الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

"جوزيف أنطون"... سلمان رشدي متخفياً وسابحاً في أثير رواياته وأصدائها الخارجة من إيهابها


المستقبل – 25/11/2012
يروي سلمان رشدي في نحو 30 صفحة افتتاحية من حكايته سيرتَه "جوزيف انطون" (عن راندوم هاوس، لندن، 2012، وبلون، باريس، 2012) حوادث يوم الثلاثاء "المنير" في 14 شباط، عيد ولي العشاق، 1989، الذي بلغه فيه، وبلغ الناس كلهم من طريق وكالات الأخبار، حكم روح الله خميني، السلطان الإيراني والإمامي المعمم، بقتله جزاء كتابته ونشره قبل نصف عام، يومها، "الآيات الشيطانية" (وليس "آيات شيطانية" على ما يصحح في إحدى الصفحات الأولى من "جوزيف انطون"، فالتعريف قرينة على تناوله، هو الروائي المتأخر زمناً وعلى صفته هذه، الخبر عما نسبه أخباريو المبعث، وبعضهم معاصرون، الى وسوسة الخناس وتشبيهه. وأما اغفال التعريف فيوهم بأن الكتاب يستعيد أو يستأنف الوسوسة المنكرة، أي التي ينكرها "المؤمنون"). والـ30 صفحة الاولى العاصفة، "الشحرور الاول"، وهي شطر ضئيل من الصفحات الـ700 التي تقتضيها السيرة "الكاملة"، أو سيرة الـ13 سنة التي دامتها حراسة الكاتب المهدد القريبة (الى 27 آذار 2002 صباحاً) تكاد تكون موجزاً لـ"طريقة" رشدي الروائية التي يُعمِلها في بعض أجزاء كتابه، وأعملها من قبل.
والفاتحة هي خبر إعلامي أو صحافي، وذلك في معرض "انفجار" حادثة الإفتاء الإمامي الخميني بقتله وانقلاب الإفتاء مسألة علاقات دولية و"ثقافية" من صنف جديد. فيستهل رشدي الحكاية العريضة بمكالمة تلفونية أو مهاتفة مصدرها صحافية من البي بي سي (هيئة الاذاعة البريطانية). سألته الصحافية التي نسي آسفاً اسمها، ولم يسألها عن طريق معرفتها برقم هاتفه في مكتبه ومنزله بإيسلينغتون من أعمال لندن، عن أثر بلوغه الدعوة الى قتله فيه. وسبقت الصحافية جوابه، وقالت له ان الدعوة الفقهية الى قتله لا بد طوت حياته الماضية وانعطفت به الى حياة جديدة. ومكانة الصحافة أو الإعلام المتصدرة من الحادثة الدولية المتفجرة مَعْلم على نوع العالمَ الذي صدرت عنه الرواية ويصب جدولها أو ساقيتها فيه. وهذه الصحافة، على هذه الشاكلة، تبلغ ملاذ الأفراد وملاجئهم عنوة. وتجيب قبل أن تسأل. وإذا سألت مهدت سبل الجواب ودلت من تتوجه عليه بالسؤال اليها. وأثرُ "السؤال"، والملاحظة الملازمة، في الكاتب المهدور الدم لقاء جائزة سنية من بيت مال "المسلمين"، مقوِّض: أظلم النهار المضيء، وقال الرجل الطريد في نفسه "أنا رجل مات" وأحصى الأيام المتبقية له من العمر فألفاها قليلة، ونزل سلم البيت بعد أن أغلق الشبابيك الخشبية والباب وأحكم الغلق وكأنه يحمي نفسه داخل البيت وهو يغادره.
ويتصل "المشهد" الأول والخاطف والروائي يقصه من غير غمز من طرف خفي ولا مسرحة ولا تنويه أو تذكير (بشواهد رواية "الآيات..." من "حرب النجوم" و"الرجل الفيل" وأسماء الأبطال الاتصاليين: جبريل فاريشتا والملك جبريل...) بتداعياته. والتداعي الأول يتناول عيد ولي العشاق وقديسهم: فالانتان. وحري بالولي القديس أن يرعى ما بين سلمان وماريان (ويغينز)، وهي زوجه يومها ويعرفها بـ"الروائية الاميركية" وهذه جهرت قبل 6 أيام من اليوم العتيد رأيها في حياتهما المشتركة التي يتشاطرانها ومشاعرها، وقالت أن هذه الحياة تفتقر الى متعة الشركة. وانتبه هو كذلك الى "خطأ" زواجهما وإقبالهما عليه.
وعلى رغم هذا، وبينما كان هو يغرق في اضطرابه، ويتلوى كمن مسَّه تيار كهربائي فيغلق الستائر ويوصد الشبابيك والباب الخارجي وهو يهم بالهرب لا يعرف الى أين، ويكلِّم ماريان هاذياً على غير هدى، أجابت بقولها "نحن". فسكن روعه بعض الشيء، وبعثت "شجاعتها" بعض التماسك في أوصاله المتهافتة والتالفة. وفي فقرة خاطفة تضمر فوق ما تعلن أو تسر، وتظلل جملها وكلماتها القليلة أواصرُ الفراق والصرم الضعيفة، تتردد أصداء الولي اللعوب والمريمي معاً، الربيعي الفتي والشتائي الآذن بانطواء البيت ودفئه وملله، الجامع الضاوي والمفرق المبعد. وتختلط الأصداء هذه بنور النهار الساطع ودبيب الموت الذي يحسبه المدان بالتجديف وشيكاً.
ويعود التداعي الثاني إلى الاعلام والتلفزيون، من طريق سي بي أس، الشبكة الاميركية القائمة في بووُترهاوس حي نايتسبريدج اللندني، على ما يحرص روائي التهويم "الشرقي" على العَنونة في كل مرة تسنح فيها الفرصة أي على الدوام. فالشبكة دعته الى برنامجها الصباحي والحواري "المباشر". وهو لا يريد تفويت الدعوة والذريعة المتاحة الى رد التهمة القاتلة. والبث التلفزيوني المباشر على الاثير ساحة حرب يتوق حكواتي "الآيات"، وقبلها "أولاد منتصف الليل" (1981) وبعدها "المهرج شاليمار" (2004)، الى خوضها، والمبارزة فيها. والأثير الرشدي يصل الأزمنة بعضها ببعض، ويخلط الأمكنة، وينقل الأحلام والصور، ويستسلم لأجنحة التخييل والكلام وينقاد لها ويلح في دعوتها الى التحليق والطيران (ولن تعتم الطيور القاتمة، ونذر الكارثة والدمار، الشحارير السود وهي أقرب الى الغربان، و"طيور" هيتشكوك التي تجري في رواية السيرة جري الدماء في الاوردة، وتظهر).
واتفق يوم 14 شباط 1989 هذا مع إقامة جناز إحياءً لذكرى صديقه، صديق الراوي (بضمير الغائب)، بروس شاتوين، في كنيسة موسكو رود الارثوذكسية في بيزووتر. وتوفي شاتوين بالإيدز إبان انتشار الوباء في صفوف المدمنين والمشردين والمتسكعين الفقراء والمثليين الفنانين و"المثقفين". وكان دعا، قبل سنتين، صديقه الهندي البريطاني الى الاحتفال بالذكرى الاربعين لولادة الصديق في بيته بأوكسفوردشايير. ويزور الصديق الميتُ الذي خلّف في ذاكرة صديقه المهدد احتفالاً قريباً وحاراً بولادته وخروجه الى ضوء الحياة، بينما تحوم فتوى الوعد بالموت قتلاً في ضوء يوم العشاق، ويظلل فتورُ "المتعة" التي جمعت ماريان ويغينز وسلمان رشدي قبل سنة شراكتهما وتقول ماريان اليوم ان حياتهما المشتركة هذه تفتقد المتعة ويقرها هو على قولها وشعورها. وسألت الزوجُ زوجها المرتبك، والمزمع الرواح الى مكاتب الشبكة التلفزيونية الاميركية ثم الى الكنيسة، ماذا ينوي أن يفعل في شأن القداس. فترك السؤال من غير جواب وغادر البيت المشترك في سيارة الشبكة، وهو لن يعود إليه قبل 3 سنوات، في اثنائها لن يبقى البيت منزله، ولا ماريان زوجه وهو زوجها، ولا حياته السارحة والمشرعة على أرياح الحكايات وأجنحتها قبل رأي الفقيه الفظ والمجتهد حياته المتخفية والمواربة بعد الاجتهاد.
ويكتب سلمان أنيس رشدي، ابن مبتدع تراث أرسطوطاليسي ندب ابنه الى الاضطلاع به، أنه خلّف منزله وراءه الى برنامج الشبكة الاميركية الحواري والصباحي وإلى جناز صديقه، وتلويح لائحة القتل ودبيبها في فرائضه. والحق أنه يترك هذا الشطر من روايته الى أولاد صف في بوديغا باي بكاليفورنيا يغنون أغنية تحكي عن جنية "تمسد شعرها مرة في السنة، بينما تصفر ريح باردة في الخارج، ويهوي من السماء شحرور وحيد يحط على قن دجاج في وسط حاكورة الدار، ومع كل تمسيدة مشط تذرف الجنية دمعة- ريستالتي، روستالتي، هاي بومبوزيتي، نايكتايك نايكتي، ريتوركوكواليتي، ويلّلو بي، والابي، مو، مو، مو شحارير أربعة تميل على قن الدجاجات، ويحط خامس على قن الدجاجات وآلاف أخرى تجتاح السماء على شاكلة طاعون. أغنية بدأت ولن تنتهي أبداً".
وهذه الفقرة، وأنا أنقل معظمها نقلاً يكاد يكون حرفياً، تمثِّل على كتابة صاحب "الآيات" وغيرها، من الروايات، وتقرِّب طريقته التي تراود شهادة خبرية على حوادث ووقائع عينية لا يد له في معظمها، وليس الامر خافياً على الكاتب. فهو لا يكاد يبتدئ كنايته عن حاله الجديدة في اعقاب ذيوع خبر التحريض على القتل، بطير الشؤم الاسود ثم بأمواج الطيور وطاعونها، حتى يباشر توسيع الكناية وتعظيمها على صورة "نظرية عامة" على ما يقول ساخراً ومسلِّماً. ففي اثناء الاعوام اللاحقة تخطت الوقائع والحوادث واقعة إنزال رأي قاتل بفرد واحد، جزاء تقليبه النظر والسؤال والخيال والروايات في وجوه التصديق والاعتقاد الغريبة، الى انتصاب الملاك جبريل واعتراضه الافق، وانفجار طائرتين في برجين كبيرين، واجتياح الطيور القاتلة الارض على شاكلة صنيعها في فيلم ألفرد هيتشكوك "الكبير". فبين التحريض على اغتيال الروائي الهندي البريطاني عقاباً على "مناوأته الاسلام"، على ما كتب خميني في نص فتواه، وبين اعتراض جبريل الأفق ورمي برجي نيويورك التوأمين بطائرتين مدنيتين وقتل 2700 نفس، حبل من المعاني والاستعارات والمباني (الاعتقادية والسلطانية والإدارية الاجرائية) كان سلمان رشدي من أوائل من انصرفوا الى تعقب عقده الظاهرة المواربة الخفية. والكلام على "تعقب"، أي الدلالة باللفظة أو الكلمة، غير دقيق. فهو لم ينتظر فقه روح الله خميني، ولا فقه أسامة بن لادن، و"إجازاتهما" الحربية و"الجهادية"، ليروي في اعقاب الاثنين وانصارهما ومريديهما الكثر، بعض احوال الكشف والرؤيا والسمع وأثرها في "التهام" الناس والحياة، بحسب كنايته الروائية التي تتصدر فصل "الامام" في الرواية، وتندد بـ"إصلاح" رئيسة الوزراء البريطانية الاقتصادي، ثاتشر. وهو حَمَل الاجتهاد الديني الخميني في شأنه، والقضاء فيه هو البريطاني التابعية والدولة واللغة والثقافة والعقلاني الميل والمعتقد، بالقتل بالنيابة عن الاسلام والمسلمين في ارجاء العالم، واقتناص السلطان القومي المطلق فرصة سانحة في نزاعه المذهبي والعصبي حمل هذا التعسف الفظيع على اجتياح "طبيعي" لا استعارة له في عالم البشر واجتماعهم، فلجأ الى عالم الطبيعة الحيواني وبعض صوره وآياته في الفن السينمائي المعاصر.
ويعود رشدي من الشاشة، وحلبتها وآرائها المتضاربة وشبهها بساحات الاعدام في مدن أوروبا الوسيطة (القروسطية)، الى زوجه، واتصالها التلفوني به، وطلبها إليه ألا يرجع الى بيتهما حيث ينتظره 200 صحافي ومصور. وحين ينوي الرواح الى تأبين شاتوين ينصحه أحد الاصدقاء بألا يذهب. وبلغه أن نائباً هندياً بريطانياً في مجلس العموم كان سانده حين انفجرت التظاهرات بباكستان والهند تنديداً بكتابه، قبل الفتوى الخمينية وهي التي دعت الفقيه الايراني الحاكم الى الافتاء واقتناص الجمهور السني وتصدر "المحاماة عن الاسلام"، رجع في مساندته، وتقدم تظاهرة مشى فيها 3 آلاف مسلم بريطاني مدحها بقوله انه يوم أغر من ايام الاسلام في بريطانيا. وها هي ماريان تلقاه بعينين استقر فيهما الهلع: هلع خلفته مهاجمة المصورين والمخبرين والعدسات إياها حين تعرُّفها. وفي ختام احتجابه القسري يصف الراوي صنيع فلاشات آلات التصوير في المرأة الشابة والجميلة التي تزوجها في الاثناء، بادما الهندية وفتاة الغلاف. فيقول انه رآها تدور على نفسها، وتختال أمام "جدار" المصورين الهائجين والفالتين من عقالهم، وتذر شرر فتوتها وجمالها. ونظر الى وجهها وأدرك أنه وجهها في اثناء المضاجعة، فقال في نفسه انها تضاجع مئات الاشخاص معاً، ولا يسع امرءاً احتمال هذا. وخسر سلمان رشدي بادما حين أدرك أن دنياه التي ارتضاها تقتضي مقاومته الذوبان في أحلام بادما التي تريده صنو رغباتها، وعلى شاكلتها، ويعود إليه هو أن يكون صنو رغباته، على خلاف فعل "الايمان" وقصده.
ويتذكر في اثناء الجناز رحلة الى استراليا في صحبة شاتوين، "موضوع" الجناز أو صاحبه في 1984. ومن وقائع الرحلة نزولهما فندقاً اجتاحه قبل عام سائق شاحنة سكير، رفض خادم مقصف الفندق تقديم قدح شراب إليه، فقتل هجومه على الفندق بالشاحنة 5 أشخاص. وحضر الكاتبان محاكمة السائق التي صادف اجراؤها مرورهما بالناحية. واحتج السائق لنفسه فقال إن مهاجمة الفندق بالشاحنة ليست من طباعه ولا من عاداته. ونسيَ مقتل الخمسة أو رآه نتيجة آلية ترتبت على ما ليس من طباعه ولا يسأل عنه. ويذهب راوي سيرته الى ان المفتي المأذون بقتله يشبه السائق: فهو من شيمه حمل لواء "مركبته" فإذا نجم عن الامر مقتل إنسان، وكانت تظاهرات باكستان والهند أدت الى مقتل 12 متظاهراً وقتلت فتوى العالم الايراني والامامي مترجمين من بعد وناشراً، فالتبعة لا تقع عليه. ويقول أنه فكر في تناول الحروف التي نسبها الرواة والاخباريون الى الوسوسة الابليسية في الطائرة التي استقلها عائداً من استراليا: الايمان مركبة تعلو مكانتها حياة البشر.
وهذا دأب "جوزيف (تيمناً بجوزيف كونراد، الروائي المجري البريطاني المختلط) انطون (تيمناً بانطون تشيخوف كاتب المسرح والقصة القصيرة الروسي)"، السيرة الروائية وصاحبها المقنَّع في الاحوال كلها. فهو يروي وقائع وحوادث لا غبار عليها، ولا جنحة على ماديتها. وجمع السيرة الواقعة أو الحادثة بجوار الاخرى، وعلى تخوم جموحها الى أقاصي هذيانها، على مثال سرده في مواضيع كثيرة أثر التلفزيون على وجوهه في الناس ومسارحهم ومعاملاتهم وأخيلتهم، يسلط أصداء الوقائع والحوادث بعضها على بعض، ويدعو القارئ الى نزع غشاوة الفهم الواحد والحرفي عن ذهنه، وسمعه وبصره ومشاعره و... فقهه. ومبنى الروايات والحكايات الرشدية على الاثير السحري الذي تسبح فيه الكلمات والمعاني والأجساد والاشياء، ويكني بعضها عن بعض على بعد الشقة الزمنية والمكانية واللغوية. "اللغة هي الشجاعة: نبدأ بالافتراض ثم نسعى في التحقيق".
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=548567

ليست هناك تعليقات: