المستقبل، 29/1/2012
تتردد في مقالات الاسلاميين السياسيين المعاصرين، إخوانيين وسلفيين و»جهاديين» وخمينيين وأصوليين ومعتدلين ...، أصداء مناقشات فقهية قديمة أو أقل قِدَماً. وإلى اليوم لم يتولَّ اسلاميون الحكم. ولكن مثال الحزب الدولة الاسلامي يرتسم في ثنايا مقالاتهم، من حيث أرادوا أو جهلوا (عطفاً على «نوافذ» المستقبل، في 7/1/2012). والحق أن المثال هذا يبدو طوراً من مثال سابق هو مثال الأمة الدولة، على صورة تناولها قاضي القضاة الحنفي ببغداد في بعض عهد هارون الرشيد، أبو يوسف (ت 176هـ)، في «كتاب الخراج». ويدور الكتاب على الاقتطاع. ويربط ربطاً جلياً ووثيقاً بين الاقتطاع (والخَراج من وجوهه ليس إلا)، وبين عدل الامام. وهو يؤرخ للعدل، أي ينسبه، بتعقب آثاره صعوداً الى حلقاته الاولى أو أجداده الأُول، الرسول وخلفاء الصدر الاول وبعض أبرار الصدر الثاني ومهرة إدارييه ومنظميه. ولا شك أن ما يكفل العدل ويسن قواعده هو الاسلام. ولا ينفصل الاسلام عن نظام الجماعة واجتماعها، أي عن وحدتها، وما يحفظ نظام الاجتماع هو الحق، والحق هو ما يحفظ نظام الاجتماع. أي ان المسألة السياسية، إذا جازت العبارة، تحمل على الصلة بين الاقتطاع وبين السلطة وما يترتب على هذه الاخيرة من عدل وابتاع وتوحيد (موضوعه الجماعة او الأمة).
قد يسارع قارئ الخراج الى وصم الكاتب بالاقتصادوية، أي برد المسألة السياسية الى الاقتصاد وأوالياته. وقد يهلل لما يبدو له استباقاً لمنحى مادي في تناول التنظيم الاجتماعي. غير أن تناولاً متأنياً لنسق الكتاب في معالجة موضوعه يبعد الوصم والتهليل معاً ويمهد، ربما، لنظر في «عمل الأثر» (كلود لوفور).
لماذا يدور حفظ اجتماع الامة وعدل الامام على الخراج (وهو التسمية العامة للاقتطاع)؟ أو لماذا يمثل تدبير الخراج شرطاً أول من شرائط الامة وعدل الإمام؟
ينطوي كتاب أبي يوسف على جواب قد يبعث على الاستغراب إن لم يبعث على الانكار. يقول أبو يوسف، وهو يقول ما أضعه على لسانه بتطويل وتعرج لا يحجبان فحوى قوله، يقول: يقوم نظام الامة بأمرين متلازمين هما الحرب (مصدر الغنم) والمراتب (قواعد القَسْم). ويعمد القاضي الحنفي الى رصد تاريخ الامة، منذ تأسيسها الى عصره، من زاوية هذين الامرين وعلاقاتهما المعقدة في آن. فإذا هو تاريخ حرب أو تاريخ استقرار تولد عن الحرب وتبلور مراتب وطبقات تسوس ثمار الحرب وريعها.
لم تعرف الامة، في رواية أبي يوسف، حالاً إلا وبينها وبين الحرب سبب. فصيرورة الامة أمةً تتلازم مع مصائرها في القتال. ويرتسم هذا التقرير في حديث المغيرة بن شعبة الى رستم، كبير الفرس، عشية القادسية، في شأن مجيء العرب المسلمين الى العراق، يقول المغيرة:» كنا قوماً في شقاء وضلالة، فبعث الله فينا نبياً فهدانا الله به ورزقنا على يديه فكان فيما رزقنا حبة زعموا انها تنبت في هذه الارض فلما أكلنا منها وأطعمنا أهلينا قالوا لا صبر لنا حتى تنزلونا هذه البلاد فنأكل هذه الحبة». فالهداية التي يدل بها الفاتح على خصمه تنطوي على خبر «طيب» ينجم عنه خروج الذين يتلقونه من دارهم أو بلادهم الى دار غيرهم حيث تستنبت الحبة التي لا صبر لآكليها عنها. وما يستوقف في جواب أحد فرسان القادسية وأبطالها أن الحبة المشتهاة والتي يتكلم عليها إنما هي حبة «تنبت»، أي أنها ثمرة برية لا يتعهدها أحد ولا يستنبتها «علوج» و»رجال» و»فلاحون» كما كان عمر بن الخطاب مثلاً يعرف حق العلم. لذا، فالمغيرة لا يرتاب في ما ينبغي أن تعود به عليه الهداية التي يدل بها: الخروج بالاهل الى حيث الحبة وأكلها. إلا أن الخروج والاكل هذين يستحيلان طبعاً من غير حرب واستيلاء وملك. فمعشر العرب بعث الله منهم نبياً أخبرهم بأشياء ووعدهم فيما وعدهم أن سيملكون «ما ها هنا (ويغلبون) عليه»، بحسب خطاب المغيرة الى ملك نهاوند الفارسي.
فتوح «الحبة»
إلا أن الخروج من الجزيرة طلباً للحبة وسعياً وراءها ونشراً للهداية لا ينفصل عن الحروب الداخلية التي كانت الجزيرة مسرحها وكنفها. ولم يكن هذا الكنف انطواء مكانياً وزمانياً عارضاً، أي لا يحتم نتائج في المسار اللاحق، بل كان وقت التأسيس الذي أرسى قواعد الوجهة التي تحدرت منها ونجمت عنه. فالجماعة التي يجعل الحديث من مفارقتها بمثابة نزع ربقة الاسلام، هذه الجماعة لم تجتمع ولم تأتلف إلا في سياق الحرب وبالحرب. فالمرجع القرآني الثابت الذي يرد اليه الخراج هو الآية الواحدة والاربعون من سورة الانفال، والتي يربط التفسير بينها ويبن قسمة الرسول غنائم بدر. ويتألف الاجتماع الاسلامي، في ضوء الآية المذكورة، من فئتين كبيرتين: الله والرسول وذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ومن الجند الذين أصابوا المغنم. وتجمع الفئة الكبيرة الاولى فئات متباينة ساوى بينها الرسول فكان لله وللرسول سهم، ولذي القربى سهم، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم. وإذا كان ما يجمع بين أصحاب الاسهم الثلاثة الاخيرة جلياً، وهو العجز والعالة، فإن وضع الله والرسول وذوي القربى الذين يتبعون الرسول معهم أمر يدعو للمسألة.
فالله والرسول شرط المقاتلة، أي شرط قتالهم وشرط اجتماعهم. والراية التي يقاتل تحتها رايتهما. وكل قتال ليس تحتها اقتتال وتظالم، لأنه قتال في صفوف الجماعة التي طردت العنف من داخلها منذ ان صدعت بالحق واجتمعت كلمتها عليه. إلا أن العنف الذي طرد الى خارج الجماعة لم يلغَ طبعاً بل نقل نقلاً وأنيط به اختطاط حدود الجماعة: حيث العنف مشروع يبدأ الخارج ومعه الآخر الذي يقيم فيه ويقطنه. ولكن هل يسوّي اجتماع الجماعة، وإصلاؤها الخارج الحرب، الداخل؟ وهل يمحو الفوارق والمراتب؟ تنبه قواعد الاقتطاع والتوزيع الى قوة الفرق بين القادرين على الحرب وبين العاجزين عنها. وإذ يطلق الاسلام إرادة الحرب على غير المسلمين، ويجعل من دعوتهم إليه (هدايتهم) فرضاً وركناً، فإنه يميز تمييزاً لا لبس فيه الحرب التي تنجم عن التفاوت في القوة من تلك التي تنجم عن الحظ في الهداية. فالاولى (الحرب التي تنجم عن التفاوت في القوة) لا يرمي الاسلام الحرم عليها فحسب، وذلك في آيات معروفة، بل يقلبها ويستل منها نقيضها جاعلاً من رعاية اليتيم والمسكين وابن السبيل (من مال الصدقة ومن فيء الخراج اللذين ينبغي فصلهما) فرضاً على الجماعة وعلى إمامها، بل أن التوزيع الذي يعود على اليتامى والمساكين وابن السبيل بالحصة التي يعود عليهم بها إنما هو تطهير للحرب الاخرى وانتزاع لها من براثن القتل والعنف «الطبيعيين« (الجاهليين في الرواية الاسلامية).
ويفرق التوزيع، أو القسم الاسلامي بين ضروب العنف. فالعنف الذي يحمل الجماعة على حرب غير المسلمين من أهل الكتاب ومن كفرة يجد نظيره المعكوس في تخميس الغنائم، أي في رعاية مستضعفي الجماعة وفي الجمع بين هؤلاء وبين النصر على العدو وسببه الله والرسول. أي ان الجماعة تعمد في الآن الذي تمثل فيه ثمرة العنف عارية، عند جمع الأسلاب والغنائم، إلى نزع الصفة الطبيعية العارية عن العنف. فيحصل التوزيع على المقاتلة، ليس تبعاً لما غنموا فرداً فرداً، بل تبعاً لقاعدة عامة تساوي فيما بينهم ولا تبقي من الفروق إلا على فرق عام يقبل بدوره التجريد وهو ارتباط الخيل.
وتتضمن قاعدة التوزيع على الاسهم مكافأة عامة بين المقاتلة، بما هم صورة الجماعة، وبين الحرب، بما هي امتحان للجماعة ووحدتها. لذا، فإن ما يعود للمقاتل مهما بلغ بلاؤه، ينبغي ألا يتعدى السهم الواحد، أو الحصة الواحدة. الامر الذي يعينه جزءاً من كل الجماعة أو عنصراً ملحقاً بهيئتها التي أتاحت لها الحرب الاستواء والتألف. والامر الذي ينفي من الجماعة نفسها التباين والتفاوت والمراتب البارزة يحيل سهم الخيل المضاف الى جزاء على الرغبة في ارتباطها «في سبيل الله». ولكن ما أن تستوي الجماعة، من طريق المقاتلة، كلاً متجانساً ونافياً طبيعة العنف وجسمانيته وفرديته، حتى تستحضر غائباً اساسياً وتضع جانباً الخمس الذي يعود إليه حكماً وشرعاً. ويتيح استحضار الغائب هذا توكيد نفي طبيعية العنف. فالخمس المذكور لا يعود فحسب لمن لم يقاتلوا، لغير المقاتلة، بل يعود لمن يملي منطق الحرب الخالص، لو أن للحرب منطقاً خالصاً لا يلجمه حدّ، الظهور عليهم وسبيهم وفرض الخراج عليهم. فاليتامى والمساكين وابن السبيل هم الشطر المستضعف من الجماعة، الشطر الذي كان ضعفه وضعه خارج الجماعة لو كانت الجماعة مجتمع حرب أو مسرحاً لعنف الداخل. وهم الشطر الذي لا يشترك في الحرب اشتراكاً مباشراً في حين تبدو الحرب فيه عامل توحيد للجماعة وتحقيق عيني لتكاتفها واجتماعها وتآلفها. ولذا، تبدو وظيفة الخمس مزدوجة: فهو من جهة قرينة على استبعاد العنف من علاقات الجماعة الداخلية وعلى ادراج المستضعفين في الجماعة، وهو من جهة أخرى يشرك الضعفاء في الحرب بحل الحرب في ثمريها، ويؤلف بين الجماعة على رغم التفاوت الجلي بين المقاتلة وبين غير المقاتلة.
الحرب العادلة
والحرب التي ينصر الله بها دينه وتجتمع بها الامة هي الحرب التي تقوم بها أمة مجتمعة. فالحرب تجمع الامة إلا أن أمة غير مجتمعة هل بوسعها أن تقوم بحرب لا تقع في مهاوي العنف والفرقة والظلم؟ فكما أن الحرب التي ينصر الله بها دينه تساوي بين الذين يشتركون فيها وتجعل من الواحد منهم سهماً فتمثل الجماعة على صورة الحد والحق، كذلك فإن «امر الامة» (السياسة أو الامامة أو الخلافة) لا يستقيم إلا بتواري متقلد الامر وامحائه في ضوء الحدّ أو الدين. وكتب أبو يوسف يقول إن عمر كان إذا استعمل رجلاً اشترط عليه أربعاً: أن لا يركب برذوْناً، ولا يلبس ثوباً رقيقاً، ولا يأكل نقياً، ولا يغلق باباً دون حوائج الناس ولا يتخذ حاجباً. ومن الجلي أن لاءات عمر ترمي الى الحؤول بين عامله وبين «فِراق» الجماعة أو الامة، ليس بمعنى الفرقة السياسية بل بمعنى الانسلاخ عن الجماعة.
فمآل الانسلاخ، فيما يرى عمر، في مرأة الشرائط التي كان يشترطها، تبلور الامر (تقلده) في طرف مستقل ووضعي. فالبرذون يرفع راكبه فوق الناس، والثوب الرقيق يميز لابسه ويدل عليه، والنقي ترف لا يقدر عليه الجميع، أما إغلاق الباب واتخاذ الحاجب فيجسمان من غير لبس ليس الانفصال فحسب، بل عدم اجتماع الجماعة أيضاً. إن ارتكاب الامور التي يمنع التقليد العمري منها لا ترفع بشراً فوق بشر فحسب، أو توسع الشقة بين الجماعة وبين نفسها، بل يلحق الحد بصاحب الامر أو متقلده. فالحد ينفك من القيام بنفسه، غير مدين بقوامه لسواه. وإذ انفك الحد من ذلك، فإنه يحمل حملاً على أن يدين بفعله وأثره الى ما عداه، إلى صاحب الامر أو الى الامر، والى القوة التي تتخايل وراءهما.
وتتدرج أحكام الحرب من الحرب الضيقة التي يعود الدور الاول فيها الى قرشيين، الى مقابلة عامة بين «العرب» و»الارض العربية» من جهة وبين «غير» الحكم فيه خلاف الحكم في العرب وأرضهم ولا يعرِّفه سوى اختلافه. ولا يسعى الاسلام في طي الاختلاف أو في استدراكه. بل إن الاسلام يشرِّع للاختلاف ويرسيه على الحرب، اي على توزيع غنائمها، وذلك باستبعاده القاطع لتخيير العرب بين الاسلام وبين البقاء على دين غير الاسلام. «إلا ما كان من أرض الحجاز والمدينة ومكة واليمن» (ص 6) بوسع أهل الارض أن يختاروا بين أن يسْلموا على أنفسهم وعلى أرضهم. فإن فعلوا «فإن دماءهم حرام وما أسلموا عليه من أموالهم فلهم وكذلك أرضوهم لهم وهي أرض عشر» وبين أن تفتح بلادهم عنوة. فإن لم ير الامام قسمتها ورأى إقرارها في أيدي أهلها فهي أرض خراج وإن قَسَمتها بين الذي افتتحوها فهي أرض عُشر وحرية الاختيار بين الاسلام وبين الخراج (والجزية التي تتبع الخراج) حرية تحدها أرض ويحدها عرق.
فعرب الارض العربية، أي عرب شبه الجزيرة ليس بوسعم أن يتوزعوا على فئتين أو إلى طبقتين: فئة أهل العشر من الفاتحين من جهة، وفئة أهل الخراج والجزية من جهة ثانية. وبعبارة أخرى، يمنع الاسلام على العرب وعلى المسلمين أن يغلبوا عرباً وأن يجعلوا من غلبهم هذا حالاً يقيم عليها الغالبون والمغلوبون. أي ان القول: العرب من عبدة الاوثان حكمهم الاسلام أو القتل، يعني أن لا مغلوبين بين العرب، لا الآن، مع قيام الاسلام، ولا لاحقاً. وينحو التدبير في صيغته العامة، نحو حل مشكلة التمييز بين عرب مغلوبين وبين عرب غالبين باللجوء إلى إفراغ الارض العربية من الاول، إما بطردهم أو بقتلهم أو باسترقاقهم كما حدث فعلاً وعملاً باليهود.
وتكمن وحدة الاجراءات هذه، مجتمعة أو متعاقبة، في الحؤول بين عرب وبين تكوين اجتماع مغلوب أو مجتمع مستتبع. فالرقيق مباح، والسّبي مباح، والقتل مباح، والعُشر الذي يخرج الارض من بين يدي الغالبين بما هم أفراد مباح. ومآل هذه التدابير جميعاً حل الجماعة المغلوبة ومنعها من أن تحفظ فيما بينها علاقات اجتماع تشدّ بين أقسامها وتضعها بمنأى من تدخل الغالب المباشر. ولا شك، من جهة ثانية، في أن مآل التدابير المذكورة دمج العرب «المغلوبين» في قوام العرب الغالبين بل وحملهم على اقتسام الغنم الذي يتحصّل عن الغلبة «ليبلغنّ الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه». غير أن ما يفترضه مثل الدمج والاقتسام هذين هو التخلي عن قوام استقلال الجماعة والتنكب لما يقيها التفكك والانصهار في الجماعة الاوسع. ذلك أن ما ينزع إليه الدمج والاقتسام، في المقابل، هو تحقيق تطابق كامل بين الارض والاهل والحدّ، أي بين أرض العرب والعرب والاسلام. فالتطابق المذكور وحده يجعل من أرض الاسلام الأولى ومن أهلها حصناً حصيناً لا يُدرك ولا يُطال.
مراتب التوزيع
والفروق التي يجعل منها توزيع عمر بين الخطاب مراتب لا تصدر عن الحرب المعلنة وحدها، أي عن بدر في المصاف الاول: «لمن شهد بدراً... ولمن لم يشهد بدراً... لمن كان له اسلام كإسلام أهل بدر...». فأزواج النبي اللواتي فرض عمر لهن عشرة آلاف عشرة آلاف، وخص عائشة من بينهن بإثني عشر ألفاً، فقدَّمهن على أهل السوابق والقدم من المهاجرين والانصار ممن شهد بدراً، أزواج النبي لم يشهدن بدراً، طبعاً. كذلك، فإن عمر لم يجعل أهل بدر طبقات في البلاء بل جعلهم طبقات في القرب الى النبي «الأقرب فالأقرب الى بني هاشمَ...». أي ان الفروق في التوزيع من معين القرابة معيارها. فالقرابة مرجع. وإذ يدعو عمر باللوح ليكتب أسماء أصحاب أعطيات يسأل: «بمن أبدأ؟» فيقول له عبد الرحمن بن عوف:»إبدأ بنفسك». فيستنكر عمرالامر، ويقول:» لا والله ولكن أبدأ ببني هاشم رهط النبي». ثم يتدرج الى الاقرب فالأقرب.
والقرابة العربية ليست مرجعاً للتعريف فحسب، أو بعبارة أدق لا يقتصر التعريف بوساطة القرابة على توزيع علاقمات نَسبية (من نسب) مجردة. فالله لم يبعث من معشر العرب نبياً من عامتهم بل بعثه «في شرف من أوسطهم حَسَباً»، بحسب المغيرة بن شعبة في خطابه الى ملك نهاوند الفارسي. والحسب منعة وقوة، أي أنه عامل من عوامل الحد من تصاعد العنف الذي يعصف بجماعة من الجماعات، ويهدد بأن يتطاول الى مراتبها العليا. فالمراتب، في تصاعدها وتساميها، لا تضع بشراً فوق بشر ولا تسخر بشراً لبشر فحسب، بل ترفع دية العنف وذلك بإيلائها ثمناً كبيراً ومرتفعاً للقتلى المحتملين الذين يتربعون في رأس الهرم الاجتماعي. ولما كانت دية القتيل المنيع قتيلاً من مرتبته، وليس عدداً من النوق ولو كانت عُمانية، نجم عن ذلك حرص عام على الحؤول بين الحرب (الداخلية) وبين أن تتخطى حداً معيناً.
فالحرب مصدر هذه المراتب وأمها. إلا أن ما يحد من مصدريتها ومن أمومتها، أي من اطلاقهما، فينتصب في مقابلها معياراً آخر أو مصدر آخر للتغيير هو القرابة ودرجاتها. ولا شك في أن المصدريْن يردان في نهاية المطاف الى بؤرة واحدة هي محمد، نبي الدعوة، إلا أن نبّي الدعوة في المنظور العمري غدا مُركباً يتألف من عناصر غير متجانسة وإن لم تكن متنافرة. فالحسب الوسط، رهط بني هاشم، لا يدين لنبي الدعوة بمكانته ومرتبه، بل إن المسلمين لم يروا غضاضة، من عمر الى ابن خلدون مروراً بالمغيرة، في الاقرار بما تدين به النبوة من مناعة لحسب النبي في قومه وشرفه بينهم. والحَسب ذو قوام خاص لا يتضمنه الاسلام ولا يصدر عن الاسلام على رغم أنه لعب دوراً في منع الاسلام وحفظه. وهذا الحسب، المستقل، يرد إليه توزيع عمر الجديد ويدرجه معياراً من معياريْه. الامر الذي يتيح لعمر، بين أمور أخرى يتيحها، تقريب بني أمية بن عبد شمس وإيلاء عائشة مكانة فريدة، إلى جنب مكانة العباس بن عبد المطلب. فينتقل من إسلام الحرب، الذي تتنكب مساواته الحادة للمراتب السابقة، إلى اسلام مستقر يستعيد بعضاً من المراتب السابقة هذه ويدمجها في صلبه. وقد تلازم هذا الانتقال مع مصالحة قرشية من جهة، ومع مطابقة صارمة بين العروبة (شبكة القرابة الاوسع) وبين الاسلام في الجزيرة.
وفي الاحوال هذه كلها تقوم الامامة مقام الخازن. إنها خازن التاريخ والزمن والأمة والمعاش. فهي المؤرخ والمستبق والناشر والجامع. غير انها عاجزة عن القيام بمهامها هذه، وهي كلها مهام تراكم، إن لم تمسك بناصية الحرب وزمامها. بل إن سطوتها تنبثق من إمساكها بناصية الحرب، الماضية والمقبلة. لذا، فهي تؤرخ بالحرب كما تؤرخ للحرب، وتستبق الحرب إذ ترمي بنظرها الى الآتي، وتبسط الاسلام بالفتوح، وتعد بخزن الخراج وجمعه لحروب الحدود الخارجية (المدن العظيمة) وحروب الثنايا (الثغور)، وتمنع الحرب الداخلية والاقتتال بحبس الارض وفلاحيها وخراجها، وبإخراجها من الغنائم، وتقيم الفروق والطبقات بين الامة الواحدة بنسبتها الى حروب الاسلام وإلى كتل القوة السابقة عليه. فما اجتمع اجتمع بالحرب، وما اختلف وتباين اختلف وتباين بها. ولا تستقيم إقامة الحدود ورد الحقوق على أهلها إلا إذا مثلت الحرب، وما تجمعه وما تفرقه، في الافق، وكتاب الفقيه الحنفي نفسه علام يدور؟ على ثمرة الحرب طبعاً.
الجماعة و«سرها»
ولا تقتصر الحرب على الحرب. وما يسعى أبو يوسف إلى فقهه والالمام به، ومتقفياً خطى الاوائل الكبار، هو الاحاطة بنظام الجماعة من جهة الحرب وبما هي سر هذا النظام ومرجعه. فالحرب هي ما يعقل به نظام الجماعة أو تعقل به الجماعة على هيئة نظام، تاريخاً وزمناً ووحدة وامتداداً وفروقاً. والخراج يتخلف عن الحرب الفعلية وقد وضعت أوزارها. غير أن الخراج ينصب الحرب في قلب نظام الجماعة وبؤرته. فالحرب التي تقوم بها الامامة باسم الاسلام لا تنحل في توزيع الغنائم ولا تنتهي عنده. فالامامة خازن الحرب وراعي ريعها. ولا تخلف الحرب أموالاً، أو ما هو بمنزلة الاموال فحسب. بل تخلف بشراً يملكون أرضاً كما يملكون سواعد وحاجات ومراتب ومعتقدات وثقافة، أي أنها تخلف شعوباً يعيش بعضها في جوار العرب المسلمين الفاتحين، ويعيش بعضها الآخر بينهم. وفي كلتا الحالين تعيش هذه الشعوب تحت الفاتحين الجدد، في ذمتهم وعهدهم. والشعوب المغلوبة، أكانت علوج السواد أم أهل الذمة وأهل الكتاب، «مادة المسلمين»، بحسب قول علي بن ابي طالب. وهم أصحاب «الحبة» (المغيرة بن شعبة). وهم «الجماجم» التي احصاها عيّاض بن غنم و»جعلهم جميعاً طبقة واحدة» ثم أحصاها الضاحك بن عبد الرحمن الاشعري في عهد عبد الملك بن مروان وجعل الناس «كلهم عمالاً بأيديهم» (أي طبقة واحدة متجانسة). وهم «الرؤوس» و»الرقاب» التي يجب ختمها في وقت جباية الجزية. كما فعل بهم عثمان بن ضيف. وهم «أهل السواد» الذين أرسل علي مائة فارس في شكوى لهم فرجع قائد المائد يقول: «لله عليّ أن لا أرجع الى السواد أبداً»، فيعقب أبو يوسف شارحاً: «لما رأى فيه من الشر«.
المادة والجمجمة والرأس والرقبة، عدا الفلاح والعامل والعلج، كلها تسميات تبيح المساواة في طبقة واحدة، حين كانت الادارة العمرية تقيم المراتب بين المسلمين العرب، وبخاصة بين الاوائل منهم. وذلك أن السلطة تنزع الى تنظيم مادة متجانسة قدر الامكان وتجعل من التجانس والتمهيد شرطاً من شروط فعلها الناجع.
وكان الجوار الذمي والمشرك، في الرساتيق والمدائن والامصار على حد سواء، من عناصر نظام الجماعة البارزة، بالمعنى الحرفي للصفة. وكان الجوار هذا ذا أوجه. ففي حال بني تغلب، في العقود الاولى للاسلام، طغى الوجه العسكري. فصالحهم عمر بن الخطاب على «أن لا يغمسوا أحداً من أولادهم في النصرانية ويضاعف عليهم الصدقة ويسقط الجزية عن رؤوسهم. وصاغ أبو يوسف القاعدة والاستثناء وحدود الاستثناء فقال: «والجزية واجبة على جميع أهل الذمة ممن في السواد وغيرهم من أهل الحيرة وسائر البلدان من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والسامرة ما خلا نصارى بني تغلب وأهل نجران خاصة». وأما في المدن فطغى على الجوار الذمي الوجه السكني والتجاري. ويفتي أبو يوسف بجواره صراحة:» ... ويُتركون يسكنون في أمصار المسملين وأسواقهم ويبيعون ويشترون...». ويرسم القاضي باقتضاب لوحة مهنية للذميين ويصنفهم طبقات بحسب ثرائهم ودخلهم.
وطرح الجوار الذمي مشكلة صعبة. فالذميون، مغلوبون، أغلبوا في حرب دارت دوائرها عليهم أم غلبوا حين أحجموا عن خوض غمار الحرب حباً بالحياة وخوفاً من الموت، بحسب قول خالد بن الوليد. ولم يشك المسلمون، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب مرة أخرى، في أن الفتوح والانتصارات أمارة قاطعة على علو كلمة الاسلام، دين الله الحق. فالحرب حجة تفوق الحجة الميتافيزيقية قطعاً وجلاء. ولم تقتحم الحجة الميتافيزيقية، أو الخوض في علم الكلام كما قيل عندما آن أوان الحجة هذه، لم تقتحم مضمار المقال إلا عندما انكفأت الحرب أو جلت عن الموضع الذي احتلته طويلاً.
وكان الخراج ترجمة سياسية و»اقتصادية» للغلبة التي تمخضت عنها الحرب. فهو الدليل الماثل على أن الذمي، الميقم على «اعتقاد الذمة» من الفاتح المسلم (خالد بن الوليد)، «مادة» المسلم. وهو الدليل على ان الحق غالب، كما الله نفسه، بالاسلام والمسلمين والامام. ولكن الخراج، والذمّي معه، دليل ملتبس لأنه مزدوج ومتناقض. فهو من جهة علامة على العلو والرفعة والشوكة و»الوطء» (المغيرة بن شعبة). وهو من جهة ثانية، أمارة مقيمة وحية على المقاومة التي تجبه الاسلام وسلطانه على العقول والاجتماع. وذلك أن الخراج لم يوضع، والجزية معه، إلا في أعقاب تخيير صريح: إما الجزية وإما الاسلام. وحكم أهل الذمة، وأهل الحرب عموماً من غير عبدة الاوثان العرب قبل أن يدخلوا في ذمة المسلمين ويعاهدوهم، حكمهم إذا أسلموا على انفسهم وأرضهم «فإن دماءهم حرام وما أسلموا عليه من أموالهم فلهم وكذلك ارضهوهم لهم وهي أرض عشر ... لا يخرجون عنها فيما بعد ويتوارثونها ويتبايعونها وكذلك كل بلاد أسلم أهلها فهي لهم وما فيها...» وهو حكم سمح من دون ريب، بل هو حكم يستدرج أهل الذمة الى الاسلام ويحدوهم على اعتناقه متوسلاً إلى ذلك برفع عنت رمزي ومالي كبير.
وعلى رغم ذلك، فإن أهل الذمة مقيمون على إيمانهم وثقافتهم، أي على فراقهم جماعة تعرف اجتماعها، في وجه من وجوهه، بغلبتها على أهل الذمة. ولذا عمدت الجماعة، أي أئمتها وعمال إمامتها، الى تنظيم الجوار الذمي على نحو متعارض. ففرض الائمة وعمال الأئمة على الذميين ضرباً من الخفاء والستر. وهو ما يشهد عليه قسم قائد المائة الذي سبق ذكره، وحلف ألا يعود الى السّواد لما رأى فيه من الشر. وما يشهد عليه أيضاً اشتراط عمر على بني تغلب أن لا ينصِّروا أولادهم، وصلح أبي عبيدة بن الجراح أهل الذمة بالشام على «أن لا يحدثوا بناء بيعة ولا كنيسة... ولا يرفعوا في نادي أهل الاسلام صليباً ولا يخرجوا خنزيراً من منازلهم إلى أفنية المسلمين... ولا يضربوا نواقيسهم قبل أذان المسلمين ولا في أوقات آذانهم ولا يخرجوا الرايات في أيام عيدهم...». وقد أفتى ابن عباس في إحداث العجم بيعة أو كنيسة في أمصار المسلمين بمثل ما ورد في عهد أبي عبيدة. وكتب عمر بن عبد العزيز الى عامل له في هذا الشأن فقال بحزمٍ: «أما بعد، فلا تدعن صليباً ظاهراً إلا كسر ومحق...».
وتنم هذه الامثلة، والتي تراوح بين رد فعل ذاتي وبين تنظيم مؤسسي، بإرادة وأد ثقافي. فعمر الذي منع قسمة السواد على المقاتلة الذين شهدوا وحضروا، وذلك باسم ذريتهم هو من اشترط على بني تغلب مقايضة رفع الجزية بمضاعفة الصدقة وبالكف عن تنصير أولادهم. والشرط الثاني، وهو غاب من عهد أبي عبيدة وكتاب ابن عبد العزيز الى عامله كما غاب من فتوى ابن عباس وفتوى أبي يوسف نفسه، هذا الشرط مفاده العملي استئصال المعتقد التغلبي وقصره على أحياء بني تغلب الحاضرين والشاهدين دون ذراريهم. وما الممنوعات المفصَّلة في النصوص إلا تنظيم للصمت والخفاء اللذين ينبغي أن يلفّا علامات اجتماع أهل الذمة، من أماكن عبادة وشعائر وشارات. أي أن الذمي المقبول هو الذمي الذي تحرر من كل ما يشهر، أمام أنظار المسلمين، علاماته الفارقة.
والممنوعات كأنها تقول إنه لا بأس من استمرار المعتقد، ومن الاقامة على الايمان شريطة أن يغيبهما البيت والصدر، كما يطوي السّواد العلوج وشرهم المستفحل وكدهم وعرقهم. فالحرب، في عرف الامامة، لم تعد سلاحاً على سلاح أو شوكة على شوكة، بل نزعت من «الجماعة» العدوة مدار اجتماعها وآصرته، وأحالتها الى جماجم وأعناق وسواعد وعدد، وإلى مصدر ريع. وكما أن الخراج استمرار للحرب بوسائل أخرى، تعرف الحرب المغلوب بالانتاج والاقتطاع وتحيله الى مادة. كذلك فأن محق ما يتحلق اهل الذمة حوله استمرار للحرب عينها بوسائل ترمي الى تصديع قوام اجتماعهم الرمزي والتاريخي.
إلا أن الامامة بقدر ما سعت الى حجب شارات المفارقة الاجتماعية (نسبة الى الاجتماع) الذمية، سعت أيضاً الى اظهار شارات هزيمة هذا الاجتماع والتحاقه ودونيته. فالتغلبي المعاهد نفسه تلحقه مضاعفة الصدقة كما تلحقه مضاعفة العشر إن هو اشترى أرضاً من أرض العشر. ورقاب أهل الذمة في وقت جباية الجزية تختم «ثم تكسر الخواتيم... إن سألوا كسرها» من العلامات الفارقة التي يلزم بها أهل الذمة (أن) لا يترك أحد منهم يتشبّه بالمسلمين في لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته ويؤخذوا بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات مثل الخيط الغليظ يعقده في وسطه كل واحد منهم وبأن تكون قلانسهم مضربة، وأن يتخذوا على سروجهم في موضع القرابيس مثل الرمانة من خشب، وبأن يجعلوا شراك نعالهم مثنية، ولا يحذوا على حذو المسلمين، وتمنع نساؤهم من ركوب الرحائل ... ولتكن قلانسهم طوالاً مضربة». ويصدق الامر بنسبته الى عمر بن الخطاب: «هكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر عماله أن يأخذوا أهل الذمة بهذا الزي وقال: حتى يعرف زيهم من زي المسلمين«.
فعلى الفوارق أن تخرج أهل الذمة إخراجاً ظاهراً ومرئياً من الجماعة ومن هيئتها. وينجم عن تلوين التفاصيل بروز الاجتماع الذمي الملحق بروزاً نافراً. وكأن ما رمى إليه المشرعون هو الحؤول بين الناظر وبين السهو عن انطواء المجتمع الاسلامي على غير مسلمين. ويرسم المركب واللباس والحذاء والشعر والسلاح صورة محسوسة لمجتمع ثنائي مؤلف من طبقتين او من كتلتين لا يؤول تداخلهما أو اختلاطهما الى الامتزاج بينهما أو الانصهار. ومفاد الصورة المذكورة إبراز الفارق بين الاسياد والمسودين إذا ما اختلطت الكُتلتان. وهو فرْق تخلف، طبعاً، عن الحرب. فالذمي منزوع السلاح والشوكة (وينبغي حمل العبارة على وجهها الحرفي كما ينص شرط أبي عبيدة في صلحه العتيد). وينبغي أن لا ينسى الذمي ذلك، كما ينزع إلى النسيان المزدوج ضعف السلطة، وارثة الحرب، وعجزها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق