الأربعاء، 18 مارس 2009

نوع من الاستخفاف بمجتمع الدولة ... رد الخرطوم على قرار المحكمة الجنائية الدولية ... سندُهُ معايير مضمرة


الحياة - 18/03/09//
حال موافقة هيئة المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي على طلب مدعيها العام، لويس مورينو أوكامبو، توقيف الرئيس السوداني، عمر حسن أحمد البشير، في ارتكاب جرائم حرب وجرائم في حق الإنسانية بدارفور، خرجت الى العلن مواقف وهيئات وقوى غير تلك التي تتصدر العلاقات الدولية عادة، وتفترضها تلك العلاقات في أحوالها العادية والسائرة. وكان البشير نفسه، في أثناء زيارته مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور الغربي، وفي تظاهرة الخرطوم الجماهيرية، القرينة الظاهرة والبارزة على علانية المواقف والهيئات والقوى المضمرة.فهو تنصل تنصلاً تاماً من الوجه المقبول والسياسي والديبلوماسي «الإنساني» من العلاقات بين دولة السودان وبين دول الهيئات الأممية، وبين السودان وبين الهيئات هذه وقراراتها. فأوجز العلاقات في العدوان والاستعمار والسيطرة، وفي الاستغلال والتجسس واللصوصية. ونفى منها الاحتكام الطوعي الى أعراف ومواثيق وقوانين ونظم ترسي (بعض) العلاقات الدولية على (بعض) الندية والسيادة والاشتراك في التقرير. وربط المعايير القانونية والحقوقية والأخلاقية التي تسائل هيئة قضائية دولية الرئيسَ السوداني باسمها، وفي ضوء موجباتها، بتاريخ الاستعمار، منذ القرن التاسع عشر الى اليوم. وحمل الحكم القضائي، والعملية القضائية كلها، على انتهاك قومي متعمد، وعلى تهديد الأمن القومي السوداني. وسوغ هذا لفظ «الخارج»، على صورة منظمات غير حكومية، من «الداخل»، وتطهيره منه، وطرد المنظمات الإنسانية الكبيرة والفاعلة من أراضي السودان.وترتب على الطعن العام هذا في مشروعية مقاضاة دولية، أو تقصٍ دولي، انكفاءٌ قومي، ورجوع من الدولة الوطنية، وانخراطها في مجتمع دول على هذا القدر أو ذاك من التجانس والاشتراك في المعايير، الى «القوم» او «الشعب»، على معنى العشيرة المنفردة والمستقلة بقانونها وشرعها. فزار الرئيس «القائد»، وزعيم الحزب الحاكم والمستولي على السلطة من طريق انقلاب عسكري يعود الى عقدين من السنين، مدينة دارفور الكبيرة، الفاشر. وحطت طائرته بمطارها. وكان فصيل من حركة مسلحة محلية، تَهَدَّد الطائرة الرئاسية بالقصف. ودخل المدينة في سيارة مكشوفة، حاطها بأنصاره، على قول الوكالات، وليس بالمواطنين. وأراد البرهان على ان من تزعم الهيئة القضائية الدولية حمايتهم من الرئيس و «جرائمه»، وهم اهالي غرب السودان، يفتحون أذرعهم وصدورهم لاستقباله. وهو يحل زائراً عليهم من غير حماية. وعليه، فالدعوى لا سند لها.وأوغل الرئيس الزائر في إسباغ الصفة القومية والأهلية على نفسه. فتزيا بالزي المحلي والبلدي، وأشهر من طريق الزي، والتمايل على وقع التصفيق والهتاف، انتسابه الى مادة القوم العضوية، من وجه، وانتساب دارفور وأهلها الى السوداني الأول المفترض، من وجه آخر. وفي ضواحي الخرطوم لبس زياً أخضر من لون الإسلام. وكان في الأثناء أخرج زميله السابق، وعضده «الإسلامي» في الاستيلاء على السلطة والتمكين له، حسن الترابي. ولم يرَ بأساً في توقيت تدشين خطط ومشروعات تنموية، تتولى الصين إنجازها وتمويلها لقاء انفرادها تقريباً باستغلال الموارد النفطية والمعدنية المحلية، في أثناء التحريض على الإجراء القضائي الدولي، و «رداً» على الإجراء الدولي، على زعمه. فهو يدعو السودانيين الى التكتل وراءه، والدفاع عن تنميتهم، وتقدمهم الاقتصادي، ورد التهمة في حقه، هو المظنون بالتستر على ارتكاب الفظائع فيهم. ويخلص من إنكار تهمته ومسؤوليته الشخصية، المعنوية والمادية، الى تهمة متهميه بإلحاق الضرر في السودان وشعبه وتنميته. ووسَّع سفير البشير في الأمم المتحدة التهمة. ففسر القضية كلها بدور الصين الشيوعية في تنمية السودان، وإخراجه من التخلف، على خلاف إرادة دولية استعمارية تقضي بإفقار البلد، وتمزيقه، وإخراج الدول الناشئة والرائدة من المنافسة على الموارد والثروات في دول العالم الجديدة.وعلى هذا فسودان الرئيس البشير لا يمت بصلة أو آصرة الى سودان المسألة الجنوبية التي خلفت نحو مليوني و200 إلى 300 ألف ضحية في غضون ثلث القرن الأخير. وهو ليس سودان مسألة دارفور، والضحايا الـ300 ألف الذين قتلوا في الحملات العسكرية وغارات قبائل الرعاة وخياليهم (الجنجويد) بسلاح قوات الخرطوم على مزارعي وفلاحي قبائل الفورمن الزغاوة والمساليت، الى المهجرين المقتلعين من أراضيهم، والهاربين من القرى والمضارب المحروقة والمنهوبة، منذ أن وضعت حرب الجنوب الطويلة أوزارها (موقتاً، على ما يخشى كثيرون). ويتخفف سودان البشير وأعوانه من القوة الدولية والأفريقية التي تتولى رعاية اتفاق سلام 2006 بين حكومة الخرطوم وجيشها وبين «جيش تحرير السودان» (فصيل ميني ميناوي). فتخلو التظاهرات والخطب والمراسلات من إشارة الى القوة المجهضة التي تعف حكومة البشير عن مهاجمتها على شرط بقائها على عجزها وضعفها، وسكوت الاتحاد الافريقي عنها. ووقع السودان السوداني، والافريقي، والمستعمَر، والمتمرد، و «النامي»، والمظلوم، هذا على حلفاء من طينته، وعلى شاكلته، اختارهم واختاروه، فعلاً وحقيقة. فتصدر علي لاريجاني، أحد «أقوياء» النظام الإيراني وأعيانه، وفداً جمع رئيس مجلس الشعب السوري، ونائب رئيس مكتب «حماس» السياسي، وأحد قادة «حزب الله». ورئيسا مجلس النواب والقائدان الحركيان والحزبيان «المقاومان» ينتسبون الى كتلة سياسية بينها وبين المجتمع الدولي، أو جناحه الغالب، خلافات حادة تتناول، على وجه الضبط، علاقة الكتلة بالأعراف والمواثيق والهيئات الدولية. فالكتلة تشكك، جازمة، في صدق الصفة الدولية والعامة للأعراف والمواثيق والهيئات. وهي تشارك سودان البشير وأعوانه تعليلهم العلاقات بين الدول في ضوء المصالح الأنانية والمستكبرة الغالبة. وسبق ان دين بعض قادة إيران ومسؤوليها بالضلوع في أعمال قتل واغتيالات نظرت فيها محاكم ألمانية ونمساوية. وكلهم مدانون، معنوياً إن لم يكن قضائياً، بانتهاك حقوق المسجونين والموقوفين والصحافيين والنساء.وغداة أقل من أسبوع على مذكرة المدعي العام الدولي توعد «تحالف الحركات الجهادية الاستشهادية»، في 10 آذار (مارس)، بخطة تقضي بتنفيذ «250 عملية جهادية» في «عقر دار» الدول التي ساندت قرار المحكمة الدولية، «خارج التراب السوداني». وذلك رفعاً لشبهة ظالمة قد تتطاول الى البشير و «نظامه». وضلع البشير وأعوانه في «التحالف» المزعوم أم كان من بنات أفكار «مجاهدين» لم يبخل عليهم الحاكم السوداني بالرعاية والضيافة على نحو ما لم يبخل بهم على بعض أجهزة الاستخبارات التي ارتضت تسلمهم (و «كارلوس» راميريز من مشاهيرهم) - فالحق ان «التحالف» السبتمبري هذا يتفق اتفاقاً تاماً، وعضوياً، ومناهج الرئيس السوداني الأهلية والسياسية والديبلوماسية والاقتصادية. فكلها تسعى في إثبات أمر حيوي واحد لا غنى للاستبداد عنه، هو ان مجتمع الدول، ولو منزعاً ومثالاً، هو فكرة جوفاء وغربية استعمارية، ولا مشروعية تتمتع بها. وفي الأثناء، أي الى أبد الآبدين، «فكل شيء مباح» على قول قرة العين. و «كل شيء» أي «التحالف» و «الجهاد» و «حزب الله» و «حماس» و «الجزيرة» والاغتيالات والانقلابات والاعتصامات، وغيرها. وكان الاتحاد السوفياتي على رأس فكرة أو إنكار من هذا الصنف الى خريف 1990، وخطبة غورباتشيف في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وإقراره بأن سند القيم والمعايير السياسية الدولية واحد، وأن «الاشتراكية» لا توجب قيماً ومعايير أخرى مختلفة. واقتضى الإقرار بعض الوقت.

ليست هناك تعليقات: