزيراً عدداً «قانونياً» لا رجوع عنه في تأليف الحكومات. وفصّل النظام «السوري - اللبناني» نفسُه الوزارات على مقاس كتل النواب وغرضياتها أو ولاءاتها وحظواتها، وعلى مقاس احتياجاتها الانتخابية والخدمية والمالية، واحتياجات «العروبة السياسية» وجهازها السوري، في إطار توزيع عام للحصص والشطور. وما يحسبه ميشال عون، اليوم، إنجازاً واستعادة حقوق مهدورة في القطاعات المتفرقة (المالية والاقتصادية «الإنتاجية»)، إنما هو تثمير للميراث «السوري - اللبناني»، واستئناف لميزانه ومنطقه التجزيئيين.

وتُبخس قيمةُ النظام التمثيلي والانتخابي وتهدر من طريق أخرى. فالقوة الأهلية والعسكرية الأمنية الأولى، وهي الكتلة الشيعية المسلحة، تقصر تمثيلها النيابي طوعاً على أقل من دزينة من النواب، وتختصر حصتها الوزارية في وزيرين معلنين. ولكنها، وراء القناع الناعم والمراوغ هذا، تغرز أظافرها وأنيابها في أجزاء الجسم اللبناني، وتقيده وتعطله وترهقه وتعتاش عليه كيفما ارتأت، وارتأى حلفاؤها والمشيرون عليها. والانكفاء الظاهر هذا هو بعض الإخراج المسرحي الذي يوزع على اللبنانيين، دولة ومجتمعاً، الخسائر الفادحة التي تعود عليهم بها، بالعدل والقسطاس، سياسةُ الحزب الخيمني الداخلية والخارجية، السياسية والعسكرية، معاً. فيورط الحزب الشيعي المسلح اللبنانيين في عوائد الخسارة، ويحمي نفسه، وسيطرته على الأهل غير المواطنين، وجهازه العسكري الأمني من طريق توزيع عوائد الربح وريع «المقاومة» العيني على أهل عصبيته الراضين. وهو، في هذا كله، جزء من 11 جزءاً نيابياً، وواحداً من 15 جزءاً وزارياً. فإذا وقعت الواقعة، على مثال حرب صيف 2006، لبس الحزب المسلح الدولة والمجتمع اللبنانيين درعاً واقية وذريعة «شعبية» سائغة، وتخندق فيهما جسدياً ومعنوياً، وعرّضهما للتصدع، وللازدراء والاستضعاف الدوليين. وخرج مزهواً، ومحكماً خبيراً في «فن» الحكم.

وأرسى ما كانت سياسة القسر السورية فرضته بالقوة والتفريق والحوادث الأمنية والسنن الانتخابية والإعلام المزور، وهو إخراج العمل المسلح من الأبنية السياسية الوطنية، أرساه على قواعد وأسس مضمرة. فحمى قواته العسكرية والأمنية بعصبية اهلية ومذهبية مرصوصة ومقاتلة. وربط حمايتها ببنود سياسة إقليمية تستظل، من «حماس» وبعض التيارات «الإخوانية» الى سورية وايران، لواء «المقاومة» العروبي والإسلامي، ويتولى هؤلاء البت في مطالب هذه السياسة وبرنامجها. وترجمة الإخراج من الأبنية السياسية والحماية بالعصبية المرصوصة والربط ببنود السياسة الإقليمية وحاجاتها، قضت باطراح المسألة السيادية الأم من الحكم والحكومة والإدارة. ومهد الحزب الشيعي المسلح للاقتطاع هذا، على خطى السلف السوري (والفلسطيني قبله)، فقبل إجراء انتخابات «هادئة» و «منفتحة»، على رغم التمهيد لها بأربع سنوات مضطربة وعاصفة، كان جلاء القوات السورية عن الأراضي الوطنية الإيذان ببدء اضطراباتها وعواصفها.

وفُصلت «مناقشة» (واللفظة قرينة على افق لا يطال ولا يبلغ) السلاح والحزبين الخارجية والأهلية، من السياسة العامة التي تتولاها الحكومة. وعُلقت المناقشة العتيدة بخيط «طاولة حوار» أوكل امرها الى أضعف زوايا الحكم صفة سياسية وتقريرية وقوة أهلية. ويدعو الحزب المسلح اليوم الى فصل السلاح من «المقاومة»، والبناء على إقرار «ميثاقي» بـ «المقاومة»، وقصر المناقشة، إياها، على السلاح وحده. وقد يكون هذا «اعتذاراً» حيياً عن فعلة 7 ايار (مايو) 2008 وفعلات أخرى من قبل، على شاكلة اعتذار سابق عن الجهل بنتائج «الوعد الصادق» - والاعتذار هذا لم يلبث ان تبدد في إغضاء ومديح وعجرفة تتردد اصداؤها الى يوم غير معلوم. ولكن الإلماح الخجول لا يتطاول الى طرق السلاح المتعرجة والخفية، وإلى المضي على انتهاك القرارين الدوليين الكبيرين 1559 وتتمته 1701. وتزعم الردود السورية المتواترة ان العلاقات الفلسطينية (منظمة أحمد جبريل في المرتبة الأولى) - اللبنانية ينظمها اتفاق (القاهرة في) 1969. وهو ألغاه المجلس النيابي وأبرم إلغاءه. ودعته السياسة السورية الى إلغائه. ولا تحور وزارة الخارجية جواباً.

ويتعدى التجزيء والتقطيع اركان السيادة الى السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية. فتُعزل السياسة النقدية، وتناط بهيئة مصرف لبنان المستقلة. وذريعة عزلها واستقلالها هي «نجاح» الهيئة في حماية المصارف من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وارتداداتها، وتعاظم الاحتياطات والفوائض بالنقد الأجنبي، وبلوغ النمو 7- 8 في المئة.

وتطمئن المؤشرات هذه اصحاب «الملاحة القريبة النظر» والظرفية. وتترك معلقة مسائل نمو عوامل الإنتاج وتنويعها، وتوسيع شبكة الضمانات الاجتماعية، والإعداد لمشكلة تعويضات نهاية الخدمة ومرتباتها، ومكافحة تردي التعليم على مستوياته، وتقليص الجهاز الإداري و «الوظيفي» المتورم والمعطّل.

وعلى شاكلة النقض السيادي على وحدة الدولة، يلوح التكتل الأهلي الاتحادي والمسلح بنقض اقتصادي واجتماعي. فينتضي مسألة الخصخصة «سلاحاً». وهي قناع لمسألة حقيقية تتناول حماية الفئات الاجتماعية الضعيفة، ورعاية تأهيلها الى المشاركة في دورة اقتصادية فاعلة. والفئات هذه معظمها اصابتها الحروب الملبننة الطويلة ثم الرعاية السورية المتعنتة بنكسة اجتماعية وسياسية قاسية، وقلصت دور «المصعد» اللبناني في حراكها. وهي القاعدة الاجتماعية العريضة لناخبي المنظمات الأهلية المسلحة الباقية، وللكتل المذهبية والعصبية المتماسكة. وهي تحسب ان «دورها جاء»، على قول ميشال عون في أنصاره.

وتتولى الزعامات المذهبية، من طريق «الدولة» أو الإدارة وحصصها، إعالة ضعفاء الكتل المذهبية، من وجه، وتوزيع عوائد المناقصات والوكالات ومجالس الإدارات والوساطات ومكاتب الاستشارة على «طبقة» من رجال الأعمال والوسطاء والفنيين والإداريين (ينزل لبنان المرتبة 130 من سلم الفساد)، ومن وجه آخر. وجزء من الإعالة مصدره الإعفاء من الجبايات. وأولها تسديد ثمن التيار الكهربائي (30 في المئة من الثمن لا يسدد). فتتصدى الزعامات المذهبية للرعاية المزدوجة هذه. وتتولى تقوية تحالف «الطبقتين» الاجتماعيتين داخل جماعاتها المذهبية، وتدعو هذه الجماعات الى الانكفاء، وإلى الإدلال بحقوقها المهضومة على الدوام. وهذا وجه من وجوه «تفاهم» عون - نصر الله «الفيديرالي» والعامي الشعبوي و «المعارض». وهو، كذلك، وجه من وجوه انكفاء الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ودفاعه عن الإعالة والغوث المركزيين و «اليساريين»، على ما يحسب ومعه تراث لبناني وعربي، ناصري ونفطي، عريض ومختلط. وعلى هذا، اصطفت جبهة من الكتل المذهبية يجمعها الى محور «المقاومة» الإقليمي (على تفاوت وربما اختلاف في المقاصد والبرامج والمخارج)، نازع قوي الى الاعتيال على المال العام، وعلى عوائد المجتمع.

وتأخذ الدهشة بعض المراقبين وهم يشاهدون الهدوء اللبناني «النسبي»، على قول المسرحي اللبناني «اليساري»، قياساً على تقلبات المناخ الإقليمي واحتمالاته المقلقة. والحق ان الهدوء هذا هو ثمرة تقطيع السياسات اللبنانية، ومرتكزاتها الأهلية والاجتماعية، على ما دأبت عليه حركات «المقاومة» منذ نحو أربعة عقود. ومصادر «المقاومة» هذه عروبية وعصبية محلية، على حد متفاوت. ويؤاخي التقطيع بين الكتل المتنافسة، متحالفة أم متنابذة، ويرسي بينها علاقات جوار ريعية. والتسليم بالدوائر المرسومة والإقطاعات قد يحمل، على ما تعول الكتل «الفيديرالية»، على رعاية المسرح الاحتياطي (اللبناني) الإقليمي، المعد لجولات إقليمية تحت الطلب وإحاطته، بمساكنة تحول دون نشوب نزاع سياسي لا يؤمن انقلابه نزاعاً أهلياً مسلحاً. وتستتبع الحال هذه دوراناً في حلقات مفرغة، وترجحاً لا الى غاية، ومناقشات متناسلة. وتضطلع «الحيوية» الاجتماعية اللبنانية المشهودة بدور فاعل في تغذية العطالة والإجهاض السياسيين. وليس معنى هذا انه ليس للحيوية العتيدة منطقاً سياسياً يزري بضآلة «السياسات» المنتصرة. ولكنه المنطق هذا «يبحث» عن أهله وأصحابه.

ليست هناك تعليقات: