الأحد، 24 يونيو 2012

غسان تويني... علماً على ضيافة وجوار لبنانيين لم يشفٍيا من كذب الهوية الواحدة

المستقبل - الاحد 24 /6/2012
لم ترَ مكاتب التحرير في الفضائيات العربية او المحلية اللبنانية حرجاً في نعت غسان تويني، حين اعلان وفاته يوم الجمعة في 8 حزيران، بالنائب والوزير والسفير والكاتب، تباعاً وعلى هذا الترتيب. ولا تلام مكاتب التحرير لا على الترتيب ولا على غيره. فهي تردد اصداء ظن شائع. فلا غرو إذا حسبت ظنون شائعة ومتواترة أن تعريف رجل عام، أي تعاطى الشأن العام وهو السياسة، بشارات الحكم وعلاماته وألقابه، من نيابة ووزارة وسفارة، أولى من تعريفه بمهنة مبهمة مثل الكتابة، أو أدق تعريفاً اجتماعياً مثل الكتابة الصحافية.

[الخاص والعام

وقد يكون التباس المراتب، ومعايير الترتيب، شأناً ثانوياً حين تناول رجل، أي سيرة رجل، مثل غسان تويني. وأكتب "مثل" من غير أن أدري، لا على وجه الدقة ولا على وجه التقريب، علامَ يمثِّل غسان تويني، ولا بماذا يمثَّل به. فهو، على ما أحسب، عَلَم على علاقة الخاص بالعام، أو سيرة المرء في بيته وداره، وبين خواصه وصحبه وأهله، وفي انعطافاته ونفوره وأحوال انفعالاته ورغباته. وهو سيرته في صولاته وجولاته وجهره وأحلافه وعداواته ومخاطباته الآخرين، أفراداً وجماعات، واحتكامه في هذا كله الى موازين أو معايير تتعرَّض للمناقشة والآراء العامة، أو تقبل العمومية، والمشتركة، أو تنشد الاشتراك. وعَلَميته هذه، وهي مرتبة في الدلالة والمعنى، لم تطرأ عفواً واتفاقاً، ولم يصنعها غسان تويني، على ما أراد وشاء. فهي بنت إرادة الرجل ورغبته ونازعه وموارده، وبنت الحوادث والوقائع والهيئات التي لابسها واختار، على هذا القدر أو ذاك، أن ينقاد لها أو ان يتصدى لليِّ وجهتتها.

وفيما قرأت عنه، أي ما قرأت فيه من مقالات قبل وفاته بوقت طويل وغداتها وما سمعت من قبل (وبعض ما قرأت غداة الوفاة، على ما أذكر)، في هذا يتنازع وجها الخاص والعام، ويلابس الوجهُ الوجهَ ولا ينفك منه. فالكتّاب لا يتخلصون من تناول خاص الرجل موت الأولاد الفاجع، مرض الزوجة قبل وفاتها، ترجحه بين فنون الكتابة، هواياته وأهوائه... حتى يعودوا ويمزجوا هذا الخاص برابطتهم به، وهواهم، ورأيهم فيه وفي أحواله: السياسي والكاتب والمرء الحي، مرة أخرى، في آخر المطاف وفي أوله من غير تفريق.

وقد يستجيب هذا الخليط، أو الانقلاب من وجه الى وجه والعود الى الوجه الاول قبل الانقلاب من جديد، نازعاً قوياً حمل غسان تويني نفسه، على الاخص، في اثناء فصول الحروب التي تقلبت على لبنان واللبنانيين وتقاذفته وتقاذفتهم، ولم تنفك تتقاذفه وتتقاذفهم، الى اليوم، حمله على التوسط بين "شعبه" وبين الحياة ( او "العيش"، على قوله في مناشدته "العالم" وهيئة أممه المتحدة). وهو غسان تويني، الوسيط الجامع في صوته وصرخته، وفي القرار 425 والقرار 426 غداة عملية الليطاني الاسرائيلية وديبلوماسيتهما المتزنة، آلامَ المعتقلين والمهجرين وإرادة الدولة المسؤولة عن الارض والمصائر. ولعله مال على الدوام ميل هوى الى الاضطلاع بهذه الوساطة، والى رسوخه هو، لغة ولحماً ودماً، في حلقاتها الثلاث من غير انفصال ولا فصام. وفي خضم حسابات 1952 المتقاطعة والمعقدة بينما كانت تختلط ذيول 1948 الفلسطينية بذيول 1949 الانتخابية المزورة والانقلابية السورية والقومية السورية، و"تثأر" السياسة البريطانية من حليفها الفرنسي، ويلوح في الافق العربي من جهة مصر تقدمُ منطق القوة الانقلابي، على قول تويني، على المنطق البرلماني المتلعثم والعقيم خرج صاحبنا بصرخته الاول ربما التي استعارها من العامة: "بدنا ناكل جوعانين". وكانت ولاية كميل شمعون، يحفها اقتراع كمال جنبلاط التقدمي الاشتراكي والاصلاحي الاجتماعي والروحي، وتأييده، جواب الصرخة.

والحق أن مهمَّ غسان تويني (أي باعث همومه) أو شاغله في هذا المعرض، وفي معارض كثيرة لاحقة، لم يكن مطابقة كميل شمعون، "الهاشمي" الاقليمي والليبرالي التجاري والمغامر وصاحب وجاهة الاستعراض السياسية والشخصية الجديدة، إلحاحَ الجوع، ولا العزم أو القوة على معالجته. والمعالجة التي نجمت فعلاً عن سياسة كميل شمعون الاقتصادية إنما ترتبت على تداعي المفاعيل ولم تقصد لنفسها، وهذا لا يتنافى مع المذهب بل هو في صلبه. فشاغل الصرخة التوينية في الوقت المبكر هذا من سيرته المهنية الصحافية والسياسية وسيرة الرجل اليافع، كان إخراج المسألة السياسية والعامة مُخرج المعاناة الحسية والنفسية الأليمة والصارخة. ولا يخلو الإخراج أو الجلو على هذا النحو من مسرحة مشهدية، ولا من خطابة متمادية. ولا ريب في أن الإيقان الثابت، على مثال ديني بيزنطي قيامي أو روماني، بعدالة القضية التي تتناولها الوساطة على مثال التجسيد والشهادة والقيامة، وبرسالة المندوب الى التبليغ والبشارة، هذا الايقان المزدوج دعا "التويني"، على تسميته بعض محبيه، ودعا مريديه ومن تتلمذوا عليه، الى الاقبال على المسرحة والخطابة والوساطة من غير تحفظ ولا اقتصاد.

[الكونية والعصبية

والتطرق الى هذه المسألة، قبل جلجلة الرجل وفي اثنائها وهي لا بَعد لها إلا... القيامة، وهذه لا علم لنا بها إلا من طريق التصديق المحض، محرج. فالانتباه الى المسرحة والخطابة يُخرج المنتبه من المشهد، أو المَشَاهد على قول الشيعة الإمامية، وما يحسبه المؤمنون لجة عميقة، الى صحو سطحي وتقريري وجانبي. وحرص تويني، صاحب "النهار"، ومعمارها وعقيد حروبها ومعماتها، على تأمين خطوطه الخلفية، إذا جازت الاستعارة الحَربية والميدانية. فنأى بالقضايا والمسائل التي رفع راياتها على منبر صحيفته الوطنية اللبنانية "المؤتلفة"، وهي فريدة في بابها يوم كانت الصحف الأخرى ألسنة غرضيات محلية وأهلية، من صيغها الأهلية أو الحزبية التي لم تفارقها، ولم يكن لها أن تفارقها أو أن يسعها مفارقتها.

فقبل "ثورته" في 1952، و"الجبهة الوطنية الاشتراكية" على زعم القطبين الشوفيين، على الرئيس الاستقلالي الأول، خرج الحزبي والناشط العشريني على انطون سعادة، ونظامه الحزبي، ومعه رهط لامع من الجامعيين الفلسطينيين. ودار الخلاف على جواز ادعاء الحزب، وصاحب دعوته وبَيْعته وتعاقده، الاحتكام الى قيم ومعايير "سورية" تتقدم القيم والمعايير العامة والجامعة، الانسانية الكونية، على مذهب "التنوير". وعلى حين أوجب "الزعيم" اعتقاد القيم والمعايير السورية الخالصة، وأوجب فرادتها وخصوصيتها، وخواء المزاعم الجامعة والعامة الكونية، وهذا على خطى مذاهب قومية جماهيرية اجتماعية شاعت في انحاء شرق أوروبا وبعض وسطها غداة الحرب العالمية الأولى وفظاعاتها وأهوالها لم يتردد صاحب "النهار" والرهط الفلسطيني معه في الانشقاق عن النظام "المناقبي" "السوري"، والخروج عليه.

ولم يحمله انشقاقه على الطعن في صاحب النظام الحزبي، ولا على جفاء أنصاره ومريديه ومشايعيه. فهو انتصر للفكرة والاصل الكونيين والاخلاقيين التنويريين، على الدعوة العصبية والقبلية السلالية، وأصبح على ظنه في حل من معاداة الرجل وشيعته. وحين خرج انطون سعادة على الدولة اللبنانية، على رأس بعض العشائر والعسكريين و"المخابرات" المبكرين، وحكم القضاء العرفي والعسكري فيه بالاعدام، وصف غسان تويني الإجراء بـ"الاغتيال". ودعاه الى وصفه الخطير هذا داع أو شاغل قضائي وحقوقي صوَّر له جواز محاكمة علنية وعادية يحتج فيها الخصوم المترافعون لقضاياهم، ويدفعون حجج خصومهم ودعاويهم. ويفترض تجويز مثل هذه المحاكمة بعض الاجماع السياسي والتاريخي على محل الدولة وهيئاتها وقضائها من الجماعات ومنازعها، وعلى دورها في التحكيم في الانقسامات والمنازعات. ولكن اطمئنان خالف جبران تويني على صحيفة والده ومساعد شارل مالك بسان فرنسيسكو ونيويورك، الى عدالة دعواه الجامعة والعامة، واستقامة أسسها وأركانها، هذا الاطمئنان سوغ من غير تردد ظاهر مساواة الحكم القضائي المستعجل بجريمة خاصة.

وربما خطر للصحافي الرأي القاطع، والمحرض بعض الشيء، وربما لم يخطر أن الوصف بالاغتيال لا يبعد كثيراً من تسويغ عملي وأخلاقي لـ"رد" باغتيال مثله. والبادئ (من البادئ في الحال هذه؟)، وهو القضاء العسكري العرفي، ظالم من غير مقايسة ولا أسباب مخففة. فهو جزء من دولة وكيان حقوقي وقانوني، ولا عذر له اذا اشتط أو أفرط في إعمال قوة الحق العام، ووضعها موضع خادم مصلحة خاصة. فخلط وصفُ الفعل القضائي المتسرع، والناجم عن حرج عميق، بالاغتيال التشخيصَ القانوني والاخلاقي المجرد بالغفلة عن الاشتراطات الاجتماعية والثقافية لإعمال المسرح أو الميدان القضائي، على قول ويزينغا (صاحب "انسان اللعب")، جهاراً نهاراً. وبينما يسع صاحب التشخيص القانوني، والاخلاقي المجرد وهو في هذا المعرض غسان تويني الخارج لتوه من حزب سعادة، والمنكر عليه تقديم الجزئي الحزبي على الجامع العام الكلي- الإدلال بطهارة كفه ويده وبانتصاره للحق انتصاراً خالصاً، يتخبط من يطعن في صدق التشخيص، ويدعو الى احتساب الاشتراطات والملابسات والنظر فيها، في ترتيب المقتضيات والمسوغات والمقارنة بين احتمالات معظم نتائجها طي الغيب المجهول والخفي. فيضطلع صحافي الرأي بالدور المجليّ والناصع، ويلبس السياسي القميص الملطخة بالقذارة والاوساخ. وقد يسدد الحساب من دمه وعمره، على ما حصل لرياض الصلح.

والقسمة هذه هي من محدثات الديموقراطية وبلورتها رأياً عاماً، يشار إليه منفرداً ويراد بمفرده جمعاً يتعدد كتلاً وتيارات وأفراداً. و"صناعة" الصحافة هي، بدورها، من ولائد الرأي العام وقيامه رقيباً وقيداً على السياسيين، ومنازعته إياهم "قيادة" الدولة وأجهزتها ومرافق الاجتماع، على قدر انقياد هذه جميعاًالى قيادة. ولا ريب في ان غسان تويني كان في جملة مديدة وعريضة من كتاب رأي عرب، حصة اللبنانيين منهم وافرة، انتبهوا الى قوة "السلاح الميتافيزيقي"، على ما سمى ت. إ. لورنس مزيج الصحافة والدعوة الدينية، هذا، على النحو الذي أعمله شريف مكة الهاشمي في ثورته على العثمانيين. وهو احتذى على دمجهم تناول العامة، المدنية والاصلاحية والتاريخية، في الكتابة الصحافية واليومية. فما من كاتب إلا وهو مفكر، وما من كاتب مفكر إلا وهو داعية إصلاح ومحرض على الاحياء أو التقدم أو النهضة من طرقها المتفرقة.

[الصحافي والسياسي

وتصدى لهذا الدور المتاح في "بلد" أو مجتمع لا تقوم دولته، ولا "طبقته" الحاكمة، وصية قاهرة على وجوه تدبيره الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية، من يملكون مقومات النشر الصحافي ومقتضيات الدور السياسي أو المكانة السياسية، ومن كان يسعهم مزج العملين، والترجح بينهما، والإدلال بمزايا الجمع والترجح على رغم الفرق بين معايير العملين وغاياتهما ومناهجهما. وأتاحت الصحافة في لبنان لغسان تويني، ولكثيرين غيره من اصحاب قرنه أو جيله مثل كامل مروة ورياض طه ونسيب المتني وسليم اللوزي وفؤاد حداد (أبو الحن) وآخرين، اداء دور مولِّد أو مختلط جمع من "المهنتين" بعض مقوماتهما وآثارهما. فالعلانية الاجتماعية والسياسية اللبنانية، تضافرت مع المنازعات والانقسامات المتفرقة وغير المستترة، ومع قوة الهوى السياسي العامي وتحكمه في الجماعات الاهلية، تضافرت كلها على تغذية الصحافة، وتكثير منابرها، واحتداد خطابتها. ولكن المنابت الاجتماعية العامية التي تشاركها معظم الصحافيين وأصحاب الصحف الذين تقدمت أسماؤهم، ونشأتهم في جماعات أهلية لم تضعف فيها بعد بنيتها المرتبية، ومباشرتهم الصحافة ابتداء من غير وراثة، حالت بينهم وبين مزاولة السياسة أو النجاح في المزاولة، على خلاف غسان تويني.

فهو سليل عائلة أرثوذكسية تصدرت في اثناء النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع آل سرسق و"خواجاتهم"، ارتقاء بيروت الى أحد موانئ شرق المتوسط الاولى، مع الاسكندرية وإزمير وبينهما. ولم يُخرِج ارتقاء العامة المسيحيين اصحاب المراتب الجديدة من جماعاتهم، على خلاف عامة الجماعات المسلمة، ولم يشطرها شطرين متحاربين، على خلاف الجماعات المسلمة كذلك والشيعة الاماميين على وجه الخصوص. فبقي الشاب المتحفز والداعية الحزبي " النهضوي" ومحترف الصحافة وعلانيتها، بين أهله، وفي ربعه. فلم يُفرَد على حدة، ولم يُدع الى اطراح رومنطيقيته الجامحة. وأسعفته اقامته الدراسية والديبلوماسية المبكرة في بعض العواصم العالم الجديد والمولود من الحرب الثانية وأطوار عولمتها العسكرية والاقتصادية والحقوقية غير المسبوقة. فتقدمت احاطته بأحوال العالمين على مطامح النخب اللبنانية الاهلية وصبوتها الى محاكاة المثالات التي تتلمذت عليها، وكانت في اصل سبقها الاجتماعي ورجحان كفتها السياسية (وليس سيطرتها).

وعلى خلاف السياسيين والصحافيين، من أقرانه وغيرهم، لم يحترف تويني السياسة (على قدر ما احترفها) من داخل أبنية السياسة اللبنانية ومراتبها وعصبياتها، من غير أن يغرد طائراً خارج سربه. ولم يحترف الصحافة على شاكلة الصحافيين المحترفين، إما الموالين لجماعاتهم والمعولين عليها وإما المترفعين عن الولاء والمستظهرين بمرتبة سامية وجامعة تهيمن على الولاءات الجزئية، من غير الاقتصار على الهواية الاريستوقراطية. فأقام على حلم مستحيل لوَّح له بإمكان نهوض الصوت الانتخابي على "الصياح" الصحافي، واتصال الاول بالثاني وصدوره عنه. فلا يدين الصحافي بانتخابه لمقعده البرلماني الى احلاف اللائحة المعقدة في دائرة عاليه: أصوات الارثوذكسي متنور الطبقات الوسطى الى اصوات الدرزي الارسلاني والشمعوني الى أصوات الماروني رجل الاعمال البيروتي الثري... أو في دائرة بيروت الاولى، بل يعوم على المياه المجتمعة رأياً عاماً من القراء الذين استمالتهم الصحيفة واحداً واحداً، ومعركة بعد معركة، وخبراً بعد خبر، وأخرجتهم من أسوارهم العشائرية والمحلية والعصبية الى رحاب "منطق" أو "عقل" مشترك ، الصحيفة الصباحية لسانه الفصيح.

ومن المفارقات الكثيرة أن طريق غسان تويني الصحافي الى نيابة الرأي رمته على الدوام في احضان عصبيات حادة، وألزمته الركون اليها، وأن مَن قلما احتاجت اللوائح النيابية الى سهمه في رميها، رحبت به الوزارات والرئاسات مشيراً، وصاحب شعارات، وخطيباً مثيراً. وبقي طيف جان جاك سيرفان شريبر، منشئ اسبوعية "الاكسبرس" الفرنسية في اوائل الخمسينات وعضد بيار منديس فرانس على تصفية الممتلكات الاستعمارية، وداعية جمهورية حديثة قوامها "عقد ولاية" بين الحكومة وبين غالبية نيابية تؤيدها على رغم اخفاق الصحافي في الانقلاب أو التحول سياسياً نافذاً، بقي يداعب خيال تويني. فإذا أزف وقت تصفية شهابية ضعيفة وآفلة، انقلب عليها قبل 6 أعوام أركانها البرلمانيون وجفتها الكنيسة المارونية لم يبق وفياً لها غير بعض العسكريين المعتادين تنفيذ الاوامر، كانت "النهار" واستاذها الاول، على موعد مع رئيس شمالي هو خلاصة او زبدة عيوب "الطبقة" السياسية الحاكمة: ضيق أفق، ومحاصصة، وجهلاً بمقتضيات عمل الدولة.

ومع سليمان فرنجية هذا، وجه "ديموقراطية الصوت الواحد"، على قول غسان تويني فيه وهو ذهب مثَلَاً متناقلاً على رغم مفارقته المتعمَّدة وزيفه العميق، مع رجل البارودة وجرن الكبة وقدح العرق والمسبحة و"بز" السيجارة والشروال، على ما صوره بيار صادق الرسام وأحد أعلام "النهار"، ومع صائب سلام، رئيس الوزراء العائد بعد "دهر" من التعليق والتواري الداخليين، أراد الاستاذ التويني طي صفحة الشهابية وتجديد صيغة الحكم و"شبابه"، وحمله على التصدي لمشكلات العصر الكبيرة والحادة على ما تراءت في مرآة "ثورة الشباب" العالمية في 1968 وربيعها وخريفها الداب. وكانت الصحيفة اليومية اللبنانية الاوسع انتشاراً، والاحدث طباعة ومطبعة، والأغنى تحريراً، والاكثر تنوعاً وملاحق اسبوعية، والأسبق الى زرع المراسلين المقيمين في اليمن والخليج وندب المراسلين الجوالين الى مصر وبراغ وفيينا وواشنطن كانت (كان استاذها في المرتبة الاولى) تهتز اعطافها ترحيباً بموجات الربيع الطالبي والشبابي الاوروبي وتتغاضى عن الربيع الاميركي والاسيوي، وتهلل لمزيج الافعال والاقوال الشعرية والجرأة السياسية والمطلبية الجامحة والمنضبطة. وتولى جناحها "الشعري" الوجوه الثورية والغنائية والفوضوية من الحركات الطالبية الربيعية، وأدرجها في تراثه وتجديده المحليين والعربيين.

[الجوار المضياف

وتولى سياسيو "النهار"، غداة 1967 وهزيمتها المدوية وبدايات الكفاح الفلسطيني المسلح واستدخاله المعارضات العربية الطالبية واليسارية في المرتبة الاولى، تثمير اصداء الحركات وذيولها في الحملة على الانظمة العسكرية المستولية ونزعاتها الادارية والامرية، الاجتماعية والثقافية المتزمتة، وأحلافها الشرقية والسوفياتية. ودمج السياسيون النهاريون، على نحو متعسف، شهابية الهزيع الاخير من عهد شارل حلو، المتردد والمتلعثم والمحبط، في الانظمة العسكرية العربية، "الشيوعية" على زعم ريمون اده، أحد ملهمي غسان تويني السياسيين والمتناقضين. وكان مرشد "النهار" ومجددها اليقظ والمتنبه راقب من باريس، منبهراً ومفتتناً، هبوط أول مركبة فضائية (اميركية) مأهولة على سطح القمر في 1969. وبعث فيه الانجاز العلمي والتقاني حماسة محمومة. فحسب أن في وسعه النظر من علياء الصنيع هذا الى أحوال "هذه البلاد"، واقتراح صيغة نهضة علمية وتقنية عليها، وعلى شعوبها وحكوماتها في ضوء ما رأى على شاشة التلفزيون بباريس، وما رآه مثله مليار ونصف المليار من البشر بينهم عشرات الملايين من العرب. ولعل كشف الحساب العربي العسير في محاوراته مع جان لاكوتير وجيرار خوري الموسومة بـ"قرن بدد" (أو "قرن للاشيء") ولد في العشرة الباريسية هذه.

والمنزع الى "الاستشراف"، والى التحريض بناء على الاستشراف المفترض وحسبان الانفراد به، هو من ميراث النهضويين العرب، حداثويهم وسلفييهم الاحيائيين معاً. فغلبت على الخطابة التوينية والنهارية، إذا استثنيت بعض أعمدة ميشال ابو جودة، إرادوية سادرة، وميل الى الكرازة. وعظَّم هذا الميل تولي صحافي الصحيفة الاول، وهو السياسي الصحافي المولَّد والموشَّى على ما مر، ادارة التحرير اليومية، التنفيذية والتخطيطية في دقائقها وتفاصيلها. وهوى الصحافة السياسية، وقربه من هوى السياسة وامتزاجه الحميم به، نأى بـ"الاستاذ" من الانتباه الى مثال صحافي غير مثال صحافة الرأي العربية والنهضوية التقليدية، هو صحافة التحقيق، الاميركية أولاً، أو صحافة التقصي والاستطلاع والوصف والرواية و"الاستخبار"، على قول هيردوتس أو النساخين الذين تولوا عنونة تقصيه في بلاد العالم القديم. فكست صفحات الصحيفة المتكاثرة العدد آراء وأفكار في الشاردة والواردة. فلا يدلي سياسي، أو اداري او نقابي او ناشط من كل حدب وصوب (وكان امتياز أو مائز "النهار"، محاولتها الاحاطة بمصادر القول وانحائه كلها)، إلا واستقبلت الصحيفة دلوه. وانتهى الأمر بها، غداة إحكام القبضة الاستخبارية السورية، الى التحول مجمعاً من مراسلي المنظمات السياسية، وفيديرالية معلقين ووكلاء تيارات لا رابط بينهم.

وغداة خروج المنظمات الفلسطينية المسلحة الى العلن السياسي والاهلي المحلي والدولي، ولجوء المعارضات الحزبية العربية الجديدة والقديمة الى بيروت، بادرت هي الى استكتاب اصحاب الرأي، المتفرقين على صحف يومية وأسبوعية كثيرة اختارت بيروت منبراً وموئلاً قبل هبوب الاغتيالات والتفجيرات عليها وعلى ضيوفها، وجمعتهم في مياهها المختلطة والمتدفقة. فكانت مرآة تنوع مرسل وجوار مضياف لا يحتكمان الى حد أو وازع أو "غلبة في التأليف"، على قول ابن خلدون الذي أوجب في التأليف بين الكثرة غلبة أو مرجعاً ينتهي اليه التداعي لا إلى غاية. وفشت الفتاوى المأذونة التي مال "الاستاذ"، في ذروة انتشار صحيفته واستحواذها على "سوقي" القراءة والاعلان، الى الاحتذاء على اسلوبها، في صفحات الصحيفة الليبرالية. وانتصب المحررون، وكلهم معلقون وكتاب افتتاحية وعمود، في الاقسام كلها قضاة لا راد لفصلهم وبتهم في ما يلتبس على الناس ويشكل من شؤون وشجون. فكانوا، في غرة شارع الحمراء الشرقية وفي مرافق الشارع المتدافع والمحموم، صنفاً مختلفاً من الناس، بريئاً من منازعاتهم وانقساماتهم واضطرابهم وخفاء وجوه منهم على ادراكهم وارادتهم ورغباتهم المعلنة. وأوهمتهم أسفارهم ورحلاتهم واقامتهم في بعض عواصم العالم بعالميتهم، وطليعيتهم العالمية، ومكانتهم المتقدمة في مراتب الابداع والخلق والذوق.

فلما استأنفت الحركة الطالبية، وهي في القلب من روافد نقابية واهلية وعروبية ولبنانية، اضراباتها وتظاهراتها، وتبوأ غسان تويني نيابة رئاسة الوزارة في ظل "قبضايين" سياسيين أهليين ومحترفين، حسب أن في وسعه اخيراً تجسيد حكم "الرئيس الصحافي"، عوضاً عن "الملك الفيلسوف" اليوناني أو الامامي الاثني عشري، شريكاً فكرياً عاملاً لرئيس البارودة ورئيس النبوت والقرنفلة. وحمله الاعتداد بالنفس، والتشبه بالمثال الاوروبي المفترض، الى سحر التخييل الاعلامي الطاغي الذي زاولته "النهار" وانقادت اليه، حملته هذه مجتمعة في خضم صخب معمٍّ على تصديق ظنون حميمة صورت له أنه نجح في اصابة الكيمياء الموعودة، أي تسيير الحكم ودفته بواسطة الحمى الصحافية. فاحتلت محاورة خاطفة ومبهمة بين وزير التربية الذي نزل من مكتبه الى الطبقة الارضية حيث طليعة المتظاهرين، وبين بعض الطلاب الثانويين، عناوين الصحيفة الاولى والغليظة (الحرف). وأرهصت المحاورة، على زعم "الصحيفة" بنهج جديد في السياسة والتصدي لمشكلاتها وحلول المشكلات. وتمادى الصحافي التويني في اقتناص "مفعول الاعلان"، على القول الفرنسي، فأوعز الى الوزير تويني بإجراء رقمي وجزئي أراده مدوياً، وهو افتتاح 50 مدرسة ثانوية مسائية. فجلا الاجراء حلاً ثورياً لقضايا البطالة والاستيعاب والتصفية التعليمية، المتشابكة بقضايا الهجرة من الارياف، وغلبة الفتيان والشباب على اهل الجماعات الطائفية المهاجرة، ونزول هذه ضواحي وأحزمة داخل المدينة الكبيرة ومنفية منها وانقيادها المتردد والمتفاوت لسياسة "البندقية" والهوية الفلسطينية الجديدة.

والحق أن هذا لم يكن خير ما تفتقت عنه مسيرة الرجل أو قريحته. وهو ليس قرينة على التخبط والارتجال والتنقل بين أوجه المشكلات والاحوال والسياسات، على ما قد يُشتمّ من الرواية المتقدمة. فسبل السياسة ومسالكها في مجتمع تحرر من ربقة سلطان قاهر من غير أن يتوج تحرره في صيغة عقد سياسي ووطني، شديدة الالتواء. وامتنع التعاقد القوي على الجماعات المستسرسلة في التحاقها رعية بسلطنات آفلة أو بازعة أو مختلطة (وهو ما حسبه "الاستاذ غسان" حروب الآخرين، أشهر كلماته ربما). وعلى هذا، استغلقت سبل السياسة ومسالكها في هكذا مجتمع أو مجتمعات، على غير الملهمين وأشباه الائمة والأولياء. وعلى رغم تتلمذ تويني على انطون سعادة، وبعض الافراط في الجمع بين اليقين والحقيقة والاطمئنان الى "العلامات" وتأويلها، لم يركب الرجل هذا الشطط. وامتحنت الحروب الملبننة والمتوالدة والمتحولة صاحب "النهار"، و"نهاره". فاضطرت الحروب الصحيفة، وصحافييها وقراءها أو شطراً منهم، وصاحبها في المرتبة الاولى ربما، الى الخروج من قوقعة الاصطفاء والارادة النرجسية والجبرانية. واضطرها انفجار الدولة والمجتمع اللبنانيين الى الصدور في ثوب خلق مثَّل على زوال السحر، من غير شك، وعلى ثمن السعي المستميت في احقاق هوية "حقيقية" لا تشوبها شائبة الداخلية ولا شائبة الساحلية، "لا شرقية ولا غربية". وطوال عقد ونصف عقد على اضعف تقدير، أقامت الصحيفة اليومية "الكبرى" على خلقها وفقرها، وعلى لبنانية غريبة هي الظل النحيل والقاتم لاحتراب اللبنانيين واقتتالهم شيعاً وأحزاباً على جدار من الكلمات المرصوفة والمكابرة.

وطوال هذه الاعوام الطويلة المريرة، كانت "النهار" الخلقة والفقيرة، نتفة شامخة من الوطن اليومي الذي كنت أنام كل خاتمة نهار مبكرة على نزعه المتطاول ولا أفيق، مع "نهار" غسان تويني، على غير نتفه الدامية والباقية. وكان هذا دواء شافياً من كذب الهوية "الحقيقية"، العروبية، ومحاكاتها المميتة الطهر والقداسة والملحمة المظفرة على طريق النفس الواحدة والمجتمعة.

ليست هناك تعليقات: