المستقبل (نوافذ)،5/7/2015
يزعم
توما رُومِر، أستاذ مادة الاوساط أو البيئات التوراتية في معهد فرنسا (كوليج دي
فرانس)، أن التوحيد التوراتي اليهودي، وخلوصه الى تجريد خالق واحد لا خالق إلا هو
ولا شريك له في خلقه الخير والشر معاً من آلهة أدنى رتبة أو مكانة أو من شريكة أو
صاحبة تنسب إليه- هذا التجريد احتاج الى
نحو ألفية كاملة. وكان أولها في أواخر القرن الثالث عشر قبل زمننا وتأريخه
الميلادي، وختامها التقريبي والموقت في القرن الثالث ق. م. ومن قبل قوله، بلسان
أشعيا النبي وسفره أو نبؤته، "أنا الأول والآخر ولا إله غيري" (الفصل
44، 6)، و"أنا مبدع النور وخالق الظلمة ومُجري السلام وخالق الشر أنا الرب
صانع هذه كلها" (الفصل 45،7)، ترددت في ثنايا الكتب الكثيرة ورواياتها
ووصاياها وأواصرها ونواهيها أصداء معبودين آخرين، عثرت الحفريات على نظائرهم أو
أشباههم في أوغاريت والماري إبلا والموصل وهيت وعلى ألواح وأنصاب مصرية وفارسية
واشورية وبابلية وفينيقية (صورية).
عشتار/ الغابة
والتزم رُومِرْ قراءة مراحل التوحيد وأوقاته
وملابساته الزمنية والمحلية، أو البلدانية، في مرآة كتب التوراة نفسها وفصولها
وفقراتها. ودعاه هذا الى حملِ الكتب والفصول والفقرات على نسيج كثير الخيوط والعقد
والصيغ والمراجع، والتنبه على كثرة الكُتّاب وأوقاتهم وإلماحاتهم وكتاباتهم.
فتتبدد القراءة المتصلة والخبرية، وتحل محل نصها المفترض والمتواتر محاورات
ومداولات وإحالات قد ينقض بعضها بعضاً، ويستدرك بعضها على بعضها الآخر ويقومه
ويصححه. ففي الفصل الخامس من نبوءة زكريا يسأل الملاك النبي، أي صاحب الرؤيا
الراوي بضمير المتكلم، ماذا يرى، أو ماذا هو راءٍ، فيجيب أنه يرى "طائراً
طوله عشرون ذراعاً وعرضه عشر أذرع". ويفسر الملاك الرؤيا:" هذه هي
اللعنة الخارجة على وجه الأرض كلها".
وتنزل اللعنة (وفي الترجمة اليسوعية التي أوكل
الى ابراهيم اليازجي، في 1876، "تنقيح عبارتها"، اللعنة "تجتاح"
ولا تنزل) على السارق والحالف باسم الرب زوراً. واللعنة وتتصور في صورة طائر عظيم،
"خارجة"، والخارجة في الصيغة العربية، على معنى "ما تجاوز الحد أو
خالف الأدب"، على شرح بطرس البستاني في "محيط المحيط" (مادة
"خرج"، ومنها "الخوارج بين الناس عند العامة كالزنادقة"، وهم
عند الخاصة "قوم من أهل الاهواء لهم مقالة على حدة"...). ولا يلبث
الطائر العظيم فيبيت في وسط بيت السارق أو الحالف زوراً و"يفنيه مع خشبه
وحجره"، فينقلب شبه الصنم أو الوثن:" وإذا بقنطار رصاص قد رفع وبامرأة
جالسة في وسط الايفة" (أو الدغل). وخرجت امرأتان "والريح في
أجنحتهما"، فرفعتا الوثن والايفة بين الارض والسماء وحملتاهما الى أرض شنعار
(بابل) "ليبنى بها بيت... فتوطَّد وتُقر هناك على قاعدتها" (زكريا،
5/11). فيرجح رومِرْ أن تكون الرؤيا كناية عن إخراج الإلهة من أرض يهوذا، وأورشليم
كرسيها، الى أرض بابل.
والى "الخارجة"، وقنطار الرصاص الذي
رفع لها، يذهب المؤرخ الى ان ثمة إلهة أخرى نسبت زمناً طويلاً في يهوذا وربما في
اسرائيل الى يهوه، الإله القومي وإله الآلهة قبل أن يستوي رباً أوحد وخالقاً لا
شريك له في خلقه، هي عشتار. فعلى مسلة ميشا حفر الملك الفاتح أثراً يجمع الإلهة
الى كموش، الإله القومي أو المحلي. وفي الاثر أن الفاتح استولى على مدينة ميشا، في
يهوذا، وقتل أهلها، ويعدون 7 آلاف، رجلاً وأولاداً، نساء وبنات وفيهن الحوامل،
ونَذرهن الى عشتار كاموش، على ما يكتب اسم المدينة، وأخذ أضاحي (مُحرقات) يهوه من
مذابح الهياكل وجرها حول المدينة. وذُكرت الإلهة أول مرة في نقش ينسب الى حمورابي
(القرن السابع عشر ق.م.). وتشهد 3 نقوش طقسية، من العصر السلوقي، عليها وعلى
عبادتها. وفي رسائل تل العمارنة، تكرر اسم أحد ملوك المدينة، عبدي أشيرتا، 92 مرة.
وتبدو عطيرات(و)، على ما تكتب في النصوص الأوغاريتية، في مدونة بعل وسيرته، صاحبة
الإله إيل، ووالدة إلهين قاصرين. وفي أسطورة كيريت، يوصف وارث كيريت بشارب حليب
عطيرات. وعلى هذا، تنسب الإلهة الى الخصب، وتضطلع بدور في
"الايديولوجية" الملكية (التي يفترض ديميزيل انها تنهض، في الاساطير
الهندية الاوروبية، على قوائم الحرب والتدبير والخصب).
وهذا هو الشاهد الخارجي، غير التوراتي
وغيرالعبري، على الإلهة. ويستشهد مؤرخ النصوص ومفسرها الشواهدَ غير التوراتية،
ويُعملها في تعيين هوية المصادر والروافد، المتحدرة الى التوراة العبرية، وفي وصف
إسهامها في رسم قسمات يهوه ومراحل رسمها واستقرارها في نهاية المطاف. فموضوع عمله
هذا، أي الجزء من مبحث واسع أنتج نحو عشرة أعمال الى اليوم، هو سيرورة ابتكار
وبلورة إله التوحيد اليهودي أو العبري على صفته المطلقة. وأما الشاهد الداخلي فهو
من أسفار التوراة نفسها. ففي سفر الخروج (34، 12-13): "فاحذَر أن تضرب عهداً
لأهل الارض التي انت صائر اليها لئلا يكونوا وَهَقاً فيما بينكم *بل تَنقُضون
مذابحهم وتحطمون أنصابهم وتقطعون غاباتهم". وفي سفر تثنية الاشتراع (7،5،
و12،3): لا تقطع معهم عهداً... "بل كذا تصنعون بهم تنقضون مذابحهم وتكسرون أنصابهم
وتقطِّعون غاباتهم، وتحرقون تماثيلهم بالنار"؛ "وتهدمون مذابحهم وتكسرون
أنصابهم وتحرقون غاباتهم بالنار وتحطمون منقوشاتهم وآلهتهم وتمحون أسماءهم من ذلك
الموضع".
وتترد الجمل والعبارات على مثال واحد وثابت، على
ما هي الحال في النقل الشفهي، الخبري السنني والمدون من بعد (والترديد على مثال
ثابت شائع في الروايات والاخبار الملحمية شيوعه في الاثر النبوي أو الحديث). ولكن
أين عشتار، أو عطيرات، أو أشيرتا، في الشواهد التوراتية؟ تولت الترجمة اليسوعية
العربية حذف اسم الإلهة العتيدة (وهي مثبتة في الترجمة الفرنسية بمحلها. فحيث تثبت
الترجمة العربية "غاباتهم"، تقول الترجمة الفرنسية "عاشراه"
أو "عاشراته"، وتنسبها الى (إله) مفرد، على خلاف الجمع المضاف الى
الاقوام التي يُدْعى من يتوجه الكلام عليهم الى السير اليها، ويعد بالغلبة عليهم.
ويلاحظ رومِر، في هامش ينقل عن أوزفالد لورتز أحد علماء الدراسات العبرية
والتوراتية الألمان، أن الاضافة الى جمع مذكَّر في "مذابحهم"
و"أنصابهم"... إنما هي انتحال عمد اليه الكتاب الذين تعاقبوا على صوغ
الكتب التوراتية، وتعهدوا "تنقيحها" من آيات "وثنية" علقت بها
من أزمان سبقت، واستطالت عشرة قرون تامة قبل أن تستقر على توحيد صارم وقاطع. ولعل
هذا ما تحسبه تقاليد دينية واعتقادية أخرى "تحريفاً". وليس اختيار
"الغابات" مصادفة او اتفاقاً. فاللفظة العبرية "عِشريم"
معناها، على قول المؤرخ واللغوي، الغابات. وهي تكني معنىً عن الخصب والنماء
والولادة المتجددة.
سبق الإثنين
وما
تتستر عليه التورية أو الكناية في السفرين السابقين، الخروج وتثنية الاشتراع، يفصح
عنه سفر القضاة (3،7) من غير مواربة: "وفعل بنو اسرائيل الشر في عيني الرب
ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والعشتاروت". (وتثبت الصيغة الفرنسية
"يهوى" نظير "الرب" العربية في الموضعين من الفقرة أو الآية،
وتُحل "العشتاروت" المحل الذي أحلتها إياه نظير "الغابات"
العربية). والجمع بين البعليم، صيغة الكثرة من بعل، وبين العشتاروت، صيغة الكثرة
من عشتار، هو ما يستدل به الباحث على سبق اثنينية إلهية، من ذكر وأنثى، الإله
الواحد الأحد. وتعود "الغابة" نظيراً أو مرادفاً لعشتار في سفر القضاة
(6، 25):" وكان في تلك الليلة ان الرب قال له... وقوض مذبح البعل الذي لأبيك
وقطَّع الغابة التي حوله". وفي تثنية الاشتراع (16، 21): "لا تغرس لك
غابة من الشجر عند مذابح الرب إلهك الذي تبنيه لك". ولم يشفع في هذا الموضع
من القضاة، جوارُ عشتار، ببعل، فغير النص اسم عشتار على رغم ملازمته الرابطة
القديمة ببعل، وغيَّبه في "الغابة" من غير ان ينفيه أو
"يستأصله"، على قول معاصر وسائر. فجاء الفرق الموضعي، مقارناً لفروق
موضعية أخرى قريبة أو شبيهة، دليلاً مرجحاً أو معقولاً على دوام آثار كثرة الالهة
القديمة والسابقة. وتعود هذه الى "شوائب" خالطت الوحدة، وخلفت ميسمها في
صيغ التدوين المتأخرة التي تعهدت إعلاء التوحيد، وإثباته "منذ الأزل"
ومن غير "كفء" "أو أكفاء ومثائل ونظائر. وذلك أن جوار عشتار
/"الغابة" غير أمين في احوالها كلها، وتحت أسمائها وكناياتها.
ويوحي الجمع بين (إسمي) عشتار وبعل، ونقوش
أوغاريت تجمع بين إيل وبينها، أن الإلهة قرنت ببعل في الألفية الاولى ق.م. ومصدر الشواهد
على هذا القِران كلها هو تدوين مدوني من يسمون "الاشتراعيين"، وهم آخر
المدونين زمناً وأكثرهم تشدداً في التوحيد، وفي تنقيح آثار الكثرة في الاسفار
والكتب المتحدرة من تدوين سابق حفظ بعض أصداء الاختلاط. ويفترض المؤرخ اللغوي ان
حمل بعل أو إيل، وعشتار (العشتاروت) على زوجين (أو توأمين متلازمين)، يقصد
المدونون المتشددون به فك رابطة يهوى القديمة بعشتار، قبل أن يتعالى يهوى، وهو كان
في القرن الثالث عشر بمدين وجوارها إله محلياً أو قومياً "كبيراً"، عن
إشراك آلهة أخرى به. وقد يحتج لهذا الرأي، على وجه بين التخمين والترجيح، كتابات
جدارية وبعضها على آنية فخار، عثر عليها في كونتيلة عجرود، على طريق غزة الى
إيلات، وفي خربة الكوم. وتعود الآثار الى خان شيد في القرن الثامن ق.م. وعلى قطعة
فخارية بقايا كتابة متقطعة، أمكن فكها وقراءة جزئيها، الاول مباركةُ صاحبِ بركة
أربعة أشخاص يسميهم بأسمائهم، والآخر قَسَمٌ برب (يهوى أو الحروف الاربعة غير
المصوتة) السامرة وعشتاره.
ولا
تجمع الكتابات بين يهوى وبين موضع وحسب (وهي تحمع في أثار كونتيلة عجرود بينه وبين
السامرة، على ما مر، وبينه وبين موضع آخر هو تيمان أو التيمان وقد يعني الجنوب)،
فتجمع كذلك بينه وبين العشتاروت أو عشتار(ه) أو "عشيراه" على ما قد يزيد
قارئ العربية على مسؤوليته، في صيغة الاضافة والتوأمة. ويسعف الموضع والوقت
الأثريان أو الخارجيان (من خارج التدوين والنص) في تأريخ التدوين، وجلاء إحالاته،
وتعيين أو تسمية موضوعات سجالاته. فيأتلف من هذا كله، إذا استُجمعت مقوماته
وعوامله، نهج تحقيق النصوص "الأدبية". والتوراة، شأن أمهات
"الكتب" الدينية والملحمية الاخرى، مثالها. وينبغي أن يحول بين الباحث
المستقرئ وبين الاقتصار على سند الشبه والقرب اللفظيين بين أسماء المواضع، وهو
"نهج" كمال الصليبي في مصدر التوراة المفترض.
وفي
أثر آخر نُبش في خربة الكوم، على بعد 13 كلم الى غرب الخليل، يكاد يكون معاصراً
لأحفورة كونتيلة عجرود، حفر المدعو أورياهو، "الثري"، على ما يصف نفسه،
دعاءً يستنزل بركة يهوى على نفسه، ويشكره على تخليصه من أعدائه من طريق أو بواسطة
عشتاره. وتؤيد صور او رسومٌ على الآجر استخرجت من تل بيت يرسِم، في الخليل، قران
يهوي بصورة عشتاره. ويُرى في الآجر زوجان إلهيان على العرش، يتوسط الذكر الصورة،
والى جنبه امرأة، ويحوط الزوجين حيوانات مقدسة. وتواتر العثور على تماثيل صغيرة من
هذا النصف، تعود كلها الى القرن والقرن السابع ق.م.، في مدن أراد وبيرشبا وبيت
مِرْسِم وبيت شمش ولاكيش، الى أورشليم، ليبلغ عددها المئات. وهذه التماثيل هي
كناية عن ركائز أو أعمدة، ألصق بها صدر أنثوي ورأس صنعت من الخزف. ويتصدر الصدر
ثديان بارزان تسندهما يدان ظاهرتان، ويكنيان عن الخصوبة فوق كنايتهما عن الهوى
والعشق.
وإذا صدق أن التماثيل والرسوم تعود حقاً الى
عشتار (يهوى)، وثبت شيوعُ التشبيه أو الأخذ به في المنازل التوراتية والبلدان الى
أوائل القرن السابع ق.م.، جاز حمل ذلك على نصوص التوراة التي تلمح الى التشبيه
وتروي بعض وقائعه. وجازت المقارنة بين هذين الصنفين من "الوثائق". فعلى
سبيل المثال يروي سفر الملوك الرابع (وهو السفر الرابع في تبويب الترجمة اليسوعية
العربية والاول في تبويب أسفار الترجمة الفرنسية التي تولى معظمها إدوار دورم وصَدرت
في مكتبة لابلياد بدار NRF، 1956)، الفصل 21، 1-5،
أن الملك مَنسَّى مَلَك خمساً وخمسين سنة بأورشليم، "وصنع الشر في عيني الرب
(...) وعاد وبنى المشارف [الانصاب في المواضع العالية] التي كان قد محقها حِزقيَّا
أبوه وأقام مذابح البعل ونصب غابةً [العشتاروت] كما فعل أحآب ملك اسرائيل وسجد
لجميع جند السماء [عشتار "إلهة السماء" في بعض كتابات أوغاريت]
وعَبَدها". ومَنَسَّى ملك في 687-642 ق.م. ويقول مورِر أن كتبة أسفار الملوك،
ويرجح أنهم من الجيل الاشتراعي والصارم التوحيد، يكرهونه ويحقدون عليه. وملك حزقيا
في 814-798 أو حواليها.
إجلاء المرأة
واستعادتها
ورؤيا
زكريا، في مطلع العجالة، قد تكون العلاقة على أفول العشتاروت التي سعى كبار الكهنة
والاحبار المصلحون في إخراجها من التعبد للرب أو يهوه. فالمرأتان اللتان رفعتا
المرأة الجالسة في وسط الإيفة، و"الريح في أجنحتهما"، نفتاها الى ارض
باب أو شنعار، و"طهرتا" مملكة الجنوب منها. ويلاحظ المؤرخ اللغوي،
والناقد الادبي في هذا المعرض، ان ديانة التوحيد "الجديدة"، أي ديانة
التوحيد الصارم والخالص، خلت من وجهها الانثوي والنسوي، الأقنومي، الذي لابسهما في
القرون الثمانية أو التسعة التي سبقت تدوين الاشتراعيين، وعيبهم الشرك على من
اعتقدوا التبرك بـ"عشيرة" الإله الواحد ورعايتها خصوبة الارض والارحام
(أو الحرث والنسل).
ولو
اقتصر التأويل على نص الكتاب والأسفار الصريح لوجب الإقرار العقلي والمعنوي بأن
"الرب" (الله؟) يتعالى على قسمة التذكير والتأنيث، تعاليه عن أبواب أو
فروع القسمة الدنيوية عامةً. والحق أن ظاهر النص التوراتي أبقى على نعوت التذكير
وصفاته ووظائفه مثل الملك والسيد والرب، من غير تحوير. ويلاحظ المؤرخ اللغوي
والناقد الأدبي أن نبوة أشعيا أو كتابه- ويسميه باحثون كثر "أشعيا الاشتراعي"،
تنبيهاً على قطعية توحيده- أن الجُمل التي تتناول الرب تضيف الى صفاته ومعانيه
تأنيثاً مجازياً متمادياً. ففي الفصل 49، 15 من أشعيا، بعد أن "قالت صهيون قد
خذلني الرب ونسيني السيد" وإجابة "الرب السيد" :" أتنسى
المرأة مُرضَعها فلا ترجم ابن بطنها لكن ولو أن هؤلاء نسين لا أنساك أبداً".
وفي 44، 2، "هكذا قال الرب صانعك وجابلك الذي أعانك من البطن". وتزيد
الآية 24 من الفصل نفسه، بعد استعادة صفتي الفداء والجبل أو الجبلة: "أنا
الرب صانع الكل ناشر السماوات وحدي وباسط الارض بنفسي". و"الكل"،
على نحو قوله في الخير والشر، يشمل الذكورة والانوثة؛ وهما وجها الاضافة المزدوجة
أو التضايف، على مثال السماوات (السموات) والارض (الارضين في التقليد الكتابي
الاسلامي).
وربما يبلغ حمل الخلق على الولادة والوضع
والنفاس ذروته في 42-14:" ... فالآن أصيح كالتي تلد وأنفخ وأزفر". ولا
تغيب عن القارئ مجيء آية الولادة وكنايتها عن اضطلاع الرب الامومي، الآب في
الديانة المتحدرة من التوراة وعهدها "العتيق" أو القديم، بعد أو تلية
آية حربية، "الرب كجبار يبرز وكرجل قتال يثير غيرته ويهتف ويصرخ ويظفر على
أعدائه" (13). وتعاقب الآيتين يمثل على دورين من أدوار ما سماه اندريه مالرو
"أطوار الآلهة". وهو، في سياقتنا، الانقلاب من رب الحرب والجيوش
والاعاصير- على ما تشهد فصول وآيات أخرى تتناول طوراً سابقاً من أطوار إيجاب الإله
الواحد- الى طور الرب الامومي ووالد شعبه. وتجلو الآية السادسة من تثنية الاشتراع،
الفصل 32 "الشعري" على وصف الكاتب، ودمج الابوة، وتذكير(ها)، في
الامومة: "... أليس أن (الرب) هو أبوك مالكُك الذي فطرك وأبدعك" (ويلاحظ
الناقل الى الفرنسية أن الرب، في الآية الاخيرة، هو مانح الحياة وواهبها، بينما
الفطرة والإبداع مصدران مجردان من الحمل على هوية مؤنثة أو مذكرة. ويؤيد التأنيث
قوله في الآية 18:"... والإله الذي أنشأك نسيته"، و"أنشأك"
العربية في مقابلة لفظة عبرية، يقول الناقل المؤوِّل، تعني وضع حملك وهو يألم.
فكأن الناقل الى العربية كاتب اشتراعي تعمد اجتثاث أصداء الأنوثة في الذكورة
الغالبة والمظفرة!).
ويتجلى
دمج الأبوة في الأمومة، والذكورة في الانوثة، في فصول كتاب عوزيه الاخيرة 11-14
(وهو من "صغار" الأنبياء الاثني عشر، الى جويل وعبدياس وآموس... الذين
لا تُدرج الترجمة الكاثوليكية كتبَهم في العهد القديم)، وفصله الحادي عشر على
التخصيص. وفصول الكتاب الاخيرة، وهي أربعة يقدر المؤرخ اللغوي أن كتّاب منعطف
القرن السادس ق.م. الى القرن الخامس صاغوها صوغاً جديداً وأخيراً، وأقروها على
اعتقادهم التوحيدي الصارم. ولكن صيغة التوحيد المنقحة والمهذبة لم تطّرح، هذه
المرة كذلك، الأحوال المتنازعة والملتبسة السابقة، المشركة، إطراحاً خالصاً ومن
غير بقية. فالتذكير بعهود الإشراك في يهوى والتعبد له، والإنحاء باللائمة على
الاشراك، كناية عن تأريخ مضمر لأطوار يهوى. ويتصور هذا التأريخ في صورة تنديد ولوم
مريرين، وطعن على تسليم ذراري يعقوب (اسرائيل أو افرايم...) للبعليم أو لشريكة
يهوى المفترضة يوم كانت بعضه أو شطره الانثوي الحميم. وتواري التبعيض الجوهري،
والماثل في صورة الإلهة ذات الثديين الكبيرين، لم يطوِ المعنى الانثوي الملازم،
ولم يلغ أو يجبِّ الغيرية الانثوية في ربوبية بلغ تعاليها وتنزيهها حد إخراجها من
التسمية ودلالاتها، خشية نازع الاسم الى التجسد بموضع وكائن ونصب وسلطان. فيهوى هو
شجرة السرو الغضة (14، 9)، وهو الندى والزنبقة القوية الجذور "مثل
لبنان" (14، 62).
وخمن يوليوس فيلهاوزن، في 1889، في غموض مطلع
الآية التاسعة من الفصل 14، ومخاطبتها أفرايم ولومه على ملابسة الأوثان أو الاصنام
عبادته، وإثباتها يهوى في صورة السروة (صدى "الغابة") والثمرة، خمّن
تضميناً حل محل اسم عشتار أو العشتاروت، بحسب الاحرف العربية. فالاستعارة- على قول
جاك لاكان في مقالته الابتدائية والانشقاقية في اللغة ومباني خطابة اللاوعي
("خطبة روما"، 1956)- هي قتل "الشيء" المسمى. وفي المعرض
التوراتي، تتولى استعارة السروة قتل عشتار، الاسم والعبادة والصورة والنصب. ولكن
القتل هذا لا يمحق أثر "القتيل" ولا يمحوه، ولا يحيل كلامه
"صمتاً" أخرس، على قول رينيه شار في حمل قول المجانين على لا شيء. ففي
سفر التكوين (1، 27): "فخلق الله الانسان على صورته على صورة الله خلقه ذكراً
وأنثى خلقهم". فيستعيد الزوجان اللذان خلقا على صورة ومثال إلهيين إثنينية
أصيلة وغير طارئة تحت جناح توحيد صارم لا ينكر كثرة أولى وعصية على
"التخطي" والجب. و"يعوِّض"، يقول توما رُومِر، التمثيلُ على
الحكمة وتصويرها نفساً أو ذاتاً متكلمة في سفر الامثال (الفصل الثامن، 22-23
و30-31)، تنحية الإلهة المؤنثة و"قتلها" المجازي. فيجوز قولها:"
الرب حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء * من الازل مُسحت من الاول من قبل
أن كانت الارض".
في
البدء كان الكلمة؟ والكلمة كان عند الله؟ والله كان الكلمة؟ وماذا يقول أصحابك في
خلق القرآن؟ قولَ أصحاب الكتب في الله؟ وفي الصفات؟ أكانت مع الله؟ إلخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق