الاثنين، 29 أبريل 2019

"مجتمع جديد" في ساحة اعتصام الخرطوم؟



المدن، 29/4/2019


 يتظاهر السودانيون في شوارع الخرطوم وساحاتها وهم ينتسبون إلى بلدان وجماعات وهيئات واسعة تعرّفهم ويصدرون عنها. فبعضهم يقيم في حي الرياض، بشمال الخرطوم الشرقي، ويتظاهرون على هذه الصفة أو النسبة. وبعض آخر من السبط، على النيل الابيض وإلى الغرب الشمالي على حدود أم درمان. وبعض ثالث من طيبة الحسناب، جنوب الخرطوم وعلى النيل كذلك. وحين يعلن أهل عطبرة، "مهد" حركة الاحتجاج رغبتهم في المجيء الى الخرطوم والمشاركة في الاعتصام بساحة أمام مقر القيادة العسكرية، يستقبلهم وفد الأهالي عند نزولهم من القطار المليء والطافح إلى سطحه بالركاب الضيوف. وهذه، أي الاعلان عن صفة المتظاهرين المؤيدين، شأن القضاة والأطباء والمحامين والاساتذة الجامعيين، والطلاب، والعاملين في شركات الكهرباء والطيران والتأمين والكيمياء، والهيئة الجامعة التي تتولى دعوة الأهالي الى التجمع والمسير تسمي نفسها "تجمع المهنيين السودانيين". وهي عرفت بهذا الاسم قبل أن تشاركها "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحزبية والسياسية الكلام باسم المتظاهرين المعتصمين.
"الشمّاسة"
ويكتب محمد أمين ياسين، من الخرطوم (الشرق الاوسط، في 24/4/2019) ان ثمة مئات "يجوبون شوارع الخرطوم، يتسولون، يقتاتون من براميل القمامة، يبيتون في مجاري الصرف الصحي وأطراف الطرقات... فاقدي السند..."، انضموا بدورهم إلى المعتصمين وساحتهم وأمسوا رافداً من روافد الساحة "العسكرية" وجماعة من جماعاتها. ويُسمى الهامشيون المشردون هؤلاء، على ما يروي ياسين، الشمّاسة "أو أولاد الشمس". ويخمِّن أن اسمهم مشتق من "كونهم يعيشون من دون سقف يحميهم من الشمس". وسبق لهم أن اضطلعوا بدور بارز في القيام على جعفر النميري، في 1985، فسمى أنصار العسكري قيام بعض "الشارع" السوداني عليه "ثورة الشماسة"، تصغيراً وازدراءً. وبعض الشماسة يتعاطون "السلسيون": "وهي مادة لاصقة تستخدم في رقع إطارات السيارات والدراجات"، ويتعاطاها هؤلاء مخدراً رخيصاً ومدمراً. وشطر منهم في سن لا تزيد عن 7 أعوام ولا تتجاوز الـ15 سنة، وهم الغالبية، وفيهن طفلات أمهات وأطفالهن".
 وفي ضوء صفتهم التي تقدمت، يجمع الشماسة سمات الهامش، أو القاع الاجتماعي والمديني. فهم فتيان أو فتيات دون سن "الرشد"، ولا مهنة لهم ولا حرفة. والمهنة الوحيدة والموصوفة التي تنسب إليهم هي "تلميع الأحذية". وهذه المهنة شارة على دنو المرتبة، وعلى الاستعاضة عن البطالة الصريحة بعمل يصم صاحبه بوصمة "الصغار". وهم "منحرفون"، يدمن بعضهم المخدر المتاح والبالغ الضرر. وتناول مادة الغري، على ما يسميها اللبنانيون وربما المشرقيون عموماً، يصنف المتناولين في أسفل درجات المدمنين، ويخرجهم من مراتب هؤلاء الداخلية والمتعارفة. وتنتهك "الطفلات الأمهات" مرتين أعراف "النكاح" (الزواج، العلاقة الجنسية) الاجتماعية والشرعية، سناً وإطاراً، أو فقهاً وحكماً.
 وعلى هذا، "ينبغي" للمجتمع السوداني وهيئاته وروافده التي تصب في ساحة الاعتصام منذ 4 نيسان (أبريل)، وتنقل معها على الأرجح "مواد" مجتمعها ومصادرها العملية والمعنوية والذهنية والأخلاقية، أن يلفظ أهل "القيعان" هذه، على تسمية مكسيم غوركي. ويُنتظر أن يتبرأ من مخالطتهم،  ويقسرهم على التزام حدوده، والبقاء في العراء، أو في دوائر مسورة وموصومة على شاكلة المجذومين والغجر والمجرمين والبغايا وأهل "الحارات" وأقوامها. وكانت هذه حالهم قبل ما يسميه السودانيون اليوم "الثورة"، وهو الفصل الأخير منها، فصل الاعتصام والجلوس، على قول الصوفية وطلاب الجامعات الأميركية، في الساحة أمام مقر قيادة الجيش السوداني العامة بالخرطوم، وتجديد الرابطة التي تجمع إيجاب أنفسهم واجتماعهم مصدراً لتدبير أمرهم المشترك، علانية وأحراراً متساوين وراشدين.
الضيافة
 وعلى خلاف التوقع، المترتب، ربما على تصديق مزاعم سياسية محلية شاعت في نصف القرن العربي والإسلامي الأخير، لم يوصد المجتمع السوداني المعتصم والجاهر فروقه البلدانية والقومية والمهنية والاعتقادية أبوابه في وجه هذه الجماعة من جماعاته. فيروي الجزولي عمر، "أحد شباب المعتصمين الذين يعملون في تأمين وحراسة الحواجز والمتاريس، على تعريف المراسل محمد أمين ياسين به، أن "العشرات من هؤلاء الأطفال" الشماسة "وصلوا (إلى) القيادة العامة"، أي ساحتها. "وتزايدت أعدادهم باطراد، وعلى باب الساحة، و"المجتمع الجديد" الذي حضنته، اشترط عليهم حرس الحواجز والمتاريس التخلي عن السكاكين التي يحملها بعضهم، وترك "السلسيون". و"تجاوبهم الكبير" ساواهم بالمعتصمين الآخرين، و"دمجهم" في مجتمعهم.
