الثلاثاء، 25 أغسطس 2009

سيرة الواحد الفرد في مهبّ حوادث الاجتماع والتاريخ «العربيّين» المعاصرين


المستقبل - الاحد 23 آب 2009 2


قبل ثلاثين عاماً، توفي، ببغداد، محمد شرارة، أو محمد الشيخ علي شرارة، أبو ابراهيم، عمي، عن 74 عاماً. وقبل ثلاثين عاماً، حين وفاته ببغداد العراق، بلده الثاني أو الأول أو الأول الثاني معاً، على هوى الأوقات والأحوال، بدت الكتابة في رجل ليس غير عم الكاتب، تطفّلاً على القارئ وتجاوزاُ. فللقارئ مشاغل ليس فيها قرابات الكاتب المتطفل، من بقي منها ومن رحل ومن يزمع رحيلاً ووداعاً. ولكن أبا ابراهيم محمد ابن الشيخ علي شأنه ليس شأن والدة المتنبي و«أبيها الضخم». وليست قرابته ذريعة الكتابة والتأريخ. فسيرته - «محمد شرارة/ من الإيمان الى حرية الفكر» بقلم بلقيس شرارة، عن دار المدى (دمشق وبيروت وبغداد)، 2009 تتناول «مفترق الأشياء الفريد»، على قول أنطونان آرتو في المرء الفرد، الذي كانه (المفترق) وكانها (الأشياء والوقائع والناس). وهي تتعقب خطو رجل، أو امرءٍ، جِبِلّتُه الناس جميعاً»، على قول جان بول سارتر في نفسه، وعلى ما كان المترجَم وصاحب السيرة أحب ان يقال فيه، وأن يصدق القول فيه، وأظنه صادقاً.[ الحال الجمهوريةوالمفترق الفريد هذا، والجبلة، شطر منهما أعرفه من قرب، وعن كثب، على ما تزعم بعض طرق القول وأماشيها على زعمها. ولا يقتصر الأمر على المعرفة. فهو يتعداها الى الاشتراك في الصنع، وفي الكون. فبعض «الأشياء» التي كان عمي مفترقها، أو اجتمعت عنده، وكانت سيرته وحوادثه وليدة اجتماعها وانعقادها عليه، هي «أشياء» تحدرت الى الكاتب، أنا ابن اخيه الشقيق على مضض شديد (شأن «الأنساب» المشكلة وبقيتها في دوامة حياة المدن وأهوائها؟). ولم يقتصر تحدرها عليّ، بديهة. وإلا دخلت فيما يدخل فيه ما لا يهم غيري، وحق فيها القول انها غير مهمة، ولا تدعو الى الهم على الملأ ورؤوس الأشهاد، وإلى الكتابة والمداولة. فهي جزء من عوامل في مصائر عامة ومشتركة. وهي بعض وقائع ماض يمضي شطر منه خفيفاً وبديداً، وشطرٌ أو بعضٌ آخر لا يمضي على قول مؤرخ فرنسي في الحقبة «الألمانية» من تاريخ مواطنيه. وهذا شأن المواضي التي يعصى تعقلُها وتدبرها وفهمها «اصحابها». فحكمها التكرار والبقاء او الإزمان فكرة في الذهن والصدر تلح وتعود على بدء. ومن تلح عليهم الفكرة المزمنة واللعينة يعيدون على انفسهم رواية الحوادث، بدايتها وسياقتها، على نحو يخلصهم من تبعات فعل فعلوه وأتوه، أو يزيح عنهم تبعات إمساك عن فعل أحجموا عنه، ثم يعودون الى الإقرار المعذب بالفعل أو الإمساك، ويرجعون عن الإقرار به، لا إلى غاية أو قرار (وليس هذا وصفاً لحال مقدَّم مذهبي لبناني ومن مقدمي حروب الأهل والمقدمين، تنتابه تصورات «تاريخه» نوبات موجعة يشفى منها ثم تراجعه).والتعقل والتدبر والفهم، وإيقاعها على الوقائع التاريخية، ليس، على وجه الدقة، من هواجسنا وشواغلنا الجماعية أو الفردية، وليست مما يقض مضاجعنا. ونحن، إذا جاز الإطلاق، قلما نحمل أفعالنا على أفعال، أي على اجتهاد رأي وعلى حكم تلزم مترتباته وذيوله صاحبه، على نحو ما يلزمه اعتقاده مسوغات الرأي ومقدماته. فالأفعال صدرت عن «الكبراء» أم عن «العامة» والجمهور، هي أعمال أوجبتها معتقدات، على ما يحسب «المثالي»، أودعت إليها ضرورات لا فكاك منها، على ما يحسب «المادي». ولعل من الأمور الثمينة في سيرة المترجَم، ابي ابراهيم محمد بن الشيخ علي شرارة، تواتر الأفعال والاجتهادات في وقائع حياته، وتوليه أفعاله واجتهاداته هذه، وتحمله التبعة عنها، وكتابته في أحيان كثيرة رأيه فيما حصل، وفيما قر قراره عليه. وهو في معظم احواله كان امرءاً سائراً، أو من الجمهور، «في الناس لا شرط ولا أنصار»، على قول محمد مهدي الجواهري مجايله وصاحبه وربما صديقه في بعض الأوقات. وجمع، الى حاله الجمهورية والعامة، التعقيب كتابةً، والتعليل والتسويغ والوصف. فهو شاهد مدوِّن على خروج المرء العامي، العربي لساناً وثقافة وانتساباً أو نسباً سياسياً وبلاداً، من الأجسام الجمعية ومبانيها القديمة والمولَّدة الى مبانٍ مولَّدة أخرى تلتمس، على تراجع واضطراب شديدين، طرقها ومنطقها وعملها في حقول أنقاض غامضة المعالم، على أضعف القول.فالفتى المولود ببنت جبيل في عائلة يتوارث بعض أسرها طلب العلم (الديني) الإمامي، إما في مدارس جبل عامل، أو في النجف أو في بعض مدن ايران، بينما تشترك أسرها الأخرى، والغالبة عدداً، في أبواب المعاش المعروفة مثل التجارة والزراعة والحرف والكد، لحق بالنجف غداة الحرب العالمية الأولى، طالباً. وكان يومها في الخامسة عشرة. وشهد في موطنه الأول، يوم لم يكن الموطن لبنانياً بعد، بعض وقائع السلطنة العثمانية في نزعها الأخير وحربها العظيمة. ومن الوقائع هذه التجنيد، والفرار منه والتخفي، والقحط والجوع وغلاء الأسعار. وحين نزل الفتى العاشق (على الملأ)، والمنازعُ والدَه على عشقه وحقه فيه، العراق، كانت ذيول ثورة العشرين، ومقاومة عشائر الفرات إصعاد القوات البريطانية من ميناء البصرة وشط العرب الى بغداد، أصداءً في الأخبار والروايات. ونصبت الدوائر البريطانية فيصل بن الحسين، شريف مكة السابق، ملكاً مفترضاً جامعاً على بلاد رافدين لا تحصى منازع أقوامها وأنسابهم ومذاهبهم وخلافاتهم ومصالحهم وأحلافهم، على قول العامل الأموي الثقفي القاسي «فيهم» قبل 13 قرناً (يومها).[ رسومُ العامةودرس الفتى المهاجر الى البلدة العراقية «علوم الدين» طوال 15 عاماً توجتها إجازة الاجتهاد. وفي الأثناء، في 1930، عاد الى لبنان الجنوبي، وبنى بإحدى بنات آل الزين. وعاد عريساً، في الخامسة والعشرين، الى المدينة الترابية والكالحة. وفي منتصف العشرينات منح الجنسية العراقية مع «مهاجرين» آخرين مثله، فيهم وأولهم فيصل بن الحسين، الحجازي مولداً وإقامة. وحين بلغ درجة الاجتهاد في الفقه، وتخوله إجازته هذه الانتصاب الى إمامة اهل قرية أو بلدة أهلها شيعة إماميون وجعفريون مثله، ترك العمامة وعلمها، وما تجيز له من «حق» في «الحقوق» التي يؤديها المأمومون الى شيخهم. وكانت ذريعة الترك ضعف أود المأمومين وعسرهم، وهم اهل ضيعة قريبة من بلدة المعمم الشاب. وتبطن الذريعة دواعي كثيرة أخرى مثل رغبة «العالم» في مباشرة حياة شخصية وعائلية ومهنية وعامة بعيدة من رسوم «العلماء» السائرة والمعروفة. فهو أديب فوق ما هو فقيه. وهو زوج ووالد وصديق وقريب وصاحب فوق ما هو مفت ومدرس. وبدت له دواعي الاختلاط بالمتعلمين الموظفين، وهم معظم «الفئات المتوسطة» في مجتمعات الدول الناشئة غداة الحرب الأولى، ومشاطرتهم اختيار وجوه العيش المحدثة والطارئة في السكن واللباس والمخالطة والمصاهرة والمحادثة وتربية الأولاد والاضطلاع بدور عام بدت له الدواعي هذه أقوى من دواعي التزام سمت «العالم» المعروف والموروث والثابت.فخرج من سلك المعممين الفقهاء والمدرسين «العلماء» الى خليط لا يضبطه سلك. فزاول تعليم العربية وآدابها في مدارس وزارة المعارف العراقية. وتنقل بين مدن العراق، جنوب بغداد وشمالها وببغداد نفسها. وكتب في صحف محلية. ومال الى رأي «الإصلاحيين» و «النهضويين» و «التطوريين» و «التقدميين». وهو رأي عام، على معنى العمومية غير المقيدة بفروق تولت منازعاتٌ ومناقشات علنية وطويلة بلورتَها في أعمال ومذاهب. واشتركت في الرأي العام هذا، في صوغه وفي بثه وتلقيه بالقبول، جماعات مختلفة المصادر الأهلية والمرتبية والاجتماعية والبلدانية، وعلى استواء ثقافي بلغ حد التجانس. والقول ان المعمم العاملي النجفي، شأن بعض أقرانه القلائل، خرج على الهيئة الدينية الفقهية والعلمية وقام أو ثار، مبالغة تاريخية واجتماعية (على معنى الاجتماعيات). فلم يتبع تركَ العمامةِ والانتصابِ للفتوى والتحكيم في معاملات «رعية» ريفية وعباداتها، لا نقد للعقائد، ولا شقاق على أركان الاجتماع «القديم» ولا مفاصلة مع اهل هذا الاجتماع. ولم يكن حتى طلاق بالحسنى بل انصراف كل في سبيله وكأن عقداً لم يعقد بين المتعاقدين السابقين. وإذا كان ترك بعض المعممين الإماميين الشبان العامة في العقد الرابع من القرن الماضي عَرَضاَ من أعراض أحوال التدين الجديدة، ومرآة انعطاف دنيوي ومدني، فالأرجح ان تفوقه دلالة وخطراً أعراضٌ أخرى مثل تخلي طلبة محتملين من أبناء أسر «علماء» معممين عريقة وراسخة، عن طلب «العلم». وهذا ظاهر في بيان أعداد طلبة النجف، وضمور هذه الأعداد في منتصف العقد السادس، على ما أرخ حنا بطاطو على عجل. وعاصرت الظاهرة هذه ترك نساء المدن المسلمات، الحجاب، ثم غطاء الرأس، ولبسهن تدريجاً لباساً «يصف» اجسادهن، على قول الرسول في ثوب ماريا القبطية. ولا ريب في ان ارتياد المدارس، ثم العمل بموجب كفاءة مدرسية، الى اتساع الإدارات، وتعاظم مرافق السوق والهجرة من الأرياف واكتظاظ المدن واختلاط أهلها، تظاهرات انقلاب العلاقات الاجتماعية انقلاباً حاداً لا يأتلف معنى واحد من سيروراته المتفاوتة.ولم ينته الأمر بالنجفي السابق، ومدرس اللغة العربية وآدابها، والكاتب الصحافي المتأدب، الى الانخراط في الحياة السياسية الحزبية، «نصيراً للسلم» شيوعياً و «ديموقراطياً شعبياً»، إلا في أعقاب عقدين من الزمن (عند انتصاف الخمسينات). وفي الأثناء، استضاف المدرس والأديب في بيته ببغداد، حلقة من الشعراء الشبان، نساء ورجالاً، في سن طلابه أو فوق هذه السن بقليل، كانوا في اوائل من طووا الشعر العربي التقليدي، بناء وعروضاً وموضوعات وتعريفاً لمحل القول الشعري من المقالات «الأدبية». وفي المسألة الأدبية هذه، شأن المسألة «الدينية» من قبل، غلبت الرسوم الاجتماعية والثقافية، مثل علاقة الأجيال بعضها ببعض والاختلاط بين الجنسين واتصال عمل النشر والطباعة بدوائر التعارف وحلقاته وهي في طور لم «يؤلّف» جمهوراً من القراء والمتذوقين بعد. فمضيف الحلقة التي عدت فيمن عدت بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند حيدري وعبد الوهاب البياتي وآخرين، لم يشارك المتحلقين «عملهم» الشعري، إذا جازت الكلمة في المعرض هذا. ولم تربطه بهم أواصر الكتابة، أو «الإنتاج» على ما قيل من بعد، ولا التسويغ الثقافي والنظري. وهو بقي في ما كتب ونظم - فهو استمر ناظماً على بحر وقافية، وعلى مديح الراوي في القافية - بقي على منهاجه «النجفي» المعتدل.[ التقطع والعودة والهجرةوالاعتدال الديني والأدبي والاجتماعي والتربوي والسياسي، وميزانه على ما مر رأي إصلاحي ونهضوي وتطوري وتقدمي، لم يحفظ المترجَم من نوائب العصر حين عصفت عواصفه، واحتدمت منازعاته. فاعتقله الأمن الهاشمي السعيدي (نسبة الى رجل العراق القوي نوري السعيد) عاماً من غير تهمة غير الرأي. وطرده من عمله. ولاحق بعض أولاده. وتنازعه انقسام الحزب الشيوعي العراقي فريقين يبدع واحدهما الآخر، ويحكم فيه بالردة، ويؤلب الأولاد على الآباء. فاضطر المدرس الكاتب، ومضيف الأصدقاء والصحب، والحزبي اخيراً، الى ترك وطنه العراقي وفيه أسرته وأقرانه وأصحابه، وهو كان قضى فيه 35 عاماً، الى بيروت. ومذذاك توالت فصول التنقل والتقطع والعودة والهجرة طوال العقدين المريرين من تاريخ العراق المعاصر. فبعد أعوام من العمل المرهق في تعليم مدرسي «جماهيري» ببيروت، سافر المنفي الى عراقه وإلى دوامة منازعات البلد المذهبية والقومية والحزبية المسلحة والعنيفة.وانقلب طلب الحرية والاستقلال عن يد ضباط الجيش التقدميين والناصريين والبعثيين القلائل، بذريعة اشتداد وطأة القمع السعيدية (وهي اشتدت فعلاً وحقيقة)، كابوساً ثقيلاً من الاقتتال والانفجارات والاغتيالات والعداوات المتأججة والانقلابات المتربصة. ولم يسلم المعلّق الصحافي السياسي من عداوة جيرانه الناصريين ونقمتهم. فرماه بعض أولادهم بالحجارة. وأعاده «العهد» التقدمي، القاسمي، الى السجن. وفصله من عمله. ودب الانقسام في الحزب الشيوعي العراقي. وكثرت الاغتيالات من غير ان يتضح من يأمر بها، أهو جهاز محترف أنشأه رأس الحكم العسكري أم جماعات منشقة يورط بعضها بعضاً، وينتقم بعضها من بعض. فاستجاب الكاتب الخارج من السجن لتوه، والذي حاول حزبه توريطه في توقيع مقالات تعلن الشقاق على عبدالكريم قاسم، نصيحةً بمغادرة العراق. فسافر الى الصين مدرساً ومترجماً ورقيباً، ومراقَباً، حين شب الخلاف الصيني السوفياتي. وعرت الصين الماوية حمى ظهرت نذرها في 1961 1962 وأوردتها مورد الثورة الثقافية، أي الحرب الأهلية والاجتماعية الحزبية التي لم تخرج منها فعلاً إلا في 1978. وشهد المنفي منجزات «الماركسية اللينينية، الستالينية والماوية، تزمتاً وصرامة بدا التزمت والصرامة النجفيان، قياساً عليهما، يسراً وأنساً. وهالته القسوة السارية في ثنايا علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي جنباتها، ومن القرائن عليها دوام حراثة الأرض على ظهور البشر وأكتافهم ورقابهم. فأنكر ما رأى وما خمّن. واستعجل السفر، مرة أخرى.وكانت المحطة القريبة والمتاحة هي موسكو، حيث إحدى بناته. وهي الناشطة الحزبية، والشيوعية منذ فتوتها. ومر بموسكو عائداً الى لبنان، أي بيروت. وفي المقارنة ببكين وجوارها، بدت موسكو واحة مدنية وإلفة وفساد، معاً. ولكن المدينة لم تدعه الى نزولها طويلاً، ولم تستمله. وتعذرت عليه العودة الى العراق الممزق والمتناحر، والخارج من انقلاب الى انقلاب. فرجع الى مقامه البيروتي المضني والكئيب والهامشي. وبقيت أسرته، أو معظمها، ببغداد في مهب حرب أهلية ومذهبية و «عقائدية»، أو إيديولوجية، مرسلة لا تقر باسمها وحالها، ولا مخرج منها، ولا قيد عليها من غير اقتتال جماعاتها اقتتالاً إفناءُ العدو أفقُه الأقرب. وكانت الحملة الأميركية والغربية، «الصدم والترويع»، غداة 40 عاماً، المخرج المتاح. وحين عاد البعثيون، واستولوا على حكم العراق، في 1968، ترك المدرس اللبناني العراقي بيروت الى بغداد، وهي مرة أخرى مسرح ثارات قديمة ومتجددة. وحف موت بعض أقرب الأهل، بالعودة الرابعة أو الخامسة. واضطر الى «عودة» أخرى، في 1974، عشية انفجار لبنان وتصدعه المزمنين، الى بنت جبيل. وأقام بها الى 1977، بمنأى من بيروت. وعاد الى بغداد. وبعثرت الاعتقالات والاغتيالات المقنعة الأقرباء. وأفضى التواء كاحل الى موت عاجل و«هادئ» في المستشفى. وانتقل الميراث العراقي الثقيل الى بعض الذرية. فحمل «الغسق» بقية الرجل الأقرب إليه على اختيار الموت.وعلى هذا، تنقَّل، والأدق القول ترجح (ابو ابراهيم) محمد الشيخ علي شرارة في أثناء ثمانية عقود لم تتم، استهلها أو استهلته مع أوائل القرن العشرين، وطواها أو طوته مع انعطافة القرن «القصير» (1914- 1991 بين بداية الحرب الكبيرة الأولى وبين نهاية الحرب الباردة، على قول أحد مؤرخيه) صوب خاتمته الوشيكة، ترجح بين بلدات ومواطن وعوالم وحوادث (وأصحاب) شديدة التباين. فكان مفترقها الفريد وملتقاها، على ما تقدم القول، وكانت الجبلة التي جبل منها، واستوى صورتها التي لا يشاركه أحد في «نوعها». والفرادة هذه ليست امتيازاً ولا مكانة، على خلاف التلويح الرومنطيقي والجبراني بها. والعودة إليها ليست من هذا الباب. وهي مشكلة ومسألة فوق ما هي مفتاح أو تعليل. فمن تروى سيرته على النحو الذي تقدمت روايتها عليه قد لا يخرج من الرواية إلا بركام مفهرس أو غير مفهرس من أسماء الأعلام والأماكن، ومن الوقائع والحوادث المؤرخة، وثبتٍ بالكتابات والآراء والمشاعر. وبين هذه وتلك يصل اسم علم هو مادة في معجم مواد. وحال الركام والبعثرة والجوار المحض تلازم السيرة، وهي مبنى أول من مبانيها، وحكم ما لا يصدر عن ضرورة، شأن المُحْدَث كله، على قول المتكلمين.ورواية سيرة «كاملة» ومفصلة، خاصة وعامة، جواباً عن سؤال: من (يكون) فلان؟ هذه الرواية، والاضطرار إليها ليستقيم الجواب، هي من أعراض دخول مجتمعاتنا «العربية» فصلاً فردياً وسِيرياً من تاريخها الاجتماعي. فلا يستوفي معاني الفصل هذا الكثيرة والمحتملة انعقاد الرواية على الأبواب أو العوامل المفترضة، الجمعية والمجملة المعروفة، مثل الجماعات الأهلية والبلدان والمهن. وتطرق رأي الواحد، وهو في هذا المعرض المترجَم، وأهوائه ومنازعه الى انتهاج هذه الطريق أو تلك، والمضي عليها أو الميل عنها الى أخرى قريبة أو بعيدة، من القرائن على كثرة العوامل والموارد في السيرة، وتفرقها.

ليست هناك تعليقات: