الثلاثاء، 7 أبريل 2009

مثال عراقي - كردي - تركي على معالجة قضايا شرق أوسطية وإقليمية

الحياة - 31/03/09
لم تحل الحرب التي يشنها الجيش التركي على معاقل حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية منذ أعوام طويلة، دون زيارة الرئيس التركي، القائد الأعلى للقوات المسلحة، بغداد. وتناولت الزيارة البارزة، الى المسائل الاقتصادية الحيوية مثل المياه والنفط والنقل، المسألة السياسية الكردية. ولم يتستر البلدان الجاران، وجوارهما المضطرب والمعقد خلّف بينهما ما لا يحصى من الخلافات والمنازعات، على مكانة القضية الكردية من علاقاتهما ومحلها منها. وتولى الرئيس العراقي الكردي، جلال الطالباني، مخاطبة المقاتلين الكردستانيين، وخيَّرهم بين إلقاء السلاح أو ترك جبال قنديل، معقلهم في كردستان العراق. والتقى رئيس إقليم كردستان العراقي، أنوشروان البارزاني، الزائر التركي، وناقش المسؤولان المسألة الكردية.
والحق ان إجراء الزيارة، أو هذا الوجه منها وعلى هذا النحو، يكاد يكون فتحاً في بابه، وهو باب السياسـات الإقليمية الشـرق أوسطية. فالرئيس التركي هو رأس دولة تتصدى منذ ربع قرن لأخطر أزمة وطنية أو قومية تتعرض لها تركيا في تاريخها المعاصر، غداة الحرب الأولى ومعاهداتها.
وإلى الأمس القريب، عالجت الدولة الكمالية الأزمة معالجة عسكرية وأمنية غالبة. ودعا استدراج نهج «الكردستاني»، وتوسله بالإرهاب وأعمال القتل والاغتيال بعيداً من مسرح حربه غير النظامية في الإقليم الكردي نفسه، وإحكامه قبضته على الأهالي وسوسه إياهم بالعنف، القوات المسلحة التركية الى عملياتها «المضادة للتمرد». فأفرطت في إعمال القوة، وأنزلت العقوبات الجماعية في القرى الكردية، فيما يشبه شبهاً قوياً الحروب الاستعمارية التقليدية، وآخرها بعض مراحل الحرب الأميركية بالعراق والعمليات الإسرائيلية في الجوارين، الشمالي والجنوبي.
ولا ينفي هذا ولا يقلل الفرقَ بين السياسة التركية وبين السياسات «الاستعمارية». فالأولى عَرَض من أعراض مشكلة وطنية مركبة أرجأت الدولة القومية والمركزية الكمالية الإقرار بها. وأرجأت التصدي لحلها على غير قاعدة «الجمهورية الواحدة والمندمجة» اندماجاً أقرب الى الانصهار الصوفي الإداري منه الى التدبير السياسي. وأقامت الحكومات التركية القضية الكردية فيصلاً وميزاناً في تعاملها الإقليمي والديبلوماسي، والعسكري الأمني، مع دول الجوار التي تقتسم معها بلاد الكرد ووطنهم وقومهم. فرسمت سياستها في العراق، في اثناء الاستبداد الصدامي ثم في اثناء التمهيد للحملة الدولية الأميركية وفي غضون الأعوام الستة المنصرمة على الإدارة الأميركية للحرب، في ضوء المعيار الكردي. فلم ترضَ دخول القوات الاميركية شمال العراق من البوابة التركية، خشية استقواء المقاتلين الأكراد بالقوات الأميركية واعتصامهم بها، واحتمائهم من القوات التركية. وتحفظت تحفظاً شديداً، يكاد يكون عربياً، عن الفيديرالية والحكم الذاتي الكردي. وأصرت على يد مطلقة من القيود السيادية البدهية في حربها «الكردستاني» وملاذاته العراقية. وهي تنتهج في مسألة كركوك، وتمثيل التركمان، سياسة تدخل حادة.
وعلى رغم هذا، زار عبدالله غل العراق الاتحادي (وإن على نحو غير ثابت ومتقهقر). وعلى رأس العراق هذا نظيره في الرئاسة، وهو كردي يقر بأن الدولة الكردية الجامعة «حلم» لا يغادر قلوب الكرد، وأكراد العراق يجمعهم إقليم يكاد يكون سيداً. وفاوض رئيس الإقليم الذي كرر رأي الرئيس الاتحادي في «الكردستاني». واقترح رئيس الإقليم على غل إجراء سياسياً وقضائياً يتناول أكراد تركيا، ومعالجة مشكلتهم، هو إصدار عفو تركي عام عن مقاتلي «الكردستاني»، مقدمة لمفاوضة شاملة على موقع كردستان تركيا من الدولة الواحدة والمؤتلفة. ورفض الرئيس التركي الاقتراح. ولكن إلمام المناقشة بالمسألة وتطرقها إليها، في إطار الزيارة البارزة، علامة من علامات أخرى على انعطاف سياسي محتمل.ولعل ركن الانعطاف هذا هو تنصل كردي عراقي من وحدة الحركة القومية والاستقلالية («الانفصالية»، على زعم كثر) الكردية، ومن جناح «الكردستاني» الذي يرفع لواء الوحدة، ويقاتل في سبيلها قتالاً بعضه إرهابي، وينظم مقاومته في الداخل والشتات على مثال جهاز أمني متسلط. والخطوة هذه، اي الإنكار على المقاومة «الكردستانية» زعم تمثيل البرنامج الاستقلالي والوطني الكردي، إنما تتمتُها السياسية الجوهرية هي اضطلاع كرد العراق بتبعات اندماجهم في الدولة العراقية، ومحاماتهم عن سيادتها، ووحدة أراضيها بوجه بعض قومهم، واهل عصبيتهم المطالبين بإنجاز بعض «الحلم» المشترك. ويمهد الاضطلاع الوطني المزدوج الطريق الى رد تركي بالتزام احترام السيادة العراقية، من وجه، وبمعالجة القضية الكردية في عقر الدار التركية معالجة سياسية. وظهرت بوادر المعالجة هذه، منذ بعض الوقت، ولو على تقطع، عن يد جناح مدني في الحكم التركي يتصدر الدولة، ويلجم الكتلة العسكرية.
ولا تخفى قوة المثال العراقي - التركي، ومناطه أو شرطه الكردي، في المشرق العربي. فبين القضايا والأزمات التي تمتحن المشرق، وبين المسألة المثلثة التي تتصدى لها السياستان العراقية والتركية، أوجه شبه قوية. ففي فلسطين ولبنان، والضلع الثالث السوري، جناحان مقاتلان في سبيل تحرر وتوحيد «أميين». وتتولى «الدولة» السورية، على صفة الجناح المقاتل والمقاوم، رعاية الجناحين الآخرين. وتريد الأجنحة الثلاثة، تحت عباءة ايرانية معلنة، حمل دولها الوطنية (وفيما يعود الى «الدولة» السورية، تريد حمل «جامعة» الدول العربية) على الإقرار بها طليعة سياسية وقتالية، ومبايعتها على قيادة حروبها الإقليمية والداخلية، وموالاتها من غير تردد. ويترتب على الإقرار والمبايعة والموالاة قبول التسلط البوليسي والأهلي، والرضا بحملات التأديب، والرضوخ للأعمال الإرهابية والاغتيال والاعتقال المتعسف - وجملة هذا الخروج على أبنية الدولة السياسية - والطعن في العلاقات الدولية وهيئاتها ومعاييرها، والإنكار عليها عموماً وتفصيلا (على المثال السوداني البشيري وقبله القذافي).
وعلى قدر ما تدعو أوجه الشبه الى تفاؤل متحفظ، تدعو المقارنة بين «اللاعبين» في الدائرتين الى تشاؤم قاتم. فليس بين الجماعات المشرقية العربية (ناهيك بالطرف الإيراني)، الحاكمة أو الأهلية والجامعة بين الصفتين عموماً، جماعة واحدة تقارن بـ «لاعبي» الدائرة العراقية - التركية - الكردية تحفظاً وإمساكاً. ولا يشذ عن الفرق «الكردستاني» نفسه، على رغم وقائع ماضيه الدامي وبعض حاضره. وانتهت أطراف الدائرة المثلثة الى تحفظها وإمساكها بعد مسير متعثر عاد عليها بكوارث ثقيلة. وحملات صدام حسين و «أنفاله» الكيماوية على الشمال العراقي الكردي، والحرب التركية على شمال شرقي الأناضول، والمنازعات الأهلية الكردية، والحرب الأميركية في العراق ثم حروب الإرهاب «الجهادية» والحروب المذهبية والأهلية العراقية، معالم على طريق الجلجلة، أو الطريق الى جهنم هذه. وأثمرت الجلجلة والطريق هاتان الفصل بين منطق الدولة السياسي وبين منطق المقاومة الأهلي و «الجهادي» في نهاية المطاف.
والكوارث وحدها لا تثمر تحفظاً وإمساكاً وتعقلاً. وإلا لكان المشرق العربي، شعوباً ودولاً، مخزن هذه وحافظها وراعيها. فعلى خلاف الفصل، وفك المنطقين، السياسي و «الجهادي»، واحدهما من الآخر، تُمعن الحركات المشرقية المقاتلة، الخمينية والإخوانية، وضلعها الموازي السوري، في إلحاق منطق الدولة السياسي، الداخلي والخارجي، بالمنطق «الجهادي» المقاتل. فتسطو على الدولة، وعلى هيئاتها ومكوناتها ووظائفها، أو تشقها، و «تفاوض» من موقع السطو هذا على استعمال الدولة، ورد حدها وشفرتها على نفسها. ويعجز النظام الإقليمي، أو بقيته المتخلفة عن الحرب العراقية - الإيرانية، وعن منازعات كمب ديفيد وإرثها، وأزمات الخليج وحروبه المتعاقبة، عن لجم الشقاق ومفاعيله الداخلية الإقليمية المتناسلة.
وعندما يقول وزير الخارجية السوري وليد المعلم، ان سورية «جاهزة لكي تقدم المساعدة اللازمة لإنجاح قرار الرئيس أوباما الخروج من العراق»، قبل ان يتم: «لكن الولايات المتحدة لم تطلب مساعدتنا» - يتردد السامع في حمل القول المأذون و «الحكيم» على الجد ام على الهزل. ويميل، طبعاً، الى حمله على المعنى الثاني. فبينما يقلد الوزير السوري مقالة زميله التركي، علي باباجان، ويحاكيه محاكاة إيمائية، كان السفير السوري في الجامعة العربية، يوسف أحمد، يرى، في اجتماع الجامعة التحضيري، أن ضمان القواسم المشتركة العربية في مؤتمر الدوحة الوشيك هو «التمسك بالثوابت الفلسطينية في حل المشاكل القائمة وأبرزها حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال» على مثال «حماس» و «حزب الله» وسياسة دمشق في لبنان وغزة والعراق وتركيا (الى 1998). وكان الرئيس السوري وعد صحيفة يابانية بإلحاق السلطة الفلسطينية والدولة اللبنانية بالمنظمتين العسكريتين والأمنيتين اللتين يشارك في رعايتهما.

ليست هناك تعليقات: