السبت، 11 أبريل 2015

السياسات الوطنية والعربية والدولية ترقص في أعراس دامية كثيرة: كيف بناء الاستراتيجيات في خضم شرق أوسط متهافت؟

12/4/2015

أصاب اجتماع مواقف سياسة أميركية في المرتبة الأولى، وأوروبية من بعد، في وقت قصير، هلعاً في أوساط عربية، سياسية وإعلامية متداخلة. فمنذ أيلول إلى نيسان (2015)، عاقبت سياسة أوباما جون كيري بين 1) قصر تدخلها العسكري في سوريا على حماية كوباني (عين العرب) الكردية من السقوط بيد «الدولة الاسلامية»، وتجنب الاشتباك مع قوات بشار الاسد في شمال شرق البلد؛ و2) مضيّها في الوسط والشمال العراقيين على حماية مواقع البيشمركة الغربية على الحدود بين الانبار ونينوى وسنجار وبين كردستان، وعلى إنجادها حملة استعادة تكريت المتعثرة بصدارة «الحشد الشعبي» الشيعي والحرسي الايراني و»بمظلومية» العشائر السنية الاهلية؛ و3) سكوتها عن استيلاء الحوثيين المتواطئين مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح على صنعاء بالخديعة، ثم بالقوة «الثورية» والعسكرية، أو مغمغتها الكلام ودعوتها الاطراف إلى استئناف الحوار، قبل إجلائها خبراء سلاح الطائرات من غير طيارين من قاعدة العند في وسط اليمن حين توجه الحلف الحوثي الصالحي إلى محافظات الغرب والوسط والجنوب؛ و4) اجتهادها الديبلوماسي الملحوظ في مفاوضة الفريق الايراني على بنود اتفاق نووي «تاريخي» يقر بحيازة النظام المذهبي والبوليسي الخميني مؤهلات تقنية وصناعية تخول تعريفه بقوة العتبة (النووية)، ويسعى (الاتفاق) في تقييد النظام أو تثبيته عند هذه العتبة.

فلما اندلعت عمليات «عاصفة الحزم»، وأبدت الولايات المتحدة رغبتها في المشاركة من خلف، اختلطت عناصر هذه السياسة، ودخل بعضها بعضها الآخر. وبدا أن باراك أوباما يرقص في ثلاثة أعراس وليس في عرسين وحسب. فهو دان اقتصار رد بشار الأسد على باكورة حركة أهل الضعف السوريين، على القمع والاعتقال والخطف والاغتيال، وأسهم في إقرار بيان جنيف، ودعوته إلى مرحلة انتقالية تتولى فيها الحكم الفعلي هيئة مشتركة من النظام والمعارضة، فتمهد لإخراج طاقم الأسد الأمني والعسكري من السلطة، وتحفظ تماسك هذه وأجهزتها، وتحول بينها وبين الانهيار، وتطمئن الشطر العلوي من السكان و»القيادة» إلى بعض الحصانة من تصفية الحساب، في آن واحد. ولكنه رضي، في صيف 2013، وبعد ارتكاب قيادة النظام جريمة الغوطة الشرقية، بمراقبة البرنامج الكيميائي الاسدي، وتعاون شعبة الصناعة الكيميائية مع موظفي الامم المتحدة. وفي الاثناء، أي في غضون 2012 وأوائل 2013، أشرف الجيش السوري على الانهيار، وخسر عشرات الآلاف من الجنود والضباط الذين أبوا الانقياد إلى أوامر القتل وقنص الأهالي والفرز المذهبي، من غير أن ينشأ في المقابل قطب سياسي وعسكري متماسك. فيرد (القطب الجديد) على تفكك القوات المسلحة الوطنية المعنوي والمادي والاخلاقي وعلى عنفها وتمييزها الأهليَّيْن والجهازييْن الاخرقين، بمثال يخالف تقاليد هذه القوات وولوغها الطويل في طاعة عمياء وخرساء.

والحق أن نكوص الحركة العامية السورية عن بلورة مثال سياسي وعسكري ومعنوي رادع، ولا يحاكي البنية العصبية والبيروقراطية القمعية التي أرستها الانقلابات الناصرية والبعثية العلوية طوال نصف قرن سوري مظلم، هو ثمرة عوامل وتيارات ثقيلة أخذت بخناق المعارضات الكثيرة والمتفرقة، «الشعبية» والاهلية التحتية وكذلك «النخبوية» المنبرية المنظمة والمجربة على حد سواء. فالخلافات والفروق ذرت وتشعبت فلم يبق موضوع لم تصبه الخلافات والفروق هذه: من تعريف هوية الحركة العامة (إسلامية أو عروبية أو سورية) ومقاصدها وغاياتها (مدنية وطنية أو شرعية دينية) إلى برنامجها (مرحلي واصلاحي حوكمي أو بنيوي وسياسي شامل) ونهجها (سلمي أو عنيف وصدامي) وصداقاتها وأحلافها (الداخلية والاقليمية والخارجية). وعجزت الحركات المحلية والمتناثرة عن ايجاب معايير القيادة، على معنى مؤهلات الحكومة، من الدالة إلى التحكيم إلى التأليف والحسم. وهذه المعايير، وهي أقرب إلى الفن منها إلى التقنية، لا تخترع ولا ترتجل فجأة، ويقتضي نضوجها سنوات طويلة من التجريب والتعميم وصوغ ثقافة مشتركة تصبغ بصبغتها وجوه التدبير والانفعالات.

ولم يمهل القمع الساحق والمتحدر من عقود من الاستبداد والاذعان الحركة الوليدة. فتفرقت مئات الفرق والجماعات، وتناثرت شراذم وفتاتاً. وضوت أخلاطاً متشابهة من العصبيات والاهواء والمصالح والاحلاف والولاءات والامزجة. وغلبت عليها العداوات، وعداوتها الاولى للأجنبي الغربي أو الاميركي والاوروبي، بعد عداوتها للنصيري الرافضي الصفوي، فوق القرابات. وتصدرت الفرق والجماعات السورية، المعارضة والمتحاربة، أشرسها وأقربها إلى تجسيد نقيض النظام ونظيره وصنوه الشبيه، أي الجماعة التي ولدت الجماعتين التوأمين والمتقاتلين، «النصرة» و»الدولة الاسلامية» («داعش« سابقاً). وكان على الرئيس الاميركي، القائد الأعلى للقوات المسلحة، أن يحسم، في خضم هذا الوضع المبهم المعاني، أمرَ عملية عسكرية تؤدي حتماً، بحسب رئيس هيئة أركان جيوشه، إلى تهافت بنيان «الدولة» الاسدية المترنحة والمتصدعة، من غير ان يسع «قطب» المعارضات وشراذمها المتناحرة والمتقاتلة الخلافةَ على بنيان الدولة، والاضطلاع بالانتقال إلى كيان غير متشظ. ويُلاحظ من غير شك أن «الدولة» الاسدية المفترضة لم تحل دون اشتداد عود الدولة الاسلامية في العراق والشام، في غضون السنة الفاصلة بين جريمة «القيادة» في الغوطة وبين إعلان البغدادي المزعوم خلافته الموصلية، وإطاحة الخليفة «الراشد» الاول والجديد حدود الدولتين الوطنيتين. ولم تحل، كذلك، دون سطو الفصيل «الجهادي» الارهابي والمسلح على مرافق نفط ومواصلات وجمرك وتجارة وصناعة وتهريب في الدولتين الوطنيتين الجارتين، ولا دون عموم القتل والاقتتال والسلب والدمار والتهجير مسارح «الدولة» الرسمية ولا مسارح «الدولة« الاسلامية. واستوت «الدولتان» في توحشهما وانقلابهما أرض سيبة أو سباء.

فيجوز أن يخلص المرء إلى ان خشية أوباما، ومعه ديمبسي رئيس أركانه وجون كيري وزير خارجيته وهاغل وزير دفاعه يومها، من انهيار «الدولة» السورية الرسمية تحت وقع الضربة المزمعة، وإمساكه عنها جراء احتسابه مآلها المروع، لم يكونا (الخشية والامساك) ملائمين. وهما لم يحميا «الدولة» الرسمية من التصدع، ولا رعيا السوريين وكيانهم من السباء، ولا حملا «القيادة» الكيماوية على المفاوضة مفاوضة جادة على «الانتقال» إلى دولة «عادية». ولكن هل يُخلص من هذا إلى ان الضربة الاميركية، لو حصلت وصدعت الاسد ونظامه، لكانت وقعت برداً وسلاماً على «سوريا»، وألفت بين الجماعات المتقاتلة، ونصبت المعارضة المدنية والديموقراطية في سدة دولة متآخية الجماعات؟ أو هل يخلص من هذا، بعبارة خالية من المجازات، إلى ان انهيار الاسد لكان ابتدأ مرحلة انتقالية منضبطة على معيار مدني وسياسي وطني معقول؟

والظاهر أن الامساك الاوباموي أخطأ الحساب، فلا هو حَصَر الاقتتال والعنف، ولا حملت القيادةُ العصبية (ولا الجهاز الحرسي الخميني ولا قيصر عموم روسيا) الامتناعَ من إسقاطها على دعوة إلى تقليص القتل المستشري والسعي في لجم سلطان شرس وتمدينه بعض الشيء- وغذت عودة جون كيري إلى الكلام اليائس على «مفاوضة بشار الاسد «في نهاية المطاف»، بعد اعتبار دي مستورا أن الاسد «جزء من الحل (على طريق تجاوز العنف وإنهائه)»- وأراد طرفا الحل المفترض ألا يسمعا الجزء الثاني من الجملة الطوباوية في الاحوال كلها-، غذت العودةُ الافتراضية شكوكاً هوجاء في غايات أوباما الاميركية ونهجه وكلبيته. وتبددت الوقائع السورية والاقليمية والعربية، والتباساتُها التي لا تحصى، ولم يبقَ من الاعوام الاربعة المنصرمة إلا أوباما ذو الوجهين (اختصاراً وكناية) والجلدين واللونين واللسانين... فهو رقص في العرس (الدامي) السوري دورين أو دبكتين: واحدة مع «دولة» الاسد وثانية مع المعارضات التي استثنى منها «الدولة» و»النصرة»، وهما يكادان يختصران ما بقي من «الثورة« أو الخروج على السلطان الارهابي.

ويصدق هذا على سياسة الرجل، ودولته، في المسارح الاخرى، ولو على وجوه مختلفة. فهو غادر العراق لما رفض نوري المالكي - ومن ورائه هذه المرة المرجعية والفِرق «المهدية» أصولاً وفروعاً وآية «فيلق القدس»، والملجأ السوري الذي يأوي إليه عزت الدوري ونقباء النقشبندية - إحصان الجنود الاميركيين من الملاحقة القضائية العراقية واستثناءهم من القانون العام. فجمعَ تحت راية الكرامة والاستقلال الوطنيين الفرق الشيعية المتناحرة. وتخفف هو، أوباما، من أثقال حملة عسكرية برية باهظة التكلفة، على الوجوه كلها، أرادها سلفه حرباً، بل «صليبية» في سبيل «حرية لا متناهية». وانقلبت احتلالاً غريباً وعجيباً: فهذا الاحتلال حرر العراقيين، أو الشطر الاعظم منهم، من استرقاق صدام حسين وعشيرته وحزبه و»دولته» لهم؛ ودان له بالاستيلاء على السلطة، وقهر «العدو» السني قهراً لا دولة من بعده، الفريقُ الذي انحاز جزء منه إلى محاربته جنباً إلى جنب «المقاومة» القاعدية والبعثية ورفع لواء إجلائه بالقوة والمتفجرات المصنعة محلياً عن العراق «المحتل». فبقي من هذا، و»هذا» لا يزال سائق المنازعات العراقية الداخلية وملابساتها الاقليمية في كنف المرجعية والمهدية والحرسية، بقي الاجفالُ الشديد والمتحفظ من العمليات البرية على مسرح حرب خُلْوٍ من دولة وطنية تضبط ملاحمه وإحنه وحزازاته على مصالح تقبل التعريف.

فلا سبيل إلى صوغ «عقيدة» منهجية في السياسة الخارجية (الاوسطية)، على قول أوباما في أوائل الاسبوع المنصرم، بهذه الحال إلا بالتعويل على تعريف المصلحة الوطنية (القومية) الاميركية تعريفاً ضيقاً ومنزلياً، واستبعاد «القيم»، على قول هنري كيسينجير، وزير الخارجية إبان الانسحاب في فيتنام والاعتراف بالصين القارية والشيوعية (وتقويض كمبوديا ورعاية بينوشيه والانسحاب من «بريتون - وودز»...)، لائماً ومندداً. وعلى هذا، قدّمت السياسةُ الاوباومية محاربةَ «الدولة الاسلامية» وإرهابها المتفشي والباهر على إسقاط «الدولة» الأسدية، وإرهابها «المقتصر» على بعض الاراضي الوطنية وبعض الارض اللبنانية. وهذا التعريف ظالم وأناني ومجحف و»لاإنساني» على ما وصفه سوريون وغير سوريين كثر. وهو قد يلد فوضى اقليمية عميمة فوق ما يلد ضبطاً دولياً. ولكنه، رغم ذلك، يستقوي بمعيار يلجم التمادي مع جموح العنف إلى الاقاصي المرسلة. وإذا جاز العيب على الرئيس الاميركي قوله أنه لا يرى مسوغ تقديم نجدة الضحايا السوريين على ضحايا حروب الكونغو الاهلية والاقليمية ( وسقط منهم في 1998-2003 نحو 3 ملايين ضحية، 145 ألفاً من المقاتلين، ومذ ذاك لم ينفكوا عن التعاظم)، لا مناص من الاقرار بـ»عقلانية» مقالته المكيافيلية. وتقضي هذه بحكمٍ أو رأي في مادة لا يحصر التباسها واختلاطها، بينما موارد الدولة المدعوة إلى التحكيم والتدخل والانقاذ المفترض محصورة وفي الامكان إحصاؤها.

وفي أحوال العراق وسوريا ولبنان وإيران (النووية والاقليمية)، وعلى قدر أقل في مصر وليبيا وتونس من قبل وفي اليمن اليوم، وعلى رغم التشابه غير المحكم الذي يصبغ السياسات الاميركية، يُرجح أوباما كفةَ «الدول» ، القريبة من الفشل والمروق أو الموشكة على الوقوع فيهما، على كفة الحركات الاهلية المعارضة والموشكة على الوقوع في أحضان الحروب الاهلية والميممة شطر الارهاب «الجهادي» عن قصد وتصميم. فبعض التحفظ عن الانخراط في إدانة أنظمة بوليسية ومتسلطة إدانة رأسية، قد تقود إلى عمليات عسكرية، قد يكون مصدره هذا الترجيح، والمقارنة بين هذه «الدول» وبين الحركات الاهلية المتمادية في عنفها، والخالية الوفاض من عوامل ضبط العنف. فـ»الدول»، ولو كانت على مثال إيران الخمينية وانقيادها الأعمى والمدمر إلى المثال الامبراطوري والسلطاني، تتمتع بحدٍ أدنى من التماسك «يؤهلها» إلى الحصار والقصاص والحساب والعزل، وإلى الضربة المركزية القاضية في نهاية المطاف. وبعض الميل إلى المنظمات الإخوانية، والأدق القول: بعض التردد في إدانتها ابتداءً ومبدئياً، وربما إلى الجماعات الاهلية الحرسية مثل «حزب الله» لبنان و»أنصار الله» اليمن و»الدعوة» العراقية، وهي نشأت قبيل الوصاية والقيادة الايرانيتين، مرده كذلك إلى تماسكها المركزي وقابليتها للمفاوضة العملية والارتداع. ويدعو هذا إلى التقليل من «سذاجة» ميل أوباما إلى الشيعة أو ثقته «فيهم» على ما حسب معلقون غربيون.

ولا يصنع باراك أوباما، حين يزجي بعض المديح (لـ) علي خامنئي، وإجازتِه موافقةَ الوفد الايراني المفاوضة على «معايير» اتفاق نووي، إلا الاقرارَ ببعض بنود «عقيدته». وهذا شأنه حين يدعو الحكومات العربية إلى «تعزيز الحياة السياسية في بلدانها» ومجتمعاتها، وإلى محاربة «الانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان (وقتال) الاسد وأفاعيله». وتترتب مواد «العقيدة» على تشخيص مضمر يحمل الأبنية السياسية والاجتماعية العربية، والشرق أوسطية من غير شك، التبعات الاولى عن مصائرها إلى الحروب الاهلية والمذهبية، وإلى الارهاب وصنوفه (وفيه الارهاب الأهلي والاجتماعي الحرسي الذي مهد الطريق إلى الارهاب «الجهادي»)، والحروب الاقليمية و»الفتوحات» بواسطة العصابات و»القبائل»). ويحجم أوباما عن اجتياز العتبة التي اجتازها جورج بوش الابن، لفظياً وكلامياً حين دعا إلى «بناء» «شرق أوسط كبير»، وعملياً حين بادر إلى ابتداء طريقه ببغداد ومنها. فغزا عراق صدام حسين، وكسر صندوق الشرور الذي حسب قراقوشات المنطقة أنهم أغلقوه على الحروب الاهلية، وصنوف الارهاب والعداوات الوطنية والاقليمية والتاريخية والثورات المجهضة.


و»الحل» الآخر كان ترك صدام حسين مستوياً على عرش العراق، ومعه السادة النجب الآخرون، وذراريهم وحواشيهم وموظفوهم «إلى الأبد». هل قال أحدهم: إنها حال موقوفة لا يقطع فيها برأي من رأيين مخالفين وقاتلين؟ ويقال أن من جملة ما غلط فيه أبو بكر البغدادي (ابراهيم عواد ابراهيم بوبدري بن عرموش من عشيرة البوعباس من سامراء)، أو أبو حمزة المهاجر، جزمَه في 2012 بأن «المهدي سيظهر في أقل من عام... ما دعاه إلى القول بأننا سنملك الارض كاملة في أرض الرافدين في غضون ثلاثة أشهر، فأصدر أمراً بالنزول في الساحات وعدم الانسحاب لمدة أسبوع...» (عن قاضي «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» وقاضي «الدولة الاسلامية في العراق»، المعتصم بالله أبي سليمان العتيبي)

ليست هناك تعليقات: