المستقبل -9/10/2011
في العاشر من أيلول المنصرم، كانت رفاه ناشد، "الدكتورة"، أو المحللة والمعالجة النفسية السورية ويقال أنها الوحيدة من نوعها وحرفتها في "سوريا الأسد" السوية الصحة النفسية من غير طبابة- تهم بمغادرة مطار دمشق إلى باريس، حيث تنتظرها بنتها وحفيدها البكر من بنتها وبيدها جواز سفرها القانوني وسمة المغادرة. وبينما كانت تكالم زوجها مودعة، رأت رجال أمن "عصبيين"، على ما قالت لزوجها ووصفت، يفتشون المسافرين ويفحصون جوازاتهم مستعجلين وفظين. وقبل أن يبلغ رجال الامن بغيتهم، وهي "الدكتورة" المسافرة، ويضطروها إلى اطفاء هاتفها، وسعها القول لزوجها أنها هي مقصد المفتشين والتحريين، وأنهم بإزائها، ويمدون يدهم إلى جوازها. ومذذاك ورفاه ناشد في سجن مختلط، "سياسي" وجنائي. وتجيز السلطات زيارتها لزوجها وابنتها (أو ابنها) مرة في الأسبوع، نصف ساعة ووقوفاً، وفي غمرة هرج ومرج تحول دون سمع الواحد محادثه. فإذا كان المحادث (المحادثة) يشكو آثار سرطان شفي منه متأخراً، وأعراض ضغط حاد، وبلغ منتصف عقده السابع تقريباً، واعتقل عنوة وفجأة في الظروف التي اعتقل فيها، وهو مسجون في قاووش غريب ولم يعد العدة لنزوله قدَّر الواحد أثر الحال هذه في المرأة الأسيرة.
والمحللة والمعالجة النفسية لم تسبق لها مشاركة، من أي صنف، في"السياسة". فهي لم توقع بياناً من قبل (ولا من بعد)، ولم تتظاهر، ولم تكتب مقالاً ولا أدلت بمقابلة او محاورة، ولم تنتسب بالأحرى إلى منظمة. فليس في وسع سجانيها، وهم لم يتهموها، أن يظنوا فيها توهينَ نفسية الأمة، ودس الدسائس لدى العدو والتحريض على الدولة، وبث التفرقة المذهبية والطائفية، أو الانضمام إلى جماعة مسلحة والاعتداء على قوات الأمن في أثناء قيامها بوظيفتها... فلا يصح في الطبيبة ما ربما صح في الولدين حمزة الخطيب وزينب الحسني، أو "المغني" ابراهيم القاشوش، ومن غير شك في هيثم مطر وأنس الشغري، والآلاف من القتلى المحققين والمفقودين ومن الرهائن الأسرى. والقرينة الوحيدة والفريدة، فرادة احتراف السيدة حرفتها وعملها، على فعلة ارتكبتها الأسيرة العنوة هي جمعها، قبل أيام قليلة من الحملة الأمنية عليها وهي من طريقها إلى استقبال حفيدتها البكر، أولاداً وأطفالاً في دير للآباء اليسوعيين بضاحية دمشق، ومحاولتها علاج رعبهم ورهبتهم واضطرابهم من طريق دعوتهم إلى الاعراب عنها، والكلام فيها، والاستماع إليهم وهم يتكلمون.
ونهجُ العلاج الذي تنتهجه "الطبيبة" السورية يقوم على الكلام "الحر"، على ما يوصف تداعي الأفكار والخواطر والذكريات والمشاعر والكلمات الذي يدعى إليه "المريض" أو المعالَج. وهو تسمّيه المدرسة التي تنتمي إليها السيدة "القائم بالتأويل"، كناية عن تولي المعالَج نفسه تأويل أقواله وتداعياته وأحلامه واستنباطه أو إنشائه معانيها المضمرة والكامنة أو الخفية عليه. ومبرر النهج هذا، في آخر المطاف، هو أن المرض أو الاضطراب من صنع المريض، على نحو ما الاستبداد السياسي هو صنيعة "إرادة عبودية"، ولا سبب له "طبيعياً". والتحليل (النفسي) "علاج بالكلام" أو القول. وذهب بعض مزاوليه إلى وصف خصوصيته، وهي اقتصاره على طبابة قولية من غير عقاقير ولا كهرباء، بقطيعته من الإيحاء (أو التنويم المغناطيسي). فقالوا، في معرض إنكارهم الصيغة السوفياتية التي جعلت من الطب النفسي أداة تطويع المعارضين والمنشقين بواسطة العقاقير والكهرباء والايحاء، إن "التحليل يبدأ حيث ينتهي الإيحاء".
وعلى هذا ربما، بدت دعوة المعالجة او المحللة الأولاد والفتيان إلى الخوض في مخاوفهم وكوابيسهم، والعبارة عنها، والتشارك فيها، تحريضاً على الخروج على الإيحاء والتسليم بسلطان تأويل وتعليل الواحد غير المنازع. ولعل الأثقَل وطأة على السلطان المستولي هو المنازعة أو الانقسام والاختلاف، ولو لجأت هذه إلى طوية النفس وولدت كوابيس وأضغاثاً وهذياناً وهواجس وتعاسة، أو ولدت أعصبة موصوفة. فالسلطان الواحد، وهذا زعم ساذج وطفلي يسأله عنه التحليل النفسي سؤالاً ملحاً، يحسب في تشاوفه وتعاظمه وهذيانه أنه دواء الانقسامات والمنازعات كلها، بما فيها انقسام النفس وحزنها وتأسيها ("القرآنيين")، ومنازعتها نفسها. فالأصل، في النفس، هو الانقسام والكثرة. ومعالجة الانقسام والكثرة بالإيحاء، أي بالوحدة وتخييلها وترديد ذكرها، وبالإلزام بالصمت والخرس والصمم، وبنصب الرقيب والواشي والمخبر صاحب الحق في الكلام (أي في نفي الكلام وحقيقته)، هذه "المعالجة" هي خلاف المهنة التي تمتهنها رفاه ناشد، مهنة "حامل (ة) القول".
وما فعلته السيدة، أو رضيت الاشتراك في فعله امينة لمهنتها، يتعقب سلطانَ الواحد إلى أركانه وأسسه الدفينة والخبيئة. فالسلطان الأسدي في شقه العشائري الأهلي الذي ينفي جواز تطرق الاختلاف إلى "الدم"، وفي شقه الاستخباري البيروقراطي الذي يتوهم في نفسه القدرة على استباق الاحتمالات كلها- تراوده أخيلة التسلل إلى أدق أوردة النفوس والأجساد وإلى مصادر الكلام. وهو يحمل البواطن والدواخل، في قلب المدن العصية وأحيائها الداخلية ووراء أبوابها وحواجز طرقاتها المملوكية وسككها، على تمرد وعصيان خطيرين ومهينين. وهو يخوض منذ نحو 7 أشهر مديدة ومريرة حرباً "كلية" أو شاملة (على المعنى السياسي النظامي) على متظاهرين "أحرار"، يتداعون إلى التظاهر والكلام والغناء والإنشاد والرقص تداعياً حراً، ويحتكمون إلى الكلام والاجتماع والمداولة المسالِمة في دعواهم أو دعاويهم، ويخرجون على الإيحاء بوحدة وسلم واستقرار لا قائمة لها إلا في عصبية أهل الدولة المتسلطين، وفي أبنية تسلطهم المتآكلة. ولا تعدو مزاعم السلطان الأسدي مزاعم حليفه الإيراني (حيت يحرِّم على جعفر بناهي الاخراج السينمائي طوال 20 عاماً فيرد جعفر على التحريم بـ"هذا ليس فيلماً")، أو سنده الصيني (حين يخطف في وضح النهار المعمار إيَ وايواي ويخفيه 81 يوماً) وسنده الآخر الروسي (وسجله القانوني والحقوقي "أعظم" من أن يتعقب).
وربما ينبغي حمل السلطان الأسدي وجهاز استخبارات سلاح الجو الذي ورثه السلطان الابن عن والده السلطان واعتقل رفاه ناشد، على النباهة حين جرَّم الدعوة "التحليلية" إلى جهر الخوف والاضطراب بالكلام والعبارة العلنيين. فجزاء الكلام والإسرار والهمس، على مسمع اولاد، بالاعتقال عنوة قد يكون قرينة على فهم عميق للحوادث السورية التي تنتظمها الحركة المدنية والوطنية الديموقراطية المشهودة. وما كتبه أسامة محمد ("الحياة"، في 3 تشرين الأول الجاري) يدل على هذا الفهم، من الوجه المقابل:" هل المتظاهرون السوريون بشر جدد أبدعوا زمناً جمعياً معاشاً هو الأمان (...) وهو التظاهرة". فما ينزع الطاغية إلى الغفلة عنه ("وول ستريت جورنل" في أوائل آذار 2011...) هو ما نبهت إحدى سيدات العصر عقلاً وفهماً عليه، أي ابتداء البشر تاريخاً جديداً حين ولادتهم وابتدائهم حياة (عضوية) جديدة.
والموظف الأمني، والحارس المخابراتي، والواشي بالتلاميذ والأولاد، والصحافي "المقاوم" الملّي والمعذب والغاضب والمشايع الأمن والاستقرار والوحدة القومية في نهاية الأمر، هم خدم السلطان الواحد والكلياني لأنهم لا يرون ابتداء الحوادث والقول أو جواز ابتداء هذا وتلك. فيؤدي آيخمان ما أوكل إليها أداؤه لأن هذا هو سنة الحياة والكون. وهو يؤدي مهمات وظيفته مزمجراً وغاضباً، وصامتاً عن الكلام والمخاطبة والمحاورة. ويخص بصمته المنازعةَ أو التشكك في غيره وفي نفسه، وهو في شأنه هذا، على خلاف رزان زيتونة ("نوافذ" "المستقبل"، في 17 أيلول 2011)، ورفاه ناشد على نحو آخر. فحين تناولت رزان زيتونة الحركة المدنية الوطنية والديموقراطية السورية، حركتها وحركة صواحبها وأصحابها، كان كلامها في خلافات الحركة ومناقشاتها وانقسام بعض تياراتها وأجنحتها على مسألة المسالمة والعنف.
وعلى هذا المثال، أو من غير مثال (من غير إجازة إلا من النفس، على قول بعض زملاء رفاه)، جرت سمر يزبك حين روت ما أُشهدت عليه من فنون السَّجن والتعذيب والقهر، وما جُنبت معاناته المادية وحماها منه نسبها وقرابتها و"دمها". وسبق أن روى سولجنتسين، في مطلع "أرخبيل الغولاغ"، تسليمه، هو الضابط المخلوع الرتبة لتوه، بحمل أحد جنود الصف حقيبته وهو في طريقه الى المعتقل. وهو نبه إلى أن التسليم بمراتب المعتقل، والسلطان الذي أنشأه، من أركان إرادة العبودية المضمرة. ونبه، في موضع آخر، إلى أن سكوت المعتقلين، حين اعتقالهم فجراً أو غلساً، عن الصراخ وتأليب الجيران على البوليس الحزبي والشيوعي، أسفر عن اطمئنان هؤلاء إلى مسوغ وظيفتهم وأدائها على الوجه الإداري والتنفيذي الأعمى.
فما تشترك فيه السوريات الثلاث، وهن يتشاركنه منذ بداية الحركة مع الآلاف من السوريين والسوريات، هو نصبهن القول الحر (ومعياره الصدق)، وتداوله والمداولة فيه، علماً على استقلال المرء (والمرأة) بالرأي والإقبال على المداولة فرداً مجتهداً ومختلفاً. ولا يدرك هذا إلا من طريق الاقرار بالمنازعة والعبارة عنها علناً، والمداولة فيها وفي موضوعاتها. وطلب الوحدة واستعجال "تجاوز" الخلافات في أطر تمثيل وتكليف مشتركة ثم واحدة، وإسكات الفروق بين الجماعات الأهلية والمحلية والقومية والطبقية والسياسية، قرائن على إلحاح نازع السلطان الواحد على "الرعايا"، سياسيين ومثقفين. والسوريات الثلاث داعيات سياسة، ومزاولات سياسة من نوع آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق