الحياة, 17 /7/ 2009
بينما كانت الوحدات الأميركية العسكرية المرابطة في المدن العراقية تخلي عشرات المواقع الى قواعد بضواحي المدن أو في عرض المناطق غير الآهلة، في 29 - 30 حزيران (يونيو)، حيا رئيس الوزراء، نوري المالكي، نهاية الفصل هذا على طريق تحرير العراق من الاحتلال. وعزا إنجازه الى الاتفاق العراقي - الأميركي الذي فاوض هو، أي حكومته، عليه، ووقعته الدولتان في أواخر 2008، متأخرتين نحو عشرة أشهر. وأبرز المالكي - وهو الى رئاسته الحكومة العراقية الأطول عمراً في العهد «الأميركي» والاستقلالي، رئيس حزب الدعوة الشيعي والمنتصر في انتخابات مجالس المحافظات في مطلع 2009، والممهد لطي الائتلاف الشيعي وتصدر قوة عراقية مختلطة في الانتخابات العامة الآتية - أبرز حلول المعاهدة المشتركة محل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن مرجعاً ترجع إليه الدولتان المتعاهدتان، وتقضي في خلافاتهما الأمنية والعسكرية والاقتصادية. ومن جهته، رحب رئيس الجمهورية، جلال طالباني، بالخطوة الأولى على طريق إنفاذ المعاهدة، ولم ينس ما بدا أن رئيس الوزراء، وهو دستورياً ليس رئيس «وزرائه» بل رئيس وزراء المجلس النيابي، أهمله، وهو تحية الولايات المتحدة وقواتها على دورها في طي صفحة صدام حسين وبعثه وعروبته الدامية، وكشف الغمة عن صدور العراقيين. وهؤلاء استحال عليهم إزاحة ثقل صدام حسين الساحق في أثناء ثلث القرن الذي ساسهم فيه «فتى العرب»، على ما سماه ميشال عفلق، مؤسس البعث الدمشقي.
وعلق فريد زكريا، كاتب الافتتاحية الأولى في «نيوزويك» الأميركية، على ذيول المرحلة الأولى من الانسحاب الأميركي، فمدح موقف المالكي من الاحتلال، ورأى فيه دليل فطنة ودراية. فالتنديد باحتلال عسكري أجنبي في بلد أو مجتمع عربي إسلامي يشتري، على الدوام، ميلاً «شعبياً» أو جماهيرياً يتوسله السياسي الحاذق (على مثال صدام حسين وحافظ الأسد وابنه وخليفته) الى تحصين مواقعه وتوسيعها. ورد المعلق شكر طالباني الأميركيين الى دَيْن خاص يدين به كرد (كردستان) العراق الى رعاية هؤلاء حكمهم الذاتي. والحق أن الفرق بين الموقفين ليس فرقاً بين واحد وطني عراقي، وآخر «قومي» (نسبة الى القوم الكردي) أو عصبي ومحلي. فكلاهما عصبي. والمالكي يسترضي بموقفه شيعة العراق عموماً، وحزب منافسه وخصمه الداخلي الأول، صاحب «جيش المهدي» الذي هزمه رئيس الوزراء في مدينة الصدر والنجف والبصرة بواسطة القوات الأميركية، خصوصاً. وهو سارع الى تنظيم عروض أمنية وعسكرية، احتفالاً بالانسحاب الأميركي، حمل فيها الجنود والشرطة صوراً زيتية كبيرة لشخصه الكريم. فيذهب سوء الظن بالمشاهدين الى سوابق بعيدة ومريرة لم تشفِ بعض الناس من الرغبة في ترديدها. ويشدد النكير على استعادة بعض البعثيين الى أجهزة الدولة والإدارة، أشار بالاستعادة هذه ممثلو الجماعات السنية أم اقترحها، من طرف خفي أو غامز، بعض كبار السياسيين الأميركيين في زياراتهم، وآخرهم نائب الرئيس الأميركي.
فأثارت دعوة جو بايدن الجماعات و «الكيانات» (السياسية) العراقية، غداة الانسحاب من المدن، الى تحمل تبعاتها عاجلاً، وذلك من طريق إقرار قانون الثروة (النفطية) الوطنية وإقرار إحصاء نفوس عام وبت مسألة كركوك والمسألة الاتحادية، لغطاً لم يتبدد غداة عشرة أيام على الزيارة. وحملت حيرة بعض المراقبين العراقيين من الردود على دعوة بايدن «الاستقلالية»، ومن إعراب سياسيين عراقيين كثر عن قلقهم من تهديد نائب الرئيس الأميركي بنفض الولايات المتحدة يدها إذا لم يتول العراقيون قضايا مصالحتهم الداخلية (المذهبية والقومية والحزبية السياسية) على وجه السرعة، حملتهم على تعليل الردود المتخبطة والخائفة هذه برأي ذهب إليه بايدن يوم كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس (2006). واقترح يومها تقسيم العراق ثلاث ولايات اتحادية، واحدة جنوبية شيعية وثانية عربية سنية في الوسط وثالثة شمالية كردستانية. والمساواة بين تهديد أو رأي تشخصي، في خضم استعار حرب أهلية مذهبية كلفت القوات الأميركية (الى كلفتها المحلية الباهظة) ثمناً ثقيلاً، وبين إيجاب معيار سياسي يترجم خطة سبق التفاوض عليها وإقرارها، إنما هي مرآة خلط وتردد عراقيين فادحين.
فما يريده السياسيون الشيعة هو تسليم الجماعات السنية والكردية لهم بالوطنية العامة والمشتركة، وبأهليتهم السياسية لتولي الحكم، من غير نزولهم عن صفتهم العصبية، ومن غير الارتقاء بإدارتهم الى الجمع بين أطراف الميول والعصبيات والمصالح المتفرقة والمختلفة. ويقود هذا، في أحوال كثيرة، الى إرساء الأهلية الوطنية والسياسية على اضطلاع مفترض بدور راجح في «التحرير»، أو في إجلاء الأجنبي عن الأراضي الوطنية، أو في «دحره»، على زعم أنصار «القاعدة» الجهاديين، وبعض أنصار أجنحة بعثية تتردد في مفاوضة الاحتلال، وعلى زعم جماعات «مهدية» وصدرية وحرسية مقيمة على آرائها في «المقاومة». ويترتب على إرساء الجدارة الوطنية والسياسية في العراق على المعيار العروبي والإسلامي الجهادي، ما ترتب عليه ويترتب في بلدان المشرق الأخرى، في لبنان وفلسطين والأردن وسورية، أي شق شعب الدولة الوطني «الواحد» شعبين سياسيين وأهليين، أو ثلاثة. وعلى هذا، يستعيض شيعة العراق أو يود معظمهم الاستعاضة بدورهم الاستقلالي والمقاوم عن تولي مهمات ثقيلة مثل دمج «الصحوات» في جسم أمني وعسكري وطني متماسك، ومفاوضة الكرد العراقيين مفاوضة حقيقية على توزيع مصادر الثروة والعوائد وتعويضهم بعض الغبن والظلم الفادحين اللذين أنزلهما بهم التسلط العروبي السابق.
ويود الكرد، من وجه آخر، الاستعاضة بتحريك الجروح النازفة والفظيعة التي أوقعها فيهم الحكم البعثي والقومي الاستبدادي، وحماية إدارتهم الذاتية وحدهم وبمعزل من العراقيين الآخرين، من عودة مثل هذا الحكم متوسلاً نعرات وعصبيات موارد أخرى جديدة. ويمنّ السنّة العراقيون على الجماعات العراقية الأخرى بدورهم في انعطاف البلد نحو بعض الأمن، وكسر شوكة جهاديي «القاعدة» والحرس «المهدي» وقوميي البعث. ويريدون، لقاء الدور الثابت هذا، تعويض خسائر جماعتهم كلها مرة واحدة، من غير أداء حساب (فردي) عن أعمال سابقة مدانة. وبعضها، مثل «تعريب» كركوك، لا يزال يجر أحمالاً ثقيلة، ويعرقل السعي في حلول مقسطة (على أقساط وعادلة). وتزعم الواحدة من الجماعات هذه، على تفاوت بينها في صوغ مزاعمها، أنها تمثل صلب الوطنية العراقية وجماعها، وحدها، وأنها ضمان تماسك الدولة النهائي والناجز. ولا تشك الواحدة من الجماعات، والجماعات كلها ومجتمعة، في إلحاح قضاياها، وضرورة بتها أولاً وعاجلاً، ومن غير اختبار ولا مفاوضة فعلية، ولا مراحل. فما تراه الجماعات، كل جماعة على وجه، متاحاً الآن - بينما الانسحاب الأميركي في مراحله الأولى، ولم يهزم الإرهاب تماماً، ولا تزال إيران وسورية تتمتعان بنفوذ داخلي وإقليمي يستدعي الموازنة بين ردعهما واستمالتهما، ولم ترسخ الدولة العراقية الجديدة مكانتها العربية الإقليمية بعد، وتلتمس تركيا طريق حل المسألة الكردية، ولم يبلغ استخراج النفط مستوى مجزياً - تحسب أنه قد يمتنع منها، ومن متناولها عند تبدل الأحوال و «الدول».
وعلى هذا فالعراقيون، كتلاً وجماعات وسياسيين من غير مساواة مفتعلة في ما بينهم، يدينون بآداب السياسة التي تدين بها شعوب جوارهم، المشرقي العربي و «العجمي»، القريب. فتجييشهم المدمر في حروب «تحرير» قومية وإقليمية وداخلية أهلية، تحت لواء قادة مناضلين ومهيبين، لم يحملهم على إنكار نهج السياسة الذي يلخص هذه في أدوار إقليمية مزعومة يتحصن بها استبداد بالسلطة يخول، بدوره، الحاكم الفرد البت في المسائل الحيوية الداخلية من طريق كم الأفواه والعقول والاغتيالات والتزوير والحملات العسكرية، وتأخيرها الى مراتب ثانوية. والى اليوم، لم يدعُ نوري المالكي، ولا غيره، الى أولوية تحرير القدس، أو استئصال الصهيونية، أو نصرة غزة، أو التحكيم في خلافات الفلسطينيين واللبنانيين والكويتيين والأردنيين على وحدة دولهم وعلى علاقاتهم الدولية، ولا دعوا الى إلحاح القضايا هذه، وتقدمها مسائل الخلاف الداخلية. ولكن بعض القوى الأهلية العراقية، مثل الحرس «المهدي» وبقايا «حرسيي» بدر وجهاديي الزرقاوي و «خلفائه»، ليس بمنأى من الاهتداء الى «البوصلة» هذه وبها، على قول صحافة قومية مزمنة. فهي الطريق الى الاستواء «قوة إقليمية» تخطب ودها «الدول».
بينما كانت الوحدات الأميركية العسكرية المرابطة في المدن العراقية تخلي عشرات المواقع الى قواعد بضواحي المدن أو في عرض المناطق غير الآهلة، في 29 - 30 حزيران (يونيو)، حيا رئيس الوزراء، نوري المالكي، نهاية الفصل هذا على طريق تحرير العراق من الاحتلال. وعزا إنجازه الى الاتفاق العراقي - الأميركي الذي فاوض هو، أي حكومته، عليه، ووقعته الدولتان في أواخر 2008، متأخرتين نحو عشرة أشهر. وأبرز المالكي - وهو الى رئاسته الحكومة العراقية الأطول عمراً في العهد «الأميركي» والاستقلالي، رئيس حزب الدعوة الشيعي والمنتصر في انتخابات مجالس المحافظات في مطلع 2009، والممهد لطي الائتلاف الشيعي وتصدر قوة عراقية مختلطة في الانتخابات العامة الآتية - أبرز حلول المعاهدة المشتركة محل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن مرجعاً ترجع إليه الدولتان المتعاهدتان، وتقضي في خلافاتهما الأمنية والعسكرية والاقتصادية. ومن جهته، رحب رئيس الجمهورية، جلال طالباني، بالخطوة الأولى على طريق إنفاذ المعاهدة، ولم ينس ما بدا أن رئيس الوزراء، وهو دستورياً ليس رئيس «وزرائه» بل رئيس وزراء المجلس النيابي، أهمله، وهو تحية الولايات المتحدة وقواتها على دورها في طي صفحة صدام حسين وبعثه وعروبته الدامية، وكشف الغمة عن صدور العراقيين. وهؤلاء استحال عليهم إزاحة ثقل صدام حسين الساحق في أثناء ثلث القرن الذي ساسهم فيه «فتى العرب»، على ما سماه ميشال عفلق، مؤسس البعث الدمشقي.
وعلق فريد زكريا، كاتب الافتتاحية الأولى في «نيوزويك» الأميركية، على ذيول المرحلة الأولى من الانسحاب الأميركي، فمدح موقف المالكي من الاحتلال، ورأى فيه دليل فطنة ودراية. فالتنديد باحتلال عسكري أجنبي في بلد أو مجتمع عربي إسلامي يشتري، على الدوام، ميلاً «شعبياً» أو جماهيرياً يتوسله السياسي الحاذق (على مثال صدام حسين وحافظ الأسد وابنه وخليفته) الى تحصين مواقعه وتوسيعها. ورد المعلق شكر طالباني الأميركيين الى دَيْن خاص يدين به كرد (كردستان) العراق الى رعاية هؤلاء حكمهم الذاتي. والحق أن الفرق بين الموقفين ليس فرقاً بين واحد وطني عراقي، وآخر «قومي» (نسبة الى القوم الكردي) أو عصبي ومحلي. فكلاهما عصبي. والمالكي يسترضي بموقفه شيعة العراق عموماً، وحزب منافسه وخصمه الداخلي الأول، صاحب «جيش المهدي» الذي هزمه رئيس الوزراء في مدينة الصدر والنجف والبصرة بواسطة القوات الأميركية، خصوصاً. وهو سارع الى تنظيم عروض أمنية وعسكرية، احتفالاً بالانسحاب الأميركي، حمل فيها الجنود والشرطة صوراً زيتية كبيرة لشخصه الكريم. فيذهب سوء الظن بالمشاهدين الى سوابق بعيدة ومريرة لم تشفِ بعض الناس من الرغبة في ترديدها. ويشدد النكير على استعادة بعض البعثيين الى أجهزة الدولة والإدارة، أشار بالاستعادة هذه ممثلو الجماعات السنية أم اقترحها، من طرف خفي أو غامز، بعض كبار السياسيين الأميركيين في زياراتهم، وآخرهم نائب الرئيس الأميركي.
فأثارت دعوة جو بايدن الجماعات و «الكيانات» (السياسية) العراقية، غداة الانسحاب من المدن، الى تحمل تبعاتها عاجلاً، وذلك من طريق إقرار قانون الثروة (النفطية) الوطنية وإقرار إحصاء نفوس عام وبت مسألة كركوك والمسألة الاتحادية، لغطاً لم يتبدد غداة عشرة أيام على الزيارة. وحملت حيرة بعض المراقبين العراقيين من الردود على دعوة بايدن «الاستقلالية»، ومن إعراب سياسيين عراقيين كثر عن قلقهم من تهديد نائب الرئيس الأميركي بنفض الولايات المتحدة يدها إذا لم يتول العراقيون قضايا مصالحتهم الداخلية (المذهبية والقومية والحزبية السياسية) على وجه السرعة، حملتهم على تعليل الردود المتخبطة والخائفة هذه برأي ذهب إليه بايدن يوم كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس (2006). واقترح يومها تقسيم العراق ثلاث ولايات اتحادية، واحدة جنوبية شيعية وثانية عربية سنية في الوسط وثالثة شمالية كردستانية. والمساواة بين تهديد أو رأي تشخصي، في خضم استعار حرب أهلية مذهبية كلفت القوات الأميركية (الى كلفتها المحلية الباهظة) ثمناً ثقيلاً، وبين إيجاب معيار سياسي يترجم خطة سبق التفاوض عليها وإقرارها، إنما هي مرآة خلط وتردد عراقيين فادحين.
فما يريده السياسيون الشيعة هو تسليم الجماعات السنية والكردية لهم بالوطنية العامة والمشتركة، وبأهليتهم السياسية لتولي الحكم، من غير نزولهم عن صفتهم العصبية، ومن غير الارتقاء بإدارتهم الى الجمع بين أطراف الميول والعصبيات والمصالح المتفرقة والمختلفة. ويقود هذا، في أحوال كثيرة، الى إرساء الأهلية الوطنية والسياسية على اضطلاع مفترض بدور راجح في «التحرير»، أو في إجلاء الأجنبي عن الأراضي الوطنية، أو في «دحره»، على زعم أنصار «القاعدة» الجهاديين، وبعض أنصار أجنحة بعثية تتردد في مفاوضة الاحتلال، وعلى زعم جماعات «مهدية» وصدرية وحرسية مقيمة على آرائها في «المقاومة». ويترتب على إرساء الجدارة الوطنية والسياسية في العراق على المعيار العروبي والإسلامي الجهادي، ما ترتب عليه ويترتب في بلدان المشرق الأخرى، في لبنان وفلسطين والأردن وسورية، أي شق شعب الدولة الوطني «الواحد» شعبين سياسيين وأهليين، أو ثلاثة. وعلى هذا، يستعيض شيعة العراق أو يود معظمهم الاستعاضة بدورهم الاستقلالي والمقاوم عن تولي مهمات ثقيلة مثل دمج «الصحوات» في جسم أمني وعسكري وطني متماسك، ومفاوضة الكرد العراقيين مفاوضة حقيقية على توزيع مصادر الثروة والعوائد وتعويضهم بعض الغبن والظلم الفادحين اللذين أنزلهما بهم التسلط العروبي السابق.
ويود الكرد، من وجه آخر، الاستعاضة بتحريك الجروح النازفة والفظيعة التي أوقعها فيهم الحكم البعثي والقومي الاستبدادي، وحماية إدارتهم الذاتية وحدهم وبمعزل من العراقيين الآخرين، من عودة مثل هذا الحكم متوسلاً نعرات وعصبيات موارد أخرى جديدة. ويمنّ السنّة العراقيون على الجماعات العراقية الأخرى بدورهم في انعطاف البلد نحو بعض الأمن، وكسر شوكة جهاديي «القاعدة» والحرس «المهدي» وقوميي البعث. ويريدون، لقاء الدور الثابت هذا، تعويض خسائر جماعتهم كلها مرة واحدة، من غير أداء حساب (فردي) عن أعمال سابقة مدانة. وبعضها، مثل «تعريب» كركوك، لا يزال يجر أحمالاً ثقيلة، ويعرقل السعي في حلول مقسطة (على أقساط وعادلة). وتزعم الواحدة من الجماعات هذه، على تفاوت بينها في صوغ مزاعمها، أنها تمثل صلب الوطنية العراقية وجماعها، وحدها، وأنها ضمان تماسك الدولة النهائي والناجز. ولا تشك الواحدة من الجماعات، والجماعات كلها ومجتمعة، في إلحاح قضاياها، وضرورة بتها أولاً وعاجلاً، ومن غير اختبار ولا مفاوضة فعلية، ولا مراحل. فما تراه الجماعات، كل جماعة على وجه، متاحاً الآن - بينما الانسحاب الأميركي في مراحله الأولى، ولم يهزم الإرهاب تماماً، ولا تزال إيران وسورية تتمتعان بنفوذ داخلي وإقليمي يستدعي الموازنة بين ردعهما واستمالتهما، ولم ترسخ الدولة العراقية الجديدة مكانتها العربية الإقليمية بعد، وتلتمس تركيا طريق حل المسألة الكردية، ولم يبلغ استخراج النفط مستوى مجزياً - تحسب أنه قد يمتنع منها، ومن متناولها عند تبدل الأحوال و «الدول».
وعلى هذا فالعراقيون، كتلاً وجماعات وسياسيين من غير مساواة مفتعلة في ما بينهم، يدينون بآداب السياسة التي تدين بها شعوب جوارهم، المشرقي العربي و «العجمي»، القريب. فتجييشهم المدمر في حروب «تحرير» قومية وإقليمية وداخلية أهلية، تحت لواء قادة مناضلين ومهيبين، لم يحملهم على إنكار نهج السياسة الذي يلخص هذه في أدوار إقليمية مزعومة يتحصن بها استبداد بالسلطة يخول، بدوره، الحاكم الفرد البت في المسائل الحيوية الداخلية من طريق كم الأفواه والعقول والاغتيالات والتزوير والحملات العسكرية، وتأخيرها الى مراتب ثانوية. والى اليوم، لم يدعُ نوري المالكي، ولا غيره، الى أولوية تحرير القدس، أو استئصال الصهيونية، أو نصرة غزة، أو التحكيم في خلافات الفلسطينيين واللبنانيين والكويتيين والأردنيين على وحدة دولهم وعلى علاقاتهم الدولية، ولا دعوا الى إلحاح القضايا هذه، وتقدمها مسائل الخلاف الداخلية. ولكن بعض القوى الأهلية العراقية، مثل الحرس «المهدي» وبقايا «حرسيي» بدر وجهاديي الزرقاوي و «خلفائه»، ليس بمنأى من الاهتداء الى «البوصلة» هذه وبها، على قول صحافة قومية مزمنة. فهي الطريق الى الاستواء «قوة إقليمية» تخطب ودها «الدول».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق