الجمعة، 20 أبريل 2012

صناعة التلبيس والتدليس الإعلامية تحشر البشر في واحدِ عشائري ـ بوليسي


المستقبل - الاحد 15 نيسان 2012

أذاعت وزارة الداخلية السورية، في 17 آذار 2012، خبر "تفجيرين ارهابيين" قام بهما انتحاريان قادا سيارتين مفخختين. دوى الأول الساعة 7 والدقيقة الـ20 صباحاً بدوار الجمارك، والثاني، بعد دقائق، بساحة التحرير بين شارع بغداد ومنطقة القصَّاع. وسبق المقتلة هذه، وهي قتلت 27 " من المواطنين المدنيين وعناصر حفظ النظام" بحسب تصنيف الوزارة الامنية، سوابق ذكرت بها الوزارة العتيدة في المناسبة المروعة: في 23 كانون الاول 2011 هاجم "انتحاريان" مبنى ادارة امن الدولة وأحد فروع الامن فقتلا 44 مدنياً وأمنياً وجرحا 166، وفي 6 كانون الثاني 2012 قتل "انتحاري" بحي الميدان قرب مدرسة حسن الحكيم 26 ضحية وجرح 63 مدنياً و"من قوات حفظ النظام"، وقتل "تفجير ارهابي" بحلب في 10 آذار 28 مدنياً و"حافظَ" نظام وكان غرضه فرع الامن العسكري بالمحلق الغربي ومقر كتيبة قوات حفظ النظام بالعرقوب.

وأعقب مقتلة 17 آذار بدمشق انفجار سيارة مفخخة بحي السليمانية بحلب قرب كنيسة اللاتين، اليوم التالي، 18 آذار. وفي 19 منه، انفجر قتال بحي المزة بدمشق بين القوات الرسمية وبين منشقين "من ساعات الليل الى الصباح"، على قول معارض أكد "وقوع اصابات في صفوف القوات النظامية". وأحصى المرصد السوري لحقوق الانسان 18 جريحاً "على الاقل" في صفوف القوات النظامية، ووصف الاشتباكات بأنها "الاعنف من نوعها والاقرب الى المراكز الامنية في (دمشق) منذ انطلاقة الثورة السورية". وأوضح المراسل الناشط أن "سيارات اسعاف توجهت الى المكان من دون صوت إسعاف". واقتصرت "سانا" الرسمية على تعيين مسرح الحادثة بـ"منطقة المزة في دمشق"، من غير طرق ولا شوارع ولا ساحات ولا كنائس ولا مدارس. ونقلت "رويترز"، الوكالة الاعلامية البريطانية ومصدر تحريات صحافية دقيقة في الحوادث السورية، عن "سكان" دمشقيين أن مسرح الاشتباكات هو "منطقة الفيلات الغربية قرب منزل آصف شوكت صهر الاسد ونائب رئيس أركان القوات المسلحة".

وعلى حين يدقق الاعلام الرسمي، "سانا" الوكالة أو وزارة الداخلية، في الاماكن والاوقات التي تتناولها أخباره، وموضوعها غالباً هي عمليات إرهابية بسيارات مفخخة يقودها انتحاريون (على مثال معروف ومشهود هو مثال "القاعدة" في العراق الى اليوم)، يكاد الاعلام نفسه يسكت عن الاعمال الحربية والاشتباكات التي لا يتستر المعارضون المقاتلون على مبادرتهم إليها. فتتولى مصادر معارضة، حقوقية أو اعلامية، الإخبار عن الحوادث. وتكاد هذه القسمة، أي تولي الجهة المبادرة الى القتل أو القتال الاعلام عما تبادر إليه وتفعله، تكون قرينة على البادئ الفاعل. وهذا ما لا يرضاه "النظام" وينكره أشد انكار. ولكن أحداً من المحترفين أو من الجمهور وعامة الناس لم يغفل عن إسراع أجهزة أخبار الحكم البوليسي بسوريا الى إذاعة وصف عمليات القتل بالسيارات المفخخة والانتحاريين. فتذيع الاجهزة، في الدقائق التي تلي الانفجار والقتل، معلومات عن المتفجرات وزنتها، وعن نوع العملية، وتعد بفحص الحامض النووي وتسمية المجرمين. ويقارن المستمع بين "غزارة" الاخبار السورية الرسمية وسرعتها وثقتها الشكلية وبين شح نظيرها العراقي، على سبيل المثل القريب والمستمر، أو اللبناني، وطول الوقت الذي يقتضيه تمييز العملية الانتحارية من العملية الموقتة (بواسطة ساعة أو ذبذبة هاتف تفجير أو آلة تفجير)، فيقع المقارِن على أعاجيب أمنية.

رعية المتفرجين

وإذا لم يكن العمل "تفجيراً انتحارياً" أذاع الجهاز الرسمي والبوليسي، "سانا" أو التلفزيون أو وزارة الداخلية، أخباراً غريبة اقتصرت اذاعتها على الجهاز وانفرد بها. فموقعة المزة في 20 آذار، هي في "الوسيط" التلفزيوني كنايةعن عملية مداهمة تولتها "قوات حفظ النظام". فهاجمت القوات "عصابة ارهابية مسلحة"، على التسمية النوعية التي أشاعها الجهاز الرسمي. وتترتب على التسمية فروع الخبر وتفاصيله. فالعصابة الارهابية اتخذت "أحد المنازل"، من غير موقع ولا قرب ولا بعد، "ضمن منطقة سكنية"، لا يعلم أحد حتى اجهزة الامن التي تعد 15 (أو 16 أو 17) جهازاً أين يكون "المضمون" هذا، "وكراً" على ما يليق بالعصابة، في طبعها ونحيزتها وغريزتها. ويطمئن الجهاز رعية "المواطنين". فقتلى الارهابيين في الوكر بأحد المنازل ضمن منطقة سكنية (3 مراتب تضمين على شاكلة دمية روسية، للمصادفة!)، ثلاثة، واعتقل رابع ("من ضمن" أي عدد؟) في انتظار عرضه على رعية المشاهدين والمتفرجين، ولم يستشهد إلا "عنصر من قوات حفظ النظام".

ويفرط التلفزيون في الاعلام والتدقيق والتفصيل، ويبالغ في الوصف والتقريب. فلا يحجب عن الرعية أن "الاشتباكات"، وهو يريد المداهمة، "أوقعت أضراراً مادية داخل المنزل"، وهو "اتخذه الارهابيون وكراً"، على ما ينبه الخبر مرة ثانية. و"الاضرار المادية" أوقعتها "القنابل والقذائف الآر بي جي (و) الاسلحة الرشاشة". ولم توقع "قوات حفظ النظام" ضرراً يذكر، بداهة. والتزاماً للأمانة والصدق، لا يقول الخبر المتلفز الدقيق أن الارهابيين أرادوا الاضرار بالمنزل أو ضمنه. فهم استخدموا ذخيرتهم "ضد قوات حفظ النظام"، لا غير. وأفرطت "سانا" في الصدق فوق افراط التلفزيون. فـ"الوكر" يقع في "بناء مخصص للسكن في منطقة المزة". فلم يتفق اتفاقاً أنه بناء سكني، على ما قد يحسب القارئ أو السامع المنحاز الى افتراض الصدفة. فإذا اتخذه الارهابيون وكراً فلغاية لئيمة في نفوسهم المريضة.

ولكن قوات حفظ النظام استبقت الغاية، وعطلت السعي. كيف؟ "دهمت فجراً"، وليس في أي وقت، الوكر "بعد إخلائه من العائلات القاطنة فيه". وقد لا تفهم الرعية الغرض الدقيق من البادرة الانسانية الرقيقة: فالاخلاء دعا إليه "الحرص على حياة (العائلات) وسلامتهم"، على ما تشهد أنقاض بابا عمرو والخالدية وباب السباع بحمص، وأحياء إدلب وبلدات ريفها القريب، والبلد في قلب درعا... وعلى ما توضح الوكالة. وهي ترجع في عدد القتلى الارهابيين: فهما اثنان، واما الثالث فاعتقل، وأما الرابع فليس موجوداً. وبرهان تماسك خبر الوكالة أن عدد البنادق الآلية التي غنمها حافظو النظام 3 بنادق فقط: للقتيلين بندقيتان وللأسير (أو المعتقل الجاني وليس الاسير المحارب) واحدة. فمن أين جاء التلفزيون بالرابع؟

وأهمل جهاز "الإنباء" الصادق والصادر عن "السيف"، وليس عن "الكتب" و"الفلسفة" ("الوطن") وصور "اليوتيوب" المزورة وأخبار الشهود الكثر المختلقة والمسترسلة في جزئيات لا طائل منها، أهمل تقولات مصادر "رويترز" الثرثارة. فإلى عدد الجرحى وسيارات الاسعاف المخنوقة وموضع الاشتباكات وأدوار المقاتلين والوقت الذي دامته، يغضي الجهاز عن استقدام بعض قواته من ريف دمشق الى دمشق نفسها، ونشره ميليشيات في الشوارع القريبة وتجنبه الحجز بين الطرق بكتل إسمنت، وعن استعمال مدافع ثقيلة غير البنادق الآلية، ودوي انفجارات بجوار سوق حمادة، وقطع الكهرباء عن المصابيح في أعلى أعمدة الانارة. فهذا، وغيره مثله، علم لا ينفع وجهل لا يضر. وأما علم "السيف" الرسمي وإنباؤه فنفعه ظاهر ولا يمارى فيه: فمن يعلمه من المصدر الموثوق والواحد على خلاف جهل "رويترز" وشهودها المجروحين (مرتضى رشيد من "مجلس قيادة الثورة في محافظة دمشق"، "المرصد السوري لحقوق الانسان"، "سكان في دمشق"، "لجان التنسيق المحلية"، "سكان عبر الهاتف"، و"ربة منزل تقطن بالمنطقة") يميز يقيناً الصديق من العدو، وحرسي الأمن والسلام من المخرب، والوطني والعميل، والمنطقي المتماسك من الهاذي المسترسل. وهذا التمييز ربح صاف تجنيه الرعية ولا يخسره "النظام".

ولكن إنجاز إنباء النظام بواسطة السيف والفتوح ("يهاجم الجيش المسلحين بآلياته ودباباته ويقوض بناهم وينهي وجودهم المنظم، فتدخل بعده الاجهزة الامنية لتنظيف ما تبقى من هؤلاء وشن حملات دهم واعتقالات"، نقولا ناصيف، "الاخبار"، 20/2/2012، ص 4) ليس شيئاً، على عظمته الملحمية والناصيفية، قياساً على انجازه بواسطة فهم الرعية وعقلها المنظم والثاقب. ففي يوم التفجير، السبت في 17 آذار، وبعد ساعات قليلة عليه، كان "السوريون"، سوريو الاستفتاء الرسمي وجهاز أخباره وآرائه وأحكامه، يلهجون بلسان واحد معنى واحداً سبقت إليه وزارة الداخلية في بيانها الافتتاحي: التفجيران "جزء لا يتجزأ من استهداف الشعب السوري في أمنه واستقراره ويأتيان في ظل التصعيد الذي نشهده مؤخراً من أطراف اقليمية ودولية، الذي تكرس مؤخراً مع خروج دعوات ارسال الاسلحة الى سورية الى العلن".

مواطنو النظام

فما كان من "سانا" إلا أن انتخبت من المواطنين أولئك الذين أصيبوا في العملية المزدوجة وجرحوا. فهم الأوْلى بالشهادة والرأي، وهم ألسنة صدق لا يطعن انسان سوري في صدقها. فـ"ذكروا تفاصيل تعرضهم لهذه الجريمة البشعة التي ارتكبتها المجموعات الارهابية"، على ما يعمم جهاز التحريض الرسمي. ويجمع "الجرحى" المصابون "المواطنين" الى "قوات حفظ النظام"، بحسب المصطلح إياه، في باب واحد. ويقول مستصرحو "سانا" ومستفتوها ما قاله قبل أيام قليلة المقترعون على "ترهات" الاصلاح الدستوري، على قول "الرئيس المحبوب من 40 مليون سوري" و350 مليون عربي في بعض بريده الالكتروني (والمثال هو كيم إيل سونغ الجد: كان محبوباً من 70 مليون كوري: سكان كوريا "الديموقراطية" الشمالية وكوريا عميلة الامبريالية ونحو 10 ملايين كوري لم يولدوا بعد). كلهم قالوا:" هذه الجريمة تؤكد وحشية منفذيها وتجردهم من المشاعر الانسانية وارتهانهم لقوى خارجية تريد إرهاب الشعب السوري وكسر إرادته".

وما قالوه جماعة أو جميعاً قالوه فرداً فرداً. فقالت نهاد محمود، "الناجية الوحيدة من الميكروباص الذي احترق في دوار الجمارك":" مثل هذه التفجيرات الارهابية لن تزيد الشعب السوري إلا قوة وإصراراً على مواصلة مسيرته في الدفاع عن أمن الوطن واستقراره" (والامن والاستقرار هما فرعا وظيفة وزارة الداخلية ودورها ومهمتها). ويصف كيفوت باشايان، من حي القَصَّاع وهو مصاب وأخو مصاب، وصفاً دقيقاً وحسياً العمل الارهابي: فهو وأهل الحي "استيقظوا على صوت التفجير" و"شظايا الزجاج أصابت شقيقه بجروح عميقة". وعلى هاتين المقدمتين الكبيرتين والأليمتين يبني النتيجة الثابتة:" من يقوم بمثل هذه الاعمال الاجرامية لا يملك أي ذرة رحمة أو انسانية"، أي هو "وحش" و"مجرد من المشاعر الانسانية"، على ما مر للتو.

ويُصعد باشايان الأخ في معراج الفصاحة والبيان السياسيين، فيكمل: ان الاعمال الاجرامية "تندرج في اطار الحملة التي تقودها بعض الانظمة العربية التي تدعو الى تسليح من يرتكبون الاعمال الاجرامية بحق المواطنين السوريين". ولا شك في أن الاندراج هو، في حي القصاع، مصطلح عامي يتداوله سكان المباني السكنية والقاطنون حال إفاقتهم على الانفجارات الاجرامية، وتبادلهم أطراف الحديث مع جيرانهم. ويجزم محمد خليف الحمادة، سائق الحافلة الصغيرة وجريح دوار الجمارك، أن الديموقراطية والاصلاح ليسا إلا قناع "القتل والتدمير والتخريب". وتوج سمير الخالد، من غير تعريف ولا إصابة والحمد له كثيراً، تحليل المصابين بـ"رسالة لمن يتدخلون في شؤون سوريا الداخلية" (وهو عفّ عن أوباما ورجب طيب أردوغان، مخاطَبي بعض حكماء المعلقين ومجربيهم)، فينبههم الى أن "عهد الاستعمار القديم والوصاية ولى منذ زمن بعيد، وأن الشعب السوري اتخذ قراره بالوقوف مع برنامج الاصلاح الشامل". وهو "شامل" شأن كل ما ينهض إليه وكيل العشيرة والمؤتمن على سرها.

فإذا تصدت القيادة القطرية "للبعث" لإبداء الرأي في المجزرة تقلب بيانها بين "البيوت الآمنة والاحياء المستقرة"، وابتكر "للأمن والاستقرار" موصوفين جميلين. ولكنها لم تُبقِ "الارهابيين" غير مطلَّقين ولا معلقين. فنسبتهم نسبة قاطعة: "هم تكفيريون"، ويندرجون على ما كان كيفوت باشايان القصّاعي قال، "في اطار عملية تآمرية واسعة ومخطط لها منذ زمن تستهدف المنطقة بأكملها...". و"المنطقة بأكملها" تكني عن الجماعات الطائفية، وعن السابقة العراقية وقبلها اللبنانية. وفي الحالين تعهدت "روح حافظ الاسد" حماية الجماعات، والقصاع وحي حلب، حيان "مسيحيان" شأن السيوفي ومونو في أيار 2005 ببيروت. ولم يسقط في يدي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، ولم يستغلق عليها باب القول بعدما أتى المتقدمون على المعاني كلها. فمن هويتها الفلسطينية المقاتلة، وتصدرها الجهاد على أنواعه وطرائقه ومراتبه: جواً وبحراً وبراً وعراقاً وقبرصاً وطهراناً وفزاناً ويرموكاً ومجاناً وكيْلاً، نَظمت "المجازر الممتدة من غزة الى دمشق" في سلك واحد، وغاية واحدة هي "اغتيال روح المقاومة وثقافتها". و"ثقافة مقاومة" هي شعار حركة العميد السابق اللبناني البيروتي الطريق الجديدي مصطفى حمدان، قائد حرس فخامة اميل لحود الجمهوري، و"شهيد" تعسف ميليس (اليهودي الأم) "الحي"، ومجدد "المرابطون". وتوارد الافكار والألفاظ بين ألسنة الامة وخطبائها ومفكريها يدعو الى التفاؤل. فهو القرينة على مجيء وحدتها الوشيك، واستفادتها من "انحدار الغرب"، على قول الولي الخميني الصاروخي.

المواقيت

والحق أن التعقيب على العملية "الانتحارية" المزدوجة أو المثلثة يسدد حساباً سابقاً قريباً ويفتح حساباً متوقعاً وجديداً.. والحساب السابق القريب هو إعلان أربع دول في مجلس التعاون الخليجي في 16 آذار، بعد السعودية والبحرين، عن غلق سفاراتها في سوريا. وعللت الدول الاربع إجراءها بـ"(رفضها) تمادي النظام السوري في القتل والتنكيل بالشعب السوري الاعزل...". وتحمل أجهزة التحريض النظامية الاعلان وقبله الانسحاب الاميركي والفرنسي وبعده الياباني، على عدوان ووصاية جديدة ونازع امبريالي واستعماري، شأن المبادرات العربية السابقة، من إنشاء لجنة المراقبين في رئاسة الجنرال السوداني الطاهر الذيل، والناصع اليدين الذي وقع عليه اختيار وليد المعلم في ضوء مشورة جزائرية. وتخشى "الديبلوماسية" السورية، غداة انتداب أمين عام الامم المتحدة سلفه كوفي أنان مبعوساً دولياً وعربياً خاصاً الى "التوسط" في حرب النظام على السوريين، جلسات محلس الامن أو مجلس حقوق الانسان المتوقعة لمناقشة تقارير المبعوث الخاص أو توصيات تقترحها كتلة الدول الاعضاء. وعزت رسالة الحكومة السورية، في 16 آذار، الى عدد من الهيئات الدولية انفجار 12 منه بحلب، الى "(اعتياد) المجموعات الارهابية ارتكاب مثل هذه المجازر واتهام الحكومة بذلك قبيل انعقاد جلسات لمجلس الامن أو مجلس حقوق الانسان (...)، بهدف الاساءة الى سورية واستخدام هذه المأساة وغيرها كمادة اعلامية للمتاجرة بها..". وانتداب كوفي أنان، وهو حاجة روسية ماسة الى التعلق بأهداب إجراء ديبلوماسي يداري النقض على مشروعات قرارات الادانة ورفض المبادرة العربية، يشغل بال الجهاز الأسدي ويقلقه، ويقلق طهران، على ما لم يتكتم مستشار خامنئي، ولايتي. فذهب وزارة خارجية الجهاز العشائري والامني الى أن بنود أنان "لا ورقة" ردت الوزارة عليها، ساخرة، بمثلها. ولا ريب أنها أوجست من إعراب الناطق باسم الامين العام السابق عن تحفظ الرجل عما سمعه في دمشق من رأسي الجهاز، ومن تعمد وزير الخارجية الروسي في الاثناء نفسها إعلان انتقاداته لـ"أخطاء" حليف بوتين و"تأخر إصلاحاته" و"التلكؤ في تنفيذها" قبل إعرابه من تخوفه (من) "حكم السُّنّة" سوريا العلمانية. واقتراع مجلس الامن على البيان الرئاسي، في 21 آذار، وتزكيته خطة أنان، على رغم كتابتها العائمة والاقتراع إليها ومعها على ادانة "الهجمات الارهابية" في دمشق وحلب في 17 و19 وفي 18 آذار (من غير نسبتها الى "المعارضة")، هذا الاقتراع لا يدعو الجهاز الى "النوم على حرير" صحافيي العهد السوري - اللبناني. والتنبيه الرسمي ("سانا") الى افتقار البيان "صفة القرار" يعد وعداً صادقاً بفنون العرقلة والتثبيط التي تجيدها "سوريا" وتمرنت عليها منذ عقود.

وما بسطته "سانا" ونقلته، على رغم رتابته القريبة من البلاغة "الادونيسية" ("بدوي الساحل") نثراً وشعراً وسياسة وثقافة، يخلص منه الى أن "مواطني" الوكالة السورية للأنباء يغادرون لفحات النار القاتلة ليس الى المشافي والمخابر، على قول وائل الحلقي (وزير الصحة)، بل إلى منابر الخطابة ومنصاتها وذراها. فلا يغفل الجهاز التحريضي "العلماني" عن مهمة حيوية تتخطى الاعلام على المعنى التقني والقطاعي، الى الكيان السياسي ومقوماته، والى صورته في عيون المحكومين (الرعية) وأفهامهم. وعلى الحوادث والوقائع ان تدخل في أبواب الوصف المعيارية التي تسميها سلطة الجهاز، ولا ترضى عنها بديلاً، ولا لها تحويراً. وهذه الابواب صارمة وحديدية. فـ"المجموعات الارهابية" هي الباب الوحيد والضيق الذي تُحشر فيه المعارضات الكثيرة، السياسية والمحلية والقومية والمذهبية والمطلبية والاهلية والاجتماعية والثأرية والايديولوجية السلمية والعسكرية وغيرها. ويحسب الاسد الثاني أو الآخِر أنه ارتكب خطأ فادحاً حين صنف، في خطبته الثانية غداة خروج درعا على قريبه ووكيله الامني عليها، المعارضين المحتجين على ثلاثة أصناف، صنفان منها من غير "الارهابيين". وهذا ليس "ضعفاً" يدعو حرسه وباسيجه الى صرفه الى "العيادة" وإحلال صاحب الفرقة الرابعة المدرعة الماهر محله في "القيادة"، وحسب، بل هو خيانة للمثال "الكينوني" (روح الله خميني) والوظيفي الذي أرساه القائد المؤسس. والخروج، مهما كان طفيفاً وضئيلاً، عن باب "المجموعات الارهابية" الى باب غائم يختلط فيه أصحاب حاجات معيشية أو حائرون أو مضللون، يؤذن بجهنم نارها الشكوك والظنون وتصفح العلامات والتماس الشهود وقبول التحقيق والمراقبة والمحاسبة والإذعان، في نهاية المطاف، الى الكيل الدولي والمعولم بمكيال حقوق الانسان، وهي باب على محكمة الجزاء الدولية ربما.

الحادثة الواحدة

وتتداعى الاسماء المرذولة الاخرى من الفرق الجوهري الاصلي. فسوريا والعروبة والمقاومة والاستقلال والصمود والامن والاستقرار والازدهار والعلمانية والانسانية... هي كلها معنى واحد لا يتجزأ ولا يختلف. ويجيز الرسم، وخطوطه وألوانه الناتئة والفاقعة، الاستدلال على الحوادث ومعانيها، واستباق أوقاتها في "طبيعة" مرتكبيها والغايات التي يسعون فيها. فإذا أسفر تقويض بابا عمرو عن نحو الالف قتيل الذين خلفهم القصف والقنص والخطف والتهجير طوال 3 أسابيع متصلة، وعن مجزرة كرم الزيتون والعدوية ثم عن مجزرة حي الرفاعي (بحمص كذلك)، لم يتردد الجهاز في حمل المجزرتين على "المجموعات الارهابية". وعزاهما الى إبداء الاهالي، قبل قتلهم وربما بعده، معارضتهم ارهاب الارهابيين. ولا يسعى هؤلاء في غاية تخصهم، أو قد تنم بحاجة موجبة أو معقولة تصورهم بشراً أسوياء أو قريبين من سورية الناس. فهم لا يسوقهم إلى ما يرتكبون إلا "تشويه" صورة "سوريا"، وتبرير تهمتها بفظائع غير انسانية، وتخريب امنها واستقرارها، الخ. والمرتكبون "أدوات"، ومأجورون "ذهباً" و"فضة" و"(حلفاً) بين السماء والمال" (أدونيس، "الحياة"، 22/3/2012، ص 16). وأوقات الجرائم توقتها، على وجه الضبط، ساعة حائط دولية لا تخطئها عين هي مواعيد المناقشات في هذا المحفل أو ذاك، أو مواعيد الاستفتاءات والانتخابات و"الاستحقاقات" الاصلاحية والديموقراطية التي تملأ الروزنامة الاسدية منذ آذار 2011، وتاريخ ولادة السياسة الاصلاحية التلقائية والعفوية، على قول الجهاز. ويخيم على الرسم، وخطوط ألوانه، منطق صارم يُنزل بالرسم ما ينزله المنطق المجرد في صنائعه ومخلوقاته الذهنية الخالصة من إحكام وتجانس ووحدة تحيلها هياكل عظمية لا تتميز. والكلام على حوادث، في صيغة الجمع والكثرة، هو من باب الاعتياد. ففي ملة الجهاز واعتقاده، على قول المعري (قريباً من ادلب ومخيمات تركيا)، الحوادث كلها حادثة واحدة تتقطع وتتناثر أماكن وأوقاتاً. ولكنها لا تفلح في التستر على وحدتها الجوهرية والعقيمة. وإذا خدعت الكثرة العين غير المدربة، وهي على الدوام عين مغرضة، فعين الجهاز الساهرة واليقظة تُعمِل التفكيك في الكثرة المتشابهة، وتجلو الواحدة (الارهابي) المتلفع بالثنايا، والمتقنع بالديموقراطية. وتشهره عارياً على الملأ. وتقتضي صرامة المنطقة الاجماع الذي يطبق على المصادر الكثيرة والمبثوثة في الناس والاوقات والمواضع والكلام، ويخنقها. فليس هناك ما يخالف صرامة المنطق الجهازي، وإجماعه الفطري والالزامي، فوق تشدق الاعلام أو الصحافة والدول الغربية الاستعمارية والديموقراطية من ورائها بالحرية، طبعاً، وبكثرة المصادر وامتحان تطابقها أو تضافرها على وصف واقعة وصفاً متواطئاً ومتفقاً. فوزارة الداخلية ووزارة الخارجية و"سانا" والتلفزيون وصحيفة "الوطن" ومحافظ إدلب ووزير الصحة وكيفوت باشايان ومحمد خليف الحمادة وسمير الخالد (وأحسب أن الثلاثة يمثلون ربما على "وحدة وطنية" على رغم الفسيفساء "اللبنانية البغيضة)، وقيادة حزب "البعث" غداة انزياحها عن موقع قيادة الدولة والمجتمع، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (وما بين الخليج والمحيط وبعد بعدهما) القيادة العامة، هؤلاء جميعهم تواضعوا على وصف أعمال الارهاب وجماعاته ومقاصدهم ومعتقداتهم وأقنعتهم ومموليهم بكلمات متفقة، تكاد تكون واحدة. ولولا أنهم ينطقون بالحق، والحق واحد، لما أجمعوا إجماعهم المشهود والمعجز. والتلويح أو الايحاء الحيي بامتحان الاجماع وحقيقته من طريق تكثير الآثار والاخبار والشهود والشواهد والروايات والسرديات والصور والوثائق والمدونات والتقارير، يحمله الجهاز على طعن لا يطاق في وحدته الكيانية: وحدة القيادة والشعب، ووحدة القيادة والقضية، و"الدولة" والأمة، والسياسة الخارجية والداخلية، والامن والقانون، والاقتصاد والمقاومة، والقتل والاستقرار... والشهود على حقيقة الكثرة، أي كذب الوحدة واضطلاعها بالتقتيل والتدمير، يُقتلون، على نحو ما قتلت ماري كولفن، وكادت سيمون بيرتييه أن تقتل، وقتل المصوران الفرنسيان وعشرات "المراسلين" السوريين قبل وبعد. وتكذيب الشهود المخالفين ووثقائقهم تكذيباً محموماً، وانكار العلم بتردد صحافيين غربيين الى معاقل المعارضين (وهذا ما كَذَّبته المراسَلات الرئاسية الالكترونية المقرصنة) وتعمد قتلهم بالقصف المركز، وإقناع الصحافيين العرب بترك التحقيق الميداني (وامتناع هؤلاء راضين مرضيين ومحللين ثاقبين) هذه كلها تتولى رعاية "الواقع الواحد المتماسك وحراسته من التفسخ والتناثر، وصون أوليائه من الانهيار. فيبدو السلطان السوري قواماً على "الواقع" الواحد والمتماسك هذا، والمحامي اليقظ والمتشدد عن (رفض) التحقيق في شأنه. ويبدو، من وجه آخر، هو ودوامه المتطاول ثمرة هذا "الواقع" الخرافي والمفتعل.

جامع التعريفات

وتتربع فكرة "الواقع" (والوقائع والحقائق من فروع هذا الاصل) بمنزلة عالية وشريفة من النظام السلطاني بسوريا. فهو، بحسب المشيئة، ما يعرِّفه السلطان واقعاً أو حقيقة. ويتناول التعريف، أول ما يتناول، السلطان نفسه. فهو ما هو ومن هو في نفسه، على ما انتهى اليه صدام حسين في أعوامه الاخيرة حين سمى الارض "كوكب صدام حسين"، وعلى تسمية جهاز الدعاوة في الجماعة الخمينية المسلحة بلبنان "سادة قافلة الوجود" بعض موظفيه، وعلى سؤال رجال التعذيب الأسديين رهائنهم "من ربكم؟". ويتناول التعريف خلاف السلطان أو ضده، أي عدوه وهو العدو على الاطلاق، عدو الجنس البشري في نهاية المطاف، وفي أوله. وتفترض التعريفات، وحكمها الذي لا راد له في الوقائع والحوادث، إطاراً أو نظاماً مغلقاً لا يشوبه تنازع التعريفات أو كثرة مصادرها ومقاصدها. فيرفض الآمر الناهي في التعريف ولاء أو تسليماً لا يصدع حرفياً بالأمر والنهي على صورتهما اللازمة. وليس للـ"مواطن" المصابق بدَوَّار دمشقي، أو درب حلبي أو شعب إدلبي أن يقول من تلاء نفسه، ومن دواعيه، لماذا قد ينصرف عن حركات المعارضة المحلية وقد ينحاز على قدر أو آخر الى الحاكم العرفي والجهازي. ولا يفترض، في الاطار السلطاني المغلق، أن يملك "المواطن" شيئاً يشبه تلقاءَ نفسٍ، أي شيئاً تلقائياً وطوعياً وعفوياً. وهذا الافتراض يسرق من السلطان، ولو جاراه بعض المجاراة، وحدانية التعريف ونظامه المغلق، وهو ضمان ضبطه. والضمان لا يأتي إلا مما يصنعه الجهاز صناعة يدٍ فقيرة وقليلة العناصر. فإذا استحكى الجهاز من يريدهم ألسنة الشعب الآمن والمستقر عمد إلى صناعتهم على مثال عظيم، وأوكل إليهم تجسيد المعاني والتعريفات التي يريد أن تنسب إليه وينسب هو إليها: الأمن، الاستقرار، السيادة، المقاومة، الانسانية. فالأصل الشعبي والعروبي والانساني الذي يتحدر منه السلطان هو صنعه الباهت والرمادي، وعلى شاكلة تعريفاته وتوليدها المنطقي والميكانيكي بعضها من بعض. وإذا أراد رواية حادثة على بعض التعقيد، شأن هجوم المزة الذي يفتقر الى آلات "القاعدة" و"التكفيريين" المعروفة (والانتحاري في سيارة مفخخة آلتها الأولى)، ظهر الارتباك على صناعة الخبر. فعزاه الجهاز الى مبادرته، وأسكن "مجموعة" مبنى واضطر الى وصف أهله بمدنيين، وإلى إخراجهم قبل المهاجمة، وتعثر بعدد القتلى ونوع الأسلحة.

ولا ينفي هذا باع السلطان الاسدي، في أثناء ولايته المديدة، على المحاكاة والتقليد والتلبيس (إلباس ما يصنعه ويحاكيه لباس المثال المزعوم). فهو حاكى ويحاكي (مثال) حركة تحرر "مناهضة للاستعمار" ترد الامة سيادتها على نفسها وثقافتها ومواردها، وتجلو دولتها أداة توحيد وجمع. وحاكى ويحاكي حركة عروبية ووحدوية تتعالى على الخصوصيات والعصبيات الضيقة، وتصل بين أجزاء "الوطن" المتقطعة، وتسند السيادة الى قوة منيعة وموارد تقوم بأود مواطنين طلقاء من قيود الحاجة والعوز. وهو توسل الى هذه المحاكاة بدولة الحزب القائد، وحزب "الدولة" السلطان، وبالجيش العقائدي، وعصائب "اسد شرى" "القاعدة"، والبوليس "الكوري الشمالي"، والطائفة المتعصبة والجبهة الوطنية الذليلة، والشعب المكسور والمنكفئ، والفصائل الفلسطينية المنقادة والخائفة، والفصائل اللبنانية المتكسبة والمذعورة، والفصيل الحرسي والخميني المستميت والمنتشي، والشارع العربي المصدق. ولم تقتصر المحاكاة على المشاهد والاستعراضات والخطب، فتعدتها، على خطرها، الى حروب نظامية وأهلية، مباشرة وبالواسطة، خاطفة ومتطاولة، وإلى انقلاب جبهات، ومساومات مجهضة و ومُخْلِفة، ومقايضات بأنواع "العملات" ومن موارد الغير، سوريين وغير سوريين. ولم تكذب هذا التلبيسَ أربعون سنة أسدية، وبعض المستقرضات، لم يُحرر في أثنائها المتمادية شبر واحد زائد من الارض "العربية" المحتلة، ولم يبق "عربي" واحد لم يقاتل "عربياً أو يستدرجه الى القتال او يبتزه أو يتهمه، ولم تلن شوكة متسلط كاسر (على مراتب المتسلطين) على شعبه، ولم تقايض قوة جماعة بغير إذلال الجماعات الأخرى والمواطنين عموماً، ولم ينل مواطن حقاً بغير شفاعة أو منة وواسطة، ولم يخلَّ بين انسان وبين تلقائه أو نفسه وعبارته. وبلغ السلطان ما أراده من تقليده القضايا الكبيرة، وتدليسه فيها، ومسرحته "صراعاً" جيو سياسياً واستراتيجياً كونياً، على "شفير" المهاوي المهولة. وتوسل الحكاية البطولية أو الإلهية الى "سحر" تشبه عليها المعجزات والفتوح والقوة والريوع. وأدار حكايته على حرث "حديقته" اللبنانية "الخلفية"، على تسمية صحافية مترجمة، حين حلتها المنظمات الفلسطينية المسلحة وبعد أن جلت عنها، وعلى قطاف عوائد الخوات والاغتيالات والتسليح والتحريض و"التحرير" والنفخ في ذوات طاووسية ذاوية. وتولى "السحر" وسطاء الحرس والباسيج اللبنانيون، وهو أشبه بسحر "الفوبيجو"، أو الحلي المقلدة والكاذبة، وتشبيه تنكها وزجاجها "حقائق" الذهب والفضة والياقوت والعقيق. وفي أثناء الاربعين سنة ونوافل احتفل الجهاز العشائري والبيروقراطي البوليسي بأعراسه الدامية والراعفة، وأسكر "المدعوين" قسراً بعصير المياه العادمة والآسنة، وقلد الاعناق، قبل ذبحها من الوريد الى الوريد، قلائد التنك والزجاج. وبعد نيف وسنة على قيام الرعية على سلطان الجهاز، والمقاتل والملاحم والمذابح، لا يزال السلطان متربعاً في سدة "قوات حفظ نظام" متماسكة، وإدارة منتظرة، وتجارة دمشقية وحلبية تشتري الوقت والرضا، وشويعر لمي يرثي "ضوء الخارج (و) ضوء الداخل" في أجرومية "تنوير" بائخة

ليست هناك تعليقات: