عندما جهر تيري جونز (58 عاماً)، قس كنيسة معمدانية صغيرة يبلغ عدد مؤمنيها نحو 50 أميركية وأميركياً، في بلدة غينسفيل بولاية فلوريدا، عزمه، ومريديه، على إحراق 200 مصحف "إحياء" لذكرى هجمات 11/9 (2001) القاعدية الإرهابية على نيويورك وواشنطن، كان في أوائل من "ردوا" على خطة القس البادي الكآبة والتعاسة البيت الأبيض بواشنطن وقائد القوات الأميركية والأطلسية وقائد بعثة تدريب حلف شمال الأطلسي بأفغانستان وأمين عام الحلف الأطلسي وصحيفة الفاتيكان الرسمية وأسقف لاهور رئيس المجمع الأسقفي الباكستاني وأسقف باندونغ بأندونيسيا واتحاد الكنائس البروتستانتية الأندونيسية. وكان ذلك في 7 أيلول، وهو يوم ثلاثاء. وكان تيري جونز دعا مريدي كنيسته، أو جمعيته، في اليوم السادس من الشهر (وهو 6- 7 على توقيت أقاليم الأرض)، الى إعداد العدة لليوم العتيد الذي صادف يوم السبت في 11 أيلول، خاتمة الأسبوع البادئ يوم الاثنين. وتترتب مراتب أصحاب الردود من القمم السياسية والعسكرية، أو السياسية – العسكرية على ما قال الرئيس الأميركي باراك أوباما في صفته (القائد الأعلى للقوات الأميركية) والدينية، الى الروابي الأسقفية الوطنية.
فنبه السياسيون – العسكريون الى الآثار المحتملة المترتبة على فعل رجل غينسفيل ومشايعيه في القوات الأميركية والحليفة المقاتلة بأفغانستان. فخشي روبرت غيبس، باسم البيت الأبيض، "تعريض القوات (الأميركية) للخطر". وتخوف بترايوس، قائد القوات بأفغانستان، "تهديد" العمل المزمع "حياة الجنود والجهود الدولية (...) في أنحاء العالم والمجتمعات الإسلامية التي نرابط فيها". وتابعه قائد بعثة التدريب "بشدة" على قوله. وزاد أمين عام حلف الأطلسي على توقع "تأثير سلبي في أمن (القوات)" تنديداً بعمل "يناقض مناقضة صريحة كل القيم التي نتمسك بها ونحارب في سبيلها". واحتج الدينيون لإدانتهم بـ "الاحترام الواجب لكل الديانات"، وبانتهاك الدعوة الى الحرق "عقيدتنا وإيماننا"، على قول الأسقف الباكستاني، ومجافاتها "المسؤولية"، على قول أسقف باندونغ. وانفرد اتحاد الكنائس البروتستانتية الأندونيسية، في رسالته الى الرئيس الأميركي، بمناشدة أوباما "التدخل"، والحؤول دون فعل "يضر بالسلام العالمي". فالآخرون، من البيت الأبيض الى العسكريين فالصحيفة الفاتيكانية فالأساقفة، إما لوحوا بآثار الفعل الميدانية والعسكرية والسياسية وخوفوا منها، وإما نبهوا الى مضادتها "القيم" الأخلاقية والدينية التي تنسب المجتمعات الأوروبية والأميركية والكنيسة المسكونية نفسها إليها.
الإطفاء البلدي
ولم يدعُ أحد من هؤلاء، ما عدا الاتحاد البروتستانتي الأندونيسي، رأس السلطة التنفيذية الأميركية الى "التدخل"، أي إلى إعمال سلطته، وصلاحيات الإنفاذ التي يتمتع بها، في منع الفعل المدان، وتلافي نتائجه وذيوله المقدَّرة التي لا يرقى شك الى ترتبها أو تخلفها المحتوم عن الفعل. ويبعث الامتناع من دعوة السلطة التنفيذية والإجرائية الى حسم المسألة، حين لا يشك الممتنعون، وبعضهم يتربع في قمة سلطة الإجراء، في نتائج الفعل المزمع وعودته على القوات الأميركية بأوخمها، يبعث الجمع بين الرأيين والموقفين على السؤال والدهشة. فلماذا لا تبادر سلطة الإجراء الى قمع ما يعود على السياسة الوطنية الأميركية ومكانتها المعنوية، وعلى بعض أجهزتها البارزة مثل الجيش والجسم الديبلوماسي والاستخبارات، بأثقل العواقب وأبهظها؟
وبدت المعالجة الإدارية و "البوليسية" المحلية ضئيلة قياساً على عواقب الفعل المتوقعة، والثابتة، على ما أقر القس المعمداني. ففي باب المعالجة امتنعت دائرة الإطفاء بغنسفيل، في 7 أيلول، من الترخيص لتيري جونز بـ "المحرقة". وفي اليوم التالي، اجتمع مجلس البلدة المحلي، وتناقش في سبل الرد على الرجل. ونبه متكلم باسم المجلس الكنيسة المعمدانية الصغيرة بأنها تنتهك، إذا أقدمت على التحريق، مادة من قانون البلديات تحظر "إضرام النار في الهواء الطلق". وتعاقب المادة منتهك الحظر، بعد انتهاكه ونشر صور المصاحف المشتعلة في أرجاء الأرض على الشاشات والبرامج الإلكترونية والمحركات كلها وخروج التظاهرات وسقوط الضحايا القتلى...، بغرامة تبلغ 250 دولاراً عليه أن يسددها. واضطر المجلس، صاحب السلطة الإجرائية المحلية، الى الإقرار بقيد القانون على القمع. فلا يسع الشرطة، على رغم رفض دائرة المطافئ طلب القس ترخيصاً يجيز له إقامة "احتفال إحراق" في الهواء الطلق ومشهود، التدخلُ وإخماد الحريق إلا بعد جمع المئتي مصحف وصب "الزيت" عليها وإشعالها. وإذ ذاك، يكون وقع المحظور، وأشعل غضب المسلمين، وغير المسلمين، وحمل متطرفيهم وبعض معتدليهم على رد يليق بالفعل "الأخرق" و "المستفز"، على ما وصفه "أصحاب صفة" من المسلمين وغيرهم.
ولم يلبث مسؤولون أميركيون تنفيذيون من أركان "السلطة" أن اعترفوا بأن "السلاح" القانوني الوحيد الذي يملكونه في حرب القس الصغير هو المادة البلدية والإطفائية المثلومة، والمشروطة بإضرام النار أمام عدسات آلات التصوير وأعين أجهزة الهواتف النقالة والخلوية. فقال كبير مستشاري الرئيس الأميركي، وأحد مهندسي حملته الرئاسية البارعة، ديفيد اكسلرود (وهو معروف بكراهية بنيامين نتانياهو و "إيباك" إياه)، قال: "إن القس قد يكون له الحق في القيام بما يعتزم القيام به". وتابع وزير العدل الأميركي المستشارَ الكبير على قوله: "... الحادثة نفسها لا تنتهك القانون الفيديرالي". وسلمت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، ضمناً ولكن فعلاً بحق القس، فدعت وسائل الإعلام، أي عدسات التصوير العتيدة، الى "تجاهل" فعل القس، إذا مضى على خطته. وقالت: "نأمل ألا يفعل (ويمضي على خطته). ونأمل، إذا فعل، ألا يصور عمله في صورة العمل الوطني" الأميركي، أي في صورة الرد الأميركي، الصادر عن القيم الأميركية، على الإرهاب.
وتوج الرئيس الأميركي نفسه الحملة التي تعاقب عليها، في يوم واحد، اثنان من وزرائه وأول مستشاريه. فقال، في 8 –9 أيلول، بعد التنديد بمناقضة فعل القس المزمع "قيمنا مناقضة تامة"، وانتهاكه بناء الولايات المتحدة على "مبادئ الحرية الدينية والمسامحة الدينية"، وتعريضه "شبابنا وشاباتنا في العراق وأفغانستان لخطر كبير"، وتجنيده تحت لواء "القاعدة" مقاتلين جدداً "يفجرون أنفسهم في مدن أميركية أو أوروبية" – قال، بعد تلخيصه ما سبقه إليه وزراؤه وقادة القوات، انه، هو "القائد (الأعلى) للقوات المسلحة" المهددة ورأس السلطة الإجرائية، "قاصر عن اتخاذ إجراء قانوني يحول بين جونز وبين إنجاز "خطته ووعده. ونبه الى ان "نطاق قوانيننا" لا يتيح إلا مثول القس بين يدي القضاء، بعد "الإحراق العلني"، ومتهماً بهذه التهمة.
وعلى رغم مثول عواقب فعل القس المعمداني ومترتباته، اقتتالاً وقتلاً وتجنيداً وتظاهراً، أمسك أصحاب الإجراء والحسبة عن إعمال قوة إجرائهم وحسبتهم في "خطة"، أو عزم ونية، لم تصر بعد، قبل السبت في 11 أيلول الساعة الخامسة بعد الظهر، واقعة وفعلاً محققاً وواقعاً. فالنية، ما دامت قولاً وعبارة أو رأياً، لا قيد عليها في القانون الأميركي، على ما يؤوله الأميركيون، أصحابَ سلطة أو عامةً. وهذا على خلاف ما ذهب إليه أصحاب سلطة، أو اعتقاد، في نواحي أخرى من العالم. فإلى الاتحاد البروتستانتي الأندونيسي، وهو دعا أوباما الى "التدخل" على ما مر، ذهب المذهب نفسه نوري المالكي، رئيس حكومة تصريف الأعمال العراقي، وقال أن "هذا العمل الشنيع لا يدخل في إطار حرية التعبير، ولا بد من التدخل لمنع وقوعه" (في 9 أيلول). وبينما بدا الوقت داهماً، اقترحت وزارة الخارجية البحرينية "الضغط على الكنيسة الأميركية"، وهي كنائس لا تحصى، في سبيل "إلغاء هذا العمل المشين". ولم يشك منوشهر متكي، وزير خارجية إيران، ولا شك رئيس حكومته محمود أحمدي نجاد، في تدبير "النظام الصهيوني" فعل جونز. وأشار على "المسؤولين الأميركيين بالدفاع عن حقوق المسلمين الأميركيين الأساسية" وحمايتها من الانتهاك. وحض رئيس أندونيسيا أوباما على "منع إهانة المسلمين".
حد الفعل
وإلى يوم الخميس، في 9 أيلول، وهو يوم محاورة قناة "إي بي سي" أوباما في برنامج "صباح الخير أميريكا"، اقتصر المسؤولون الأميركيون علناً على مقارعة رأي القس تيري جونز بالحجج، أي برأي "آخر"، على قول قناة "الجزيرة" (وهي تعرِّف الرأيين: الرأي...) وعلى رغم تقريب رأي القس من فعل أو عمل يعاقب القانون مرتكبه بالغرامة الضئيلة وربما بالإحالة الى القضاء – وهذا لا يقاس بما يترتب عليه حتماً من عواقب فظيعة -، لم يعمد أحد من أصحاب سلطة الإجراء الى مخاطبة القس المعمداني مباشرة، أو مواجهته من غير وساطة الإعلام وعلناً. وتحاشي أهل السلطة المخاطبة المباشرة والفردية، على رغم مداهمة الوقت، آية على خشيتهم حمل مخاطبتهم هذه على محاولة تأثير في حق المواطنين الأميركيين في نشر آرائهم السياسية والعامة من غير قيد أو "ضغط". والمخاطبة المباشرة وغير العلنية تؤوَّل قيداً وضغطاً إذا قال صاحب الرأي ان مخاطبه المسؤول أوحى إليه من باب خفي بترك عزيمته. وهذا قول لا راد له. ولا راد لتفسيره تجاوزاً لحد السلطة، وعدواناً على حرية المواطن. ولا ريب في ان الحال هذه هي ما دعا وزيرة الخارجية الى الاقتراح (اليائس) على الإعلام الإحجام عن "نقل" الحادثة أو إذاعة خبرها وصورها.
واتفق أن سألت صحيفة "يو إس توداي"، في اليوم نفسه (الخميس في 9 أيلول)، تيري جونز عن "احتمال اتصال السلطات به"، وأثر "الاتصال" إذا حصل. فأجاب القس، فاتحاً كوة في الجدار القانوني المرصوص: "لا أحسب أن مثل الاتصال (أو النداء) هذا يمكن تجاهله". وعلى ما يفترض وينبغي، عُلم أو أشيع من بعد أن وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، هاتف في 10-11 أيلول قس غينسفيل بفلوريدا. ولم يعلم شيء من المحادثة بين الوزير التنفيذي، ورئيس قائد القوات الأميركية والأطلسية بأفغانستان والأميركية بالعراق والمسؤولين عن تدريب القوات الأفغانية والعراقية في البلدين، وبين القس صاحب الرأي في الإسلام وهجمات 11 أيلول 2001، وفي المثليين وتسديد الضرائب الى السلطات الأميركية... ولم يتكلم غيتس ولا تكلم جونز في المكالمة الهاتفية. وسئل رئيس غيتس، الرئيس أوباما، عن المكالمة، فأجاب لا نافياً ولا مثبتاً، أنه يأمل في رجوع القس المعمداني في خطته وعنها.
ورجع القس عشية 11 أيلول، أو صباح ذلك اليوم، عن حرق المصاحف في فناء كنيسته. وخلفت الخطة، قبل إلغائها، قتيلاً في تظاهرة بولاية بدخشان الأفغانية، واثنين في تظاهرة أخرى بلوغار، و15 قتيلاً في تظاهرة بكشمير الهندية، وطعن أندونيسي مسيحي في بطنه وضرب كاهن على رأسه شمال جاكرتا... وكان خبر أذاعته "نيوزويك" قبل 6 أعوام، وروى حادثة تمزيق مصحف في غوانتانامو، أدى إلى تظاهرات قتل فيها 15 متظاهراً باكستانياً وأفغانياً. ونسي الإعلام تيري جونز في 12 ايلول، أو منذ 12 أيلول، وليس في 11، على خلاف رجاء هيلاري كلينتون. ولم يبق من الخطة أو الرأي إلا أصداء خافتة ترددت وتتردد في ثنايا قضية أو مسألة أخرى هي خطة إنشاء مركز قرطبة، ومسجده، غير بعيد من الحفرة الفاغرة التي خلفها انهيارُ برجي مركز التجارة العالمي التوأمين ثم حفرُ أسس المبنى الجديد الذي يخلفهما. ولاحظت وزيرة الداخلية الأميركية، جانيت نابوليتانو، أن تيري جونز "من صنع الإعلام" في صيغته الإلكترونية والرقمية الغالبة اليوم. ولاحظت، من وجه آخر، أن المتظاهرين الإسلاميين، وهم من مستعملي الإنترنت ومستهلكيه، انخرطوا في المعركة الإعلامية من غير إدراك واف أن الولايات المتحدة "بلد يتمتع بحرية التعبير وحرية الاعتقاد الديني". وليس جونز، في ميزان المسألة الكبيرة هذه، غير "قس صغير نختلف وإياه كلنا، ونخالفه الرأي في معنى قيمنا". وأيد الوزيرة الليبرالية والديموقراطية سلفها الجمهوري على الوزارة نفسها. فنوَّه بـ "مقارعة المقالات القبيحة بالمقالات الحسنة من غير تقييد حرية التعبير".
وخفاء معنى حرية التعبير وحرية الاعتقاد في الولايات المتحدة على شطر (أو شطور) من الرأي العام الإعلامي والعالمي لم يستتر على تربع الولايات المتحدة في قمة مشاغل الرأي العام العالمي. فالمسألة تتناول العامل الإعلامي المعولم، وهو أقوى العوامل المعولمة عولمة وإحضاراً لنواحي العالم بعضها الى بعض وبإزاء بعض، وعلاقة العامل هذا بالقوة العالمية الأولى وملابستها المادية مجتمعات المسلمين وبلدانهم. ولعل إعلان القس المعمداني عزمه على "الاحتفال" بذكرى الهجمات الإرهابية، حين لا تزال البلاد (الأميركية) تداوي آثار ندوبها وجراحها والتبعات الثقيلة الناجمة عن السياسات التي تولت الرد عليها ومعالجتها، وتوسلَ القس بواحدة من أشد خاصيات الاجتماع السياسي الأميركي خصوصية (حرية الرأي والنشر والعبارة) وإحياءه شعيرة من شعائر الحرب "المقدسة" على المقدسات – لعل هذا كله استثمار إعلاني ورمزي عالي المردود في بورصة عمياء ومجنونة.
وتقيس اجتهادات بعض علماء المسلمين الهوة السحيقة التي تفصل "الجهتين"، وهما جهات كثيرة، الواحدة من الأخرى. فيفتي آية الله حسين نوري همداني، الإيراني، بـ "(إلزام) قتل الأشخاص" الذين يرتكبون عملاً مثل تمزيق صفحات من المصحف، وبالأحرى حرقها، و "ضرورة" قتلهم. ويجيز زميله، آية الله ناصر مكارم شيرازي، على وجه "التأكيد"، "سفك دم الشخص الذي يحرق القرآن". ولا يشترط العلامة على القتل إلا شرطاً واحداً هو إجازة "قاضي شرع" أو فتواه. ومبادرة شيرازي الى الإدلاء برأيه هي بمنزلة استدراج الى الاستفتاء، وبيان استجابة صريح. وتصدر الآراء هذه عن اختلاب إعلامي وعالمي يوهم الواقعين في شراكه، من أهل "المقاومة العالمية" على الخصوص، بانبساط سلطتهم وقوتهم على القتل وأحكامهم الفقهية الى إرجاء الأرض، على شاكلة انبساط الشبكة العنكبوتية، وبثها الرسائل والأخبار الى الأرجاء المترامية وإلى الأطراف. وكان مرشد الجمهورية الإيرانية الأول، روح الله خميني، اختبر، حين أفتى بإهدار دم سلمان رشدي، عالمية النطاق "الفقهي"، وشفع الفتوى بسلطان دولة ومالها. وأثمر الاختبار اغتيال مترجمين نقلا رواية رشدي، واضطرار الروائي الهندي – البريطاني الى التخفي أعواماً.
"سوق الأفكار"
فيتوارى عن أذهان كثيرين من أهل النطاق الفقهي العالمي، وربما من غير أهله، مدارُ الحادثة الإعلامية والسياسية الأميركية على التعديل الدستوري (الأميركي) الأول، وهو مرجع التشريع والأحكام في كل ما يعود الى حرية القول والرأي والتعبير والنشر في الولايات المتحدة. والتعديل الذائع الصيت – وهو ملجأ المنادين بإباحة حرية القول والرأي والتعبير والنشر من غير قيد وملاذ خصومهم معاً، وتتولى المحكمة العليا النظر في دعاوى الحريات المتفرقة والمختلفة في ضوئه – هذا التعديل لم يفتأ يتقلب على وجوه التأويل منذ إقراره في 1862. وعلى رغم ان التأويل والاجتهاد قلبا رأساً على عقب، منذ عشرينات القرن العشرين على وجه التخصيص، المعاني التي استُقبل عليها التعديل وفُهم، فنواته الثابتة هي نصه على ان الكونغرس لن يسن قانوناً يقيد حرية القول أو الصحافة. ويتوجه الحظر على الدولة الاتحادية، أو الفيديرالية. وينيط وجهُ الحظر حرية التعبير، على هذا، بالولايات وحكوماتها، ويقسِّم السلطات ويوزعها على المنطق الفيديرالي الأميركي التقليدي، القريب من المعايير البريطانية الليبرالية. وتقضي المعايير البريطانية بحصانة (أصحاب) الكلام في "الأحرام" النيابية والقضائية، وتحظر الرقابة على المنشورات والمطبوعات قبل النشر أو الطباعة. وتلاحظ مؤرخة التعديل الدستوري (الأميركي) الأول، مارسيلا ياكوب، ان الحق الأميركي تناول الانتهاكات الكلامية القولية، الى العقد الثالث من القرن الماضي، على وجه قريب من الوجه الذي تناولتها عليه "شروح" بلاكستون "على قوانين (شرائع) انكلترا" (1765).
وكان ابتداء الانعطاف في 1919 – 1925، غداة الحرب الأولى، فذهبت المحكمة العليا الاتحادية، الى الإقرار بحق الحكومة الاتحادية في سن قوانين تتناول حرية التعبير، ثم أفتت (1925) بحمل حرية التعبير على "حق أساسي". وتجيز مكانة الحق الأساسي للحكومة الاتحادية معارضة الولايات وقوانينها وإجراءاتها، والنقض على القوانين والإجراءات هذه. فساوت، من هذه الطريق، حرية التعبير، أي الحق العام فيها، بالحق في الحياة والملكية والحرية. وهي حقوق ضمنها التعديل الرابع عشر (1868)، وضمن قسمتها بالسوية في مواطني الاتحاد وبينهم. وتولى قاضيان في المحكمة العليا، هما أوليفر وينديل هولمز (وكانت ولايته بين 1902 – 1932) ولويس ديمبيتز براندِيْس (1916 – 1939)، بلورة مفهوم "سوق الأفكار الحرة" اصلاً حقوقياً ومعيار اجتهاد وقضاء في المنازعات، على تأريخ المؤرخة.
وتعود ولادة الأصل الحقوقي الجديد، و "ثورته" في تأويل التعديل الأول، الى 1919 وقضية أبرامز (ضد الولايات المتحدة). ففي 1917، دخلت الولايات المتحدة الحرب. وأعلن الرئيس وودرو وِلْسون أن "ضعف الولاء" (الوطني)، أو التنكر للولاء الوطني في صورة الطعن في مسوغ الحرب أو الدعوة الى مناهضتها ورفض القتال، ليس موضوع مطارحة حرة. ومن ينتهك التزام الولاء يخسر "الحق في التمتع بالحريات المدنية". وترتب على إعلان ولسون مقاضاة 2000 أميركي دينوا بالتنكر لولائهم للولايات المتحدة. فدانت هيئة المحلفين رجلاً قال ان مشاركة الولايات المتحدة في الحرب دعت إليها مصالح الرأسماليين المالية، بـ "التحريف في (قول) الحق". ودانت هيئة أخرى قساً وزع بياناً قال فيه ان المسيح ما كان ليرضى القتل والقتال في هذه الحرب، بـ "محاولة التمرد على الانضباط". وسوغ المحلفون أحكام الإدانة بإعمال معيار واحد وثابت هو "ترتب مفاعيل مرجحة وطبيعية" على انتقاد سياسة الحكومة والطعن عليها. وغداة الثورة البلشفية بروسيا، وإنشاء الأممية الثالثة والنقابات "الحمر"، أقر مجلس النواب قانوناً يعاقب الأقوال التي تحض على مقاومة الحكومة، وتشهر خلع ولائها، بسجن أصحابها أوقاتاً بلغ بعضها 20 عاماً.
وجواباً عن الأحكام "الخرقاء" (ياكوب) هذه، وعن معيار "المفاعيل المرجحة"، اقترح القاضيان هولمز وبراندِيْس على المحكمة العليا إعمال معيار آخر هو "دليل (أو رائز) الخطر الوشيك والداهم". فذهب هولمز الى ان الفيصل في كل مسألة من هذا الصنف هي تقرير تبعة الألفاظ المستعملة في ظرف من الظروف، وعلى معنى من المعاني، عن إثارة أو بعث "خطر ظاهر ومباشر في مقدوره التسبب في أضرار يقع على عاتق الكونغرس تلافيها". فالمسألة، في آخر المطاف، هي المداهمة، من وجه، و "درجتها" أو إلحاحها، من وجه آخر. ورأى، في قضية أبرامز، أن في وسع الولايات المتحدة "معاقبة العبارة التي تستتبع، أو هي قصد بها في ذهن صاحبها ان تستتبع خطراً ظاهراً ووشيكاً يعود مباشرة على الولايات المتحدة بمفاعيل فادحة، وعليها (الولايات المتحدة) دستورياً الحؤول دونها...". وأنكر براندِيْس، في طعون على عدد من أحكام محاكم الولايات (بين 1920 و1927)، على هيئات محلفين قضت بسجن مظنونين 20 عاماً عقوبة على توزيع بيانات ومناشير تندد بالحرب أو تنكر ضرورتها، أنكر على الهيئات صاحبة الأحكام الغليظة هذه تسويغها أحكامها بمداراتها "خطراً ظاهراً وداهماً يترتب عليه إما عرقلة التعبئة (في القوات المسلحة) أو مؤازرة أعداء الولايات المتحدة على الفوز". وخلص القاضي من اقتراحه معياره العسير – وظلُّ هذا المعيار خيم على تصريحات القادة العسكريين والسياسيين الأميركيين في اثناء الأيام الأربعة التي سبقت يوم السبت في 11 ايلول المنصرم – الى ان الوقت المتاح "لمناقشة الأكاذيب والمغالطات، وتبديد التهديد من طريق التربية"، إذا ما توافر، "فالحل المفضَّل ليس الصمت المكرَه (أو الإكراهي) بل هو الاستدراج الى تكثير الأقوال والمقالات... والجمع بين دالة السلطة وبين الحرية".
وما لم تدن المحاكم "أفعالاً" مخالفة أو خالعة الولاء، وناجزة الفعلية المادية، فقصاراها إدانة "أنفس" وسرائر يظن المحلفون فيها خلع الولاء والتنكر له. وتذكر الأحكام هذه القاضي برانديس بأيام كان رجال يشنقون فيها جزاء تهمتهم بـ "الخيانة الذهنية" أو العقلية (خيانة الصدور والأفئدة). ولا تقيد إدانات من هذا الصنف حرية الصحافة وحدها، وهي تتهدد بالقيد والتضييق حرية الفكر والمعتقد، ومساواة الأقوال والعبارات بالفكر والمعتقد يخرجها من الفعل وتبعاته المادية والقانونية.
الأقوال والأفعال
وآثار المعيار الجديد، والمقترح غداة الحرب الأولى وغلوائها القضائية، جلية في تلويح القادة السياسيين والعسكريين بقرب عزم القس المعمداني "الصغير" من الفعل وعواقبه، وإحجامهم في اللحظة الأخيرة عن حمل العزم او الخطة على فعل. وألزمهم هذا البقاء على ترجحهم. والحق ان الترجح هذا هو في جبلَّة فقه حرية التعبير وأحكامه منذ اجتهاد القاضيين الأميركيين. فحصانة الكلمات أو الأقوال من الحظر والمنع، ومن الإجراء والتنفيذ عموماً، إنما مردها الى افتراض تأثير الكلمات أثراً في الناس الذين تتوجه عليهم الكلمات وإليهم عاملاً ليس جزءاً من الكلمات والأقوال، هو فهم من تتوجه عليهم الأقوال وإدراكهم، أي "تلقيهم"، في رطانة اليوم. واستباق الأثر المحتمل أو المفترض هذا على وجه اليقين، والجزم بمفاعيل التعبير "المحتومة"، ونفي الفرق بين النية والعزم والفكرة وبين الفعل – هذه كلها (الاستباق والجزم والنفي) سمات منزع استبدادي فظيع. ويمثل مونتيسكيو (صاحب "روح الشرائع") على فظاعة الاستبداد الذي يحمل الأفكار والأقوال على أفعال، بقتل الطاغية اليوناني دينيس أحد رعاياه، مارسياس، جزاء رواية هذا مناماً رأى فيه أنه، هو مارسياس، يقطع عنق دينيس. وتعلل الطاغية بأن المنام لم يرَه الحالم في ليله لو لم يكن خاطراً من خواطر نهاره. ورد مونتيسكيو الحكم الظالم بالقول ان القانون يتطاول الى الفعل وليس الى الفكرة ولا الى العبارة عنها.
والكلام لا يقتصر على المتكلم، بديهة. فهو لا قوام له، ولا يتماسك إلا من طريق من يتوجه إليهم وعليهم. وهو شأن الرأي أو الفكرة. والكلام والرأي قوامهما الجماعة المتخاطبة، أو دائرة تطارحهما والمداولة فيهما. ولا سبيل إليهما إلا بوساطة المطارحة والمداولة. والديموقراطية، على هذا، هي صورة نظام اجتماعي يتولى إنشاء الفكر أو العقل وصوغه. ولا يقوم الغير ("الآخرون") منه مقام رأي عام ينبغي "احترام" معتقداته وأفكاره وآرائه الجوهرية والثابتة، فهم، أي الغير، من طريق المطارحة والمداولة والتوجه ورد الجواب، شرط استواء القول والعقل وقيامهما. وليست غاية المناقشة والمداولة العامتين بلورة رأي عام وإجماع جزئي أو عريض، فتدعى الآراء الفردية أو الشخصية الشاذة والمارقة الى التقيد به والتزام الحدود التي يحدها فلا تتعداها. وإنما الغاية، على هذا المذهب في تأويل التعديل الأول، هي الإقرار بمنطق يحرر المناقشة والمداولة والعقل من القيود والحدود كلها، ولا يستبعد رأياً أو قولاً.
فذرائع الشاذ والمارق والبذيء والضعيف... لا اعتبار لها في ميزان هذا المنطق. فهي "تستفز الناس الى التفكير وتوضيح الأمور، وتحفز الضمير على الصحوة من سباته"، على قول رسام الكاريكاتور الدانمركي، كورت فيسترغارد، الى صحيفة ألمانية معلقاً على "حركة" تيري جونز ومنكراً. وهي، على شروح القاضيين ومن خَلَفهما في المحكمة العليا، وجه من وجوه قوة التفكير وتعظيمها. فحظر قول يراه معظم الناس شاذاً وركيكاً إلخ، ينجم عنه إضعاف المداولة والمناقشة والعقل لقاء تفادي ضرر هزيل. فيفوق الضعف والخسارة الربح المفترض من تفادي الضرر أضعافاً مضاعفة. ويقتسم الخسارة اصحاب الأقوال المحظورة والجمهور الذي يتوجه عليه القول الذي لا إجماع عليه. فيستوي في الحق في العبارة، على قول مارسيلا ياكوب شارحة جون ستيوارت ميل، "كفاحي" هتلر و "دون كيخوتي" سرفانتس، على فرق المرتبتين العظيم. ويترتب على هذا فوضويةُ صوغ الفكر في الديموقراطية الأميركية (على خلاف شرعة حقوق الإنسان الأوروبية)، وتركُ هذه نظامَ المراتب أو انتهاجَ طريقة تُرفع فوق الأقوال والأفكار. فإذا صدق أن الشعب هو صاحب السيادة، وأن مزاولة السيادة تحصل من طريق القول وحرية التعبير العام، أوجب الأمران حرية الشعب في القول والكلام في (تناول) الدولة، على وجوه القول والكلام كلها: إنكاراً وطعناً ونقضاً واحتجاجاً وكاريكاتوراً وإقذاعاً...
ومنذ خمسينات القرن العشرين عمدت المحكمة العليا الى قضم الاستثناءات من إباحة القول والرأي والتظاهرات (القائمة مقام قول أو رأي شان حرق العلم الأميركي أو... المصحف)، ونقض التضييق عليها بذريعة البذاءة أو الخلاعة أو الفحش أو الانتهاك. فأبطلت المحكمة أحكاماً في أقوال دينت في محاكم الولايات بالتجديف وانتهاك المقدسات من شتم وتحقير. ولم تستثنِ من الإبطال إلا الدعوة الصريحة الى الفعل العنيف والشتائم المبتدئة عراكاً وعدواناً عاديين وغير مشروعين. وقيدت بعضَ الشيء حرية التعبير في المدارس والسجون وتشكيلات القوات المسلحة. وعللت التقييد بموقع هذه من المجتمع المدني، وخروجها منه جزئياً. وغداة المرحلة الماكارثية (1953- 1956)، جددت المحكمة العليا الاتحادية بسطها الإباحة على أبواب من القول "السياسي" قيدتها أحكام سابقة. فأخرجت، في 1957، تحسين العنف، أو مديحه والحض عليه، من الاستدراج الى الفعل العنيف، وحكمت بدستورية تقييد الاستدراج وحده. وفي 1969، نظرت المحكمة في جواز إدانة اعضاء في جماعة كوكلوس كلان العنصرية، مقنعين ومسلحين متظاهرين، أعلنوا عزمهم على استباحة الكونغرس إذا لم تحم الهيئات والمؤسسات الأميركية العرق القوقازي (الأبيض)، وأبطلت الإدانة. وعللت الإبطال باقتصار الدولة ودورها على الحؤول دون انقلاب تحسين العنف الى فعل عنيف يباشره المحسِّن أو هو على وشك مباشرته. وهذا لا يقتضي حظر التحسين والمديح بالقول والكتابة.
ولما قضت مذكرة أصدرتها بلدية بلدة سان بول، في 1992، بإدانة حرق صليب، أو تعليق شارة صليب معقوف (نازي)، وإنزال عقوبة جزائية بالحارق أو المعلق، ألغت المحكمة العليا المذكرة، ودانت "تمييزها غير المقبول" آراء من آراء غيرها. وذهبت المحكمة الى ان الحظر يقع على الشتم والسباب اللذين يحاميان عن العنصرية والعصبية (الجنسية) على النساء وجنسهن، وليس على الشتم والسباب اللذين يقصد بهما خصوم العنصرية والعصبية على جنس النساء أو الإناث. وفي 1995، قضت المحكمة العليا بحمل المسيرات، شأن الاعتصامات من قبل (في 1969)، على قول أو عبارة. وحملت حظرها على حظر تعبير ورأي. وكانت المحكمة، في 1989، رأت ان حرق العلم الأميركي وجه من استنكار سياسي، وفعل تعبيري يحمي التعديل الأول الجهر به من غير قيد.
وكانت الاجتهادات هذه حلقات في سلسلة من المكاسب القانونية المتصلة. وتهديد القس المعمداني لم يدع الأميركيين الى رأي آخر.
الاثنين، 4 أكتوبر 2010
"محرقة" القس تيري جونز الكونية في حمى التعديل الدستوري الأميركي الأول
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق