المستقبل، 26/9/2010
في يوم قائظ من آب المنصرم، في 23 منه على وجه الدقة، وهو صادف قريباً من منتصف شهر صوم المسلمين أو قبل انتصافه بقليل، كانت صحافية لبنانية "تستعد"، على قولها، مع آخرين "من جنسيات مختلفة" لتناول العشاء في "مطعم فندق حديث في وسط، يملكه ماروني وباركه أحد المطارنة بالمياه المقدسة حين ارتفع بنيانه" (هيام قصيفي، المطاوعة في وسط بيروت، "النهار" اللبنانية البيروتية، 25 آب). والفندق هذا هو "لوغراي"، والماروني صاحبه هو من آل قبشة، والمطران المبارِك هو المطران بولس مطر، راعي أبرشية بيروت للموارنة، على ما صرح رد جواب مجلس إدارة الفندق على رواية الصحافية وتورياتها (رد من مجلس إدارة "لوغراي"، "النهار"، 29 آب). وبينما كانت الصحافية تستعد وصحبها، إذن، للعشاء "الساعة الثامنة"، وكانت انقضت نحو 3 أرباع الساعة على ابتداء الإفطار، في مطعم "لوغراي"، و "(طلبوا) الطعام والشراب"، "أصر" نادل المطعم، أو "ميتر دوتيله" المولج خدمة المائدة، على نصح الطاعمين "بنوعية نبيذ معين".
ولما لم يكتب النادل الى الصحيفة، ولا كتب مجلس إدارة صنف النبيذ المقحم نفسه على أذواق الطاعمين والشاربين، خفي إلى اليوم على القارئ مصدر الإكراه الأول الذي نزل في المزمعين الأكل. وموضوع الكاتبة المخبِرة ليس أصناف النبيذ ومراتبها في التذوق والتمتع، وإنما هو درجات الفرض والإكراه والتعسف والقهر في الفندق مِلك صاحبه الماروني ورئيس أساقفة الأبرشية. ودخل الفندق و "مطعمه" الدائرة الأولى من دوائر الفرض وانتهاك الحرية من باب صنف النبيذ، والقهر عليه. وانقلب النادل القاهر والمتطفل والوقح، في إغماضة عين، رجلاً حيياً ومهذباً. فهو، بعد رفض الآكلين "نوعية" نبيذه واختيارهم "نوعية" يرتضونها، "عاد معتذراً"، وأردف اعتذاره بـ "خجل"، وزاد على الاثنين "أسفاً". وقال المعتذر الخَجِل الآسف: "أخجل مما سأقوله، ولكن لا نستطيع تقديم النبيذ لأننا في رمضان".
اسم البلد
والفصل الأول هذا من الواقعة يتناول زمانها ومكانها ويمهد الى "الأزمة" أو مدار الحبكة والعقدة، على قول كتب تدريس مبادئ الأدب الفرنسي في المقرر الثانوي السابق. وعلى ما قد يفترض قارئ الصحيفة، أو لا يفترض، جبه الجالسون الى مائدة "لوغراي" اعتذار الرجل وخجله وأسفه، والمشاعر الثلاثة إدانة ثقيلة، من داخل، للفندق ومطعمه وآل القبش ورئيس أساقفة بيروت معاً، جبهوا الاعتذار برد متدرج. فهم، أولاً، "لم (يستوعبوا)". وهذا قرينة على طبائع حرة، ومترفعة عن "استيعاب" صغائر الأمور وحوادث العالم السفلي الذي يرتع فيه وضعاء القوم، والراجعون في التزام مترتبات الانتساب الى المارونية، والمباركة الأسقفية، والعاجزون عن التزامها. وتواضعاً ربما، "(حاولوا) الاستفهام"، ثانياً. و "الاستفهام" ليس استفهاماً، على المعنى الشائع والسالب والخائف. فمن يقول انه "لم يستوعب"، ويعني الازدراء بجبن محدثه ونكوصه وضعف التزامه معتقده، لا يستفهم استفهام عامة الناس. وعليه لم يرَ "المسؤول عن المطعم" بداً من المجيء، وشرح اعتبارات الإحجام عن تلبية طلب الآكلين الشاربين الشراب. فقال ما قاله نادله المعتذر الخجل الآسف لتوه. وزيَّن الإحجام بـ "احترام مشاعر المسلمين" المفطرين.
وردت صاحبة الخبر، وكاتبته في الصحيفة، رداً "سياسياً" هو في صلب الخبر ونقله وروايته وإذاعته على الملأ: "إننا مسيحيون وعليك احترامنا... ونحن في بلد اسمه لبنان ولسنا في بلد إسلامي". فارتقت المسألة الى مرتبة أو مصف المساواة بين السكان وجماعاتهم وعاداتهم وسننهم، وإلى صفة "الدولة" أو السلطة التي تضمن المساواة، وتحامي عنها. و "الدولة"، وتحسب الراوية ان "بلد اسمه لبنان" يقوم مقام الدولة وسيادتها الحقوقية والقانونية على مواطنيها (أي سيادتهم على أنفسهم من طريق الدولة)، "الدولة" هذه مدنية، أي غير دينية التشريع ومصادره، ولا يحق لها تالياً إكراه من ترعى حقوقهم من مواطنيها على فعلٍ أو إمساكٍ وترك لا ينص عليهما القانون. ولا يحق لها هي الإكراه، وعليها ألا تبيح لأفراد أو جماعات تولي الإكراه في محال عامة ومشتركة.
واحتجت صاحبة الخبر لرأيها احتجاجاً مفصلاً ومفنداً: 1)"لائحة الشراب والطعام لم تتعدل"، 2) لم يعلق الفندق "في الخارج لافتة تعلن منع الخمور". وعلى هذا، أو هذين، على الفندق وفاء وعده بالطعام والشراب المباحين. "تشبثنا بموقفنا الرافض" انتهاك الاحترام والمساواة ومدنية "البلد" غير الدينية. وحسب "المسؤول" الغافل أن ما يصر عليه "الرافضون" هو الشراب، وليس الاحترام والمساواة والمدنية. فاقترح عليهم، لغفلته وسذاجته وتخففه من المواطنَة الحرة والأبية، الشراب إياه في أقداح "مموهة رزقاء" تتستر على "وقاحة" عصير العنب، على ما سمى معاصرو الحسن بن هانئ ما ينتبذ من عناقيد الدوالي. وأمعن "المسؤول" و "التاجر" المسكين في الغفلة والتخلي، فأراد إعطاء الشراب "مجاناً" من غير ثمن، فزاد الطين بلة، وحمل الراوية على المغادرة.
ومقارنة روايتي الصحافية ومجلس إدارة "لوغراي" الواحدة بالأخرى تبرز وجهاً أغفلته رواية الصحافية عمداً. فمجلس الإدارة يقول إن الفندق استثنى، طوال شهر صوم المسلمين، مقهى (مطعماً) واحداً من خدمة الشراب، هو "غوردونز كافيه". وما عداه كانت "جميع النقاط المخصصة للأكل والشرب في الفندق... تلبي طلبات الزبائن"، بما فيها المشروبات الروحية، باستثناء مقهى (غوردونز كافيه) وأثناء فترة الإفطار فقط". وترتب على الإغفال الأول إغفال ثان هو اقتراح النادل على "السيدة" تناول الطعام في "أحد مطاعم (الفندق) الأخرى". فتأكل وتشرب ما أرادت واشتهت. ومحل الإغفال المزدوج ملأته الصحافية المخبرة برواية الأقداح المموهة بالزرقة والهدية من غير لقاء. ورد "لوغراي" لا ينفي الرواية ولا يثبتها، ولكنه يروي ما يضعف مسوغها (وهذا رأي يمليه ربما التحامل على السكوت عن ذرائع المطعم، وذلك في معرض تحقير "خبث تجاري متستر بالمحافظة على العيش المشترك واحترام مشاعر المسلمين"، على قول صاحبة الخبر، منددة وعائبة).
وتخلص الراوية من روايتها المركب بعضها على هواها، وعلى قصد الطعن في مجاراة مسيحيين لبنانيين غايات ومعايير "سلفية" وقصد مديح تراث مسيحي لبناني شامخ الرأس، تخلص الى ما كانت ابتدأت به: "...ولدنا وعشنا في بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد العيش المشترك المبنية على احترام الآخرين (و) لسنا أهل ذمة، ولا نريد ان تنتقص حقوقنا بحجة تجارية واهية". وتصوغ سؤالاً عن الآتي في "قالب" كلمات أو مصطلح يشي، شأن مصطلح العنوان، بتشخيص لمصادر التهديد يستشعِر الخطرَ من جهة، أو جهات، دون أخرى: "فهل وصلت الشرطة الدينية الى لبنان وإلى قلب الوسط التجاري واجهة لبنان الحضاري وبدأت ترتدي بذلة أجنبية وربطة عنق؟". وكانت الفقرة الأولى من المقال حملت "الشرطة الدينية (المطاوعة)" على بلدان إسلامية (على معنى اعتقاد غالبية السكان) متفرقة ومختلفة النظم السياسية والاجتماعية والثقافات والتواريخ. فجمعت أندونيسيا وأفغانستان في باب واحد. وهذا افتئات وتعنت (أو جهل، بديهة).
وهي حملت "الشرطةَ الدينية" على "المطاوعة" دون "الباسيج"، على رغم إحصاء إيران في البلدان الخمسة، ودون التنبيه الى الأصل الذي تتفرع عليه الشرطة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجه، والحسبة، من وجه آخر. وبينما يدخل الأصل في بنية الدولة في حالين، على نحوين مختلفين، لا مدخل له في باكستان ولا في أفغانستان، وبالأحرى في اندونيسيا وإسلامها (وهو كثير على ما ذهب إليه دارسه الكبير كليفورد غيرتز) الصوفي الشخصي والشعائري الاحتفالي معاً. والأصل الأول في صيغ الأمر بالمعروف والحسبة، وعلى الأخص في الأحوال التي تضطلع فيها الدولة أو السلطة السياسية الجامعة بالأصل هذا وتعده جزءاً من ولايتها وصلاحياتها، الأصل الأول هو إقامته على الرعايا المسلمين، أي امر المسلمين بالمعروف ونهي المسلمين عن المنكر، والحسبة على معاملاتهم في الأسواق وبيعهم وشرائهم واحتشامهم، الخ. وأما "أحكام أهل الذمة" – وهي تبيح لأهل عهدها، في "ديرتهم" المنكفئة، تدبير أحوالهم على سننهم وعوائدهم الموروثة – فمرجعها الى قانون الحرب والفتح، وإلى عهود أو معاهدات هذا وتلك.
ويغمز مصطلح الصحافية المخبرة، واختيارها ألفاظها من معجم دون آخر، تتصدره لفظة "المطاوعة" وشرحها بـ "الشرطة الدينية" على خلاف "الباسيج" المفترضين شرطة "أخلاقية"، يغمز من "محور" يجمع السعودية الى "سوليدير" ورفيق الحريري والمستثمرين المسيحيين في "الوسط التجاري" (على ضفة "ساحة الحرية" الغربية وفي جوار "الاعتصام" أو الاحتلال الحزب اللهي والعوني 18 شهراً) والإكليروس الماروني "المتواطئ" مع حلف تجاري "خبيث" مفترض يلحق البطريركية المارونية بالمسلمين السنّة السلفيين من لابسي "البذلة الأجنبية وربطة العنق"، من ورائهم جماهير طرابلس وعكار "الحريرية" وغزاة الأشرفية وحرّاقي السفارة الهولندية في 5 شباط 2006. ويفترض في حبات السبحة ان تكر: من عصابة السطو على فرع مصرف في الدامور الى عصابة سطو أخرى من الهوى نفسه على فرع مصرف في البترون، تمهيداً لحرب مخيم نهر البارد في رعاية "فرع المعلومات"، على ما "أثبت" ميشال عون ببراهين دامغة تكاد قوتها ترقى الى قوة قرائن ومعطيات أُخَر.
القرار والرأي
وفي عبارة جلية، يريد خبر الصحافية القول ان السلفية السنية وهيئاتها تزحف الى قلب "لبنان المسيحي"، وتهدم حرياته وهويته في رعاية رساميل مسيحية تباركها بكركي البطريرك صفير، ويباركها أساقفة تشدهم الى "القوات اللبنانية" روابط القرابة الدموية (كتلك التي تشد رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر الى شقيقه العميد مطر المدان بالضلوع في اغتيال رشيد كرامي) والسياسية تالياً.
وكان سبق خبر صحافية "النهار" المندد بـ "المطاوعة" المحدثة اللباس وحليفة "الرساميل" المارونية وأساقفة بكركي المتواطئين، تعليق في "الأخبار" موسوم بـ "من (احتكار) المسيح الى إمارة صيدا" (جان عزيز، 19 آب). وتنكر المقالة على "السلطة الكنسية"، وهي في هذا المعرض رئيس أساقفة جبيل للموارنة المطران بولس الراعي بوكالته عن بكركي والبطريرك صفير، "تدخلها" في إلغاء عرض المسلسل الإيراني التلفزيوني "المسيح عيسى بن مريم" على شاشتي "المنار"، محطة "حزب الله"، و "إن بي إن"، محطة "امل". ويخشى التعليق "آراء الظلاميين من كل جهة، على تناقضهم وتحالفهم الموضوعي" – وهذه لازمة رأي يرى مساواة "النظام الأميركي" أو "الامبراطورية" بـ "قاعدة" بن لادن، على ما ذهب إليه علم اليسار الأميركي نعوم تشومسكي – وعدوانهم على "حرية التفكير والضمير الديني"، وعلى "حرية الرأي والتعبير" و "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، على قول صاحب التعليق الأخباري مقتطِفاً ومعللاً ومجتهداً.
وتمضي الخشية على تعاظمها، فتخمن في صدور "قرار كنسي يلغي أجزاءً من الأدب الإنساني الحي". وهو، في الأثناء الخطابية والمهوِّلة والنافخة في أبواق تدك الأسوار، جعل تلويح مطران كرسي بلاد جبيل بمؤتمر صحافي يعتب على الإنتاج والتوزيع الإيرانيين والشيعيين الإماميين انحيازهما الى أنجيل "منحول" – "قراراً كنسياً" إدارياً نافذ الإجراء. ويخالف هذا واقع الحال. وحملُ الرأي الأسقفي الماروني، وهو ناجم عن خوف ويتمسك بتلابيب عزلة فكرية واعتقادية تداعت حجارتها منذ زمن، على إجراء عملي وإداري متمكن من أدواته وآلاته وسلطانه، تضليل متعمد. فما هي دائرة إنفاذ القرار المزعوم؟ هل هي الأمن العام اللبناني؟ ام محكمة المطبوعات؟ أم المجلس الوطني للإعلام؟ أم هي "نفوس" القراء والمشاهدين المحتملين؟ والحق ان إلغاء عرض المسلسل الإيراني والشيعي الإمامي – وهذه صفته وهذا نعته ولا غبار عليه منهما، على زعمي – استدرج إليه توافق جهازين دعويين واعتقاديين، وسياسيين على مقادير متباينة، على الإلغاء. وأُخرج الإلغاء والتوافق عليه مخرجَ إجماع الجماعات على احترام واحدتها معتقدات الأخرى، ومخرج التمثيل على جدوى "الحوار". و "المربح" من الإخراج هذا، إذا صدق أو صح أن ثمة مربحاً وليس خسارة، تتقاسمه الكنيسة المارونية والأجهزة الإعلامية والدعاوية الإيرانية والإمامية في طهران وبيروت (أو "الضاحية").
والمعلق الإخباري يقصر الفعل الرقابي وإدانته على الكنيسة و "قرارها" (في "أعمال" ثانوية نشرت منذ عقود ولم "يلغها" أحد)، ويسكت عن "شريكها" في العقد التوافقي المضمر بعضه والمعلن بعضه الآخر. ويحاول مكافأة إدانته "القرار الكنسي"، والجلي الصفة، فيعرج على "فتاوى" افتراضية، تنسبها اللفظة المشتقة (من الفتوى والمفتي) الى الإسلام والمسلمين، في "الكوميديا الإلهية" الدانتية (ويتحاشى الأخباري ذكر وسمها الفاضح في صحيفته "الحرياتية" و "الإبيستيمية" – كذا -) وفي طقطوقة درويشية تقضي تقوى المولى العروبية برفعها الى منزلة الإعجاز. ويغفل فتوى ناجزة وصريحة في رواية سلمان رشدي، "آيات شيطانية"، أفتى بها مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأول. وقضت بـ "إلغاء" الكتاب والكاتب معاً، ووعدت القاتل العتيد، وآلة إنفاذ "القرار" الهمايوني والشاهنشاهي وغير الكنسي، بمليوني دولار أميركي ونصف المليون حُبست على صورة وقف يعود رأس ماله وريعه الى من يتولى إنزال "حكم الله" في دم الروائي. وجدد غضنفر ركن أبادي، سفير جمهورية إيران الإسلامية، إدانة سلمان رشدي، وإباحة دمه تالياً، في أثناء زيارة إلى دارة ميشال عون في 17 أيلول 2010. وهذا قرينة على اتصال الفرمان والخط "الفقهيين" من 1989، عام إبداء المرشد الأول رأيه في الرواية، الى اليوم. وفي الأثناء، حفل تاريخ الولاية بالاعتقالات والاغتيالات والمحاكمات المزورة والرقابة على الصحف والكتب والشعر والأغاني ومجالس العزاء والقبور. ولكن هذا كله، لا يرتقي الى مرتبة "قرار كنسي" واحد، "(يجعل) الجهات الدينية مرجعية ضابطة وإكراهية لأطر التفكير والتعبير"، على قول الأخباري "الإبيستيمي" و "الحرياتي". وفي الميزان نفسه، يفوق الإحجام عن خدمة الشراب 17 شهراً من احتلال "مشين" انتهك الحق في الملكة والتصرف والرزق والانتقال والإقامة.
وعلى مثال سائر تختبره الجماعات الثورية و "الجهادية" المقاتلة والعالمثالثية وما بعد الكولونيولية منذ عقود، يَنصب الكاتب "القرار الكنسي" أو الاستعماري والإمبريالي، أساساً وأصلاً وبدءاً. وتأتي "الفتاوى" مأتى رد الجواب الثاني والتالي. فـ "يؤرخ" لظهور لوحات إعلان في "إمارة صيدا"، ولا يقول الإسلامية أو الجهادية فتبقى مرسلة على شاكلة "بلدية صيدا" – ولوحات الإعلان هذه "تصور شخصاً يشعل سيجارة وفوقه شعار (الله أكبر) ومعه أمر النهي عن المنكر: (إذا كنت معذوراً فاستتر)" – يؤرخ المعلق للوحات فيكتب: "قبل يومين جاء الرد النقيض". فيوهم كاتب "الأخبار" ومعلقها قارئه ان الأثر المفترض، "من كان معذوراً في إفطاره فليستتر"، هو رد على المطران الراعي، ورجاءه المحطتين التلفزيونيتين "الشيعيتين" تعليق المسلسل الإيراني "التاريخي". والأثر المفترض هذا رفعته لافتات "الأحباش" و "الجماعة الإسلامية" على شوارع بيروت منذ 1989 على أقرب تقدير، ونسبته الى الصحيحين "مسلم" و "البخاري"، أو اقتصرت على تذييله بـ "متفق عليه". ولكن الغمز من صيدا، "الإمارة" الحريرية المفترضة التي اضطر أحمد نصر الله ("شاهد صدق" خطيب "حزب الله" على دسيسة إسرائيل بين رفيق الحريري وغازي كنعان وبين الحزب) الى "اغتيال" شقيقة الحريري ليستدرجه الى زيارة صيدا – الغمز هذا يستأهل تأخير الحملة على مفطري شهر الصوم عند المسلمين نحو 13 قرناً. فتصادف، بعد التأخير القليل والطفيف، "القرارَ الكنسي" الظلامي والظالم والأول.
ويتوج الصحافي الأخباري، شأن الصحافية المخبِرة من بعده، ملاحظته أو روايته بإعلان الخشية من "نقل فعل الاعتذار الى الإجبار". فيسأل: "ما الذي يكفل عدم تطور مشروع (الإمارة) تلك الى نظام المطاوعة...؟"، قبل ان يلاحظ ان نظام المطاوعة "مطبق اصلاً في الواقع، في أحياء كثيرة يعرفها العارفون ويسكتون عنها". وحمل "النظام" المَخوف هذا على واقع قائم وسائد بعد جهر الخشية من قيامه، والإلماح الى استقراره في أحياء سنية (عنوانها الإمارة وليس الولاية، والمطاوعة وليس الباسيج، والإفطار وليس التشادور، والاعتذار والتخيير وليس الاحتلال والإكراه، إلخ) دون الشيعية، ومعارضة معرفة الوقائع وشهرتها بالسكوت المتعمد والمشبوه عنها، وافتراض ضرب من المعرفة تختص به جماعة من الناس، هذا وغيره مثله وشاية ونميمة بمعنى أو معانٍ يقولها الصحافي الأخباري مواربة وتورية. فهو يزف "بشرى" التهديد الجهادي والسلفي الى "المسيحيين (في) هذا البلد" على قول زميلته النهارية، ويحصره في مصدر سني يغمز من تواطؤ "إداري وقانوني" معه، وينبه الى "حلف" الكنيسة المسيحية "الموضوعي" ومصدرَ التهديد هذا ومعه. ويتفق هذا وتشخيص ميشال عون، وغرضيته الأهلية المحدثة، أحوال المسيحيين "في" لبنان، وأحوالهم والأقليات المسيحية وغير المسيحية في "هذا الشرق"، على نحو ما يميل الى علاج الأحوال الذي يدعو إليه مرشد الغرضية وإمامها وفقيهها، وتهتدي "سياسته" به، وهو "تحالف الجغرافيا"، أو الأقليات المشرقية تحت لواء عصبية الدولة القومية المستولية.
حقوق الهوية "الموالية"
والحق ان هذا، أي هوية الصحافيَيْن لا يستحق تقصياً، لو اقتصر الأمر عليه. ولكن الاثنين يصدران عن "الجانب العملي لحياة اللبنانيين الميثاقية"، على قول المعلق، أو عن تقاليد "بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد العيش المشترك المبنية على احترام الآخرين"، على قول الراوية. وهما يلتقيان على تعريف "المسيحية – اللبنانية"، واللبنانية الميثاقية والوطنية تالياً، تعريفاً واحداً. وركن التعريف هو الحقوق الشخصية والفردية أو بعض هذه الحقوق: الحق في حرية التفكير والضمير والدين وحرية الرأي والتعبير، والحق في "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، وفي احترام مشاعر أهل الجماعات كلها وعاداتها و "حقوقها" ما لم "تخدش الحياء ولا الذوق العام". والحقوق "اللبنانية" أو "الميثاقية" التي يحصيها الصحافيان، في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ام في ضوء "ولدنا وعشنا في بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد..."، يطرحان منها حقوقاً كثيرة أخرى مثل الحق في الحياة والأمن والملكية (أي الملك) والإقامة والانتقال أو الحق "في الجمعية"، أي العمل القائم على الشراكة أو الشركة ("أسوسياسيون" أو "أسوسييْشن") الاعتقادية والفكرية والحزبية والنقابية المصلحية والخيرية والجمالية الذوقية... وفي الباب الأخير يدخل اختيار الطعام والشراب واللباس.
والكلام على "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، حين تفصل بنود الخبر في سياق المقال، أو في سوق الخبر، يقتصر على "الخاص"، ولا يستبقي من الدنيوي والزمني إلا اللفظتين الخاليتين من الحقوق التي تملأهما، وهي ما أحصت بعضه الفقرة السابقة. وعلى هذا، فالحقوق "الميثاقية" التي يرفع الصحافيان "المسيحيان" (وهما يحتجان لرأيهما في "الشرطة" ولخشيتهما سطوتهم المحتملة على المأكل والمشرب والملبس وربما الاعتقاد، بالميثاقية على وجهها المسيحي)، هذه الحقوق هي حقوق خاصة أو فردية في دائرة المعاملات أو "الحسبة" العامة والمشتركة. وإليها يسندان الهوية الوطنية أو "البلدية"، إذا حملت عبارة "في هذا البلد" على محمل الجد، على ما دعا دومينيك شوفالييه في مستهل كتابه في "مجتمع جبل لبنان". وهذه الهوية البلدية أو الوطنية، على معنى الوطن أو الموطن والديرة والمنازل، ليبرالية فردية وخصوصية. وهي تخلو من الحقوق والحريات السياسية، ومن الحقوق والحريات الاجتماعية (الملكية والإقامة والانتقال والشركة...) التي تفترض اجتماعاً سياسياً ركنه مواطنون أحرار متساوون يؤلفون شعباً ودولة و "أمة" في كنف سيادة.
فما يعرِّف به الصحافيان "المسيحيان" لبنانهما، ولبنان أصحابهم وأهل عصبيتهم وغرضيتهم وحلفائهم، هو حرية الأكل والشرب والتدخين وبث مسلسلات متلفزة تصنعها إدارات فنية في سوريا وإيران وتناقش معتقدات الجماعات الدينية الأخرى. وقد يترفع تلفزيون البلد المنتج عن بثها أو يحرجه بثها، على ما أصاب "الشتات" (السوري)، فندب تلفزيون "المنار" نفسَه الى بث المسلسل في الداخل وإلى الجاليات. وأنا لا أزعم أن اختيار المرء مأكله ومشربه وملبسه ومسلسله، من غير وصاية على رشده وإرادته ورأيه، ليس بشيء. ولكن التنبيه الى تقييد جماعات أهلية وعصبية الاختيار هذا، وتعمد حمل التقييد على جماعة مذهبية دون جماعة، والطعن في محاباة الكنيسة المارونية التقييد وانحيازها الى أصحابه، وقصر الحقوق والحريات على الخصوصية منها وحبس القلم عن إحصاء المزعج منها (والخوف من كتابة "الكوميديا الإلهية" ونسيان سلمان رشدي وطريق المطار و "تماثيله" الخشبية واستقبالاته المسلحة من قبل ومن بعد...) – هذا ومثله يشي بمذهب "الموالي" في السياسة. وقوامه هو قصر الهوية الوطنية على بعض شارات الحقوق الشخصية والخاصة، والنزول طوعاً عن الحقوق والحريات السياسية والسيادية الوطنية إلى رأس "السلطنة" وأجهزتها.
ففي عدد صحيفة "النهار" الصادر في 24 آب، وهو اليوم الذي اختبرت فيه الصحافية المفجوعة حرمانها من حرية شرب النبيذ الساعة الثامنة مساء في "غوردونز كافيه"، كتبت هي نفسها مقالاً "سياسياً"، على مثال راج مع أوائل الحروب الملبننة حين تحولت الأخبار والتعليقات مراسلات ورسائل مواربة من مضافات "القيادات" ومجالسها، عنونته المعلقة: "الحريري لم يلبِّ بعد تعهدات قمة دمشق". ويصدر هذا الضرب من "التحليل" عن حلول المحلل المفترض تدريجاً محل مصادره، وهي أحزاب وقوى وجماعات وتيارات، وكلامه أو نطقه باسمها، ومحاكاتها خطابتها (إنكاراً وطعناً وتهديداً في معظم الأحيان). فسرعان ما تخلص المعلقة المفترضة من ملاحظة "مسلمة بدا فريقا الأكثرية والمعارضة يتعاملان معها على قاعدة تمرير الوقت"، الى نقل رأي "أوساط مطلعة في المعارضة". وأحد زملائها يسمي "الأوساط" "دوائر القرار"، فتنتفخ أوداجه زهواً. ويتلاشى النقل والإسناد إلى مصدر "معارض". ويتولى الكلام والرأي "صوت" يمزج المصدر المعين أو وجهة النظر الجزئية، باستنتاج ينتهي الى تقرير واقعة لا جدال فيها: "فتعهد الحريري ان دم والده لن يكون سبب فتنة في لبنان لم يترجم بعد عملياً على أرض الواقع".
وتمضي المعلقة على المزج التقريري والجازم في صدق الخبر وفي ضرورة مترتباته "الفولاذية" (والصفة لزميل المحللة) معاً: "ودفتر الشروط الذي أملته قمة دمشق لا يعني التهدئة للتهدئة، بل التهدئة الإعلامية مصحوبة بخطوات عملية على الأرض، لا بعبارات مبطنة خلال الإفطارات توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها". وينبغي ألا يشك القارئ في مواد ما تسميه المعلقة المراسلة والمحدثة، "دفتر شروط"، أي "أوامر"، على حكومة لبنان الميثاقية. وينبغي ألا يتردد في هوية من يصدر الأوامر، ويشترط الشروط المذلة على "شعب" الموالي، ويتحمل المسؤولية عن الإخلال بها وإثارة "الفتنة". وتجزم المعلقة، من غير سند صاحب رأي يجتهد في المسألة، ان الحريري "حتى الآن لم يلبِّ... ما هو مطلوب من القمة الدمشقية الثنائية". وتلتوي العبارة في هذا الموضع من بسطها تقريرها وأحكامها. فالمعلقة تريد إفهام القارئ ان رئيس الوزراء اللبناني لم يصدع بما يقول "حزب الله" (وهو "المعارضة") ان القمة، نيابة عن "المعارضة"، أمرت الحكومة اللبنانية الامتثال له على وجه السرعة. و "المعارضة" رضيت، على قول المحدثة عن ثقة، "على مضض" تكليف وزير العدل إبداء الرأي فيما تسميه بعض الأوساط "ملف شهود الزور". ووزير العدل هذا غير جدير بالمهمة. وهو "أكد... عدم معرفته بعدد من النقاط المتعلقة بملف التحقيق كقضية زهير الصديق وأسماء الشهود وعدم صلاحية المحكمة البحث في ملف شهود الزور". ومعنى "عدم المعرفة" بزهير الصديق والأسماء الأخرى، على غموضه، قد يكون مفهوماً، أما عطف "عدم صلاحية المحكمة" على "عدم المعرفة" فإعدام صريح لأداء المعاني ومباني الأداء. وهي تعلل القبول بالوزير بمكسب سيادي عظيم: فالمعارضة "كسرت المحظورات بفتح الملف الذي طالما رفض".
وتدلي المعلقة بدلوها، وهو ودلو أصحابها ومحدثيها الثقات واحد، في "شهود الزور". فتتخطى "التحقيقات"، على رغم أنها في حوزة لجنة التحقيق وحدها ولم يفلح مدير عام الأمن العام السابق بعد في الاطلاع عليها، وتتخطى "تداعياتها" على التحقيق (ربما)، والاغتيالَ نفسه و "توجيهَ الاتهامات عشوائياً"، تتخطى هذه إلى... ماذا؟ الى ما هو أفظع من الاغتيال، وانتهاك كيان الدولة والمواطنين، والطعن في مبنى السياسة والسيادة: "الى إيجاد مناخ ضاغط منذ عام 2005 تسبب بسوء العلاقة مع سوريا، إلى انتخابات نيابية...". ومعالجة هذا هي برنامج "المعارضة"، على ما أعلن جميل السيد ومستقبلوه وكتابه ونوابه ومواليه. وتندد "المعارضة"، ومراسلتها المعلقة، بـ "لغتي" الرياض في المحكمة: "واحدة عبر الحوار مع سوريا، وثانية عبر تمويل المحكمة". ويقود هذا الى بشرى تزفها المعلقة الى قراء الصحيفة: "... ستكون المعارضة حكماً في حل من كل التعهدات".
قلم "الدولة"
و "المحللة" المحدثة عن أصحاب دفاتر الشروط، وتوقعاتهم وحساباتهم وآلات قوتهم و "فوضاهم" وآرائهم في الحكومة والقوانين والقتل والقضاء والعلاقات بين الدول، والمنتضية سيوفهم والملوحة والمخوِّفة بها، هي نفسها (مع لفيفها العصبي العريض) استظهرت، في اليوم التالي، بـ "البلد" الذي يحترم حرية المأكل والمشرب، واحتجت به على "الشرطة" الذين حرموها الشراب في "غوردونز كافيه" من أعمال "لوغراي" في أثناء إفطار من إفطارات رمضان. وعلى المثال نفسه، استظهر معلق "الأخبار" بالميثاق ومقدمة الدستور وشرعة حقوق الإنسان على الكنيسة المارونية وحلفها مع "المطاوعة" على إلغاء "الحيز الخاص". ومن قبيل المصادفات المحض أن معلق الصحيفة هو من أوائل من أذاعوا، في خطابة التهديد و "التحليل" نفسها، ما "تنتظره دمشق" من رئيس الوزراء اللبناني. فنظير "الحيز الخاص"، والحاجات الفردية المنقطعة من التدبير المشترك الذي يفترض مواطنين، "ينزل" أصحاب الهوية البلدية والليبرالية، على غير مضض، عن الحقوق السياسية التي تتوج الحريات والحقوق والإرادات والعمومية المشتركة معاً. ونظير الطعام والشراب في "غوردونز كافيه"، أو ترك اللوحات الإعلانية، لا غضاضة في السطو المسلح والقسري على شرايين المواصلات في لبنان كله. وعلى قلب بيروت "التجاري" والسياسي والإداري والاجتماعي والثقافي.
وهذا نزول عن السياسة، وتخلٍ عنها، والنزول هذا هو سمة "أخلاق" المولى والتابع الفارقة. ويقضي عقد الولاء السلطاني، والانتساب الى عصبية الدولة الغالبة على الولايات الأهلية والبلدية، يقضي بتجريد المتعاقدين على الولاء من "سلاحهم"، وندب أهل العصبية الغالبة والمستولية الى الدفاع عنهم، لقاء فريضة (أو "فردة") يؤدونها. فهم يُحملون حملاً على التجرد من السلاح، وهو ركن الشركة السياسية في مجمع الفتوح السلطاني، ويلزمون أداة الرسم عن تجريدهم و "تخليهم". وإلى اليوم، "يناقش" إخوانيو مصر حق المصري القبطي (أو المرأة المنزوعة السلاح) في رئاسة الجمهورية، وفي الولايات العامة، ويحتجون لإنكار الحق بترك السلاح، أو العجز عن حمله. فتُقصر، بناء على الأصل هذا، "المواطنية" على الهوية البلدية أو الاجتماعية الأهلية والشخصية، وعلى "حريات" المأكل والمشرب والملبس خارج الدائرة العامة والمشتركة وعلانيتها. فينبغي أن تحفظ الدائرة هذه "آثار" الحرب والتغلب والسلطان، على معنى القوة المعملة، فيما يحل أكله وشربه أو ينهى عن أكله وشربه. فينشأ عن تمييز الدائرتين، الخاصة الأهلية و "الاجتماعية" والعامة السلطانية والمختلطة، الواحدة من الأخرى، "مجتمع" حاجات وتدبير على حدة من السلطان. ويتربع في سدة القوة والسلاح والأمر أهل القوة الخاوي الوفاض واليد من التدبير، ومن فهم الحاجات واحتسابها. ويؤدي هذا الى "حريات كثيرة" و "قليل من الديموقراطية"، على قول سليم الحص المنحاز الى العدوان على الحريات والديموقراطية معاً. وهذا قد يحملهم على اجتياح الطرق وقطعها، واحتلال الساحات عنوة، ومحاصرة مراتب التدبير، من غير حرج.
وعلة "الاستثناء" اللبناني في "هذا الشرق" الى اليوم، هي كسر موارنة الشمال ثم جبل المتاولة فجبل الدروز فجبل لبنان، القسمة الحربية والاجتماعية السلطانية، وإيجابهم مجتمعاً غير منزوع "السلاح". فلا تقتصر حرياته وحقوقه على الانكفاء على حاراته وعاداتها والالتحاق بعصبية السلطان، بل تتخطى هذا وذاك الى الشركة في الأمر والتدبير والمداولة والولاية، واحتساب الشركة على الحصة في المصالح وفي الموارد على أنواعها، والحرث والنسل والعلاقات بالخارج وعوالمه. والقيام بكسر القسمة السلطانية حمل ثقيل ومرهق. وجددت ثقله سلطنات الاستيلاء العصبية والمحدثة، والحركات السياسية والأهلية الانقلابية والمدججة بآلات الاستيلاء والإناخة على الصدور والعقول والألسنة. فيذهب شطر من الذين ينوؤون بالحمل الثقيل الى طلب "العودة" الى عقد الولاء، والاقتصار على "المنازعة على المحل الثاني" في السلطنة، على قول فرنسوا زبال قبل أربعة عقود، أو على المشورة والإدارة الإنفاذية من غير "سلاح" ولا سياسة ولا مواطنة، في رحاب "حيز خاص" منتشٍ بـ "حرياته".
في يوم قائظ من آب المنصرم، في 23 منه على وجه الدقة، وهو صادف قريباً من منتصف شهر صوم المسلمين أو قبل انتصافه بقليل، كانت صحافية لبنانية "تستعد"، على قولها، مع آخرين "من جنسيات مختلفة" لتناول العشاء في "مطعم فندق حديث في وسط، يملكه ماروني وباركه أحد المطارنة بالمياه المقدسة حين ارتفع بنيانه" (هيام قصيفي، المطاوعة في وسط بيروت، "النهار" اللبنانية البيروتية، 25 آب). والفندق هذا هو "لوغراي"، والماروني صاحبه هو من آل قبشة، والمطران المبارِك هو المطران بولس مطر، راعي أبرشية بيروت للموارنة، على ما صرح رد جواب مجلس إدارة الفندق على رواية الصحافية وتورياتها (رد من مجلس إدارة "لوغراي"، "النهار"، 29 آب). وبينما كانت الصحافية تستعد وصحبها، إذن، للعشاء "الساعة الثامنة"، وكانت انقضت نحو 3 أرباع الساعة على ابتداء الإفطار، في مطعم "لوغراي"، و "(طلبوا) الطعام والشراب"، "أصر" نادل المطعم، أو "ميتر دوتيله" المولج خدمة المائدة، على نصح الطاعمين "بنوعية نبيذ معين".
ولما لم يكتب النادل الى الصحيفة، ولا كتب مجلس إدارة صنف النبيذ المقحم نفسه على أذواق الطاعمين والشاربين، خفي إلى اليوم على القارئ مصدر الإكراه الأول الذي نزل في المزمعين الأكل. وموضوع الكاتبة المخبِرة ليس أصناف النبيذ ومراتبها في التذوق والتمتع، وإنما هو درجات الفرض والإكراه والتعسف والقهر في الفندق مِلك صاحبه الماروني ورئيس أساقفة الأبرشية. ودخل الفندق و "مطعمه" الدائرة الأولى من دوائر الفرض وانتهاك الحرية من باب صنف النبيذ، والقهر عليه. وانقلب النادل القاهر والمتطفل والوقح، في إغماضة عين، رجلاً حيياً ومهذباً. فهو، بعد رفض الآكلين "نوعية" نبيذه واختيارهم "نوعية" يرتضونها، "عاد معتذراً"، وأردف اعتذاره بـ "خجل"، وزاد على الاثنين "أسفاً". وقال المعتذر الخَجِل الآسف: "أخجل مما سأقوله، ولكن لا نستطيع تقديم النبيذ لأننا في رمضان".
اسم البلد
والفصل الأول هذا من الواقعة يتناول زمانها ومكانها ويمهد الى "الأزمة" أو مدار الحبكة والعقدة، على قول كتب تدريس مبادئ الأدب الفرنسي في المقرر الثانوي السابق. وعلى ما قد يفترض قارئ الصحيفة، أو لا يفترض، جبه الجالسون الى مائدة "لوغراي" اعتذار الرجل وخجله وأسفه، والمشاعر الثلاثة إدانة ثقيلة، من داخل، للفندق ومطعمه وآل القبش ورئيس أساقفة بيروت معاً، جبهوا الاعتذار برد متدرج. فهم، أولاً، "لم (يستوعبوا)". وهذا قرينة على طبائع حرة، ومترفعة عن "استيعاب" صغائر الأمور وحوادث العالم السفلي الذي يرتع فيه وضعاء القوم، والراجعون في التزام مترتبات الانتساب الى المارونية، والمباركة الأسقفية، والعاجزون عن التزامها. وتواضعاً ربما، "(حاولوا) الاستفهام"، ثانياً. و "الاستفهام" ليس استفهاماً، على المعنى الشائع والسالب والخائف. فمن يقول انه "لم يستوعب"، ويعني الازدراء بجبن محدثه ونكوصه وضعف التزامه معتقده، لا يستفهم استفهام عامة الناس. وعليه لم يرَ "المسؤول عن المطعم" بداً من المجيء، وشرح اعتبارات الإحجام عن تلبية طلب الآكلين الشاربين الشراب. فقال ما قاله نادله المعتذر الخجل الآسف لتوه. وزيَّن الإحجام بـ "احترام مشاعر المسلمين" المفطرين.
وردت صاحبة الخبر، وكاتبته في الصحيفة، رداً "سياسياً" هو في صلب الخبر ونقله وروايته وإذاعته على الملأ: "إننا مسيحيون وعليك احترامنا... ونحن في بلد اسمه لبنان ولسنا في بلد إسلامي". فارتقت المسألة الى مرتبة أو مصف المساواة بين السكان وجماعاتهم وعاداتهم وسننهم، وإلى صفة "الدولة" أو السلطة التي تضمن المساواة، وتحامي عنها. و "الدولة"، وتحسب الراوية ان "بلد اسمه لبنان" يقوم مقام الدولة وسيادتها الحقوقية والقانونية على مواطنيها (أي سيادتهم على أنفسهم من طريق الدولة)، "الدولة" هذه مدنية، أي غير دينية التشريع ومصادره، ولا يحق لها تالياً إكراه من ترعى حقوقهم من مواطنيها على فعلٍ أو إمساكٍ وترك لا ينص عليهما القانون. ولا يحق لها هي الإكراه، وعليها ألا تبيح لأفراد أو جماعات تولي الإكراه في محال عامة ومشتركة.
واحتجت صاحبة الخبر لرأيها احتجاجاً مفصلاً ومفنداً: 1)"لائحة الشراب والطعام لم تتعدل"، 2) لم يعلق الفندق "في الخارج لافتة تعلن منع الخمور". وعلى هذا، أو هذين، على الفندق وفاء وعده بالطعام والشراب المباحين. "تشبثنا بموقفنا الرافض" انتهاك الاحترام والمساواة ومدنية "البلد" غير الدينية. وحسب "المسؤول" الغافل أن ما يصر عليه "الرافضون" هو الشراب، وليس الاحترام والمساواة والمدنية. فاقترح عليهم، لغفلته وسذاجته وتخففه من المواطنَة الحرة والأبية، الشراب إياه في أقداح "مموهة رزقاء" تتستر على "وقاحة" عصير العنب، على ما سمى معاصرو الحسن بن هانئ ما ينتبذ من عناقيد الدوالي. وأمعن "المسؤول" و "التاجر" المسكين في الغفلة والتخلي، فأراد إعطاء الشراب "مجاناً" من غير ثمن، فزاد الطين بلة، وحمل الراوية على المغادرة.
ومقارنة روايتي الصحافية ومجلس إدارة "لوغراي" الواحدة بالأخرى تبرز وجهاً أغفلته رواية الصحافية عمداً. فمجلس الإدارة يقول إن الفندق استثنى، طوال شهر صوم المسلمين، مقهى (مطعماً) واحداً من خدمة الشراب، هو "غوردونز كافيه". وما عداه كانت "جميع النقاط المخصصة للأكل والشرب في الفندق... تلبي طلبات الزبائن"، بما فيها المشروبات الروحية، باستثناء مقهى (غوردونز كافيه) وأثناء فترة الإفطار فقط". وترتب على الإغفال الأول إغفال ثان هو اقتراح النادل على "السيدة" تناول الطعام في "أحد مطاعم (الفندق) الأخرى". فتأكل وتشرب ما أرادت واشتهت. ومحل الإغفال المزدوج ملأته الصحافية المخبرة برواية الأقداح المموهة بالزرقة والهدية من غير لقاء. ورد "لوغراي" لا ينفي الرواية ولا يثبتها، ولكنه يروي ما يضعف مسوغها (وهذا رأي يمليه ربما التحامل على السكوت عن ذرائع المطعم، وذلك في معرض تحقير "خبث تجاري متستر بالمحافظة على العيش المشترك واحترام مشاعر المسلمين"، على قول صاحبة الخبر، منددة وعائبة).
وتخلص الراوية من روايتها المركب بعضها على هواها، وعلى قصد الطعن في مجاراة مسيحيين لبنانيين غايات ومعايير "سلفية" وقصد مديح تراث مسيحي لبناني شامخ الرأس، تخلص الى ما كانت ابتدأت به: "...ولدنا وعشنا في بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد العيش المشترك المبنية على احترام الآخرين (و) لسنا أهل ذمة، ولا نريد ان تنتقص حقوقنا بحجة تجارية واهية". وتصوغ سؤالاً عن الآتي في "قالب" كلمات أو مصطلح يشي، شأن مصطلح العنوان، بتشخيص لمصادر التهديد يستشعِر الخطرَ من جهة، أو جهات، دون أخرى: "فهل وصلت الشرطة الدينية الى لبنان وإلى قلب الوسط التجاري واجهة لبنان الحضاري وبدأت ترتدي بذلة أجنبية وربطة عنق؟". وكانت الفقرة الأولى من المقال حملت "الشرطة الدينية (المطاوعة)" على بلدان إسلامية (على معنى اعتقاد غالبية السكان) متفرقة ومختلفة النظم السياسية والاجتماعية والثقافات والتواريخ. فجمعت أندونيسيا وأفغانستان في باب واحد. وهذا افتئات وتعنت (أو جهل، بديهة).
وهي حملت "الشرطةَ الدينية" على "المطاوعة" دون "الباسيج"، على رغم إحصاء إيران في البلدان الخمسة، ودون التنبيه الى الأصل الذي تتفرع عليه الشرطة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجه، والحسبة، من وجه آخر. وبينما يدخل الأصل في بنية الدولة في حالين، على نحوين مختلفين، لا مدخل له في باكستان ولا في أفغانستان، وبالأحرى في اندونيسيا وإسلامها (وهو كثير على ما ذهب إليه دارسه الكبير كليفورد غيرتز) الصوفي الشخصي والشعائري الاحتفالي معاً. والأصل الأول في صيغ الأمر بالمعروف والحسبة، وعلى الأخص في الأحوال التي تضطلع فيها الدولة أو السلطة السياسية الجامعة بالأصل هذا وتعده جزءاً من ولايتها وصلاحياتها، الأصل الأول هو إقامته على الرعايا المسلمين، أي امر المسلمين بالمعروف ونهي المسلمين عن المنكر، والحسبة على معاملاتهم في الأسواق وبيعهم وشرائهم واحتشامهم، الخ. وأما "أحكام أهل الذمة" – وهي تبيح لأهل عهدها، في "ديرتهم" المنكفئة، تدبير أحوالهم على سننهم وعوائدهم الموروثة – فمرجعها الى قانون الحرب والفتح، وإلى عهود أو معاهدات هذا وتلك.
ويغمز مصطلح الصحافية المخبرة، واختيارها ألفاظها من معجم دون آخر، تتصدره لفظة "المطاوعة" وشرحها بـ "الشرطة الدينية" على خلاف "الباسيج" المفترضين شرطة "أخلاقية"، يغمز من "محور" يجمع السعودية الى "سوليدير" ورفيق الحريري والمستثمرين المسيحيين في "الوسط التجاري" (على ضفة "ساحة الحرية" الغربية وفي جوار "الاعتصام" أو الاحتلال الحزب اللهي والعوني 18 شهراً) والإكليروس الماروني "المتواطئ" مع حلف تجاري "خبيث" مفترض يلحق البطريركية المارونية بالمسلمين السنّة السلفيين من لابسي "البذلة الأجنبية وربطة العنق"، من ورائهم جماهير طرابلس وعكار "الحريرية" وغزاة الأشرفية وحرّاقي السفارة الهولندية في 5 شباط 2006. ويفترض في حبات السبحة ان تكر: من عصابة السطو على فرع مصرف في الدامور الى عصابة سطو أخرى من الهوى نفسه على فرع مصرف في البترون، تمهيداً لحرب مخيم نهر البارد في رعاية "فرع المعلومات"، على ما "أثبت" ميشال عون ببراهين دامغة تكاد قوتها ترقى الى قوة قرائن ومعطيات أُخَر.
القرار والرأي
وفي عبارة جلية، يريد خبر الصحافية القول ان السلفية السنية وهيئاتها تزحف الى قلب "لبنان المسيحي"، وتهدم حرياته وهويته في رعاية رساميل مسيحية تباركها بكركي البطريرك صفير، ويباركها أساقفة تشدهم الى "القوات اللبنانية" روابط القرابة الدموية (كتلك التي تشد رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر الى شقيقه العميد مطر المدان بالضلوع في اغتيال رشيد كرامي) والسياسية تالياً.
وكان سبق خبر صحافية "النهار" المندد بـ "المطاوعة" المحدثة اللباس وحليفة "الرساميل" المارونية وأساقفة بكركي المتواطئين، تعليق في "الأخبار" موسوم بـ "من (احتكار) المسيح الى إمارة صيدا" (جان عزيز، 19 آب). وتنكر المقالة على "السلطة الكنسية"، وهي في هذا المعرض رئيس أساقفة جبيل للموارنة المطران بولس الراعي بوكالته عن بكركي والبطريرك صفير، "تدخلها" في إلغاء عرض المسلسل الإيراني التلفزيوني "المسيح عيسى بن مريم" على شاشتي "المنار"، محطة "حزب الله"، و "إن بي إن"، محطة "امل". ويخشى التعليق "آراء الظلاميين من كل جهة، على تناقضهم وتحالفهم الموضوعي" – وهذه لازمة رأي يرى مساواة "النظام الأميركي" أو "الامبراطورية" بـ "قاعدة" بن لادن، على ما ذهب إليه علم اليسار الأميركي نعوم تشومسكي – وعدوانهم على "حرية التفكير والضمير الديني"، وعلى "حرية الرأي والتعبير" و "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، على قول صاحب التعليق الأخباري مقتطِفاً ومعللاً ومجتهداً.
وتمضي الخشية على تعاظمها، فتخمن في صدور "قرار كنسي يلغي أجزاءً من الأدب الإنساني الحي". وهو، في الأثناء الخطابية والمهوِّلة والنافخة في أبواق تدك الأسوار، جعل تلويح مطران كرسي بلاد جبيل بمؤتمر صحافي يعتب على الإنتاج والتوزيع الإيرانيين والشيعيين الإماميين انحيازهما الى أنجيل "منحول" – "قراراً كنسياً" إدارياً نافذ الإجراء. ويخالف هذا واقع الحال. وحملُ الرأي الأسقفي الماروني، وهو ناجم عن خوف ويتمسك بتلابيب عزلة فكرية واعتقادية تداعت حجارتها منذ زمن، على إجراء عملي وإداري متمكن من أدواته وآلاته وسلطانه، تضليل متعمد. فما هي دائرة إنفاذ القرار المزعوم؟ هل هي الأمن العام اللبناني؟ ام محكمة المطبوعات؟ أم المجلس الوطني للإعلام؟ أم هي "نفوس" القراء والمشاهدين المحتملين؟ والحق ان إلغاء عرض المسلسل الإيراني والشيعي الإمامي – وهذه صفته وهذا نعته ولا غبار عليه منهما، على زعمي – استدرج إليه توافق جهازين دعويين واعتقاديين، وسياسيين على مقادير متباينة، على الإلغاء. وأُخرج الإلغاء والتوافق عليه مخرجَ إجماع الجماعات على احترام واحدتها معتقدات الأخرى، ومخرج التمثيل على جدوى "الحوار". و "المربح" من الإخراج هذا، إذا صدق أو صح أن ثمة مربحاً وليس خسارة، تتقاسمه الكنيسة المارونية والأجهزة الإعلامية والدعاوية الإيرانية والإمامية في طهران وبيروت (أو "الضاحية").
والمعلق الإخباري يقصر الفعل الرقابي وإدانته على الكنيسة و "قرارها" (في "أعمال" ثانوية نشرت منذ عقود ولم "يلغها" أحد)، ويسكت عن "شريكها" في العقد التوافقي المضمر بعضه والمعلن بعضه الآخر. ويحاول مكافأة إدانته "القرار الكنسي"، والجلي الصفة، فيعرج على "فتاوى" افتراضية، تنسبها اللفظة المشتقة (من الفتوى والمفتي) الى الإسلام والمسلمين، في "الكوميديا الإلهية" الدانتية (ويتحاشى الأخباري ذكر وسمها الفاضح في صحيفته "الحرياتية" و "الإبيستيمية" – كذا -) وفي طقطوقة درويشية تقضي تقوى المولى العروبية برفعها الى منزلة الإعجاز. ويغفل فتوى ناجزة وصريحة في رواية سلمان رشدي، "آيات شيطانية"، أفتى بها مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأول. وقضت بـ "إلغاء" الكتاب والكاتب معاً، ووعدت القاتل العتيد، وآلة إنفاذ "القرار" الهمايوني والشاهنشاهي وغير الكنسي، بمليوني دولار أميركي ونصف المليون حُبست على صورة وقف يعود رأس ماله وريعه الى من يتولى إنزال "حكم الله" في دم الروائي. وجدد غضنفر ركن أبادي، سفير جمهورية إيران الإسلامية، إدانة سلمان رشدي، وإباحة دمه تالياً، في أثناء زيارة إلى دارة ميشال عون في 17 أيلول 2010. وهذا قرينة على اتصال الفرمان والخط "الفقهيين" من 1989، عام إبداء المرشد الأول رأيه في الرواية، الى اليوم. وفي الأثناء، حفل تاريخ الولاية بالاعتقالات والاغتيالات والمحاكمات المزورة والرقابة على الصحف والكتب والشعر والأغاني ومجالس العزاء والقبور. ولكن هذا كله، لا يرتقي الى مرتبة "قرار كنسي" واحد، "(يجعل) الجهات الدينية مرجعية ضابطة وإكراهية لأطر التفكير والتعبير"، على قول الأخباري "الإبيستيمي" و "الحرياتي". وفي الميزان نفسه، يفوق الإحجام عن خدمة الشراب 17 شهراً من احتلال "مشين" انتهك الحق في الملكة والتصرف والرزق والانتقال والإقامة.
وعلى مثال سائر تختبره الجماعات الثورية و "الجهادية" المقاتلة والعالمثالثية وما بعد الكولونيولية منذ عقود، يَنصب الكاتب "القرار الكنسي" أو الاستعماري والإمبريالي، أساساً وأصلاً وبدءاً. وتأتي "الفتاوى" مأتى رد الجواب الثاني والتالي. فـ "يؤرخ" لظهور لوحات إعلان في "إمارة صيدا"، ولا يقول الإسلامية أو الجهادية فتبقى مرسلة على شاكلة "بلدية صيدا" – ولوحات الإعلان هذه "تصور شخصاً يشعل سيجارة وفوقه شعار (الله أكبر) ومعه أمر النهي عن المنكر: (إذا كنت معذوراً فاستتر)" – يؤرخ المعلق للوحات فيكتب: "قبل يومين جاء الرد النقيض". فيوهم كاتب "الأخبار" ومعلقها قارئه ان الأثر المفترض، "من كان معذوراً في إفطاره فليستتر"، هو رد على المطران الراعي، ورجاءه المحطتين التلفزيونيتين "الشيعيتين" تعليق المسلسل الإيراني "التاريخي". والأثر المفترض هذا رفعته لافتات "الأحباش" و "الجماعة الإسلامية" على شوارع بيروت منذ 1989 على أقرب تقدير، ونسبته الى الصحيحين "مسلم" و "البخاري"، أو اقتصرت على تذييله بـ "متفق عليه". ولكن الغمز من صيدا، "الإمارة" الحريرية المفترضة التي اضطر أحمد نصر الله ("شاهد صدق" خطيب "حزب الله" على دسيسة إسرائيل بين رفيق الحريري وغازي كنعان وبين الحزب) الى "اغتيال" شقيقة الحريري ليستدرجه الى زيارة صيدا – الغمز هذا يستأهل تأخير الحملة على مفطري شهر الصوم عند المسلمين نحو 13 قرناً. فتصادف، بعد التأخير القليل والطفيف، "القرارَ الكنسي" الظلامي والظالم والأول.
ويتوج الصحافي الأخباري، شأن الصحافية المخبِرة من بعده، ملاحظته أو روايته بإعلان الخشية من "نقل فعل الاعتذار الى الإجبار". فيسأل: "ما الذي يكفل عدم تطور مشروع (الإمارة) تلك الى نظام المطاوعة...؟"، قبل ان يلاحظ ان نظام المطاوعة "مطبق اصلاً في الواقع، في أحياء كثيرة يعرفها العارفون ويسكتون عنها". وحمل "النظام" المَخوف هذا على واقع قائم وسائد بعد جهر الخشية من قيامه، والإلماح الى استقراره في أحياء سنية (عنوانها الإمارة وليس الولاية، والمطاوعة وليس الباسيج، والإفطار وليس التشادور، والاعتذار والتخيير وليس الاحتلال والإكراه، إلخ) دون الشيعية، ومعارضة معرفة الوقائع وشهرتها بالسكوت المتعمد والمشبوه عنها، وافتراض ضرب من المعرفة تختص به جماعة من الناس، هذا وغيره مثله وشاية ونميمة بمعنى أو معانٍ يقولها الصحافي الأخباري مواربة وتورية. فهو يزف "بشرى" التهديد الجهادي والسلفي الى "المسيحيين (في) هذا البلد" على قول زميلته النهارية، ويحصره في مصدر سني يغمز من تواطؤ "إداري وقانوني" معه، وينبه الى "حلف" الكنيسة المسيحية "الموضوعي" ومصدرَ التهديد هذا ومعه. ويتفق هذا وتشخيص ميشال عون، وغرضيته الأهلية المحدثة، أحوال المسيحيين "في" لبنان، وأحوالهم والأقليات المسيحية وغير المسيحية في "هذا الشرق"، على نحو ما يميل الى علاج الأحوال الذي يدعو إليه مرشد الغرضية وإمامها وفقيهها، وتهتدي "سياسته" به، وهو "تحالف الجغرافيا"، أو الأقليات المشرقية تحت لواء عصبية الدولة القومية المستولية.
حقوق الهوية "الموالية"
والحق ان هذا، أي هوية الصحافيَيْن لا يستحق تقصياً، لو اقتصر الأمر عليه. ولكن الاثنين يصدران عن "الجانب العملي لحياة اللبنانيين الميثاقية"، على قول المعلق، أو عن تقاليد "بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد العيش المشترك المبنية على احترام الآخرين"، على قول الراوية. وهما يلتقيان على تعريف "المسيحية – اللبنانية"، واللبنانية الميثاقية والوطنية تالياً، تعريفاً واحداً. وركن التعريف هو الحقوق الشخصية والفردية أو بعض هذه الحقوق: الحق في حرية التفكير والضمير والدين وحرية الرأي والتعبير، والحق في "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، وفي احترام مشاعر أهل الجماعات كلها وعاداتها و "حقوقها" ما لم "تخدش الحياء ولا الذوق العام". والحقوق "اللبنانية" أو "الميثاقية" التي يحصيها الصحافيان، في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ام في ضوء "ولدنا وعشنا في بلد أرسى فيه المسيحيون قواعد..."، يطرحان منها حقوقاً كثيرة أخرى مثل الحق في الحياة والأمن والملكية (أي الملك) والإقامة والانتقال أو الحق "في الجمعية"، أي العمل القائم على الشراكة أو الشركة ("أسوسياسيون" أو "أسوسييْشن") الاعتقادية والفكرية والحزبية والنقابية المصلحية والخيرية والجمالية الذوقية... وفي الباب الأخير يدخل اختيار الطعام والشراب واللباس.
والكلام على "حيز الفضاء الدنيوي والخاص والزمني"، حين تفصل بنود الخبر في سياق المقال، أو في سوق الخبر، يقتصر على "الخاص"، ولا يستبقي من الدنيوي والزمني إلا اللفظتين الخاليتين من الحقوق التي تملأهما، وهي ما أحصت بعضه الفقرة السابقة. وعلى هذا، فالحقوق "الميثاقية" التي يرفع الصحافيان "المسيحيان" (وهما يحتجان لرأيهما في "الشرطة" ولخشيتهما سطوتهم المحتملة على المأكل والمشرب والملبس وربما الاعتقاد، بالميثاقية على وجهها المسيحي)، هذه الحقوق هي حقوق خاصة أو فردية في دائرة المعاملات أو "الحسبة" العامة والمشتركة. وإليها يسندان الهوية الوطنية أو "البلدية"، إذا حملت عبارة "في هذا البلد" على محمل الجد، على ما دعا دومينيك شوفالييه في مستهل كتابه في "مجتمع جبل لبنان". وهذه الهوية البلدية أو الوطنية، على معنى الوطن أو الموطن والديرة والمنازل، ليبرالية فردية وخصوصية. وهي تخلو من الحقوق والحريات السياسية، ومن الحقوق والحريات الاجتماعية (الملكية والإقامة والانتقال والشركة...) التي تفترض اجتماعاً سياسياً ركنه مواطنون أحرار متساوون يؤلفون شعباً ودولة و "أمة" في كنف سيادة.
فما يعرِّف به الصحافيان "المسيحيان" لبنانهما، ولبنان أصحابهم وأهل عصبيتهم وغرضيتهم وحلفائهم، هو حرية الأكل والشرب والتدخين وبث مسلسلات متلفزة تصنعها إدارات فنية في سوريا وإيران وتناقش معتقدات الجماعات الدينية الأخرى. وقد يترفع تلفزيون البلد المنتج عن بثها أو يحرجه بثها، على ما أصاب "الشتات" (السوري)، فندب تلفزيون "المنار" نفسَه الى بث المسلسل في الداخل وإلى الجاليات. وأنا لا أزعم أن اختيار المرء مأكله ومشربه وملبسه ومسلسله، من غير وصاية على رشده وإرادته ورأيه، ليس بشيء. ولكن التنبيه الى تقييد جماعات أهلية وعصبية الاختيار هذا، وتعمد حمل التقييد على جماعة مذهبية دون جماعة، والطعن في محاباة الكنيسة المارونية التقييد وانحيازها الى أصحابه، وقصر الحقوق والحريات على الخصوصية منها وحبس القلم عن إحصاء المزعج منها (والخوف من كتابة "الكوميديا الإلهية" ونسيان سلمان رشدي وطريق المطار و "تماثيله" الخشبية واستقبالاته المسلحة من قبل ومن بعد...) – هذا ومثله يشي بمذهب "الموالي" في السياسة. وقوامه هو قصر الهوية الوطنية على بعض شارات الحقوق الشخصية والخاصة، والنزول طوعاً عن الحقوق والحريات السياسية والسيادية الوطنية إلى رأس "السلطنة" وأجهزتها.
ففي عدد صحيفة "النهار" الصادر في 24 آب، وهو اليوم الذي اختبرت فيه الصحافية المفجوعة حرمانها من حرية شرب النبيذ الساعة الثامنة مساء في "غوردونز كافيه"، كتبت هي نفسها مقالاً "سياسياً"، على مثال راج مع أوائل الحروب الملبننة حين تحولت الأخبار والتعليقات مراسلات ورسائل مواربة من مضافات "القيادات" ومجالسها، عنونته المعلقة: "الحريري لم يلبِّ بعد تعهدات قمة دمشق". ويصدر هذا الضرب من "التحليل" عن حلول المحلل المفترض تدريجاً محل مصادره، وهي أحزاب وقوى وجماعات وتيارات، وكلامه أو نطقه باسمها، ومحاكاتها خطابتها (إنكاراً وطعناً وتهديداً في معظم الأحيان). فسرعان ما تخلص المعلقة المفترضة من ملاحظة "مسلمة بدا فريقا الأكثرية والمعارضة يتعاملان معها على قاعدة تمرير الوقت"، الى نقل رأي "أوساط مطلعة في المعارضة". وأحد زملائها يسمي "الأوساط" "دوائر القرار"، فتنتفخ أوداجه زهواً. ويتلاشى النقل والإسناد إلى مصدر "معارض". ويتولى الكلام والرأي "صوت" يمزج المصدر المعين أو وجهة النظر الجزئية، باستنتاج ينتهي الى تقرير واقعة لا جدال فيها: "فتعهد الحريري ان دم والده لن يكون سبب فتنة في لبنان لم يترجم بعد عملياً على أرض الواقع".
وتمضي المعلقة على المزج التقريري والجازم في صدق الخبر وفي ضرورة مترتباته "الفولاذية" (والصفة لزميل المحللة) معاً: "ودفتر الشروط الذي أملته قمة دمشق لا يعني التهدئة للتهدئة، بل التهدئة الإعلامية مصحوبة بخطوات عملية على الأرض، لا بعبارات مبطنة خلال الإفطارات توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها". وينبغي ألا يشك القارئ في مواد ما تسميه المعلقة المراسلة والمحدثة، "دفتر شروط"، أي "أوامر"، على حكومة لبنان الميثاقية. وينبغي ألا يتردد في هوية من يصدر الأوامر، ويشترط الشروط المذلة على "شعب" الموالي، ويتحمل المسؤولية عن الإخلال بها وإثارة "الفتنة". وتجزم المعلقة، من غير سند صاحب رأي يجتهد في المسألة، ان الحريري "حتى الآن لم يلبِّ... ما هو مطلوب من القمة الدمشقية الثنائية". وتلتوي العبارة في هذا الموضع من بسطها تقريرها وأحكامها. فالمعلقة تريد إفهام القارئ ان رئيس الوزراء اللبناني لم يصدع بما يقول "حزب الله" (وهو "المعارضة") ان القمة، نيابة عن "المعارضة"، أمرت الحكومة اللبنانية الامتثال له على وجه السرعة. و "المعارضة" رضيت، على قول المحدثة عن ثقة، "على مضض" تكليف وزير العدل إبداء الرأي فيما تسميه بعض الأوساط "ملف شهود الزور". ووزير العدل هذا غير جدير بالمهمة. وهو "أكد... عدم معرفته بعدد من النقاط المتعلقة بملف التحقيق كقضية زهير الصديق وأسماء الشهود وعدم صلاحية المحكمة البحث في ملف شهود الزور". ومعنى "عدم المعرفة" بزهير الصديق والأسماء الأخرى، على غموضه، قد يكون مفهوماً، أما عطف "عدم صلاحية المحكمة" على "عدم المعرفة" فإعدام صريح لأداء المعاني ومباني الأداء. وهي تعلل القبول بالوزير بمكسب سيادي عظيم: فالمعارضة "كسرت المحظورات بفتح الملف الذي طالما رفض".
وتدلي المعلقة بدلوها، وهو ودلو أصحابها ومحدثيها الثقات واحد، في "شهود الزور". فتتخطى "التحقيقات"، على رغم أنها في حوزة لجنة التحقيق وحدها ولم يفلح مدير عام الأمن العام السابق بعد في الاطلاع عليها، وتتخطى "تداعياتها" على التحقيق (ربما)، والاغتيالَ نفسه و "توجيهَ الاتهامات عشوائياً"، تتخطى هذه إلى... ماذا؟ الى ما هو أفظع من الاغتيال، وانتهاك كيان الدولة والمواطنين، والطعن في مبنى السياسة والسيادة: "الى إيجاد مناخ ضاغط منذ عام 2005 تسبب بسوء العلاقة مع سوريا، إلى انتخابات نيابية...". ومعالجة هذا هي برنامج "المعارضة"، على ما أعلن جميل السيد ومستقبلوه وكتابه ونوابه ومواليه. وتندد "المعارضة"، ومراسلتها المعلقة، بـ "لغتي" الرياض في المحكمة: "واحدة عبر الحوار مع سوريا، وثانية عبر تمويل المحكمة". ويقود هذا الى بشرى تزفها المعلقة الى قراء الصحيفة: "... ستكون المعارضة حكماً في حل من كل التعهدات".
قلم "الدولة"
و "المحللة" المحدثة عن أصحاب دفاتر الشروط، وتوقعاتهم وحساباتهم وآلات قوتهم و "فوضاهم" وآرائهم في الحكومة والقوانين والقتل والقضاء والعلاقات بين الدول، والمنتضية سيوفهم والملوحة والمخوِّفة بها، هي نفسها (مع لفيفها العصبي العريض) استظهرت، في اليوم التالي، بـ "البلد" الذي يحترم حرية المأكل والمشرب، واحتجت به على "الشرطة" الذين حرموها الشراب في "غوردونز كافيه" من أعمال "لوغراي" في أثناء إفطار من إفطارات رمضان. وعلى المثال نفسه، استظهر معلق "الأخبار" بالميثاق ومقدمة الدستور وشرعة حقوق الإنسان على الكنيسة المارونية وحلفها مع "المطاوعة" على إلغاء "الحيز الخاص". ومن قبيل المصادفات المحض أن معلق الصحيفة هو من أوائل من أذاعوا، في خطابة التهديد و "التحليل" نفسها، ما "تنتظره دمشق" من رئيس الوزراء اللبناني. فنظير "الحيز الخاص"، والحاجات الفردية المنقطعة من التدبير المشترك الذي يفترض مواطنين، "ينزل" أصحاب الهوية البلدية والليبرالية، على غير مضض، عن الحقوق السياسية التي تتوج الحريات والحقوق والإرادات والعمومية المشتركة معاً. ونظير الطعام والشراب في "غوردونز كافيه"، أو ترك اللوحات الإعلانية، لا غضاضة في السطو المسلح والقسري على شرايين المواصلات في لبنان كله. وعلى قلب بيروت "التجاري" والسياسي والإداري والاجتماعي والثقافي.
وهذا نزول عن السياسة، وتخلٍ عنها، والنزول هذا هو سمة "أخلاق" المولى والتابع الفارقة. ويقضي عقد الولاء السلطاني، والانتساب الى عصبية الدولة الغالبة على الولايات الأهلية والبلدية، يقضي بتجريد المتعاقدين على الولاء من "سلاحهم"، وندب أهل العصبية الغالبة والمستولية الى الدفاع عنهم، لقاء فريضة (أو "فردة") يؤدونها. فهم يُحملون حملاً على التجرد من السلاح، وهو ركن الشركة السياسية في مجمع الفتوح السلطاني، ويلزمون أداة الرسم عن تجريدهم و "تخليهم". وإلى اليوم، "يناقش" إخوانيو مصر حق المصري القبطي (أو المرأة المنزوعة السلاح) في رئاسة الجمهورية، وفي الولايات العامة، ويحتجون لإنكار الحق بترك السلاح، أو العجز عن حمله. فتُقصر، بناء على الأصل هذا، "المواطنية" على الهوية البلدية أو الاجتماعية الأهلية والشخصية، وعلى "حريات" المأكل والمشرب والملبس خارج الدائرة العامة والمشتركة وعلانيتها. فينبغي أن تحفظ الدائرة هذه "آثار" الحرب والتغلب والسلطان، على معنى القوة المعملة، فيما يحل أكله وشربه أو ينهى عن أكله وشربه. فينشأ عن تمييز الدائرتين، الخاصة الأهلية و "الاجتماعية" والعامة السلطانية والمختلطة، الواحدة من الأخرى، "مجتمع" حاجات وتدبير على حدة من السلطان. ويتربع في سدة القوة والسلاح والأمر أهل القوة الخاوي الوفاض واليد من التدبير، ومن فهم الحاجات واحتسابها. ويؤدي هذا الى "حريات كثيرة" و "قليل من الديموقراطية"، على قول سليم الحص المنحاز الى العدوان على الحريات والديموقراطية معاً. وهذا قد يحملهم على اجتياح الطرق وقطعها، واحتلال الساحات عنوة، ومحاصرة مراتب التدبير، من غير حرج.
وعلة "الاستثناء" اللبناني في "هذا الشرق" الى اليوم، هي كسر موارنة الشمال ثم جبل المتاولة فجبل الدروز فجبل لبنان، القسمة الحربية والاجتماعية السلطانية، وإيجابهم مجتمعاً غير منزوع "السلاح". فلا تقتصر حرياته وحقوقه على الانكفاء على حاراته وعاداتها والالتحاق بعصبية السلطان، بل تتخطى هذا وذاك الى الشركة في الأمر والتدبير والمداولة والولاية، واحتساب الشركة على الحصة في المصالح وفي الموارد على أنواعها، والحرث والنسل والعلاقات بالخارج وعوالمه. والقيام بكسر القسمة السلطانية حمل ثقيل ومرهق. وجددت ثقله سلطنات الاستيلاء العصبية والمحدثة، والحركات السياسية والأهلية الانقلابية والمدججة بآلات الاستيلاء والإناخة على الصدور والعقول والألسنة. فيذهب شطر من الذين ينوؤون بالحمل الثقيل الى طلب "العودة" الى عقد الولاء، والاقتصار على "المنازعة على المحل الثاني" في السلطنة، على قول فرنسوا زبال قبل أربعة عقود، أو على المشورة والإدارة الإنفاذية من غير "سلاح" ولا سياسة ولا مواطنة، في رحاب "حيز خاص" منتشٍ بـ "حرياته".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق