المستقبل، 22/2/2009
في أثناء عقد من السنين ترددت فيه إلى بسام حجار، وجلست إليه، لم يغادر مرة واحدة ربما مجاورته أو اعتكافه أو جلوسه أو خلوته. فهو كان، على الدوام، مجاوراً أو معتكفاً أو جالساً أو مختلياً. والمجاور المعتكف هذا لم يبدُ عليه يوماً الانصراف بوجهه عن زائره الى حاضر آخر يغشى المجلس ولا يراه الزائر، ويتكتم عنه صاحبنا. فهو، على خلاف هذا، كان خفيف الخطو الى بابه حين يطرق الزائر باب البيت. فيسع الطارق سماع خطواته وهو يجتاز الممر الطويل والمستقيم والضيق، من مبتدئه في حجرة الكتب المتطرفة، الشمالية والمطلة على بقايا بساتين الليمون والحامض أو على زاوية محشورة بجدران البساتين، إلى آخره في ختام طريق تحاذي حجرات النوم والطعام والاستقبال. وبينما يقبل بسام على الطارق، والإقبال شيمته وعمله، يتناهى الى المنتظر خلف الباب وقع خطى زاحفة ومتقاربة. فيراه المنتظر، قبل ان يفتح الباب، وقبل ان يسمع كلامه وهو يتم حديثاً يجاذبه أحداً أو آحاداً في البيت، يراه أي يتخيله سابحاً في بيجامته الفضفاضة أو في بينواره الصيني القصير والمشمر عن الساعدين، محتذياً نعليه البيتيين الطويلين والمصنوعين من بلاستيك، ملوحاً للقادم بانتظار وشوق لا يحتاجان إلى عبارة. فإذا فتح الباب، ووقف لصق الجدار فارع الطول، متيناً ومستقيماً وقوياً من غير غلظة ولا إدلال، وخلى بين القادم وبين الدخول، ودعا القادم إليه، لم يقتصر الترحيب على ألفاظ الترحيب المعهودة والمتعارفة. فكانت تتمةُ ثلاثة أحاديث أو أربعة سابقة – يتولاها بسام حجار معاً، فيستأنف واحداً كان أوله على الهاتف وثانياً سطراً في مقالة أو كتاب وثالثاً خبراً منقولاً ورابعاً موعداً لم يتّعِده أحدٌ غيره – هي ترحيبه. وبينما يتم أحد الأحاديث هذه أو بعضها، يرخي يداً أو ساعداً على كتف، ويقهقه ووجهه الى وجه، ويرد بمشادة على تعريض، ويستعجل إنجاز طلب أو يستمهل جواباً.
فلم تكن هذه الأوقات التي يحضرها الصحب وهم وقوف على الباب أو هم بعض الجَلس في الداخل، إيذاناً بالدخول على مجاور معتكف. وما كان ابتداؤه، عند الباب، استقبالاً وترحيباً وتأهيلاً كثيراً، لم يكن ينقطع حين المجالسة والمباسطة والمؤاكلة، وأولاً وآخراً حين الشراب. وفي المجالسة، وهذه آدابها البسّامية، لا يترك "صاحبُ" الدار، محجةُ الصحب وجامعهم، كثرته الى وَِحدتي العدد والاعتزال. وأطوار الكثرة في المجالسة، وهو ربما كان قال مهن الكثرة، هي غيرها حين التوجه الى الباب وطارقيه، والإقبال على القادمين، والتوجه عليهم، ودعوتهم الى النزول على سعة. فهو، في المجالسة، الوسيط بين السابقين الى الجلوس وبين القادمين من بعد، ومن ليس من هؤلاء ولا بأولئك. وهو المضيف، الرائح بين الدار وبين من حلّوها والغادي، من غير ان يغادر سيماء الضيف أو أدبه. وهو معرِّف صحبه بعضهم الى بعض، فيحسبون أنهم يعرفون معرّفهم، ويتعارفون من طريقه، فلا ينتبهون إلى تخففه، هو، من المعرفة والتعريف، فراشةً على هُوِيّ من غير محل الى غير محل. وفي الأثناء، هو الأب والصاحب الزوج والرفيق والزميل والمؤاكل والمؤاسي والمذكِّر والناصح والمواعد والشاكي والضاحك والمحكِّم والمستدرك والمتألم والساكت والمقيم والمسافر والمنفي والعائد والمنتظر. فلا يتوقعه مجالسه بموضع ويلقاه به. وقد يتوقع المُجالس، أو ينبغي له ان يتوقع الإرهاق وهو يحاول اقتفاء صاحبه ووجوهه. فلا يقع على الإرهاق، ولا يتعبه السفر في أثر المسافر المترحل. ويلفاه حاضراً حين يهم بالشكوى، واقفاً في الباب، مبتسماً ابتسامته المترجحة بين بياض الأسنان الوامض وبين قاع العينين العميق والودود، بين إقبال الكتفين العريضتين وصارية الصدر الفسيح وبين ترجيع الوجه أخباراً مطوية ومستغلقة قد لا تلقى مفسرها وشارحها وترجمانها يوماً.
وغداة انقضاء نيف وعقد ونصف العقد على العقد الذي ترددت في اثنائه الى بسام حجار، وجلست إليه، وطرقت بابه، واستقبلني مرحباً، وأجلسني، وكان مضيفي وكنت ضيفه، وكنت مضيفه وكان ضيفي المفرد قبل ان ينقطع وأنقطع، ويخلو الى مشاغل هدوئه، وتشبيهه روايةَ خوفه (من) الرؤيا، و (يخلو) إلى يدها وحدها، وصحبة ظلاله، ومهن القسوة، ومعجم أشواقه، وتعبه، وحبه الكناري، ومديح الخيانة، وكتابة الرمل، واقتطاف الأشياء القليلة، واستطلاع الحياة من بعده، وترتيب ألبوم العائلة والتعليق على العابر في المنظر الليلي، وتفسير الرخام – وهذا كثير وأتساءل كيف قيض له في ثلاثة عقود لم تتم ان يتقصى هذا كله أو بعضه، وأن يزاول مثل سائر الخلق جامع المهن الأخرى وشرطها الأول، معاً – غداة انقضاء الأوقات هذه كلها أخال، من غير يقين، أنني عشت دهراً مع بسام حجار، ولابست تقلبه بين مشاغله وأعماله ومهنه، ولم يخفَ عليّ شيء (على نحو ما يطلق الكلام في الخفاء وكأنه كلام في الظاهر). ولكنني لم أرَ شيئاً. وإذا شئت أن أروي بعض حوادث الدهر الذي أزعم انني عشته وصاحبي الراحل، لم أقع على حادثة واحدة أو خبر واحد. ولم أقع على ما يسعني القول انه ليس بشيء. فالأسماء والوجوه والأجساد والحركات والسكنات والضحكات والأماكن والأوقات والعبارات والكتب والصحف والمواعيد والأسفار والشراب والعيادات – وهو كان أحصى هذه على نحو آخر اختُصّ به فقال الستائر والمقاعد والمنافض والغبار والهواء والضوء على الجدران والمصابيح وزجاج النوافذ الرطب واللهاث ولباس النوم وطعم الفم غداة السهر والشراب والقرع على الأبواب – هذه كلها، ما أحصيته وما كان أحصاه هو على طريقته الفريدة، لا تعصى التدوين ولا الاستعادة ولا تحقيق الشهادة والتواتر.
ولكنها عدواه. فالصاحب المضيف، والجليس الثابت والمتوجه الكثير والوسيط الملتمس، هو نفسه المنسل خفية من بيننا. وهو المجاور ما لا تحتمل الحياة اليَقِظة قوله أو جهره من غير ان تتصدع أو تخر مغشياً عليها. فكان بين صحبه وأهله وجلسائه وأهل شربه يداري الحياتين، ويؤلف بينهما على قدر ما تطيق الحياتان التأليف وتتحملانه. والأرجح عندي، ودليلي على زعمي هو بسام حجار (1955- 2009، منذ اليوم، وما بين اليومين وما قبل اليوم الأول بقرون وما بعد الآخر بقرون)، الأرجح ان الحياتين هاتين يثقل عليهما التأليف والجمع. ولو كان زواجهما يسيراً لما اضطر بسام الى المؤاخاة الصعبة بين وجهيه، وإلى محاكاة الوجهين في حياة واحدة ومرهقة. فكان وجهاً الى امتهان حياة النهار والليلة، والقيام بأعبائها وفرائضها من انشغال وتبدد وتقلب ونسيان وانتباه وبشاشة وحزن وكلام وتعب وكثرة، ووجهاً الى ما لا سبيل إليه إلا بقول هذه كلها، الانشغال والتبدد...، من غير الغفلة عن أنسابها الهشة، وتحدرها من اصلابها العالية والجائزة والوضيعة. فكان الوجهين والتماسهما، وكان السعي والنفر بينهما، وجليسهما ومؤاكلهما ومضيفهما. وكان طارق بابيهما ومستقبلهما على سعة ورحب لا ينكران الكثرة، ولا يرجوان الغيبة في الواحد. وحاله هذه هي بابه على كتابته، وبابه على نفسه وعلى غيره. فهو أراد، على تواضع الجالس (أي معلّق روابط المشاغلة الجزئية)، الإصاخة الى ما بين الأشياء والأحوال والأوقات والأمكنة والضمائر والأحلام والذكريات، من آصرة حين لا يحضرها الوجدان الإنسي المقيد بمشاغله ومخاوفه ومصالحه. وإرادته الشعرية هذه ضرب من التجرد البطولي والقدسي. ولعل الغفلة عن الإرادة هذه هي السبب في تأويل شعره وقراءته على نحو "نفساني" أظنه ضعيف الصلة بكتابته ومسالكها. فهو حَدسَ في حقيقة محادثة "الأشياء"، على معنى يجمع الناس والأحوال والأشياء والحوادث والكلمات والعناصر والمعادن، نفسَها، وامتلاء حياة مطوية تحياها "الأشياء" هذه بحوادث من ضرب لا يدركه الحدس العادي المنصرف الى القول والعمل والصنع والاجتماع، والساهي عن شرائط إنّيته وقيامه على الحال التي هي حاله. فأراد الشاعر الكاتب تدوين المحادثة هذه من غير تصوف، على رغم توسله بلغات المتصوفين، ولا انقطاع من لغة العامة أو حياتهم، لغتنا وحياتنا. فاعتكافه ومجاورته لم يحملاه على الانقطاع إلى وجه خفي باطن لا يدرَك من "الخلق" أو الكون، ولا يقال إلا تلويحاً وكهانة أو تعليماً مستغلقاً، أورفياً أو اسماعيلياً (وكراهته بعض "الإسماعيليين" المعاصرين ربما مردها الى هذا). ولعله يزعم ان القوة على الكلام تتخطى إرسال الكلام وإناطته بمتكلم يستوي في نفسه، وتنطوي نفسه هذه عليه، وتقيده دائرتها التي يغلب طيُها، نشرَها.
وكتابته هي تحقيق زعمه. وهو كتب على أساتذة وأقران اختارهم على قدر ما اختاروه. ومعيار الاختيار المزدوج هو إيجاب عوالم ودنى ليست من ولائد اليقظة ويقينها المستعجل والمباشر، ولا من معدن الوعي والوجدان. فروى بعض سير العوالم والدنى هذه، وقص بعض تراجم اصحابها وقاطنيها وأهلها. فتعقب، على سبيل المثل، "خياطة الضحكة الى الإغماءة". فتبع خطى الضحكة، وهي من أشياء بسام حجار، وهي ترمي بـ "نفسها" الكثيرة والمجتمعة من رسوم ومعان ودم وعروق وعضلات ودمع ودهشة ورغبة، هنيهة بارقة من غير وقت، في الإغماءة، الكثيرة والمجتمعة بدورها من رسوم ومعان متفرقة أخرى. ولكنه قص حكايات لا تحصى مثل هذه. وتملأ استعادتها وتذكرها اياماً وليالي وكتباً طويلة آتية. والاستعادة والتذكر ابتدأهما ساعة مواراة بسام الطين البارد، تحت سماء ملبدة، وبجوار واد وديع، بعض من مشوا وراءه. فطمأن أحدهم جاره الى ان من يحمله المشيعون الى مثواه هو "مترجم". وقال آخر انه "متثقف". وأخبر ثالث، وهو يقف في صف المعزين، صاحبه ان من يعزون شقيقه به، أي بسام يوسف حجار، ترك أولاداً من فراشين. وانشغل كثر بتخليص نعالهم من الطين الذي علق بها، وقال بعضهم في سرهم انها هدية بسام إليهم. ولا ريب في ان آخرين رووا "أشياء" لا تحصى عما لا علم لهم به. وأحسب ان الصديق الذي ترددت إليه عقداً سالفاً من الزمن أراد ان يكتب شعراً مطلبُه هو هذا: ماذا نخالنا نقول حين نقول فيما لا علم لنا به، ويراودنا القول فيه عن أنفسنا ويقيننا، ويدعونا الى إيجاب عالم وسير وتراجم من نتف معان وأصداء حروف لا تجتمع في صدر متكلم؟ نخيط الضحكة الى الإغماءة، بداهة! ونفيق من الإغماءة، ورحلتها القارية، على ما تجتمع الضحكة منه، وهو قارات أخرى، البرهان على حقيقتها والحجة... بسام حجار إلى قيام الحجة.