 فهم يشتركون في تنظيف الساحة، وفي نقل المؤونة وتوزيع مياه الشرب والطعام على المعتصمين، وفي حراسة المكان. ونصبت اللجان القائمة على رعاية الاعتصام "خيمتين في وسط الساحة (...) واحدة يهجع (الشماسة أو أبطال الشوارع) إليها ليلاً للنوم، وأخرى (يتعلمون) في فصلها المدرسي الحروف والأرقام". ومن أراد إعمال "موهبته" في الرسم أو الغناء أو المسرح وسعه ذلك. ويقول عبدالعزيز كناري، من جمعية "مجددون" المدنية، أن الجمعية "وفر (ت) لهؤلاء أطباء متخصصين في علم النفس ليتحدثوا معهم عن حياتهم وكيفية مساعدة أنفسهم، فضلاً عن التثقيف الصحي وسلوك النظافة العامة". ويخلص الطبيب النفسي مصطفى آدم سليمان إلى أن هؤلاء المنفيين من المجتمع السوداني القديم "أحسوا بآدميتهم وقيمتهم..."، وأقبلوا على "الاندماج المجتمعي (الحادث) بشكل غير مقصود"، على قول الطبيب. وكيفما فُهم القصد أو خلافه، فما أنجزه مجتمع السودانيين "الجديد"، في هذا الوقت وبهذا المكان وعلى شروطه، هو مساواة قاعه وهامشه، بعض قيعانه وبعض هوامشه، بصفحته ومتنه (ببعض صفحاته ومتونه). فأنشأ هؤلاء مواطنين أكفياء وأسوة وأخوة وشركاء "في البلد"، على قولهم.
 يشبه خبر مراسل الصحيفة قصَصَ القصّاصين (الوعاظ) وحكاياتهم التي تنتهي بأن من يقصون حكايتهم "عاشوا في ثبات ونبات وولدوا صبياناً وبنات". والفرق هو أن سياقة الحكاية السودانية الراهنة هي الديموقراطية المعاصرة ومعاييرها ووسائلها وغاياتها، وليس نماء الحرث والنسل. ولا شك في جزئية الحكاية وضيق نطاق من تتناولهم، وقلة عددهم، وفي قصر وقت الاختبار واستثنائية ظرفه. فالمجتمع الذي تصفه المراسَلة يشبه تظاهرات المؤاخاة التي سيرتها الجماعات الثورية الفرنسية، في 1789-1793، وكتلت متظاهريها كتلة مرصوصة و"أذابتهم"، على وصف جان – بول سارتر "الجماعة الذائبة" الثورية، وصهرتهم روحاً واحدة متماسكة ومتجانسة. فلا ينبغي لآحادها وأفرادها أن يتميز واحدهم من الجمع بما يفرده من الآخرين، وإلا صدقت فيه وصمة "الفردية" وخيانتها وخروجها على الجماعة.
فروق غير ذائبة
 وحين يمدح الطبيب النفسي مصطفى آدم سليمان ساحة الاعتصام، ويقول إنها "ذوبت كل الطبقات وأزالت الفوارق المجتمعية بشكل مدهش" يخالف مديحه سمة بارزة وسمت الحركة السودانية بميسمها منذ خطواتها الأولى.
 فالحركة لم تتكتم على مصادر جماعاتها وكثرة هذه المصادر وتفرقها، وروافدها، وأعربت عنها من غير لبس، ولوحت بها علماً على الفروق بينها وعلى ائتلاف "الثورة" منها، وحرصها على الإقرار بها. والحق أن المسار البياني لحركة "الحرية والتغيير" السودانية فريد في بابه، إذا قرن بأمثاله وأشباهه العربية والمعاصرة.
 فالحركة خرجت من النسيج الاجتماعي والسياسي والجغرافي، على تفرقه الكثير الوجوه والمنازع وبقيت لصيقة به، ولم تنكر توشية خيوط هذا النسيج. فلم تصدر، على خلاف الانقلابات العسكرية والحزبية والمختلطة (على شاكلة انقلاب حسن الترابي الحزبي- العسكري قبل 30 سنة)، عن مركز واحد يزعم تمثيل "الأمة" و"الدولة" تمثيلاً مسبقاً ناجزاً ومستوفياً. فالأمة السودانية مشروع أو أفق على الحركة، في صورها اليوم وفي مراحلها الآتية، إذا أخفقت القوى والمنازع المناهضة في تطويقها، أن تسير على هديه، وهي تقر باستحالة بلوغه والإحاطة به. وترفض إمكان الأمرين: البلوغ والإحاطة، وما يترتب عليهما من مزاعم التمثيل والتجسيد والوصاية التامة وغير المقيدة بأجل.
 ودعا اعتراف "الاعتصام" السوداني، وكيانه المعنوي والمادي، بالعناصر الاجتماعية المتفرقة والمتباينة وفيها أو منها المغرقة في الهامشية والطرفية على أشكالها، (دعا) معظمَ الحركات الانفصالية أو الاستقلالية أو "الائتلافية" الفدرالية، في دارفور وكردفان والنيل الازرق، إلى تعليق قتالها الخرطوم في انتظار بلورة مثال جديد ائتلافي للولاية أو السيادة. ولا مناص للمثال الجديد من الإقرار بانقسام الدولة والمجتمع، وباختلاف عللهما وقيام كلاهما الواحد بإزاء الآخر من غير ابتلاع أو التهام. فإذا أثمر الاعتراف بالفروق الداخلية، وبتباين المصالح في "صفوف الشعب" وبينها (واستبعد مثال الشعب الواحد والمندمج في خدمة طغمة "قومية" مستبدة)، أبنية سياسية تحضنُ التنازع في إطار قواعد جامعة، فقد يضوي هذا الإطار إليه الجماعات المحلية والقومية والعرقية والدينية. وتتخلى هذه الجماعات عن سعيها في حماية نفسها من العدوان المركزي والعسكري، تارةً بالحرب "الأهلية" وتارةً بـ"العمالة" لقوى خارجية.

"تخصيص" الدولة
 وتسلط المركز الواحد والمتربع في قمة سلطة "فولاذية" (عصبية وأمنية غالباً) يلد انقسامات "يتحاور" أهلها وأصحابها من طريق القتال بين الجماعات الأهلية وداخل هذه الجماعات (فجنوب السودان مسرح اقتتال داخلي متجدد قبل الانفصال أو بعده، وحركات "تحرير" دارفور استقر نزاعها على ولاء مناطق وقبائل متحاجزة، و"حلف" الترابي - البشير قام على توزيع غنائم رجراج...). وزعم جماعة من الجماعات المُركبة - من جسم عسكري وجماعة أهلية وكتلة حزبية- الاستيلاء على الدولة الوطنية ومرافقها، والاضطلاع بدورها الجامع مع الاحتفاظ بروابط الجماعة الخاصة وتماسكها ومراتبها، يفضي إلى "تخصيص" الدولة وتصديعها، وإلى إحلال منطق الأهل العصبي فيها، على ما حصل في "سوريا الأسد" و"عراق صدام" و"إيران خامنئي والحرس" و"لبنان نصرالله وعون"... على درجات متفاوتة.
 وهذا ما أدركته الشركات الأمنية التي تستشيرها حكومات تهب عليها معارضات شعبية غير متوقعة، شأن الحكومة السودانية "السابقة" (حكومة البشير)، على زعم محطة "سي إن إن". فالمحطة نشرت مراسلات حكومية سودانية تلتمس من شركة روسية امنية، "كونكورد مانجمانت"، يملكها "طباخ" بوتين ومعد طعام الكرملين ودوائره، يفغيني بريغوجين، إعداد خطة تتولى إحباط الحركة السودانية. فاقترحت الشركة نشر "أخبار" عن مهاجمة المحتجين مساجد ومستشفيات وإعدادهم للحرب الأهلية، ووصمهم بعداء الاسلام والقيم الاسلامية، وبمحاباة المثليين وتأييد اسرائيل...
 وهذا "المركب" هو ظل الانظمة العصبية والبوليسية "العربية" والاقليمية، وسياساتها القومية والدينية. وهو صورة معكوسة عن الأنظمة "المثالية" التي تزعم بعض الطبقات الحاكمة إنشاءها وحراستها: أنظمة لا تصيبها الحرب الأهلية إلا بسبب العصابات المأجورة (وليس جراء الاستبداد والظلم والإقصاء والإدارة الفاسدة والخرقاء)، وتتذرع بالجهاز الديني إلى تسويغ محافظة اجتماعية وثقافية عقيمة، وتنصب اسرائيل مصدراً أوحد لشر ميتافيزيقي. وساحة الاعتصام السوداني هي نقيض هذا، سكتت عن بعض المسائل أو خاضت فيها.

ليست هناك تعليقات: