الجمعة، 23 يناير 2015

كاريكاتوريون مقذعون مودة وشهوة وضحكاً ووقاحة وهجرة...أعداء الإرهاب «الجهادي» المستكبرون

المستقبل /18/1/2015
في اليوم التالي 11 أيلول 2001، على وجه الدقة، كتب رئيس تحرير صحيفة فرنسية مرجعية افتتاحية الصحيفة ذلك النهار، ووسمها بعنوان طار صيته في الأرجاء: «كلنا أميركيون». ونهض العنوان علماً وشعاراً على التضامن العريض مع الأميركيين قبل دولتهم وإدارتهم. وهو أراد إدخال الأوروبيين والغربيين عموماً، ومعهم المجتمعات «المدنية» في بلدان العالم الأخرى، في كتلة إنسانية متصلة، تستمد لحمتها من الوقوف المرصوص في وجه إرهاب من صنف جديد، متعولم، على ما شاع القول شيوعاً قوياً مذ ذاك.

وسرعان ما استعجل كثيرون، أوروبيين وغير أوروبيين، مثقفين أهلَ رأي وعامةً حزبيين وأهل رأي وناشطين، الخروج من «الانتساب» إلى الأميركيين في محنتهم الطارئة، وعليه. وتذرع بعض هؤلاء إلى الخروج والتنصل بأن «الأميركيين» هم دولتهم ومجتمعهم وسياستهم واقتصادهم ودولارهم وجيوشهم الخ. وهذه لا يسوغ التضامن معها، وبالأحرى الانتساب اليها. وذهب بعض ثان إلى أن مهاجمي البرجين التوأمين والبنتاغون إنما تعمدوا مهاجمة رموز الغطرسة الأميركية، وإذا جاز التعاطف مع الأميركيين المظلومين فلا يجوز تأييد الطبقة الصناعية العسكرية والامبريالية الحاكمة، وهي «السبب» الحقيقي في عملية «القاعدة» المبتكرة.

ووجد بعض ثالث في إسلام المهاجمين وعروبتهم، أو في عالمثالثيتهم ومواطنيتهم في بلدان مستعمَرة وتفتقر الى الحقوق السياسية، ويسوسها حكام يميلون الى «الغرب» الأطلسي ميلاً لا كابح له، عللاً تدعو الى تفهم دواعيهم الى الارهاب المدوي. واشترك بعض رابع في الآصرة أو اللحمة الدينية أو القومية المفترضة، بينما ذهب آخرون الى تحميل التبعة عن الارهاب الجماهيري الى وكالة الاستخبارات المركزية. ولا تزال لهذه «الاحزاب» امتدادات الى اليوم. ومبادرة الولايات المتحدة، ورئيسها ومجلسي كونغرسها، الى «(الحروب) على الارهاب»، وإعلان قيادتها السياسية والعسكرية توليها هذه الحروب وحدها، وحلُّها حلفاءها الأطلسيين من بند المعاهدة الذي يلزم الحلفاء برد العدوان مجتمعين وموحدين وتقديمها «حلف الراغبين» والمتطوعين على حلف المتعاقدين هذه وغيرها فرقت شطراً من المتعاطفين. وأسلمت السياسةَ الاميركية، العسكرية والاستراتيجية («الشرق الاوسط الكبير» والجديد، الأحلاف الاقليمية وإدارة الاحتلالات...) والمدنية الداخلية، الى احكام موضعية وظرفية قاسية. وأُنسي الجمهور، وفيه أميركا، «كلنا أميركيون».

وفي العقد وقرابة نصف العقد المنصرمين، تدفقت مياه صاخبة في مجاري الإهارب المتكاثرة والمنتشرة تحت جسوره. واسترعى الانظار واستوقفها ما خلفته العمليات الارهابية في العلاقات الدولية، وعلى الأخص في علاقات الدول «الكبرى»، الغربية في المصاف الأول، بالدول «النامية»، وعلاقات هذه بتلك. فتصدرت الحروب الأميركية وديبلوماسيتها الدولية ولايتي جورج بوش الابن وشطراً من ولاية أوباما الاولى. وأعاد انفجار الارهاب في بلدان الشرق الاوسط الكبير المحورية ومجتمعاتها. و»تطوره» الى حروب أهلية ومذهبية إقليمية غداة أزمة 2008 المصرفية والمالية فالاقتصادية العامة، الارهاب الى مكانته المتصدرة مضاعفة. وكانت عمليتا نيويورك وواشنطن في 2001، ومن بعدهما عمليتا لندن ومدريد في 2005 و2006، الى أعمال إرهابية أقل إيذاء وعرضاً وتنظيماً في عواصم ومدن غربية كثيرة، أخرجت الى العلن قضية جوهرية هي دور المقيمين والمهاجرين المسلمين الى بلدان الشمال ومجتمعاته في تغذية منظمات الارهاب بالارهابيين الافراد والآحاد.

وهؤلاء ولدوا في هذه البلدان، ويتخفون في ثناياها وبين أظهرها، ويعتنقون «الفريضة الغائبة» (الجهاد)، ويلبونها فرضاً عينياً. ولولا حاجة داعي «الجهاد» الى التدريب العسكري، والسلاح القاتل، والاتصال الالكتروني، وبعض الرصد والمشورة الأخوية المجربة، لاقتصرت التلبية على فحص ضمير وطويةِ نفسٍ «بروتستانتي». ورافق النازع الفردي والشخصي الذي لابس الايمان والعمل «الجهاديين» في جاليات المسلمين نازع جماعي قوي يلزم المرشح الى القتال والموت بفرائض الشرع العامة والمشتركة. فمن ناحية أو وجه، يعتزل الجهادي الجديد أهله وأصحابه ودائرة حياته السابقة، على وصف دينا بوزار المغربية الفرنسية أحوال هؤلاء، ويتصل اتصالاً وجدانياً ورحمياً بجماعة المؤمنين وشريعتهم وفرائضهم، من ناحية أخرى.

وخلَّف هذا الازدواج، أو الترجح بين صفة «الجهادي» الفردية وبين قتاله تحت علم الجماعة وشريعتها، اضطراباً في صفوف جاليات المسلمين وتنازعاً حادين. ولم تلبث المنظمات الارهابية أن توسلت بهما الى تطوير غاياتها وبرامجها، وتوسيع مسارحها، وإثراء مقاصدها وتوجهاتها. فالعمليات الارهابية تحصل في ما كان «حواضر» غربية وما غدا مدناً ضخمة معولمة ومختلطة منذ جيلين، سكان جاؤوا من المستعمرات السابقة قبل استقلالها وبعد الاستقلال. ولم تنقطع هجرتهم. وأقاموا في ضواحي المدن غالباً وعملوا وتزوجوا وتوطنوا. فنشأ أولادهم وأولاد أولادهم، مواطنين أصيلين فيها.

وامتحنت هجرة المسلمين العريضة الى الحواضر السابقة جماعاتهم الناشئة في البلدان التي حلوها ولم يبقوا ضيوفاً عليها. وذلك على نحو ما امتحنت البلدانَ التي قدموا اليها، واستضافت موجات هجراتهم الاولى، قبل أن ينخرطوا، على مقادير متفاوتة، في أعمالها ومصانعها وأحيائها ومساكنها ومدارسها ومواصلاتها ومستشفياتها وأسلاكها، الى مجالس بلدياتها ومناطقها وبرلمانها ووزاراتها (وتولي محمد بن عباس، على شاكلة باراك حسين أوباما، رئاسة الجمهورية الفرنسية، وعلى ما يلوح الروائي ميشيل أويلبيك في روايته «اسلام»، تخييلٌ لا يخلو من الافتعال ولا من الجواز، والسابقة الأوباموية تنزع التهديد من الجواز والافتراض وتبطل الجوانب الروائية السخيفة منها).

والامتحانان يشملان وجوه الحياة والعمل كلها. ويتطاولان الى الحريات الشخصية و»أحوالها» وقوانينها، الى الضمانات الاجتماعية وتعويضات البطالة والتمثيل السياسي والمحلي والتعليم والاستشفاء والأعياد... وطالما وسع جمهور الأوروبيين «المسلمين» (من ذوي الأصول والمنابت الوطنية المتفرقة والاسلامية بمنأى من معتقداتهم وشعائرهم) موافاة الأبواب الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ينقسم عليها وإليها سواد الفرنسيين ومجتمعاتهم، والاندراج فيها أو تحتها، لم تترتب على الاختلافات والتباينات مشكلات حادة تنذر بمنازعات واضطرابات مستشرية. والحق أن ضعف الموافاة والاندراج الاجتماعيين في مسائل أو أبواب البطالة والدخل والتعليم والصحة والسكن ... والجريمة- وهذا الضعف في المرتبة الاولى هو ثمرة جدة الهجرة وإفضائها الى استواء «أهلها» الجماعة الدينية الثانية في عدد من دول الغرب وذلك للمرة الأولى منذ... 15 قرناً أوروبياً!- أدى إلى اضطرابات اجتماعية في الضواحي، وأصاب الحياة العامة والعلاقات الاجتماعية والشخصية بانفعالات مؤذية. وهذه الاضطرابات، على رغم خطورة بعضها، تحتسب في اطار المنازعات الاجتماعية المشتركة، ولا تشذ عن منطقها شذوذاً ظاهراً.

ويصح هذا التقويم طالما استقامت علاقات «جاليات» المهاجرين من الأصول الوطنية والاسلامية بمجتمعاتهم «الجديدة» على سوية جزئية وفرعية، ولم تتعدَّ هذه السوية إلى معيار أو معايير الهوية «الشاملة». فتنزع الفروق والتباينات الاجتماعية، على هذا القدر أو ذاك، إلى موازاة نظيرها في مجتمعات الاستقبال والمهاجرة وموافاته، ونظيرها المحلي ليس قليلاً وهو يغذي منازعاتها وصراعاتها منذ قرون ولن يكف عن الأمر-. وتنخرط أجزاء متعاظمة من المهاجرين وأولادهم وأحفادهم في قنوات الحياة الوطنية ودوائرها، ولكن لا تزال، في الاثناء، في مقدور إرهاب «الجهاديين» الاسلاميين ومجازره، وازدرائه الحياة والكرامة والحرية الانسانية، امتحان روابط «الجاليات» بالمجتمعات التي قدمت عليها وأصبح شطر غالب منها (من «الجاليات») أصيلاً في هذه المجتمعات، وجزءاً لا يتجزأ منها.

ولا شك، على ما أحسب، في ان بعض عوامل التوريط مصدرها إحجام الشطر المنخرط أو المندمج من «الجاليات» عن الاضطلاع بدور سياسي جامع في الحياة الوطنية العامة. فالمندمجون، على العموم، هم الذين خلفوا وراءهم تناقضات الانتماء العقيمة، وطرقها المسدودة، ويجبهون ما يجبهه أمثالهم «الأوائل»، فرادى من غير مراجع جامعة وآمرة موروثة و»اسلامية». وأحوالهم هذه تبعدهم من «أهلهم»، وتقطع أواصرهم «العامة» والأهلية بهم. وأما أهل الضعف في هذه الجماعات فتحملهم الفروق والتباينات الباقية، والمتفاقمة إبان الازمات، على الانكفاء على أنفسهم، وتشدهم الى مصادرهم الاهلية، والى عوامل توحيدهم وجمعهم وتُخندقهم في خندق واحد وأهاليهم.

ويؤدي العمل الارهابي «الكبير» في «الحواضر» الى تصديع روابط جماعات «الجاليات» بعضها ببعض، وكلها بالمجتمعات الوطنية، ويُعسّر اضطلاعها بالدور السياسي الوطني. فجماعات المندمجين تحار في امر ردها أو ردودها على العمل الارهابي: فهي لا يخفاها أن بعض الشجب والاستنكار الوطنيين يحمله شطر من الجاليات، أي من «أهلها»، على عرقية دينية واجتماعية تصيب هذا الشطر وتشمل «الجاليات» كلها. وتدعو مشاعرُ»الأهل» جماعات المندمجين الى موقفين مترجحين، 1) يُنكر الموقفُ الأول الوجه العرقي الديني والاجتماعي من الشجب والاستنكار الوطنيين والمشتركين، ويفضي الى تضامن جزئي ومضمر مع «الأهل»، لا يسلم من الإحراج الذاتي، 2) ويدير الموقف الثاني الظهر الى بقية الروابط الأهلية، ويكن الضغينة للجماعات التي تتعرف هويتها وقضيتها في منظمات الارهاب «الجهادي» وأعمالها.

وكلا الموقفين عقبة وعثرة في طريق سياسة تتخطى جرائم «الجهاديين»، وصغائر أعدائهم «القوميين» المذهبيين، ومفاعيلها العامة والأليمة، الى معالجة المسائل الكبيرة والمتخلفة عن هجرات سكانية قارية لا سوابق لأحجامها، في اطار عولمة تمد الجسور وتشق الجادات بين البلدان والأقوام والمجتمعات آن هي تفاقم الفروق والاستفزازات وتوسع التفاوتات بينها. فالسياسة المرجوة تفترض بعض التماسك في الجماعات المهاجرة وجالياتها المتوطنة وذراريها، وربما في مصادرها الوطنية والاقليمية. فلا يضاهي بربرية الارهابيين «الجهاديين» وثورة ضغائنهم وثاراتهم إلا علمهم العميق والغريزي بمواضع المهانة والضعف والوضاعة في الجماعات المنكسرة والمحبطة، ودرايتهم بوسائل تعبئتها وتجييشها على أعداء يختارهم الارهابيون على ما يرتأون ويقدرون: رسامي كاريكاتور مقذعون مودةً وشهوة وشبقاً وضحكاً ووقاحة وهجرة بعد صحافيين وشرطيين ومسافرين وسياسيين ومهاجرين وموظفين وبائعين جوالين..

ليست هناك تعليقات: