الأحد، 30 نوفمبر 2014

الإمام المهدي وعيسى بن مريم والملاحم وعملة الخلافة و"التاتوو" وعصير "بامبا": الفجائع المشرقية أمارات مخاض في الآلام والأوجاع



المستقبل، 30/11/2014

 لم تتأخر "دولة الخلافة "الاسلامية"، "على منهاج النبوة"، على ما ينبئ اختيار مدرس الدين السامرائي سابقاً لقب "أبو بكر"، الخليفة الراشد الاول بعد نبي الاسلام، عن سك عملتها على وجه الاستعجال، ذهباً وفضة ونحاساً. وصكت "الدولة" على قطع  نقودها رموزاً أو صوراً أرفقتها بشروح عليها وافية وبليغة. فنقشت على القطعة الذهبية من فئة خمسة دنانير، وهي الى اليوم القطعة الاغلى، خريطة العالم. ولا يخفى ان الخريطة، المسكونية والكروية والجامعة، صدى لصفة "العالمية" التي وصف بها بن لادن وأيمن الظواهري "جبهتهما" على اليهود والصليبيين في منتصف التسعينات، قبل قلبها "قاعدة" جهاد عام تعرِّفه البلدان أو تخصص عَرَضاً مسارحه. وهي كناية عن جمع مشارق الارض ومغاربها، وتوحيد جهاتها، وليس الاقتصار على دائرة سايكس وبيكو أو على خريطة سان ريمو، تحت الراية السوداء التي تتوسطها الشهادتان. ونقش "ديوان بيت المال"، أو وزارة المالية في رطانتنا "الاعجمية" (على معنى الكافرة في لغة القوم)، على قطعة فئة الخمسة دراهم الفضية منارة دمشق البيضاء، وهي دون فئة عشرة دراهم التي نقش الديوان عليها المسجد الاقصى. فرمز من طرف جلي الى تقدم المسجد الاقصى على منارة دمشق. وشرح بيان الديوان ما يقتضي الشرح، فقال في المنارة الدمشقية البيضاء: انها "مهبط المسيح عليه السلام وأرض الملاحم".
إحياء الكنايات
 وربما استوقفت عبارة "أرض  الملاحم" قارئها، واستوقفتها اضافتها الى المسيح، وجمع نبي وداعي الحملان والنفس الزكية، على قول الحديث الإمامي، الى الملاحم، وهي من اللحم (لحم البشر) وخرطه بالسيوف، أو بالت. إن. ت. ونثار المعادن. ولم تخفَ السؤالُ المستفهم أصحابَ دار السكة الجديدة. فبعد تسميتهم الرمز المستخدم، وهو المنارة، وشرح الدلالة، مهبط المسيح...، أخرجوا الدليل :" عن النَّواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين، واضعاً فيه على أجنحة مَلَكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ". وألحقوا بـ"الحديث" سنده الصحيح: "من حديث رواه مسلم" (ولم يروه أحد غيره؟ لا أحمد ولا البخاري؟ على ما جاء في إخراج "الدلالات" الاخرى؟) والإلماح الخاطف الى مبعث المسيح بن مريم يكني عن وقت او ميقات "الملاحم" التي تسبق مجيء المهدي أو فرجه وخروجه، وهي حروب... ملحمية، تسفك فيها الدماء الى الركب، على قول القصص الشعبي البطولي، وتعلو الجماجمُ والرؤوس المقطوعة "جبالاً" عظيمة. فالكمّ في هذا المعرض آية عظمى من آيات السلطان والوطأة، على ما نبه إلياس كانيتي. ولا يكذبه اليوم لا جحافل أبو بكر البغدادي ولا قوات الدفاع الوطني الاسدي وصحافتها البذيئة. وأهل الكوفة (الشيعة)، وهم يحسبون ان لمدينتهم سهماً في خاتمة الزمان وملاحمها، على شاكلة أهل الحجاز وأهل الشام وبيت المقدس والعراق والطالقان وخراسان، يروون (يروي بعض إخبارييهم) أن من آيات آخر الزمان ومجيء المهدي، معاً، "حصار الكوفة بالرصد والخندق، وتخزيق الزوايا في سكك الكوفة، وتعطيل المساجد أربعين ليلة... ويسبى من الكوفة سبعون ألف بكر... وتقبل رايات من شرقي الارض غير مُعْلَمة (...) يسوقها رجل من آل محمد عليه السلام (...) يسير الرعب أمامها شهراً حتى ينزلوا الكوفة مطالبين بدماء آبائهم (ويبنى للقائم) في ظهر مسجد الكوفة مسجد له ألف باب...".
 وما يبدو مستغلقاً في الاخبار المهدوية والاخروية الخلاصية هو جزء من تضمينات وكنايات تراثية يعتني رواتها المعاصرون عناية خاصة وشديدة بحفظها وإحيائها. فهي قوام هويتهم وملجأها وحرزها، وهي مصطلح لغتهم التي يتداولونها ويتحصنون بها وتميزهم من غيرهم. وما يحرص الرواة على بقائه وفهمه من الاخبار والروايات والقصص هو دلالتها على قرابتهم، هم وحركتهم وأفعالهم وفظاعاتهم أو "روائعهم"، بولادة عالم جديد يبعث معالم المبعث النبوي، ولو على "منهاج النبوة" المفترض والمتخيل على وجه العود على بدء. وتصوِّر الاخبارُ والروايات الولادة المفترضة في صور آلام وانتهاكات ودمار ورهبة عظيمة ولا حد لها. فالحادثة المتوقعة والمنتظرة قطيعة (إلهية) ووجه من وجوه وطأة الخلق والخروج من العدم والاباحة، والدخول في حدود الامر والنهي وقيودهما الثقيلة. وتشترك "الجماعتان"، وهما اثنتان تمثيلاً، السنية والشيعية في هذا التراث، على نحوين مختلفين بعض الاختلاف، وعلى الاخص في معاني آلام الحمل والوضع والولادة وأهوالها وملاحمها.
والأثر أو القصص الكوفي يحصي معظم المعاني التي تتداولها الجماعتان: الحصار، وهدم المساجد، وتعطيل العبادات، وسبي النساء، والقتل الذريع، والثارات، والزحف الهائل، والرايات والعلامات الملتبسة، والقيادات المحمدية النبوية. وتحتمل هذه المعاني التأويل على أوجه لا حصر لها، والحملَ على حوادث ومواد عينية متجددة. فالحصار صليبي وأميركي (ويغلَّب بروتستانتياً، على قول "مفكر" تقدمي وماروني لبناني) ويهودي اسرائيلي، ولا يبعد انقلابه "وهابياً" من وجه، وإيرانياً "رافضياً" و"نصيرياً" استطراداً، من وجه آخر. وهو قد يمثل في زي عقوبات مالية وتجارية تسد مجاري عوائد النفط، وتشدد الرقابة على التحويلات المصرفية وسداد أثمان السلع المحظورة والمهربة، والمتوقعة من صفقات مثلثة أو مربعة القعر أو الوسائط. وقد يمثل في حلة أساطيل تمخر المحيطات والبحار والخلجان، وتحيط بالسواحل، وتحول دون قطع النفط والخامات الحيوية. والغارات الجوية التي تتعقب قوافل المقاتلة، وتدمر مخازن نظيرتهم، وتغتال قادتهم المؤتمرين في بيوت الناس المغتصبة، وتعسر مواصلاتهم، وتضعضع جبهاتهم وخطوطهم، هي ضرب من ضروب الحصار. ومن ضروبه كذلك تجهيز السيارات المفخخة، وندب "قنابل بشرية"، على ما يسمي الاوروبيون "الانتحاريين" (و) "الاستشهاديين" معاً، الى قيادتها وتفجيرها حيث يزاول الناس عمل يومهم وليلتهم. وقطع الكهرباء والماء والمازوت والدواء والدقيق عن القرى والمدن، حصار. وأخيراً، وليس آخراً، قصف أحياء السكن بالبراميل، وإرفاق البراميل بخزانات الوقود، حصار. ومثله نصب 46 حاجز تفتيش "أمنياً" على طريق أو شارع يبلغ طوله مئات الامتار.
 وما قد يراه رأي عام أو متوسط (على شاكلة متوسطات استطلاعات الرأي وفئاتها) عصريُّ وبعيدٌ من الانتظار الخلاصي، تغلب عليه صبغة ليبرالية وإنسانوية تقدم الحق في الحياة العارية على المعايير الاخرى، غلواً في القسوة، وبهيمية ("لا إنسانية") فاحشة، يراه الخلاصيون، حزب اللهيين (أو عصائبيين أو فضليين أو بدريين) أو داعشيين، من علامات الوعد بالخلاص وأشراط إنجازه. فعلى ما تقدم القول، العِظَمُ العددي والكمي، والارقام الفلكية شأن السبعين ألف بكر السبايا والمئة وثلاثين ألفاً القتلى من آل هاشم جزاء اضطهادهم وهم آل بيت النبي وعترته (في الأثر الإمامي)، قرينة على "اختلال الزمان" (عبد الرحمن الجبرتي المصري في غزو "الفرنسيس" مصر المملوكية) وعلامة لا تخطئ على عصر "الملاحم". واللغة التي يتكلمها أهل هذا العصر وأصحابه المسلمون أو الاسلاميون، على فِرقهم وجماعاتهم المتحاربة أو المتآخية والمتحالفة، هي لغة مجازية تغلب عليها الاستعارات والكنايات، ولا تسمي "الاشياء" بأسمائها. وبينها (أي الكلمات) وبين "أشيائها" أو معانيها التي يقصد قولها أصحاب اللغة الملحمية والخلاصية ركام لا يحصى من التوريات والمضمرات المُودَعة آلاف الاحاديث والآثار والاخبار المجتمعة من جهات العالم (الاسلامي) وفرقه ووقائعه وحوادثه العصية على الجمع وبالأحرى على الضبط.
محنة و"تاتوو"
 وما يحسبه الفهم أو الذهن العصري والزمني النثري أعمالاً غيبية تنتسب الى تجربة سحرية أو "شعرية"، وعالم غير العالم المشترك والمألوف، يدرجها أصحابها ومعتقدوها في ثنايا عالمهم اليومي وحوادثه المعتادة. ولا يخلو الادراج هذا من منطق، أي من وظيفة وعمل، يخاطب به من يحسبون أنفسهم أهل ابتلاء ومِحن بعضهم بعضاً. ويروي صحافي في صحيفة حرسية، "خامنئية – أسدية"، تصدر في بيروت أن "الحديث عاد في البيئة الشيعية عن ظهور الامام المهدي الى الواجهة" (محمد محسن: "313" الموصل و"313" بيروت – روايات عن ظهور المخلص، الاخبار، 28/10/2014). وآية هذا "الظهور"، أو تواتر تداول بعض العلامات على ما يريد الصحافي القول، هي رواج الرقم 313 ("عدد قادة جيش المهدي حين ظهوره") في بعض وسائط التواصل الاجتماعي، ووشمه على معاصم "ناشطين" حزبيين أو مناصرين للجماعة الشيعية المسلحة "تاتوو"، على ما يكتب متفرنجاً وعصرياً صاحب الخبر، أو "قرب صدر" ناشطات، على ما يلمح خَفِراً وحيياً. وعلى مثال الرايات غير المُعْلَمة والمقبلة من شرق الارض بين يدي رجل من آل محمد، تشتبه دلالة الوشم: فالرقم "بات... اسماً تجارياً لأكثر من متجر وحملة حج وزيارة"، من وجه، وهو قد يكون "تبركاً"، من وجه آخر.
 ويحضر الرقمُ واقعةً تتصل بـ"جيش المهدي" المفترض، ويرويها "المحقق" الراوي، على صورة الغياب وفيها – على ما شاعت العبارة قبل وفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش ثم بعد وفاته، ورُفعت علماً باهراً على طباق لا يصح إلا ان يكون شعرياً، على ما يفهم صحافيون معاصرون وناشطون الشعر. يكتب صاحب الخبر ان احد مقاتلي الجماعة المسلحة في سوريا، ويدعى (يلقب) "أبو علي الحر"، حاور "في إحدى المعارك" زملاءه ورجاهم "باستحياء أن يضعوه على قائمة أسماء (بعض من استشهدوا)". وختم المقاتل الذي سقط في احد اشتباكات القلمون "المقطعَ المعروض على (يوتيوب)، بعد استشهاده، قائلاً بمنسوب أعلى من الحزن (دخيلك يا صاحب الزمان. الوضع معش يتحمل)". وربما تعني العبارة الحزينة في سياقة المقال ووقائعه وخطابته، ان المقاتل الحزبي والعالي الرتبة بين أقرانه يرجو ان يكون في عداد الـ313 العتيدين والقادة في "جيش المهدي" المنتظر أو شعبته اللبنانية. فهو يكلم "صاحب الزمان"، ويناشده قبول دخالته وإجارته (حق الجوار أو الحماية)، ويبثه شكواه وطأةَ الحال الثقيلة وإعياءها الصبر والاحتمال. وبين الوسم التجاري الاعلاني و"التاتوو" قرب "الصدر" الانثوي وبين استحقاق الاحصاء في زمرة نخبة المقاتلين ومقدمة الجيوش الزاحفة من مشارق الارض ومغاربها وراء الرايات الخفاقة، يلم "الانتظار" المهدوي بالملاحم السورية والمشرقية عموماً- وبشروط الانتصار فيها مثل إيجاب "طاعة الولي" (الفقيه والمقاتل) إضعافاً للسفياني وذم الانتظار السلبي" الذي أسقط الموصل بأيدي "الدولة"- إلمامه بالحياة اليومية وشجونها وبشؤونها العصرية والسلعية الاستهلاكية.
 ويصف هذا الخليط المضطرب والرجراج من العلامات والاقوال والاعمال والمعاني حال شطر من الاماميين الاثني عشريين المنكفئين على عالم صغير وضيق حشروا انفسهم داخل "ملايين جدران(ـه)"، على قول الشاعر السوري. واحتسبوا عدد الجدران، على شاكلة عشرات الالاف من القتلى والسبايا الأبكار، مكانة عظيمة، وأقداراً استثنائية وخارقة. وامتحنت العالمَ المنكفئ والمتقوقع على قصصه وعلاماته حوادث ضئيلة، قياساً على "الملاحم" المشرقية القريبة والمعاصرة وعلى "وعود" الروايات والآثار المتداولة – هي العمليات الانتحارية، قلب الضواحي جنوب بيروت (المختصرة في اسم علم : "الضاحية")، وأعدتها وحرَّكتها "كتائب عبدالله عزام" من فروع "جبهة النصرة" وروافدها اللبنانية الصيداوية والفلسطينية، وتخللتها اغتيالات تولاها جهاز اسرائيلي على الارجح-. فلاحت في جنبات الجزيرة المنكفئة، وفي نفوس سكانها المحشورين فيها، علامات الحصار وأماراته المخيفة والمروعة. فرفعوا أكياس الرمل والبراميل المعدنية والمعبأة حجارة أو اسمنتاً على أبواب محالهم، وشرفات منازلهم، وأبواب سككهم. وأقاموا الحرس المسلح على مداخل مدينتهم أو "عاصمتهم" وأبوابها الـ39. فاعتلى المسلحون الحزب اللهيون مرتفعاً حصيناً وراء أكياس الرمل على مثال أمني اسرائيلي، على بعد مترين تقريباً من نقطة تفتيش قوى الامن اللبنانية الرسمية، وسلطوا على السيارات الكثيرة والمتشابهة مراقبة شديدة لم تنفع كثيراً. وحين اختبرت في العشرة الأُوَل من محرم، مرت 4 سيارات حاكت التفخيخ، ولم ترصد إلا السيارة الخامسة، على رواية احد السكان المنفيين. وعظَّم الهلعَ في النفوس والاجساد توهمُ مناعة وحصانة دأبَ نهج سياسي ودعوي اعلامي ملح على تمكينه من عقول الاهالي وصدورهم. وأوكل ضباط ومعممون محليون وإيرانيون الى هذا النهج الجمع بين إيلام الشعور الممض بالاستضعاف والضآلة والحصار وبين زهو الاصطفاء والإمامة الموعودة والغلبة على "حزب الشيطان" وجبروته وطاغوته. ولا ريب في ان تشييع قرابة 500 مقاتل قضوا بين الجولان و جوبر ومقام السيدة زينب وبين الزهراء ونبّل، مسح الخوف بمسحة العدم.
 فائتلف من هذه، ومن مزيجها المتنافر والمضبوط، تخييل جامع في ميادين متفرقة تُلمّ بوجوه العبادات والمعاملات. وشبَّه التخييل على مراقبين خائفين، فيهم بعض الزملاء الاصدقاء في "نوافذ"، قوةً وسلطاناً "اسبارطيين" (دام النظام الاسبارطي المتشدد 6 قرون تامة). وعادت الذاكرة ببعض اصحابنا الى دورة الالعاب المتوسطية في 1989 أو 1990، باللاذقية؛ ويومها خلص لبنانيون خارجون من ابتلاء الحروب الملبننة المديدة، بهرهم أداء الفرسان السوريين، الى ان هذه الاداء هو مرآة "دولة – شعب" لا يفل حديدها، لا في العاجل ولا في الآجل. وسبق الالعاب المتوسطية بخمسة عقود احتقال الحزب القومي – الاشتراكي (الاجتماعي في ترجمة انطون سعادة)، النازي، بمؤتمره بميونيخ، في 1937. ولا يحصى عدد الكتاب العرب المعاصرين الذين خلبتهم اضواء المؤتمر ودقة تنظيمه وجلالة الالوية السود فوق مربعات الحشود الرومانية. ولا ترمي المقارنة السطحية بين الحشد الكربلائي العريض وبين ألعاب الفروسية السورية إلا الى التنبيه على تعمد كتلتين حاكمتين مركزيتين ومتسلطتين سوق رعيتيهما الخائفتين، والمنكفئتين على عالمين ضيقين وأسطوريين يتماسكان ما أقاما على ضيقهما وانكفائهما، و(الى التنبيه) على صرف عملة الجموع والحشود المرصوصة المنظمة، والمستميتة في الطاعة، يقيناً بالقوة والدوام، وبالعدالة والحقيقة، وكأن الوجهين صنوان أو كأنهما واحد.
الحرب الفاصلة... نهاية الغمة
 والحق أن الانتظار الخلاصي والمهدوي لا يُصَدَّق، ولا يلقى قبولاً أو يقر على شعيرة مشهودة ومقنعة، إذا لم يصحبه جمهور وفير وكبير من الناس المؤمنين. فبين الانتظار المهدوي وبين التعبئة العسكرية والجماهيرية قرابة قوية. وتصوير الايمان الخلاصي على صورة الشعور الوجداني والأثيري، أو اللوعة الحرى والمتظلمة، يستبق عمداً الرعب الذي يلقيه العنف المضطرم في صدور "المهدويين"، جمهوراً و"ضباطاً" قادةً وجنرالات، وهو يؤذن بالملاحم و"طوفان الدم الى الركب". فالرايات (علامة العلامات) والجيش (على المعنى الاشتقاقي: من جيشان السيول والأعاصير وقطعان الإبل الراغية) وجهة الشرق و(طلوع الشمس على "الارض" قبل اختطاط العمران الحدودَ والاصطلاح عليها) وتضييع الأنساب والهويات والأسماء واشتباه علامات الذكورة والانوثة (وسَبي الأبكار علامة هذين)، الى قرائن أخرى تكثّرها الآثار لا الى حد، لا تستقيم دلالتها الأخروية على نهاية "الزمان" أو صرمه إلا إذا حضرت الجماعة "كلها"، وانعقدت هيئاتها على نصاب موصوف. وهذا الشرط لازمٌ ولا غنى عنه، ولو على وجه الكناية: فيقوم عدد الحاضرين "المليوني"، على وصف أثير على قلوب الخمينيين الحرسيين ولا غنى للملاحم "الاسلامية" عنه، مقام "الناس" كلهم، و"حبات رملهم". وأرتال السيارات والشاحنات التي تغمط عدساتُ التصوير الداعشية أواخرَها، وتعمّي على مَسْربها أو مهربها في مؤخَّر الصور، هي صيغة طولية يضرب آخرها المفترض في غيب بعيد وغير مرئي، للحشد المليوني.
 فانقلاب الزمان (والمهدي عامل هذا الانقلاب) قبيل قيام الساعة ويوم الحساب والدين إنما يمهد لمصالحة الانسانية نفسها، وحضورها كلاً وجميعاً هذه النفسَ المجتمعة والمتآلفة. ويقتضي هذا انقسام الانسانية حزبين أو إنسانيتين: واحدة إلهية وأخرى شيطانية. وقد تخالف القسمة محلَ أو دور يوم الحساب والدين، واضطلاعَ ديَّان عادل وحده بالحساب، انتخاباً وخلاصاً أو إعداماً وهلاكاً. والمخالَفةُ هذه، والمخالفة عموماً المنطق المتماسك والنهاري، لا تؤرق المخيلة الخلاصية والأخروية على نحو ما انها لا تؤرق مخيلة الخلق والإنشاء والتكوين. فهي تأتلف من معانٍ صادرة عن نزعات متفرقة وسياقات وملابسات مختلفة، وتستجيب احتياجات قد لا يجمع بينها معيار مشترك. واضطلاع ديَّان أو ديّانين كثر بالحساب الاخير قبل يوم الحساب وانصرام الزمن يترتب على استعجال استيفاء الدَّيْن (دَيْن المظلومين وأهل الضعف على الظَّلَمة من أهل القوة والسلطان) في الحياة الدنيا ومن طريق حرب أهلية تكاد تكون عائلية في بعض عباراتها (الحسينيون في مقابلة اليزيديين).
 ولكنه، من وجه آخر، يترتب على إرادة تجييش وتعبئة عامة لا تقتصر مواردها وعواملها على معيار أو ميزان قانوني كفائي، على معنى الفرض الكفائي أو فرض الكفاية في فتوى القتال، بل تقصد الإحاطة من غير قيد بالجماعة والأفراد، عيناً عيناً. ونقل الدينونة، على ما لا يقول المسلمون عموماً، الى مسارح الحياة الدنيا ومرابعها يستدرج الى تحكيم السياسة وأهل الرئاسات والأسلاك في هيئات الدينونة ومسالكها، ويوظف انفعالات "يوم" الحشر الجياشة في مواقع القتل والقتال العسيرة والمُغمة. فتوحيد الدين والدنيا، والفسطاطان وأهل المذهبين يجمعان على وجوبه، لا يبلغ ذروته الصوفية الحلولية على النحو الذي يبلغه في "التجربة" المهدوية الأخروية. وتنير مقومات ترقب خروج المهدي، والإيقان بوشكه، نهجاً سياسياً تُشاهد اليوم بعض فصوله على الجبهات المشرقية المشتعلة. والنهج يشير على "الأمراء" بأنجع السبل الى استدراج الاحوال المهدوية وانفعالاتها الجياشة والمضطرمة. والشرط الضروري هو انفجار حرب عظيمة. ويستحسن أن تكون أهلية وأخوية وأن تستقبل ترجمة الأعداء الشياطين (الدول الكبرى) الى جماعات أهلية وأخوية. فالدم الذي يحل سفحه وسفكه بلا حساب، ويصلح حجةً على طلب مرضاة "رب الناس" وحده، وعلى التزام أوامر الشارع (صاحب الشرع) ونواهيه، إنما هو من غير شبهة ولا تلبيس دم أخوة الرحم الأشقاء - على ما رأى الجاحظ، صاحب "البيان والتبيين"، في ضوء القرنين المنصرمين يومها من حروب المسلمين وضوء حرب الأخوين الأمين والمأمون (ابني هارون الرشيد وحفيدي محمد المهدي!).
والمثل الايراني الخميني، في هذا المعرض، يكاد يكون مدرسياً أو "كلاسيكياً". فمبادرة صدام حسين الى شن قادسيته على مجوس العصر، كما سمى نظام الضفة الشرقية في خليج العجم ومعمميه، وقعت على رأس النظام وقع "المفاجأة الربانية". فرد بحرب امتحنت الايرانيين في حياتهم وشبابهم واقتصادهم، امتحاناً قاسياً، ووالت عليهم المحن والابتلاء والغمة التي لم يتردد آيات الله وحجج الاسلام المعممون في وصفها بـ"الحسينية". وخلفت فيما خلفت اعتقاد ان "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء". وغداة نحو 30 سنة على اندلاع الحرب التي قتلت نحو ثلاثة أرباع المليون قتيل تذكر محسن رفيق دوست، أحد أوائل الحرسيين الاسلاميين وأشرفهم رتبة، تلك الأيام فقال انها كانت "مظلمة". ولا ريب أنه أراد أو عنى "منسوب" ظلمات، على قول صحافي الارصاد الجوية الملحمية، عالياً. فاستعان الايرانيون، مراجعَ بطهران وقم ومشهد ومقاتلة في أوحال الاهواز وأهوار السبخات حول البصرة، على ابتلاء سعى فيه بعضهم مصمماً ومتصوراً، بظهورات ورؤى مهدوية زكاها المراجع والحجج والطلبة، ورعوا انتشارها وحرصوا عليه. فورث الايرانيون من أعوام الملاحم هذه نحو 3 آلاف "مهدي"، على تقدير مهدي غفاري، يقبعون في السجون (عن مقالة في "الايكونوميست" لخصها عبد الإله مجيد، موقع إيلاف، 27/4/2013). وعلى وجه الدقة يقبع بعضهم، من العوام وأهل الضعف، في السجون. فبعض آخر، وعلى رأسهم محمود أحمدي نجاد، تربع أقل من العقد بسنتين في قمة السلطة الجمهورية. وكان بعض ثالث، مثل آية الله بروجردي، لأقام 11 سنة في السجن جزاء دعواه المهدوية لولا ظهوره على شاشة التلفزيون وإقراره بأنه ليس المهدي المنتظر ولا صاحب الزمان.
 ومنذ 28 يناير (كانون الثاني) 2011 المصري، ومعركة الجمل في ميدان التحرير القاهري، تخيم على الحركة الإخوانية بمصر أطياف ملاحم "العصر" أو "الساعة". وبعد التمهيد ربما التلقائي وغير المتعمد والمشترك لهذا الضرب من الاطياف، في الميدان ثم في محمد محمود والمتحف وماسبيرو وبورسعيد والاتحادية والمقطم، توج اعتصام ساحة رابعة العدوية ومدينة نصر، وفضه "الملحمي"، على معنى تقدم شرحه، مراحل الطريق الى الرؤيا. وأريد للرؤيا ان تمثل على انقلاب الزمن وعلاماته. وتواطأ على هذه الارادة العدوّان أو الحزبان. وهذه المواطأة معهودة في القسمة المهدوية، المزدوجة على الدوام، وآيتها اليوم رفعُ المصافح على العصي. ولا يقتصر التتويج على جملة الحوادث المصرية التي ضلع فيها الإخوانيون. فأحد الكتاب الباحثين الفرنسيين، جان - بيير فيليو، أحصى في كتابه قيام الساعة في الاسلام (2008، دار فايار بباريس) بين 1984 و2006، سنة كتابته عمله، 171 كتاباً، بعضها نشرات وبيانات واسعة، تناولت مسألة ظهور المهدي في البلدان العربية. وفوق الـ70 في المئة من هذه الكتب طبع بين 2001 و2006. والأرجح أن الغزو الاميركي الغربي للعراق، بعد مهاجمة البرجين التوأمين بنيويورك، كان باعثاً على تناول الموضوع. فتجاوبت "المسيحانية" المحلية و"المهدوية" الانجيلية اليهودية - المسيحية الاميركية. وحملُ الحرب الاميركية، وحرب "القاعدة" على الولايات المتحدة، على ياجوج وماجوج وهارمجدون من أعراض التجاوب هذا.
 ويعود استئناف المقالات المهدوية، وصوغها صوغاً جديداً يحتسب عناصر توراتية ورؤيوية (من سفر الرؤيا الاخروية المنسوبة الى يوحنا الرسول) الى عناصر "معاصرة" مثل الأطباق الطائرة ومثلث برمودا، الى تعاقب 4 حوادث متماسكة هي استيلاء روح الله خميني على الحكم بإيران في أوائل 1979، وهجوم جهيمان العتيبي على الحرم المكي، في منتصف العام نفسه، واندلاع الحرب العراقية - الايرانية في خريف 1980 واغتيال الجماعة الاسلامية الرئيس المصري أنور السادات في خريف 1981. فلما هاجم جنود أسامة بن لادن المعقلين الاميركيين، العلامة الاقتصادية بنيويورك والبنتاغون بواشنطن، امتلأت رسوم الانتظار الاخروي الاسلامية بـ"وقائع" ملحمية شاهدة نفخت فيها، وجددتها، وألَّفت بينها وبين روافد كثيرة قديمة ووسيطة ومعاصرة. ولاحت في أفق الحوادث والوقائع الداهمة موقعة فاصلة، هارمجدونية، بين الشر والخير، أو بين المسيح الدجال والمهدي. وصورت الحرب العراقية الموقعة على صورة العلامة. واستأنفت الحروب المتناسلة مذ ذاك، وابتلاؤها وغمتها ومحنها، الحرب الاخيرة.

ليست هناك تعليقات: