الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

الهجوم الارهابي على سفارة ايران ببيروت ... الرد الاعلامي – "السياسي" وحدّاه الجهنميان

 المستقبل 24/11/2013

   لم تكد المتفجرتان تنفجران، في التاسعة وأربعين دقيقة صباح الثلاثاء في 19 تشرين الثاني، بالرجلين الانتحاريين الهاجمين على سفارة إيران (الجمهورية الاسلامية بإيران)، وتقتلان سبعة قتلى ("شهداء" قيل على تردد، ففيهم ربما الانتحاريان وفيهم مهاجرون من سريلانكا وغيرها ربما ومعظمهم مسيحيون) لم يلبثوا أن بلغوا 11 و14 فـ20 و23 ثم استقروا على 26 ضحية، حتى فتحت أبواب جحيم كلامي لا تقل نيرانه لهباً، وتعمدَ قتل وحرق وأذى من الجحيم الذي لف السفارة العتيدة وجوارها، ودمر وصدع الحجر والمعدن والرؤوس والاجساد. ففي غضون دقائق قليلة ذاع الخبر المقيت والفظيع، وتدافعت محطات التلفزيون الكثيرة، وبجوار مبنى السفارة مقرا تلفزيونين منها ("الميادين" و"العالم")، وتسابق مراسلوها الى بلوغ ميدان الحادثة وتصويره وهو على حاله الخام الحربية وغير المصنوعة: بؤر نيران مشتعلة وشرهة، وأسلاك واغصان متهدلة ومترهلة، ورماد أسود ومتجهم، وزجاج مفتت ومتناثر، وبشر هامدون ومتفحمون لوناً وسكوناً أخرس، وواجهات أبنية بكماء وفاغرة الافواه والعيون الكثيرة. ويلف هذا، على تفرقه وبعثرته اللذين أنزلهما به العصف المدمر والحارق وصنعه غيابُ البشر وجلاؤهم عنه قسراً وعنوة، خلاء وفراغ موحشان. وتظلل ميدان الحرب، المقفر إلا من آثار الاهواء المحمومة، الصورةُ الطالعة من سراديب "النفس" والارض والمحفوظات العربية: الحي الذي تركه أهله وحضوره ومن سكنوا اليه وحلّوه طللاً متهدماً. فعاثت به الأرياح المتلاطمة، ومحت معالمه وحدوده وساحاته وطرقه وما ينم بمعنى ووجه وقصد، وخلفت الخرابَ العاري وتجريده العمران أو أقل قليله من لائحة قسماته الانسية والمتعارَفة. ويصنع السيمتكس والتي إن تي، وغاز السارين وغاز الخردل (في البشر)، ما يصنعه التسونامي وتداعي اليورانيوم والبلوتونيوم المخصبين و"المحررين" في دوائر الطبيعة المعمورة أو الغمر. ويصنع الاجتماع البربري أو المتبربر، على قول بعض الباحثين في تسلط العسكر المستولي على مجتمعات عزلاء تنهبها الحروب الاهلية، في البشر وحواضرهم المكتظة بالسكن والمصانع ما تصنعه اعاصير الطبيعة والاسلحة الذرية والكيماوية والجرثومية، وترمي بهم في أرض يباب، مقفرة وموحشة شأن تلك التي ضربتها الاعاصير والاسلحة غير التقليدية والحروب الاهلية المتطاولة.

 ولم تقتصر آلات التصوير وعدساتها النهمة والفاضحة على المشاهد، وعلى مسحها وذرعها على وجوهها وجهاتها ودقائقها المدماة، فأرفقتها بكلام نفاذ، عليم وخبير ومستكشف وبصير بما وراء حجب الدمار والموت. فاستدعت الشاشات، الى المذيعين والمراسلين والمصورين الميدانيين، فريق الخبراء والمعلقين والمذيلين وأصحاب الحواشي، والمفسرين والشارحين والمؤولين والعرافين. وفي غضون دقائق قليلة، وقبل ان يحصى الضحايا ويعرّفوا وتوصف الجريمة وكيفية إجرائها (وانتحارييها المتعاقبين)، وقبل ساعات من نسبتها الى احد فروع "القاعدة" أو الى العدو الصهيوني (السفير الايراني في لبنان والسيدة أفخم)، أطّرَ "أولياء الدم" الكلام الجائز والصادق والمأذون بحدين: حد يحصره في تناول الحادثة في نفسها، فلا قبل لها ولا بعد، وحد آخر يلزم الكلام بحملها على "الحرب" السورية التي تشنها "الصحراء"، على قول صحافي روائي مكنياً، على عمران الهلال الخصيب واصلاحييه ومقاومته وحضنه "العراقي والسوري واللبناني" وسنده الايراني.
 وترتب على الحد الاول نسيان طرابلس ومسجديها، التقوى والسلام، وضحاياها وقتلاها الخمسين، ومئات جرحاها، والمشتبهين في جريمتها المعروفين المشهورين منهم والمتخفين والمستترين و"الابطال" في الاثناء الى اليوم. ونسي "الجوار" السوري القريب وحوادثه القريبة والبعيدة، المقترنة في الاشهر الاخيرة كلها، سياسةً وقتالاً وقتلاً وتهجيراً وتشريداً وتجويعاً ونفياً، بـ"انتصارات" الجيش العربي السوري و"تحريره" البلدات والمدن والقرى والمخيمات والقواعد وعضده الحرسي ("مئات الكتائب" على قول نائب شوروي) والحزب اللهي (- لبنان) والعباسي (- العراق) والاستخباري الروسي. فتناول الهجوم الانتحاري والارهابي على السفارة الايرانية ببيروت من باب الحروب السورية، الاهلية الداخلية والاقليمية الدولية، وحلقاتها السياسية والاهلية والمذهبية والارهابية والمالية والتسليحية، هو على زعم "أصحاب الدم" المفترضين تبرير وقح للجريمة و"تغطية" يُتِمّان أو يكملان ما سبق من "دعم لوجستي ومالي". والسؤال عن علاقة مفترضة بين حلقات "الحوار" الدامي والقاتل، وهذا يدعو الى وضع المتحاربين والمتقاتلين على بعض المساواة والتضايف (الاضافة الى مضاف اليه لا ينفك من مضاف)، يوصم "أخلاقياً وسياسياً" بسوء القصد والنية، على قول احد من اقاموا بالشاشات طيلة يوم الثلاثاء.
 ويقود تناول الحادثة في نفسها وعزلها، وإخراجها من قرابة قد تشدها الى حوادث أخرى مثلها قام بها قتلة انتهى التحقيق الى معرفتهم أو هم يقودون أعمال القتل والحرب جهاراً نهاراً الى اختصار المتهمين والمشبوهين والمظنونين سراً او علانية، على رغم تباين مراتب التهمة والمسؤولية، في قاتل واحد. فتناقل "أولياء الدم" المفترضون، من أعلاهم رتبة ومأذونية ومقاماً وتكليفاً الى القائلة في نفسها "رغم انني امرأة"، اسم المسؤول المباشر والمادي عن القتل وشهرته وصفته ونعته. وقلبوا الاسم والشهرة والصفة والنعت كياناً سياسياً، وجماعات مذهبية ووطنية، ودولاً وأجزاء دول. وإذا كان التحقيق القضائي الجنائي العادي يميز درجات الضلوع في الجريمة، من مرحلة التخطيط الى الاشتراك الفعلي المباشر أو المساعد وبينهما العلم بنية الارتكاب والاسهام في تحصيل بعض وسائلها ثم اخفاء آثار الجريمة، ويعاقب أو يدين بحسب الدرجة، فـ"التحقيق" التلفزيوني الحار او المباشر يستثقل مثل هذه القيود، وينسبها الى "ثقافة" غربية مراوغة، شأن فكرة القانون أو الحق.
 فالظواهري، وعصاباته وقتلته ومُداه الاولى والثانية، ونواب كتلة "المستقبل" النيابية واحداً واحداً وواحدة، وبينهما خليط من الملوك والامراء والدعاة والموظفين الامنيين والاثرياء، سواء بسواء ولا فرق بين واحدهم وآخرهم. فمسؤولية الواحد عن الجريمة، منذ الدقيقة الاولى لارتكابها، هي مسؤولية الآحاد الآخرين من غير نقصان ولا زيادة. فلا تتردد المحطات، ولا الصحف من بعدها، وتدعو العابرين والعابرات الى التصريح بآرائهم أو رأيهم في الجريمة ووقائعها الماثلة. فلا يخطئ أحدهم، أو إحداهن، فهم الدعوة الكريمة. فالسؤال هو عمن وراء الجريمة المواربة ويتستر بها تستر العارية الخاطئة بورقة التين الاسطورية، أو تستر الملك الظالم بخوف رعيته وطاطأتها الرؤوس حين يخرج عارياً في موكبه. فيجمع من يسألون ويُسألن على قول " ما صرخ (به) مواطن يقطن في الطبقة الثانية من أحد المباني المجاورة للسفارة (الايرانية) منادياً (مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية صقر صقر): يا مدعي عام، يا قاضي مبسوط هيك. هيدا كلو من ورا السنيورة ووراك وورا السعودية. يا قاضي هول دمن برقبتك وبرقبة الحريري"، على ما روت صحيفة "أولياء الدم" المحلية. وتقف صبية حامت حول المراسل بعض الوقت فدعاها الى الكلام، وحدقت في آلة التصوير، ومهدت لكلامها بالقول إنها تريد أن توجه رسالة، وتأمل في أن يسمع من تخاطبه رسالتها، وهو بندر بن سلطان الذي تحمله المسؤولية شخصياً عن الحادثة. وهي طريقة في الخطابة والمخاطبة ليس عسيراً تعرف مثالها التعليمي والتربوي الذي تنسج عليه هي و"الأخوات" و"الاخوة".
 والحد الثاني للكلام التلفزيوني المتدفق هو، على خلاف الاول ظاهراً، الحد "الجيوبوليتيكي" أو "الجيوسياسي" والاستراتيجي، على ما يحب المعلقون والمحللون والخبراء الدعاة من ضيوف المحطات المزمنين القول والتذكير  عند تناول الحوادث المتفجرة، مجازاً أو حقيقة، حشر عدد كبير من الحوادث القريبة، الثانوية أو البارزة، وجمعها في دلالة واحدة تقوم من هذه الحوادث مقام البؤرة والقطب. وعلى حين يستبعد المحللون الدعاة إدراج الهجوم الارهابي في سلسلة متصلة ومتواردة من حوادث ارهابية أخرى اصاب بعضها الخصوم أو المخالفين، السياسيين والمذهبين، لا يترددون في إدراجه في سلاسلهم وسياقاتهم هم. وتصل سلاسلهم وسياقاتهم بين "الانتصارات" العظيمة والحاسمة والثابتة التي يحرزونها على الجبهة السورية شكلاً، والاقليمية والكونية حقيقة وفعلاً. وتصل، من وجه آخر ملازم الوجه الاول، الانهيارات العظيمة التي تنزلها بالعدو المطاط والاخطبوطي قوى "المقاومة" المظفرة والموعودة. وهذه كذلك ميادين جولات وصولات تبدأ بـ"تحرير" القصير ولا تنتهي بـ"استعادة" السفيرة وقارة ومقتل قادة في "كتائب التوحيد" و"لواء الاسلام" والجيش السوري الحر.
 و"الانتصارات" على الجبهة الايرانية، وهي إيرانية – أميركية هذه المرة ومن غير تردد ولا لعثمة، لا تحصى بدورها ولا يسبر عمقها "الإلهي". وأعظمها المفاوضة على المسألة النووية. وهي ثمرة انتصار حسن روحاني، حليف رؤوس "الفتنة" الموارب، على مرشحي محور الباسدران - خامنئي مجتمعين بأصوات انصار المعارضة، وذلك في خاتمة مطاف حصار قاسٍ على مصدر عوائد دولة ايران الاول وشبه الوحيد، أي النفط، وعلى أدواتها المالية  والمصرفية. وأدى الحصار الجاد والمشترك، الى الحصار الطوعي الذي تولته الولايات المتحدة ووكالاتها منفردة واستدرجت اليه بعض الحلفاء المترددين، الى تقليص مبيعات النفط الايرانية الى النصف. وبعضها استحال تسديد اثمانه جراء الحجر على التحويلات، وبعض آخر سددت أثمانه بعملات محلية ودولية أو مقايضة بسلع. ونجم عن الحصار المالي والمصرفي اختناق التجارة المحلية، وإفلاس بعض مرافقها وكساد بعض آخر، وتردي سعر صرف العملة وغلاء الاسعار، وانكماش سوق العمل ونضوب الاستثمارات. فكان انتخاب حسن روحاني، ووعده الانتخابي الاول هو "الانفتاح على العالم" وإعادة النظر في سياسة محمود أحمدي نجاد المتهورة، وهو جدد التزوير الحرسي – الخامنئي انتخابه الى ولاية ثانية، ثأر الاصلاحيين وأنصارهم من الحلف العسكري والحوزوي والاوليغارشي المحلي.
 وليس معنى هذا، على خلاف ما يحسب بعض أنصار الأجنحة المشققة والغالية في السلطة الايرانية، أن فريق روحاني يفاوض "راكعاً" و"ذليلاً". والحق أن مأتى حرجه ليس ضعف الكفة الايرانية في ميزان القوة العسكرية أولاً وحسب، ولا اضطراب الانتصارات الحرسية في العراق وفلسطين ولبنان وسوريا والبحرين، وإنما السبب في الحرج هو تشقق الحلف الحاكم، وتنازع قواه ومصالحه الاجتماعية، والصفاقة الحالكة التي تستر صراعاته وخلافاته وحالت (على سبيل المثل) دون اضطلاع رجل قوي وحاسم مثل رفسنجاني بما أوكل الى رجل رهين أحلاف معقدة وظرفية القيام به. ولا يزال ربيع 2009 يلقي بظله "الثقيل" على سياسات إيران، ويشكك في مشروعية هذه السياسات وطواقمها المزدوجة على منوال محمد جواد ظريف/ عباس عراقجي، وعلى مثال يتصدره حسن روحاني وجمهوره/ خامنئي وحرسه وباسيجه وبيروقراطيته وأصحاب ريوعه في الدولة والمؤسسات الوقفية...
والوقوف ببعض التطويل على مسألة المفاوضة، ووجهها الداخلي، يريد التنبيه على صنف الجيوسياسية، الذي يزاوله المندوبون الى التحليل الدعوي والبازاري في أجهزة الاعلام والخطابة والتحريض، وفي اجهزة الحرب في نهاية المطاف. فهم يخلصون، على نحو ما صنعوا في مقالاتهم وثرثرتهم في الهجوم الارهابي صبيحة الثلاثاء، الى ان المرونة غير البطولية التي أبداها الوفد الأميركي في لقاء جنيف الثاني، واعترضها التذكير الفرنسي باجتماع آلما آتا في شباط 2013 وبنود بيانه (فتح كل المراكز الايرانية أمام التفتيش، وضع البرنامج النووي كله في عهدة الوكالة الدولية، إلغاء تشغيل محطة آراك بالماء الثقيل، تحويل اليورانيوم المخصب الى وقود...) – يخلصون من المرونة هذه الى "عزلة قاتلة" تصيب أو أصابت في مقتل السعودية وتركيا وفرنسا و"اسرائيل" والجماعات الارهابية "الجهادية" (السنية وحدها) والسلطة الفلسطينية برام الله و"المستقبل" و"14 آذار" في لبنان و"كتائب عبدالله عزام" معاً وجميعاً في وقت واحد، وسلم بعض السلامة منها وليد جنبلاط وحاسة شمه الحديد الى بعض الوقت ربما، في انتظار مقالته الاسبوعية الآتية في "الانباء".

 فالسياسات العسكرية و"الاعلامية" "الجيوبوليتيكية"، وهي ركن من أركان الأنظمة الخمينية الحرسية والاسدية والحركات الفرعية التي ولدتها ورعتها و"الشخصيات" المتألقة التي جلتها، تفترض أولاً وآخراً إلغاء دواخل الدول والمجتمعات. فهذه الدواخل تلابسها، من دوانيها الى اقاصيها، تعقيدات مزعجة ومربكة على خلاف النورانية، في لغة القوم ومصطلحهم، التي لا تنفك "الجيوبوليتيكا" من المثول في بهائها. فإذا أوجبت هذه "فهم" المعمعة السورية – "سوريا الاسد" المفتاحية والاستراتيجية، واللاعب الكيسينجري، والمستقرة، والمقاومة والمتطاولة العهد فوق ولاية معاوية بن سفيان على قول الهولندي الكاتب، والنافذة الرأي والسطوة في الشاردة والواردة- على رسم القومية "الاجتماعية" العربية- الجماعات التكفيرية، زالت الغشاوة والشبهات عن العيون والافهام. وتبدد الاستبداد والحكم العرفي، والمجازر الخفية والمعروفة، واحتكار "العصابة"، وشراء الجماعات والشرائح بفتات الريوع، وعيش الكفاف، وتحجر أهالي المناطق والمذاهب على عصبياتهم، وانهيار الارياف، والهجرات، والعشوائيات، والعشائر، والاكراد، والمخيمات الفلسطينية، والجوار المتناحر القريب والبعيد، والقنوط والخواء - تبددت هذه كلها وتبدد هؤلاء كلهم وذَرَتها (وذرتهم) رياح صرصر هي من بشائر حمل الازمنة بوليدها الزكي ووشك وضعه لا محالة. وفي القياس على هذا، هجوم انتحاري على سفارة إيران من هنا، أو نظام الاسد من هناك (على قول محلل مأذون)... تفاصيل صغيرة. 

ليست هناك تعليقات: