الاثنين، 16 فبراير 2009

خطبة باراك أوباما الافتتاحية بين يدي الشعب الفتي والممتحَن


15/2/2009 المستقبل
من خطبة مؤتمر الحزب الديموقراطي في 2004 إلى خطبة فيلادلفيا في ربيع 2008، ومن خطبة ترشيح الديموقراطيين "رجلهم" الى الرئاسة في صيف 2008 الى خطبة المرشح الفائز مساء 4 تشرين الثاني بشيكاغو، فخطبة التنصيب في 20 كانون الثاني 2009 بواشنطن، تقوم خطب شيخ ولاية ايلينوي الجديد والشاب، ثم المرشح، فالرئيس الرابع والأربعين، مقام المعالم أو العلامات على طريق سياسية ورئاسية تجمع الحنكة الى الدلالة البليغة، وتستعيد مقارنة باراك أوباما بابراهام لينكولن، هذا الوجه من حياة لينكولن السياسية. فتاريخ هذا وخطبه، وأوقاتها وأفكارها، واحد. ويحقق هذا سمة من سمات تاريخ الولايات المتحدة الأميركية البارزة والثابتة. فالأمة (الأميركية) الفتية، (على ما لاحظ بعض كبار مؤرخيها، من جورج بانكروفت في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر الى دانييل برونستين في الربع الأخير من القرن العشرين)، رفعت المطارحات العامة الى مصاف جزء أو وجه من "هوية وطنية عامة"، فغلّبت الفن الخطابي على الشعائر العامة.ومثال هذا خطبة التنصيب الرئاسية. فالدستور لا ينص إلا على القسم الرئاسي، ولا يلحظ خطبة الرئيس الافتتاحية. ولكن العرف غلب حرف القانون، وكرّس الخطبة العامة مقدمة لا غنى للولاية الآتية عنها، واستقلت صفة الخطبة بنفسها. فهي "الافتتاحية"، أو "الفاتحة" من غير موصوف. ويعزو المؤرخون الأمر الى جدة البلد وفتوته، فتقوم خطبة التنصيب مقام خطبة العرش البريطانية في مستهل الولاية الملكية أو في أوائل ولاية رئيس وزراء جديد يفتتح، وحزبه الفائز في الانتخابات، عقداً حكومياً. وهي، من وجه آخر، نظير الموعظة التي يلقيها القس، أو المؤمن "العلماني"، في القداس الكنسي الإصلاحي أو البروتستانتي وجماعة المصلين. وهو قداس من غير ذبيحة إلهية، ولا سر كهنوت، ولا اعتراف على حدة، ولا حل من الخطيئة.يتولى الفن الخطابي، على وجه العموم، تلاوة تاريخ الأمة، وحلقات التاريخ هذا، وهدهدة النفوس وطمأنتها الى اتصال حلقاتها، ومتانة اللحمة الجامعة. فالأمة الأميركية، على قول أحد المؤرخين، وُلدت مولوداً تاماً وسوياً قبل الحمل بها أو في ابتدائه. ويرتب هذا على الفن الخطابي، الرئاسي وغير الرئاسي، الابتعاد من الدقة والتفصيل، والتقريب بين المتباعد أو المتباعدات من المعاني والمتباعدين من الناس. وهو اضطلع بتوحيد الأميركيين بين الثورة الاستقلالية والدستورية، في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وبين الحرب الأهلية، في ستينات القرن التاسع عشر. فالآمال العظيمة وحرارة المشاعر تقتضي عبارة فضفاضة وغنائية، وملحمية بعض الشيء، عنها.
"الموقف" الرئاسيوهذا ما لم يتخلف عنه الرئيس باراك أوباما، ولم يقصر في ميدانه، فعاب عليه منافسوه، ديموقراطييهم وجمهورييهم، ما نعاه سياسيو الشمال الأميركي (انكلترا الجديدة) على جنوبييه، وسمّوه "السياسة الميتافيزيقية" طوال القرن الأسبق. ولم يبال المرشح في حملته الطويلة بالأمر، وسأل ساخراً: هل علي ان أكون عياً؟ فهو يعلم انه يتحدر من إرث خطابي وكلامي، على معنيي الكلام، كان عاملاً سياسياً وتاريخياً فاعلاً ونافذاً. والرئيس الأميركي يجمع وحده في دوره وشخصه – هو من ينتخبه الشعب "كله" ويندبه وينيبه عنه، ويقيده بنظام دستوري معقد من "المفاتيح والأقفال"، أو من الصلاحيات والقيود – السلطان التنفيذي والإداري العظيم. ولكن انتخابه المباشر، على رغم مجمع كبار الناخبين، يقيده بميول الرأي العام، الناخب كلَّ يوم وليس في أول ثلثاء من تشرين الثاني كل أربعة أعوام وحسب، فتقويه الميول هذه أو تضعفه بإزاء مجلسي النواب والشيوخ، في الانتخابات النصفية، والاستفتاءات الكثيرة والاستطلاعات، وفي "مقياس" الصحافة اليومية وميزانها اليقظ.وعلى هذا فهو، من غير شك، رئيس منصّب، ويحكم "جالساً" على قول دستوري قديم لم ينقطع. ولكن سلطانه، من وجه آخر، في مهب القبول والرضا الشعبيين، وعلى محك امتحانهما، ويكاد يكون دالة معنوية، أو هو ليس في غنى عنها. ولعل الحال هذه هي تعليل المراهنات الرئاسية على التاريخ و "قضائه". فغادر جورج بوش الابن البيت الأبيض وهو يتلفت، برجاء، الى سيرة هاري ترومان، رئيس الولايات المتحدة خالف روزفلت في المراحل الأولى والشرسة من حرب باردة لم يشك المعاصرون في وشك انفجارها حرباً كونية ونووية أخيرة. وكان قبول سياسة ترومان هوى، في اثناء الحرب الكورية، في استفتاءات الرأي الى مستويات متردية.وفي الخطب "الكبيرة" أو المنعطفات، وآخرها الى اليوم منعطف التنصيب أو التقليد، بدا أول رئيس أميركي ملون رئيساً و "قساً" أو مرجعاً معنوياً معاً. والمهمة الأولى التي يضطلع بها، ويتولاها، هي لمّ شتات التاريخ الأميركي، ونظم حلقاته في خيط متصل الى الحلقة الأخيرة والراهنة. والحلقات الأربع والأربعون، على عدد الرؤساء الأميركيين الذين توالوا منذ جورج واشنطن وولايتيه الافتتاحيتين الى باراك أوباما الواقف خطيباً، لا تقتصر على "اسرة" الرؤساء والولاة، وليست حلقاتهم على وجه الدقة. وهم لا ينتسبون الى الرئاسة وعملها. فما يعرفهم، ويعرف عملهم، على قول الخطيب منذ كلماته الأولى، إنما هو الوقوف "في موقف"، على قول النفري المتصوف، "امام المواطنين"، أي "بين ايديهم". والموقف هذا هم أوقفوه فيه حين جعلوه موضع أو مستودع "ثقتهم"، على نحو ما استودع الأميركيون 43 رئيساً قبله ثقتهم، ومحضوهم إياها. والرئيس أوباما، شأن أسلافه، يقف "بين يدي" الشعب الأميركي. وهو من تكني عنه وثيقة فيلادلفيا الاستقلالية والدستورية الأولى والأم بـ "نحن الشعب". ولا يختم الخطيب الفقرة الثانية من خطبته قبل ان يستعيد العبارة الاستهلالية التي نصبت "الشعب" كفواً للسلطان ومصدراً. ويقف الرئيس الرابع والأربعون خلفاً لأسلافه، ويستظل مثلهم "التضحيات" التي بذلها أو قدمها الآباء والأجداد.ووجها "الموقف" الرئاسي الأميركي هما وجها علاقة فاعلة ومتجددة بالزمن التاريخي، السياسي والاجتماعي حكماً وتعريفاً. فالمتكلم، الآن وهنا ("هيك إيت نونك" في لاتينية سرت في العاميات الأوروبية)، يكلم من يقومون بإزائه ويقوم هو بإزائهم بكلام يتعهد حقيقته واستقامته قوله والتلفظ به في رعاية الناخبين الأحياء وتكليفهم وحسبتهم، من وجه أول، وفي رعاية الرؤساء الذين أولاهم الأميركيون "ثقتهم" من قبل. وصنعوا وإياهم حوادث التاريخ الأميركي، والتزموا على هذا القدر أو ذاك، في السراء والضراء، "في السلم والرخاء وفي الوقت العاصف"، ميثاق الأمة الأميركية، من وجه آخر. والوجهان معاً هما شرط إخراج الأمة الأميركية من البقاء في أسر ماضيها وحوادثه، المجيدة والأليمة، واستقبالها آتيها ثابتة في "الرجاء"، الفضيلة الإنجيلية الأولى ("لا تخافوا" على ما يكرر انجيل متى) وصنوها الثقة، على ما تردد الخطبة. فالدعوة الأوباموية الى التغيير وإرادته، وهو احد شعاري الحملة الانتخابية، وإلى الأمل وإقدامه، وهو مقدمة الحملة والباعث على خوضها، هذه الدعوة ما كان لها ان تتحرر من رتابة الاجترار اللفظي والشعاري لولا موازنة الوقائع الكبيرة بظلال قاتمة تحفها. فالثورة الاستقلالية والدستورية، و "أبو الأمة" جورج واشنطن العَلَم عليها، لا تمحو الحرب الأهلية والانفصالية الدامية بعد نيف وثمانية عقود على الاستقلال، ونيف وسبعة عقود على الدستور.
الرجاء والمروءةفوحدة الأمة التاريخية، ودوامها واتصالها، ليست في الحوادث والوقائع نفسها، بل هي ثمرة إرادة الشعب الحرة اليوم. وتتجدد الأمة ووحدتها واتصالها في رغبة المواطنين في استعادة عهود آبائهم ومواثيقهم، وفي تحمل التبعات والمسؤوليات عما فعل هؤلاء، ويفعل أبناؤهم وأولادهم وينوون فعله. ويتولى البناء الخطابي والأدبي "الشعري"، على ما قالت توني موريسون في وصف خطابة المرشح، التمثيل على تناول التاريخ والسياسة على هذا النحو. وقد تكون الفقرات الثلاث الأخيرة من خطبة التنصيب الافتتاحية، على جاري تقليد أميركي يولي الفقرات الأخيرة من الخطب المحل الأول، مثالاً على الصنعة هذه، وعلى الفهم الذي تبطنه وتظهره معاً. والواقعة التي تتناولها الفقرات تشترك الرواية الملحمية والموسيقية الشفهية، وأدب الابتلاء والخلاص الديني، وفن سينما الغرب وصورها، في جلائها وإخراجها.فهي بعض ما تتناقله الذاكرات الأميركية من "ولادة" الشعب السياسي والدستوري الأميركي في شهور البرد والثلج والعزلة، على ضفاف الأنهر المتجمدة، وحول نيران المخيمات، بعيداً من المدينة العاصمة المهجورة والمتروكة، وعلى مقربة من العدو الزاحف. "وكان وشم الدم على الثلج"، ومصير الثورة معلقاً وترجح كفةُ الخسارة. ومن الحلك الداجي (أمين نخلة) هذا تخرج أو تولد كلمات "أبي الأمة": "(...) في أحشاء الشتاء، حين لا يقوى على البقاء غير الأمل والمروءة، اجتمعت المدينة (- الدولة) والبلاد، وجبها متحدين الخطر الذي يتهددهما". ولا تغمط الصور الحسية الحادة حق المعاني والكلمات المنتقاة في عناية ودقة. فالأمل، أو الرجاء، باعثاً عملياً أخلاقياً و "نفسياً"، يصدر عن تدين الأميركيين العميق، هو ثمرة مسيحية إصلاحية تحمل انقطاع الرجاء من الخلاص، ولو في عتمة المشيئة واستغلاق سبل فعلها، اصطفاء أو لعناً وإدانة، على خطيئة وكفر. وأما المروءة، ويتحدر مفهومها العملي والتاريخي من الفكر السياسي الجمهوري (الماكيافيلي)، فهي جملة "فضائل" المراس والعزم والجرأة والاحتساب الدقيق (الحصافة) والتعالي عن الصغائر الخاصة في خدمة "شأن" عام ومشترك.والعام هذا ليس عاماً على وجه الإحصاء والعدد، أو السور في القياس، وإنما هو عام على وجه الدلالة وقوتها على الجمع والتوليد والتهجين والتضمين. وهو يفترض حمل الحادثة الشعبية والوطنية ("القومية") والتاريخية، في سبيل قياس عموميتها الجامعة، على ما ابتكرته، أو ابتكره أصحابها وفاعلوها من معان. وهذه تلد بدورها، أعمالاً وتجلو معاني جديدة. ويؤول هذا الى ركن أو قاع "طبيعي" يجمله الأميركيون في تعاقد المواطنين الأحرار المتساوين، وفي تجديد تعاقدهم، وإناطة بناء الهيئات السياسية وعملها بالتزام الأصل أو الأساس هذا.فـ "العطية العظيمة"، على قول أوباما في فقرة خطبته الأخيرة وعلى قول اللاهوت الإصلاحي الذي لا ينفك يرجع إليه، هي الحرية. ويتناقل الحرية هذه أهل الرجاء والمروءة منذ الآباء المؤسسين الى "شعب" اليوم، فإلى "أبنائـ(ـهم) وأبناء أبنائـ(ـهم)". وعلى نحو ما يمدح الرئيس الرابع والأربعون، ومعاصروه، "أبا الأمة" وصحبه، ويعظمون قوتهم على الرجاء ومروءتهم في المحن، يريد الرئيس والمعاصرون ان يمدحهم الأبناء والأحفاد، "أبناؤنا وأبناء أبنائنا" هؤلاء الذين يقولون "نحن الشعب" ويلحون في النسبة، بقوة رجائهم ومروءتهم. والرجاء والمروءة يضطلعان بأمر جلل هو "نقل (أمانة) الحرية" التي ائتمنوا على تناقلها وإبلاغها "الأجيال الآتية". وهذه ختام الخطبة قبل استنزال بركة الله على السامعين وعلى أمتهم ولايات أميركا المتحدة.وعلى هذا، فـ "الأصل" هو العمل، أي وحدة الرجاء والمروءة على رؤوس الأشهاد ، أو الملأ. ويدعو الرئيس الجديد مواطنيه، ويدعو نفسه، الى الاعتصام بالأصل هذا. ومثل هذه الدعوة ما كانت لترتقي الى مرتبة العمل لو اقتصرت على الحض او على ضرب الأمثال التاريخية، وعلى استنهاض الهمم من طريق ضربها. وشطر راجح من الخطابة وفنها، الإصلاحي البروتستانتي مرة أخرى، قوامه الخروج من حال الخطابة السالبة والمتأملة – أي من فصل القول من الفعل، والحاضر من الماضي، والتنبه من التذكر، والفرد الواحد من الجماعة – إلى حال الشعيرة أو الاحتفال. وهذه الحال، أو المقام والموقف، هي حال "القداس" البروتستانتي. فهذا يجمع بين تلاوة الكتاب، وحوادثه ومعانيه، وبين استعادة المؤمنين جميعاً الحوادث والمعاني، وحملها على اختبارهم، واحداً واحداً، وعلى تأويلهم. فلا ينطوي الكتاب على معانيه، ولا يقفل التأويل على "حفظها". ولا يقوم سِلك من السدنة والكهنة مقام ولي المعاني وحافظها والقاضي في استقامتها.وشرط هذا تجديد الاحتفال أو الشعيرة كل يوم، وكل ساعة في اليوم الواحد، وكل لحظة في الساعة. فليس من وقت خارج الترجح بين الخلاص وبين الإدانة، أو بين الاصطفاء والإنعام وبين اللعن والخسارة. وقد يلبس هذا لباس الصرامة الكالفينية (نسبة الى إصلاحي جنيف وصاحب ثيوقراطيتها جان كالفن) المتقشفة والحادة التشكك في الخلاص، أو لباس إمساك بنيامين فرانكلين "المادي"، ووقفه الحياة وأوقاتها على العمل و "الجمع والمنع" (الجاحظ)، وندب السعي إليهما، والتعويل عليهما. وعلى هذا، يجوز الجمع بين الرئيس، رجل (وربما قريباً امرأة) الفعل، وبين القس، رجل (وهو كذلك امرأة في عدد من الكنائس الإنجيلية والمعمدانية والمنهجية الإصلاحية منذ وقت غير قصير) القول والخطابة الدراميين. وهذا ما يصنعه الرئيس الجديد في فاتحته الخطابية، وصنعه في خطب حملته ومنعطفاتها.وهو يقتضي وضع الكلام على موضع او محل يشبك الحاضر، وحوادثه وأزماته وابتلاءه، بالماضي ومحنه. وينبغي ان يغلب الشبه بين التصدي للحوادث والأزمات والابتداء، ماضياً، وبين إرادة مجابهة محن الحاضر، الشبه بين الحوادث نفسها. فليس من وجه شبه مادي أو حسي بين قتال من قاتلوا في كونكورد، إحدى مواقع حرب الاستقلال الأولى والحاسمة، وبين مكابدة البطالة والمصادرة و "الحلم الأميركي معكوساً" على أثر انهيار المصارف والبورصات وصناديق الاستثمار والادخار. وقد يتوسل الخطيب الرئيس التقريب بين "الأزمة المستفحلة" أو العميقة التي تضرب الولايات المتحدة وبين "الحرب على شبكة العنف والكراهية"، وقد يجمع الانهيار المالي والاقتصادي والحرب العسكرية في باب واحد، ليجوِّز تشبيه اليوم بالبارحة تشبيهاً مفهوماً ومباشراً. ولكن مناط التشبيه في الخطبة، وفي هذا الضرب من الخطابة السياسية، إنما هو الناس الأحرار وإرادتهم وعزائمهم، رجاؤهم ومروءتهم، اتحادهم واحتمالهم المسؤولية عن الحال التي يتصدون لها.
ابتلاء المحنولا يستقيم التشبيه والتمثيل، أو تستقيم الدعوة الى التشبه والتمثل، إلا من طريق حمل تاريخ الأمة الأميركية على تاريخ محن تبلو الأميركيين، وتعركهم، وتعجمهم، على قول الحجاج بن يوسف الثقفي في صنيع "أمير المؤمنين" الذي ندبه الى حرب "اهل العراق". ويسوّغ هذا الكلام على تناول "درامي" للتاريخ وحوادثه، على شاكلة تناول الإيمان البروتستانتي "تجربة" الإنسان المؤمن، بل كينة أو حال الإنسان عموماً حين ينقلب من الغفلة عن "الخلاص" الى الارتماء في لجة السعي فيه من غير دليل ولا مرشد أو ضمانة. ولا يقتصر الأمر على التذكير، في معظم فقرات الخطبة وأجزائها (السبعة)، بالمحن أو الاختبارات الكبيرة: من الحرب (العالمية) الباردة والحارة في بعض الأوقات على الشيوعية وديكتاتورياتها الى الحرب الثانية، العالمية كذلك، على الفاشية والنازية، ومن "الحرب" على الكساد الكبير في 1929 وطوال معظم العقد الرابع، الى الحرب العالمية الأولى، ومن الحرب الأهلية الى حرب الاستقلال.فالاختبارات الكبيرة والظاهرة هذه تخللتها اختبارات يومية أكثر خفاء وتواضعاً، لا تقل قسوة عنها، ولابست وجوه الحياة الأميركية، و "الحلم الأميركي"، كلها. "فسفرنا لم يكن يوماً على طرق مختصرة، فيرضى المسافر بأقل مما يسعه قطافه أو حصاده". والمهاجرون هم العَلَم على السفر الطويل هذا. وهؤلاء كدوا بأيديهم، ونزفت جراحاتهم دماً، واكتوت أجسادهم بالسياط، وعملوا خلسة في المصانع والمعامل، واستعمروا الغرب، لقاء "تفوق أميركا على جملة أحلامنا فرداً فرداً". ووفاء أميركا بوعد تفوقها هذا يلزمها تخطي فروق الولادة والثراء والقبيل (أو جماعة الهوى)، أي إنجاز المساواة بين أفراد أحرار يجمعهم انتسابهم الطوعي والعملي المتجدد الى "مثل آبائهم وأجدادهم وإلى مواثيقهم وعهودهم الأولى". وعلى هذا يدعو الرئيس مواطنيه الى "استئناف ابتكار اميركا"، أي الى تجديد إنشائها وصنعها بأيديهم، وليس الى بعثها ولا إحيائها ولا نهضتها، أو إنهاضها.ولا يتواضع الخطيب التواضع الكاذب الذي يحمله على الإغضاء عما أنجزته اميركا من قبل، ويسع الأميركيين استئنافه وتجديده. فيعلن من غير تلعثم: "لا نزال بين أمم الأرض أكثرها رخاء، وأعظمها سلطاناً". ولكنه يسرع الى "النزول" من الأمة، ومن الكيان أو الجسم السياسي والاجتماعي المتماسك والواحد، الى أجزائها أو مواطنيها وأعيانها الأفراد والآحاد. فالأمة الأكثر رخاء والأعظم سلطاناً هي جماع أو رابطة العاملين المنتجين، والعقول المبتكرة، والسلع التي تسد الحاجات، والطاقة على العمل. فلا تستقر الأمة في مثالها، أو على فكرتها، وتتهدد المواطنين بالتعالي عنهم، والانفصال منهم، والاستقلال بـ "نفسها" في أحضان نخبة أو زمرة مستولية ومستبدة، على ما يحصل في الخطابات والسياسات القومية والشعبوية والأصولية. ويحسن ألا تستقر في مثالها أو على فكرتها. فهي لا تأمن، إذا استقرت، أن تُسلم القياد الى "بعض المصالح"، فتقوم هذه، وهي جزء، محل الكل، على خلاف المساواة وأصلها ومترتباتها. ولا تأمن، من وجه آخر، إرجاء قرارات ملحة، بذريعة إقلاقها عادات مسترسلة واطمئناناً كسولاً الى حقوق ثابتة. وهذا نقيض المروءة والتبصر بالوقائع.فالأمة ليست كلاً وجميعاً، لا كياناً ولا معنى. ورواية حوادث تاريخها ووقائعه على مثال ملحمي لا تستقيم إلا اذا تناولت الرواية "وقائع" الآتي. ففي الفقرة الرابعة من الخطبة، وهي فقرة انتقالية تلي فقرة استجماع العزيمة (ومطلعها: "لا نزال أمة فتية...") وتسبق فقرة معيار العمل الأميركي (ومطلعها: "وبعضهم يشكك في عرض مطامحنا...")، ومدارها على استئناف اميركا، يطلق الخطيب العنان لمديح العزيمة والقوة على العمل. وعلى شاكلة أنبياء الهمة والفتوحات، وعلى خلاف أنبياء الأفول والكارثة المحققة، يحصي أوباما احصاء "هوميرياً" مرافق العمل التي تنتظر مواطنيه: "وحيثما شخصنا فثمة عمل (ينتظر)". فمن فرص العمل التي ينبغي استدراجها وإنشاؤها إلى إرساء أسس النمو الآتي غداة الركود ومعالجته، ومن بناء الجسور وشق الطرق وتعبيدها الى مد شبكات الكهرباء والخطوط الرقمية التي تنفخ الحياة في المبادلات التجارية، ومن رد الاعتبار الى البحث العلمي الى استدراره "عجائب التكنولوجيا" وإعمالها في تحسين جودة الخدمات الطبية وتقليص تكلفتها، ومن تسخير الشمس (أو طاقتها الحرارية والكهربائية) والهواء والأرض وتشغيل السيارات والمصانع الى تحديث المدارس والجامعات – تشبه لوحة أوباما الزاهية البروميثيوسية صور السعادة الفردوسية. والفرق مصدره ان شطراً كبيراً من الصور هذه قائم فعلاً وناجز.ويدين الخطيب بألوان لوحته، وبآمالها، الى عقلانية تنويرية أوروبية، ليبرالية وإنتاجية صناعية وديموقراطية، حملت التقدم على تعاظم الموارد، وعلى تعاظم سلطان البشر عليها، وتوزيعها فيهم على الإنصاف والكفاية. وتنويه الرئيس الأميركي بالنتائج الطبية والمالية المترتبة على "عجائب التكنولوجيا"، هو القادم على حكم بلد يدور شطر من النزاع السياسي بين نخبه على نفقات الضمان الصحي على نحو أربعين مليون أميركي وعلى جواز استخدام بعض ثمرات البحث العلمي والمختبري (الخلايا الجذعية) في معالجة أمراض مزمنة و "انحدارية"، تنويهه بالنتائج هذه لا يخرجه من العقلانية التنويرية هذه، وتفاؤلها العلمي والتقاني والسياسي. وهو يماشي، من غير تحفظ ظاهر، توحيد مراكمة الاكتشافات العلمية، والإنجازات التقنية والصناعية، والموارد والضمانات، في التقدم الإنساني والسير على طريقه. ويحمل الخطيب الوجهين أو الأمرين، أي المراكمة والتقدم، على واحد.وهذا مدار مطارحات ومناقشات حادة بين "الكتاب" الأميركيين، وشطر منهم محاضرون ومدرسون وقساوسة خطباء منابر ومتجولون، طوال القرن التاسع عشر، والشطر الأول من القرن العشرين، عشية الحرب الأولى. وذهب صف من الكتّاب هؤلاء، مال الى الجمهورية "وفضائلها" الفردية والزراعية والكفاحية الحربية وقدمها على الديموقراطية العامية والصناعية والاستهلاكية، إلى ان نظام الأجور الصناعي، وتقويضه عمل الحرفيين ومهاراتهم واستقلالهم وتوارثهم المهارة والمسؤولية في ذريتهم وأسرهم، يدمر ركن الحياة السياسية الجمهورية، أي حرية المواطنين المنتجين. ويحل النظامُ "التقدمي" هذا العبودية المأجورة والعامة محل حرية الأفراد، ملاكي أدوات عملهم، وحاملي سلاحهم، والمتعاقدين فيما بينهم، ومتداولي ولاية السلطة وطاعة الولاة المندوبين الى الولاية.
الشعبوية الأميركيةويسمي مؤرخو الأفكار الأميركيون التيار الفكري والثقافي السياسي هذا بالشعبوي، على معنى يخالف المعنى الذي أودعه الأوروبيون الاسم أو الكلمة غداة الحرب الأولى على وجه الخصوص. وخلفت الشعبوية الأميركية، وأعلامها قافلة طويلة من الخطباء والدعاة والكتّاب والمحاضرين والصحافيين والوعاظ ليس أولهم توم باين وكوبيت ولا كريستوفر لاش آخرهم وبينهم إيميرسون وثورو وكراولي، أثراً عميقاً في الحركات النقابية الأميركية، وفي صيغ بلورة رأي عام من طريق أفعال نموذجية. ولعل مثالها صعود الشابة السوداء الى باص ينقل البيض وحدهم، وجلوسها في مقعد بينهم، ورفضها النزول من الحافلة. وكان هذا الإيذان بحركة الحقوق المدنية، ومارتن لوثر كينغ أحد أعلامها، وباراك أوباما صدى جهوري من أصدائها الخطابية والعملية معاً، على شاكلة أميركية لا مثيل أوروبياً لها ربما.ويبدو الرئيس الرابع والأربعون مسلِّماً وراضياً بما سماه ديوي وبيرد، بين الحربين العالميتين، "مجتمعاً تكنولوجياً عقلانياً". ويقر التسليم هذا بغلبة الليبرالية، وفصلها الاستهلاك وتلبية الحاجات المعيشية والحيوية والمساواة، على الحياة "المستبسلة" الجمهورية، ومروءتها وحريتها وفرديتها. ويقر تالياً بتقدم البورجوازي، وربما العامل "البروليتاري" (على معنى "قوة العمل")، على المواطن، وانتصاره عليه، على ما خشي ويليام جايمس. ولو صدق التشخيص هذا في أوباما، وفي الفصول السابقة من التاريخ السياسي والاجتماعي الأميركي، لترتب عليه شبه هذا التاريخ بالتاريخ الأوروبي وفصوله المأسوية والمدمرة بين الحربين العالميتين.ففي "حرب الثلاثين عاماً" الأوروبية الأهلية (1914- 1945) انقسم الأوروبيون حزبين أو معسكرين اشتركا، على مقادير متفاوتة ومختلفة، في إدارة الظهر للسياسة الجمهورية، والإقبال على "سياسة بيولوجية" أو "بيولوجيا سياسية"، على قول محدث ومتأخر. وعلى رغم هذا، فنزاع الأنظمة الليبرالية الديموقراطية، العقلانية والإنتاجية الاستهلاكية، والأنظمة الكليانية الفاشية والعرقية "القومية"، ليس نزاعاً بين صفي معسكر واحد. ولا يصح حمل صراع الأنظمة الليبرالية الديموقراطية والأنظمة الشيوعية من بعد على حرب أهلية في مجتمع يشترك محاربوه في هيئات ورسوم ومثالات واحدة. ولكن مجتمعات الأنظمة هذه، وهي كلها أوروبية ويقع معظمها على خط تاريخي وجغرافي يجتاز أوروبا من وسطها الشرقي بمحاذاة غربها الجنوبي الى جنوبها البلقاني، تحدرت من مزيج غير مستقر بين إنسان الحاجات والتجارة والعقد وبين إنسان الغابة والجماعة المرصوصة والجسم السياسي الصوفي و "الممسوح".وفي خضم الصراعات والمنازعات العظيمة والمتصلة هذه، انفردت الولايات المتحدة الأميركية بتاريخ و "مصير" على حدة. فتركت أوروبا، وهي معظم العالم، لحروبها السلالية ثم الديموقراطية والشعبية والقومية. واستجابت دعوة جورج واشنطن الأمة، في خطبته الوداعية، الى التخفف من أحلاف وأنساب تجر على أصحابها الثارات المتناسلة والكراهية والدمار ودولة الدول. وحين تورطت الرئاسة الأميركية، في عهدي ويلسون وروزفلت، في الصراعات والحروب الأوروبية، لم تحملها على التورط مصالحها، على المعنى الضيق، ولا حاجاتها البورجوازية أو البروليتارية "البيولوجية". وحملتها على التورط فضائلها الجمهورية والسياسية. وهذا ما لا ينفك ينفخ في اعتداد أميركي بالنفس لا تفهمه مجتمعات تبلغ أرقام خسائرها في الحربين الكبيرتين أضعاف خسائر الأميركيين. ويغفل أهل هذه المجتمعات فرقاً عميقاً بين حروب الأميركيين وبين حروبهم. فالأميركيون خاضوا هذه الحروب غير مكرهين. ولم تسقهم إليها روابط الدم أو التاريخ أو العهود، أو المنافسة على المستعمرات والتزاحم على اقتسام الامبراطوريات. فهم اختاروا من تلقاء أنفسهم، وفي ضوء "مواثيقهم الأولى" دخول الحرب مرتين، وترجيح كفة بلدان يتحدرون منها على نحو ما يتحدرون من أعدائها. ومعيارهم الأول هو النظم السياسية. وبعد الحربين العالميتين، اختاروا مرة أخرى البقاء بأوروبا. وتولوا تدبير فصل ما بعد الحرب، وإنهاض أوروبا كلها، ما عدا تلك التي سطا عليها عنوة الجيش الأحمر واتخذها ترساً تترس به من الكتلة الأوروبية – الأميركية على ضفتي الأطلسي. ولم يقتصر التدبير والإنهاض على الشق الاقتصادي فتعهد أبناء "برابرة" الغرب ورعاة البقر وقراء العهد العتيق إنشاء أوروبا السياسي والدستوري. وكانت ألمانيا الفيديرالية ثمرة التعهد هذا.ولا تخلو افتتاحية أوباما الرئاسية من أصداء المناقشات هذه، على وجوه وعبارات متفرقة. فالفقرة الرابعة، الملحمية والعقلانية التقنية، لا تنكفئ على معناها، ولا تحجّر الخطبة على مذهب أو فكرة. فيعود الخطيب في الفقرة السابعة والأخيرة، والطويلة، من الخطبة – ومطلعها: "إننا نكرم ذكراهم..."، يريد ذكرى "شعب" ايرلنغتون – الى شبك حلقات التاريخ الأميركي، الواحدة بالأخرى، وإدارة رد بعضها على بعضها الآخر. ومثال تحلق جماعة المؤمنين للصلاة المشتركة لا يحول. فيحمل ذكرى المكرمين، وأفعالهم، على حراسة "حريتنا"، "نحن" المتحلقين اليوم، ورفع لواء "خدمتنا" العامة واجتماعنا. وهذا من لوازم الخطابة المدنية والوطنية، الجمهورية، السائرة. ويزيد الخطيب سبباً آخر للتكريم: "إرادة وجود معنى في ما يتخطاهم". فيحيي الرئيس الجديد المعنى البيوريتاني الدفين الذي ناضل جوناثان إدواردز، لاهوتي "الإحياء الكبير" في النصف الأول من القرن الثامن عشر، في سبيل إبقائه حياً في وجه الموجة العقلانية والتنويرية القادمة من أوروبا. فلا يخلو الميدان لمواكب الحياة "العارية"، ولتفاهتها الهانئة، وسعيها في السعادة والرخاء اللذين لا يصلحان غاية اجتماع مشترك. وكانت الفاشية الأوروبية الوليدة اقترحت الحرب والفتوحات والدم والنار أفقاً لحياة جديرة بالأسياد. ورد الجمهوريون الديموقراطيون الأميركيون على الاقتراح الفاشي بالجمع المدني بين المثال البيوريتاني ومثال الرائد، ودمجهما في مثال أخلاقي يكافئ الحرب. ولعل أوباما، اليوم، من مريدي هؤلاء

ليست هناك تعليقات: