الثلاثاء، 23 فبراير 2010

للخلاص من العقائد الشمولية والبداوة السياسية والمحاصصة المتوحشة والمدمرة

رسالة البطريرك الماروني تستأنف التفكير السياسي اللبناني في الصيغة ومقدماتها ونتائجها
النهار، 21/2/2010


امتازت رسالة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير إلى الموارنة اللبنانيين في مناسبة يوبيل 1600 سنة على وفاة القديس مار مارون (9 شباط الجاري)، في سعة تطرقها إلى المشكلات الراهنة لـ"الشعب" الماروني وسائر "الشعوب" اللبنانية، في ضوء اختبارات ثلث القرن الأخير وحوادث العقد المنصرم. وهنا قراءة في هذه الرسالة.
تسرد رسالة البطريرك الماروني اللبناني المشرقي (الكاثوليكي) الى الموارنة الإكليركيين والعلمانيين، في مناسبة الصوم الكبير ويوبيل 1600 سنة على وفاة أب الطائفة وقديسها الأول، الموسومة "في مار مارون... المارونية... ولبنان" (في 9 شباط 2010، والصحف التي أكرمت الرسالة بمقتطفات منها، شأن "النهار"، اقتصرت على ربعها)، تاريخاً روحياً، وثقافياً اجتماعياً، وسياسياً، للجماعة التي تعرف نفسها بنسبها الطوعي والحر الى اسم مارون و "حركته". والتاريخ الذي تسرده الرسالة الخامسة والعشرون، على عدد سنوات ولاية نصر الله صفير البطريركية المارونية، وترويه، تتناول به معاني الحركة الدينية "والثقافة التجديدية"، وعلاقتها بعضها ببعض، ومآل هذه المعاني ومصائرها ومفاعيلها في مدى اليوم وزمنه، أي في بلدان العالم المعاصر ودوائرها الجغرافية، وفي خضم الحوادث المعاصرة وسياقاتها. وصفة الرسالة هذه تميزها من معظم سابقاتها في المناسبة الدينية والشعائرية نفسها، ومن مئات بيانات مجالس المطارنة والأساقفة والموارنة الشهرية. وقد لا تقرن إلا ببعض نصوص المجمع الماروني البطريركي، وببعض النصوص التي أعدت للسينودوس من اجل لبنان وأدرجت أجزاء منها في البيان السينودي الأسقفي والبابوي (الإرشاد).



الميثاق، الطائفية

والامتياز، وليس التميز وحده، مرده الى غنى التناول وسعته، وتطرقه الى مشكلات "الشعب" الماروني الراهنة من غير تستر، وإلى تجديد الرسالة الأفكار واللغة في ضوء اختبارات ثلث القرن الأخير وحوادث العقد المنصرم. فالرسالة، من هذا الباب، تشبه بعض ما اضطلع به المجمع الفاتيكاني الثاني في ولايتي أو أسقفيتي يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس (1962 – 1965) من "استئناف" فكري وثقافي. والاستئناف يتخطى المراجعة الجزئية الى بلورة بناء يرتب المعاني على ترتيب ومعيار جديدين ومتماسكين. ويبعث الترتيب والتماسك في الرسالة، أجزاء وكلاً، قوة ووضوحاً ومباشرة قلما يجدها القارئ في بيانات سابقة، مارونية ومسيحية وسياسية لبنانية وعربية.
وينهض البناء على تعريف "الميثاق" أو التعاقد والتعاهد ما بين الطوائف اللبنانية في جوهره بـ"فعل إرادة وفعل حرية في آن (و) تجسيد لقيم روحية متفاعلة (و) مسألة تنمية وترقية للإنسان اللبناني – العربي – المشرقي..." ويفترض التعاقد والتواثق "أفراداً" أو آحاداً سابقين على تعاهدهم وتواثقهم. والأفراد، في المعرض الاجتماعي والسياسي، ليسوا الناس فرادى، واحداً واحداً، فهم هويات جماعية، شعوب تنفرد وتختص "بخصائص اثنية ومذهب واحد وتاريخ قديم"، أو طوائف. ولا تحجم الرسالة، ولا تتحفظ عن الدلالة الى الجماعات الطائفية (المذهبية) اللبنانية، وتسميتها بهذا الاسم، وحملها على شعب، على المعنى الذي تقدم للتو، وعلى هوية. وما ينكره معظم "السياسيين"، وهو تعريف اللبنانيين جماعات متفرقة تعصب الواحدة منها رابطة أهلية (قرابية ونسبية) يتولى رعايتها ولحمتها معتقد يضطلع بالتشريع في أركان الإيمان وفي المعاملات معاً، وتروي تاريخها وتتراواه على الوجهين هذين، الأهلي والديني – ما ينكره معظم "السياسيين" المحليين والعرب تقر به الرسالة البطريركية، إقراراً صريحاً، ولا ترى غضاضة في إقرارها.
وهذا مبعث سؤال وحيرة وقلق. وبعضنا (فليس منا من يبرأ من هذا النازع) يبعثه الكلام على شعب نظير الطائفة، على معنى الطائفة الدينية المذهبية، وعلى جماعة وجماعات، على الشفقة أو على السخرية أو على التنديد الصريح بالتخلف والانغلاق. وجواب الرسالة، شأن المجمع البطريركي من قبل (الملف الثالث، النص 19 الفقرة 45، 2006، الكنيسة المارونية والسياسة من: الكنيسة المارونية وعالم اليوم) جوابان. الأول يجبه المسألة، والثاني ينيطها بالمعالجة كلاً وجميعاً، ويرد من طريق إطار المعالجة وأجوبتها العامة وأجوبتها الجزئية والفرعية. وفي الرسالة اليوبيلية، يتناول الجواب الأول مسألة الطائفية في الفقرة 15 من الرسالة (ومقتطفات "النهار" أغفلت أجزاء من الفقرة هذه). ويذهب ما سقط من الانتخاب الى ان الميثاق، ركن المعنى اللبناني (الإنساني والتاريخي والإلهي)، إذا تحول عن جوهره "أصبح مجرد مطامع متضاربة ومفاوضة ومقايضة ومحاصصة ومجرد تسوية وتوازنات". والطائفية هي هذا، في ملة البطريرك واعتقاده، أي "أخطر مؤامرة على القضية (وهو) يسقط الرهان على الانفتاح والحوار ويفرض الانغلاق والزبائينة والإقطاعية".
فمن غير خشية مفارقة يقول صاحب الرسالة اليوبيلية ان الصيغة الميثاقية هي خلاف الطائفية، والطائفية هي "خطيئة" اصحاب الصيغة وأطرافها، و "سقوطها" المتنكر لأركان تواثقهم. وتخالف المقالة البطريركية المقالة العلمانية المفترضة، والمقالات القومية والمذهبية الأصولية، جميعاً. فهذه، على تفرقها اللفظي والمعنوي، تكاد تجمع على وصم الصيغة، أو "التركيبة" على قول مراجعين كثر مسلمين ومسيحيين في "مجالسهم" المحصنة بالأمانة والجَمْجمة، بطائفية كيانية، "بغيضة" و "انعزالية" و "شيحوية" من غير شك ولا تردد ولا فحص.
والجواب الثاني، من طريق المعالجة العامة، هو الراجح في ميزان الاحتجاج. فالرسالة ترسي الميثاق الوطني حقيقةً، على الجماعات او الطوائف أو الشعب (وبعض المعلقين يحسب ان حمله اللبنانيين على "شعوب" فتح من فتوح التحليل والفهم والصدق، ويبني على فتحه قصراً صحافياً منيفاً، وهذا ملقى على قارعة النصوص البطريركية من غير دعوى). والحق ان إنكار بني عاملة، وهو نسب شيعة لبنان الإماميين "الإثني"، على قول الرسالة، أو بني معروف، وهو نسب الموحدين الدروز، ومزيج القبائل العربية والكردية والتركية والبربرية التي يتحدر منها سنّة لبنان، الى الأرمن والسريان والكلدان والأشوريين والعلويين والأروام الملكيين – إنكار هؤلاء كلهم انتسابهم الى أعراقهم أو آبائهم، وإلى معتقداتهم الجامعة بين "عشائرهم" وأجبابهم وقراهم وأحيائهم أو خططهم، وروايتهم حوادث تواريخهم على الترتيب المزدوج والمتصل الأهلي النسبي والأهلي المذهبي، لهو (الإنكار) العجب العجاب. فالقوم، وهم أقوام لا يعرفون هوية غير هوية الآباء والأجداد والأولاد، على قول وثيقة الحزب الخميني المسلح الثانية، والوطن هو الموطن، على معنى "مسارح قضّاها الشباب هنالكا"، على معاني المسارح كلها: من طريق العين في عيناتا الى دروب التسلل والوديان والمكامن المسلحة وقواعد التدريب.
وهم، أي القوم، يتزوج ويصاهر بعضهم بعضاً. ومعظم زواجهم، وعلى الخصوص زواج عامتهم بعد نصف قرن من الإقامة في غير ملتهم، خوف "الموت في علتهم"، هو في دائرة أهل مذهبهم، وعلى شرع المذهب. والإكراه في هذا، وفي غيره، قليل. وهو لا يصدر عن "النفوس"، على خلاف رسم النفوس/ النصوص السائر، بل عن أركان الاجتماع التاريخي، وبناء الهويات المشتركة والسياسية والثقافية في نطاق الجماعة، والنفسية، أي تلك التي ترجع الى النفس، نفساً نفساً. فماذا ينكر الناعون على الطوائف، أي على الجماعات الأهلية والاعتقادية والتاريخية، حين يطعنون في خصوصياتها أو مرة أخرى: الأهلية والاعتقادية والتاريخية؟ هم يزعمون ان مطعنهم يقتصر على قيام الكيانات الطائفية وعصبياتها حاجزاً ما بين الجماعات والأفراد وبين الوطن الواحد. ويسمون هذا "طائفية سياسية".



العدد "الديموقراطي" والعصبية

ويفترض في التسمية أن تزيل اللبس ما بين الكيانات، أو "الوجودات" الجماعية، التاريخية والاجتماعية والإيمانية، وبين انحرافها السياسي المفضي الى "الانغلاق والزبائنية والإقطاعية"، على قول رسالة اليوبيل. والصيغة السياسية، في "الطائفية السياسية"، معناها المتعارف هو قانون الانتخابات، وقيود الاقتراع والناخبين، وتقسيم الدوائر، وعدد النواب وفق قيود الناخبين في الدوائر. وهو في نهاية هذا المطاف، العددي والإحصائي و"الحصصي"، هو توزيع الرئاسات والوزارات ووظائف الإدارات العامة. فالسياسة، في "سياسية" الطائفية والدعوة الى إلغائها، هي الحصص والشطور، وتوزيعها، وهي المراتب والمناصب والرئاسات وموازينها. وهي، الى هذا، الأواصر والميول، أو العصبيات والولاءات والأحلاف والعداوات. والحظوة بالحصص والمراتب تسوّغ تقديم أواصر وميول على أخرى مخالفة أو مباينة، وعلى مقادير أخرى.
فالدعوة الى إلغاء الطائفية السياسية، على المعنى المتقدم، يترتب عليها التسليم لمحاصصة برية، أو متوحشة، غير مدجنة ولا مهذبة، وتترك قياد توزيع الحصص وترتيب الولاءات على غارب الصراع وموازينه "الواقعة". ولا يتوقع، على أي وجه، أن يؤدي الصراع المتروك على عواهنه الى غير تعبئة العصبيات الداخلية، وتكتيل أهلها، وإطفاء خلافاتها، وميلها كلها الى جهة واحدة، ونشدانها المؤازرة من غير شرط، وانقيادها الى استتباع من الضرب غير المقيد ولا المشروط نفسه. ولا تستقيم سياسة، ولا رابطة سياسية وطنية، مع المحاصصة البرية هذه. وترك العنان لها هو أقرب طريق الى تدمير الدولة الوطنية، وإلغاء السياسة ورفع رايات الطائفية على أنقاضها. وأما الدعوة الى احتساب الحصص والمراتب والأحلاف على معيار أو ميزان مختلف فلا يؤدي، على ما حصل ويحصل في لبنان، في رعاية "عربية" جهورية أو متلعثمة منذ نيف وثلث القرن، الى غير طائفيات أهلية متشنجة ومحمومة. ولا ريب في أن ما يسعى فيه دعاة الإلغاء أو الاحتساب الجديد و "العادل"، أو الإحصائي العددي و"الديموقراطي"، هو النفخ في الطائفيات، وتحريك تشنجها وحميتها و"طبيعتها". والدور الذي تدور فيه الدعوة "العددية الديموقراطية"، و"الشعبية"، يقحمها فيه تعويلها على تعبئة عصبيتها، وتماسك أهلها بإزاء الجماعات الأخرى، في سبيل الحظوة بالحصص والمراتب والأحلاف التي تخولها إياها، على ما تحسب، أرجحيتها العددية. فتتوسل بالعدد الديموقراطي، ورجحانه الإحصائي، كسر الميزان كله.
وتتعمد الدعوة، أي أصحابها، الغفلة، أو انهم غافلون فعلاً، عن ان الاحتكام الى العدد في الاقتراع الانتخابي يفترض انحلال الجماعات الآلية أو الميكانيكية، وهي الجماعات العصبية والقرابية والدينية في المرتبة الأولى، الى أفراد وآحاد. وهؤلاء يختارون من بعد طوعاً، على هذا القدر أو ذاك، روابطهم وأواصرهم وتكتلاتهم الاجتماعية والسياسية والجغرافية والثقافية. ويسنّون الشرائع (على ترجمة عادل زعيتر) والقوانين والمراسيم والإرادات في أحوالهم كلها. فهم مصدر "الحاكمية" المدنية أو الولاية. ومعلوم ان حكم هذا، في بعض الصيغ الإخوانية وفي ولاية الفقيه الخمينية، التبديع والتكفير والحمل على الجاهلية. وديانتهم نفسها، بهذه الحال وإذ ذاك، لا تبقى تسليماً مطمئناً لـ "تعليم" حرفي محكم ومتوارث، بل تتعاورها الأسئلة والاختبارات والتجارب من جهاتها كلها. فالزعم ان الانتخاب "الشعبي" الى المجلس التشريعي، واستنتاجه تالياً بنية السلطة التنفيذية والإدارات ومنازع السياسات، إذا أطلق فيهما عامل العدد، وأقامت الجماعات العصبية على تماسكها الآلي، يلدان ديموقراطية غير طائفية، هذا الزعم يستمد بداهته من بداوة سياسية وأهلية مسترسلة. وهي وليدة تجربة "سياسية" أهلية فعلاً، على معنى العصبية، وعلى معنى الاستيلاء والغلبة بالقوة وأمرها الواقع.



الأصول الأولى

قد لا يكون هذا بيت القصيد، على رغم خطره، إذا نظر المرء إليه في ضوء الرسالة البطريركية. والاختبار اللبناني المستمر. فالأصل، في الضوء المزدوج، هو تعريف السياسة، وتعريف الميثاق و(الدولة) الوطنية تالياً. ولا يقصد بالتعريف الوصف، ولا تعيين الشيء أو الموضوع وافتراضه خارج الفعل والإرادة والرغبة. وعلى هذا، فالكلام على "تعريف" السياسة، والظن ان ثمة معياراً "موضوعياً" أو "علمياً" يقرر "علماء" وأهل معرفة في ضوئه إذا كان فعل ما سياسة أم لا، إنما هو كلام سياسي ومعياري من ادناه الى أقصاه. والحق ان رسالة اليوبيل تدعو صراحة وجهراً الى إعلان جماعات اللبنانيين وأفرادهم السياسة التي يريدونها، ويرغبون فيها، ويرونها محجة لسعيهم وأفعالهم، وقطباً يديرون عليه علاقاتهم وهيئاتهم وتنظيماتهم. وتقديم الميثاق والعهد على عصبية الجماعات، وعلى منازعها "الحيوية" (الداروينية)، التوسعية والسلطانية، يشهر مفهوماً للسياسة، وعن السياسة، يخالف البداوة الأهلية. فهذه تسعى في تجرمة العدد والعصب والولاء (إلى) مراتب قوة ونفوذ ثابتة، و(إلى) قطبي ولاية وعداوة لازمين ومقيمين لا فكاك منهما. وتعم البداوةُ الأهلية علاقات المواطنين بعضهم ببعض، وهي العلاقات التي تجعلهم جماعة سياسية وطنية ومدنية، بمعيار علاقات الدول بعضها ببعض وتشملها بهذا المعيار. ويقوم شطر من علاقات الدول، إلى اليوم، على ميزان سلطاني امبراطوري، ويجيز تحكيم الحرب والقوة في حسم المنازعات.
وعلى هذا تثبت الرسالة البطريركية الجماعات، ورابطتها الأهلية والاعتقادية والتاريخية، اصلاً ومبتدأ. وهذا إقرار بالصورة التي ترى عليها معظم الجماعات نفسها، وصدوع بها. والإقرار والصدوع هذان يرسيان السياسة المقترحة على ذاتية إنسانية متنوعة. ويستتبع الخروجُ عليها أو ازدراؤها انقلاب السياسة قسراً وتعسفاً خارجيين واستبداديين. ولكن إثباتها أو إيجابها على هذا النحو والوجه لا ينكفئ على نفسه، ولا يبقى أسير الأصل "الأول" المفترض. فيصحب الإيجابَ المنفصل هذا إيجاب كثرة مركبة ومؤتلفة، هي الكثرة السياسية الميثاقية. والكثرة الميثاقية هي مناط السياسة الوطنية والمدنية، والأصل الذي تتفرع عليه الحقوق والحريات، وتنشأ عنه الهوية الجامعة والمضطربة شأن الأفعال الإنسانية الحرة كلها. فالكثرة هي الأصل الأول، السياسي وليس الأهلي العصبي والحيوي، على رغم ما في إثبات الكثرة اصلاً أول من مجازفة. فهو أي ثبات الكثرة، يعول على شراكة "الكثيرين"، والتزامهم الشراكة ومداولاتها، وقسرهم أنفسهم على المداولة والانضباط عليها وعلى نتائجها. وهذا مرهق ومعنت، قياساً على حسم المنزع العصبي الأهلي وعجلته، وعلى صولته وجولته في ميدان تنفرد به أهواء "حديدانية" تشبِّه على صاحبها الفرد والفذ خيالات العظمة والقوة، وتقلص مشاغله وسعيه الى دائرة ضيقة وفقيرة.
وتتناول الرسالة مسألة التعاهد الميثاقي، وإرساء السياسة الوطنية المدنية على ركنه، واقتراحه مناطاً للحياة السياسية العامة وتفضيله على سياسة العصب والسلطان، تتناولها من وجهين: الوجه الأول هو مقدمات التعاهد والتواثق وشروطهما، والوجه الثاني هو نتائجهما. ويفترض قرار الجماعة السياسية، الوطنية المدنية، على ميثاق أو عقدٍ كثرةَ

المتعاقدين، وسواسيتهم فعلاً (على وجه الوقائع) وحقاً (في ميزان الحقوق والقوانين). ويفترض، من ناحية أخرى، حريتهم، وإقبالهم على التعاقد إقبال المريد غير المكرَه والمدرِك تبعات تعاقده، والملتزم التعاقد وتبعاته – الى حين طلبه التحلل منها أو من بعضها، أو اقتراحه تعاقداً آخر أو فك التعاقد وحله. والكثرة الثابتة والراسخة ليست شرطاً منطقياً أو ذهنياً للتعاقد، وعلى التعاقد، فيقال: التعاقد يفترض متعاقدين اثنين على التقليل ولا يتعاقد الواحد مع نفسه (وهذه فيها نظر). فهي والتعاقد صنوان متكافئان. ويوجب المتعاقدون من طريق تعاقدهم افتراقهم، وقيام واحدهم بنفسه، وولايته عليها، "فعل حرية وفعل إرادة"، من وجه. ويوجب، من وجه آخر، توجهه على مواثقه ومعاهده، وتحمّل تبعاته وكفالته وضمانه بإزاء نفسه، وبإزاء غيره، "مسألة تنمية وترقية".
وتبني الرسالة اليوبيلية على الاقتراح هذا تأويلاً للميثاق اللبناني هو في مثابة صيغة جديدة تخلف الصيغة الحرفية والتعاقدية القانونية التي غلبت على معظم الكتابات التي تناولت "مساكنة" اللبنانيين بعضهم بعضاً و "تعايشهم" و "أممهم"، على ما قال عبدالحسين شرف الدين في أمته "القلقة". فتذهب الى ان الميثاق "هو فعل ثقة بالقضية اللبنانية صاغته بل التزمته الطوائف اللبنانية، يوم هربت الى هنا (وهي) إنما جاءت لصون هذا التراث (الروحي). وهكذا كان الميثاق جزءاً من دواخل ضمائرها، فصادقت عليه ضمناً كل أقلية وافدة الى هذه الديار... ولأنه تعبير عن إيمان وحقيقة وشرف فإن ميثاقاً كهذا لا يجوز ان يكتب لأن ضمانه الوحيد هو الإيمان بالله والثقة بالإنسان". وعلى هذا "فنحن... نثبت ذاتنا ولا نطلب ضماناً من أحد... (وقضيتنا هي) قضية الخصوصية والفرادة...". ويقود اقتراحُ السياسة ومزاولتها وتعهدها على هذا الوجه، من يدعوهم الاقتراحُ، ويتوجه عليهم، يقودهم الى مشارف اختبار أخلاقي وعملي وسياسي عسير، قد لا يكون لنا طاقة به. ونكصنا، نحن اللبنانيين، عنه في معظم الأوقات والأحيان.



المطاف المهاجر

ويبدو لي ان ما يذهب إليه البطريرك الأنطاكي المشرقي والمسكوني في هذا الموضع في رسالته يستقوي (أو يحتج) على تخاذلنا عن احتمال تبعات لبنان السياسية الوطنية والمدنية – وهو يقول "الروحية" و"الإلهية" – الشريفة بتجربة تاريخية تتعدانا معانيها ونحن من اضطلع بها، في وقت واحد. وهو يؤرخ لما سماه عمر فاخوري (نعم!) "الحقيقة اللبنانية" (1944) تأريخ استعادة وحفظ وديعة على رجاء حركة خلاص تاريخية. فلا ينسى ان ابتداء "الحركة" المارونية، والشعب الماروني تالياً، ولبنان في خاتمة مطاف تاريخي مهاجر، كان استجابة دعوة تولاها امرؤ فرد، إجازته من نفس حرة ومن تلبية. وليس من تولية أو إلباس فروة، على قول كتاب الحوليات العثمانية، ولا من انتساب الى أهل أو محل أو سلطان. و"الحركة" هذه حلت معنى وجماعة وأرضاً. ولكن المعنى والجماعة والأرض أقامت على التماس محجة لا قرار تقر عليه. وهي أقرب الى الجهة منها الى الموضع، على ما في القول هذا من رجع غنوصي لا يرضاه، على ما أحسب، البطريرك الخلقدوني.
فالهجرة أو المُهاجَرة – رواية، وسعياً في أقاليم المعمورة واضطراباً بين أظهرها، واستصلاحاً للمحرث بجوار الأديرة – هي دأب "الحركة" وميزانها ومنزعها العميق. وحمل الجماعات الأهلية والدينية الاعتقادية اللبنانية على المهاجرة، وليس على الإقامة ولو على سبيل التمصير، يغلِّب تطلعها الى المرحلة التالية من رحلتها ورجائها وسعيها على الأصل الذي تتحدر منه، رحماً ودماً ونسباً. وتقدم المهاجرةُ – وهي عند بعض المسلمين الى الله ورسوله، وإلى "المعاهدة خوف الأعرابية" على ما ذكّر عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري – المهاجر الفرد، والمتخفف من عصبيته الآلية، على الجماعة الدموية، وتدعو الى الغربة ومخالطة الغرباء، واجتراح نسب جديد يجمع المهاجر ويضويه الى "أهل" جدد لم تلدهم آباء المهاجرين ولا أمهاتهم. ويتعاقد المهاجر الغريب على نسبه الجديد، أو آصرته وعروته السياسيتين هذه المرة، تعاقداً حراً و"مشروطاً"، على قول الإيرانيين مطلع القرن العشرين في حركتهم الدستورية.
ويرسي الميثاق، وهو مشروطتنا ودستورنا وعهدنا، الواحد والواحدة على نسبين متنازعين. فلا يطمئن ذو النسبين الى نسب واحد. ولا يدعوه اطمئنانه الى الحسبان الصلِف والادعاء الأرعن انه هو القائم على الأهل وعميدهم، أو هو "صاحب الدولة" المكلف والمفوض. والتأويل البطريركي لتاريخ الموارنة على هذا النحو من المعاني يخرجه من أصالة نسبية وأهلية مستعلية وبطولية، ويقيد منزعة الى التربع في سلطان دولة بوليسية وخاوية. ويدعو الجماعات اللبنانية الى إيجاب روايتها لتواريخها، والدخول في الميثاق من أبوابها هي، وليس من باب المارونية على معانيها المتفرقة. فالائتلاف، وهو اسم آخر للميثاق، يجمع "المعذبين والمتألمين والمهمّشين... والمطرودين من أوطانهم والمضطهدين في حرياتهم". وهو يجمعهم على إيجاب حرياتهم وحقوقهم، وعلى تعاهدهم في اجتماع سياسي مشروط ومقيد بالكثرة و(مشروعية) المنازعة والمداولة والعلانية.
والوجه الثاني، وهو نتائج التعاهد والتواثق (بعد مقدماته وشروطه)، يتناول ما ترتب ويترتب على إرساء السياسة الوطنية المدنية على ركن التعاهد الميثاقي واقتراح هذا مناطاً ومبنى للحياة السياسية العامة - على علل الإرساء و(اقتراح) المناط هذين. وتحصي الرسالة اليوبيلية المترتبات الأولى والبارزة. وهي اجتماع "الهوية اللبنانية... من هويات متعددة هي هويات الطوائف، (فهي) المألفة الجامعة بين هذه الهويات المختلقة والمؤتلفة في ميثاق الحياة المشتركة". وهي، ثانياً، "قيام نظام يحترم الكرامة البشرية ويتيح ممارسة الحريات السياسية، الشخصية منها والجماعية، ويتبنى الديموقراطية نظاماً للحكم". وما خلا الإشارة السريعة والغامضة الى "تنمية وترقية الإنسان اللبناني – العربي – المشرقي"، تغضي الرسالة اليوبيلية، حياءً ربما، عن نتيجة ثالثة ترتبت على التعاهد الميثاقي هي اضطلاع المجتمع اللبناني العامي، أفراداً و"جمعيات" (على معنى الروابط الطوعية والتلقائية) وشركات، بإنماء المرافق والعوائد وتلبية بعض الخدمات الأساسية، إنماءً وتلبية يتقدمان نظيريهما "القطاعيين" جودة وعدالة.
ويجر هذا على اللبنانيين، وعلى نظامهم السياسي والاجتماعي والثقافي "برمته"، على قول مستأسد، ضغينة "القوى العقائدية الشمولية، القومية منها والدينية الأصولية". وتتهدد هذه القوى وطن اللبنانيين بإيقاعه في "مأساة" حكم هذه القوى، و"تجربة (حكمها) القاتلة". وتمثل الرسالة على المصير المخوف هذا بـ"تهديد السلاح" المسلط على حقوق اللبنانيين وحرياتهم، وعلى اجتماعهم السياسي وهيئات الدولة وميثاقها الدستوري. وهذه المحنة "نفي للبنان، وتمزيق لهويته الوطنية، وإلغاء لحرية ابنائه، ومدخل الى الحرب الداخلية فيه"، على طريق "زوالـ(ـه)". وليس هذا وصفاً للسلاح الحزب اللهي، الإيراني والسوري، وحده، ولا تنديداً بـ"تفاهم" المعاون الماروني الانكشاري، و"المقاوم" المتفرج والمقاول، مع ولاية الجماعة الشيعية المسلحة وإقطاعها. ويتطاول الوصف المندد سوابق كثيرة، منها السابقة الفلسطينية القريبة، والسابقة الإسرائيلية، والسوابق الأمنية العروبية و "اللبنانية"، وغيرها.
وحمل السلاح، والحكم بواسطته، على "القوى العقائدية الشمولية القومية منها والدينية والأصولية"، وجمعهما، السلاح والحكم، معاً، لا يقتصر على لبنان واللبنانيين. والرسالة البطريركية كلها إنما تكني بلبنان واللبنانيين عن خلاف أو شقاق عربي وإسلامي، أو يرجى عربياً وإسلامياً، مداره على السياسة، والمجتمعات السياسية في "الشرق الأوسط". وكان لبنان واللبنانيون مسرح اختبار لهذا الشقاق. وهو لم ينقض ولم يطوَ. فالميثاق، على معناه الذي تقدم، "أكبر تحد للإيديولوجيات الشمولية والعرقية والدينية والأصولية التسلطية في المنطقة. وهو ما جعل هذه الإيديولوجيات تعلن عداءها لقضيتنا ولوجودنا من الأساس، شعباً وكياناً ودولة ونظاماً، ولا تزال!". والكناية بالميثاق والتعاهد والكثرة والمداولة والعلانية والخروج من العصبية الأهلية والولاء الواحد، عن الصيغة اللبنانية، تدعو (الكناية) اللبنانيين الى الانخراط مرغمين ومضطرين، في الشقاق العربي والإسلامي الذي يكاد، الى اليوم ولولا الحركة الإيرانية وبعض الإرهاصات العراقية والمصرية ربما، يقتصر عليهم.
وهذا نذير شؤم مخيم. فما تسميه الرسالة "إيديولوجيات شمولية وعرقية ودينية وأصولية متسلطة" على وجه السرعة، ولكن حيثياتها اللبنانية والمارونية تصفه وصفاً دقيقاً مرّ بعض تفصيله، ما تسميه بهذه الأسماء نفذ الى قلب حركات عربية تتصدرها القوى الفلسطينية، وقوضها من داخل وخارج، وحرفها عن المنازعة السياسية الوطنية الى المقامرات الأمنية الدامية.
ولعل سكوت الرسالة، ورسائل قبلها كثيرة، عن المسألة الفلسطينية مرده الى التباس القضية الوطنية العادلة، إذا استثنيت هوامش مدنية قليلة ومتأخرة، بأحط صور "السياسة" والعصبيات والثارات والنعرات والمساومات. وانتصب لصوغ المسألة، وبناء حركتها الوطنية المفترضة، وقيادتها، والعبارة عنها، أشباه من قادوا حركات الرعاع الدامية في أوروبا بين الحربين العالميتين. ويتصدى أشباه الأشباه هؤلاء اليوم الى سوس اللبنانيين، جماعات وأفراداً ودولة. وهم يرثون لبناناً هزيلاً تخلف عن عصابات القتل والابتزاز والخوات والشعوذة. ولكن هذا اللبنان ليس طارئاً ولا غريباً. فهو منزع من منازعنا حين تعيينا سياسة التواثق المرهقة. ويداوي اللبنانيون منذ شباط 2005 على أقرب تقدير، هذا الصنف من منازعهم. وهم ليسوا في خيرة من أمر مداواتهم هذه إذا شاؤوا "تجسيد مصير الشرق كله".

ليست هناك تعليقات: