المستقبل، 26/7/2009
منذ نيف وقرن، أي منذ الحرب الروسية – اليابانية في 1905 على وجه الدقة، وأهل "الشرق"، شرق كيبلينغ الذي تعريفه هو نفسه واستحالة التقائه بصنوه ونقيضه وصادمه، "الغرب"، يصبون الى شيء واحد هو الانتصار العسكري على الصنو والنقيض والصادم أو الصدّام "الحضاري"، المفترض هذا. فيوم انتصرت قوات الامبراطور الياباني الإلهي، وهو إلهي شأن الأباطرة كلهم وشأن ولاتهم وعمالهم وسفرائهم والمتطلعين الى الولاية، على قوات القيصر المقدس، وأغرقت بوارج الأميرال هايهاشيرو توغو ودارعاته وزوارق الطوربيد السريعة سفن الأميرال الروسي زينوفي روديستفينسكي وأسطول البلطيق الذي يقوده في بحر اليابان، بمضيق تسوشيما – هلل أهل الشرق، من طنجة ودكار، غرباً، الى فان فونغ وكام رانه، جنوب بورت – أرثر وفلادينو ستوك، شرقاً.
"الثورة من فوق"
وأسهم أهل الشرق الأوسط، منعقد طرق التجارة والمواصلة والاستيلاء "الإجباري" (بشار الأسد) بين القارات الثلاث القديمة، في مديح إخوانهم الشرقيين المنتصرين على أشباه غربيين وقاصرين عن نصب أوتادهم وخيامهم ورحالهم في قلب الصحن الغربي. فنظموا قصائد وطنية ونهضوية لا تحصى في يقظة بلد مطلع الشمس على الكرة الأرضية. وذهبوا الى ان "العلم"، وهم عزوا إليه النصر المبين، مقسوم بالسوية في أمم الأرض، و "نحن" منها. فلن يحول حائل من دين ومعتقد بين بلوغ العلم، وفنونه وثمراته وآلاته، عقول أمم الشرق الأخرى وسواعدها. وينتصر أميرالات الأمة، شأن أجدادهم، الأروام، في أم الصواري أو في خليج القسطنطينية، على مثال هايهاشيرو توغو، ويلقنون "العالم" درساً لا ينساه.
والحق ان درس تسوشيما وبورت – آرثر كان عسيراً على التلقين، أي على العمل به، والحذو عليه. فالانتصار الياباني كان ثمرة "ثورة من فوق"، على مثال ألماني بروسي انتهت بعض إجراءاته ومناهجه الى الكليات الحربية العثمانية منذ بعض الوقت. وتقتضي "الثورة من فوق" تولي بيروقراطية عسكرية قومية، شديدة المراس والشكيمة والشوكة، تجنيد "الشعب" تحت لوائها، نيابة عن لواء امبراطور سماوي، وخوض حروب التوحيد الداخلي و "التحديث" والإنتاج وإرساء المكانة الإقليمية والدولية المهابة، معاً، على شاكلة حرب واحدة ومتصلة، بعضها مجازي ومعظمها حقيقي. وتفترض "الثورة من فوق"، على المثال الألماني البروسي او على المثال الياباني، وعلى مثال تركي كمالي من بعد، نهوض جزء من أهل القوة والسلطان، أو كتلة مرصوصة ومتغلبة منهم، بالثورة، وحشدهم الكتلة الأعظم من الجمهور في مسارحها وميادينها. ولا يستقيم هذا من غير تحطيم الكتلة المرصوصة والمتغلبة الكتلَ المترددة، والضيقة الأفق والمنكفئة على مصالحها المحدودة والخاصة. والترجمة العملية هي شن حروب أهلية موضعية وجراحية، والاستقواء على القوى "الإقطاعية" والمحلية بمنطق "الدولة" المركزية الذي الذي يتستر به، غالباً، منطق امبراطوري أو سلطاني، فاتح ومستول، والامبراطورية قد تكون حركة أسرية وشعبية معاً، على قول المؤرخين البريطانيين جيب وبووين في السلطنة العثمانية. وهي أسرية على معنى مرتبي، أو طبقي، يضوي أهل "الشرف" والرفعة والأصلاب العالية، وبعضها مصطنع أو منحول ومجلوب في قوم ائتلفوا، قرابة ولغة ومعتقداً وسكناً، من أقوام. وهي شعبية على معنى يشمل القوم كلهم، ويرفعهم بإزاء الأقوام الأخرى من اهل بلاد الفتوح والاستيلاء، ويخصهم بوظائف وعوائد وشارات ليست مقسومة بالسوية في الأقوام كلها أو كلهم.
والاختبار الحربي والعسكري لا غنى للثورات من فوق عنه، وعن نجاحها فيه. فهو سُلَّمها الى دمج قومها أو شعبها في كتلة واحدة ومرصوصة، لحمتها الرمز وقوته وتعاليه عن "حدود" الأفراد، وعن خفتهم في ميزان المصائر الكونية ووقتهم العابر والقصير. وهو مسوغ التضحيات العظيمة التي لا تقوم نهضة، ولا يقوم انبعاث إلا بها وجراءها. ولولا غاليبولي، في 1915 – 1916، وخسارة قوات الحلفاء على الشاطئ التركي الأوروبي، لما وسع مصطفى كمال من بعد استنهاض الترك، وقيادة إبائهم الإذعان للفرمانات البريطانية والفرنسية وحربهم عليها. ولما وسعه استعادة تركيا التركية العثمانية في حرب استقلالية توجتها معاهدة لوزان (1923) ودامت نحو نصف عقد، وكانت "حرب شعب" وطنية من غير حزب أو "طليعة" متسلطة، على خلاف المثال الصيني الماوي وذيوله المدمرة. وعلى الوجه السالب للمثال نفسه، أودت خسارة مصر، في قيادة جمال عبدالناصر، "حرب" حزيران 1967 بحركة التوحيد العربية الوليدة وبقيادتها المصرية. وكان "انتصار" السويس الملتبس، في 1956، باباً على الدمج المصري – السوري، غداة نيف وسنة واحدة على إحرازه. فإذا استحال النصر العسكري على اصحاب "الثورة من فوق" وقادتها، ضعفت دالتهم على الجماعات الأهلية، والكتل الاجتماعية، في الداخل الوطني. وخرج الأقران والأشقاء الإقليميون عليهم، وخسروا حروب التوحيد و "التحديث" والإنتاج والمكانة (والكرامة) جميعاً.
فخرجت من "تحت" العباءة الناصرية العربية، أو من جوارها القريب، حركات أهلية، عامية ووطنية معاً، دعاها قيامها خارج أجهزة الدولة والإدارة – وشطرها الفلسطيني الغالب كان خارج معظم أرضه الوطنية، وخسرها قبل نحو عشرين سنة – إلى انتهاج ما حسبه دعاتها وألسنتها حرباً شعبية وغير نظامية. وعللت الحركات هذه "الهزيمة" العربية المفترضة واحدة، وهي كثيرة على كثرة المسهمين والمساهمين فيها، بصدورها من "فوق"، أي من الدولة. وحملت الحركات الأهلية والعامية الوطنية الدولةَ على التسلط والاستئثار، والتحدر من الاستعمار والتجزئة. وحملتها على الامتثال لمعايير قانونية دولية ظالمة ومجحفة تسري على الضعفاء وتقضي، فيما تقضي فيه، بتسليح يقصّر عن "التوازن الاستراتيجي"، ويلجم الرغبة الشعبية العارمة في القتال والكفاح المسلح، ومقارعة المحتل، وبناء المجتمع الأصيل والمقتدر، معاً وجميعاً. فجمعت حركات "المقاومة"، في مقالة أو سياسة واحدة، الإنكار على الدولة الوطنية، الفئوية والتابعة والقطرية والقانونية والمهادنة، والدعوة الى "شعب" أو ثورة من غير دولة ولا قيد على شعب الثورة أو ثورة الشعب.
البحث عن الدولة... وتدميرها
ودمج بعض المؤرخين الفلسطينيين الأمرين أو الوجهين في وجه واحد غير متناقض ولا متدافع هو "البحث عن الدولة"، على وسم يزيد صايغ تأريخه "الكفاح المسلح" الفلسطيني. ولما قصر المؤرخ تأريخه على الوقائع والحوادث التي سبقت اتفاقات أوسلو، في أواخر 1993، وسعه التخفف من ثقل التأليف بين الطعن على الدولة الوطنية، وعلى صورها الفعلية وأبنيتها الماثلة، وبين طلبها من طريق "ثورة" تبطلها، أصولاً وفروعاً، وتخنق في المهد، أي في اثناء خروج "الشعب" على الدول ووصايتها، نشأتها وسيرورة النشأة وعواملها. فكانت سيرورة "البحث عن الدولة" الوطنية الفلسطينية، أي تاريخ الحركة الوطنية والاستقلالية الفلسطينية المسلحة والمدنية معاً، سيرورة تدمير شروط الدولة، وإبطال نشوئها عن إجماع وطني وشعبي عليها وعلى سيادتها ووحدتها. وما أوكل إليه الاضطلاع بإيجاب الشعب والدولة معاً، وهو الحرب الوطنية والانتصار فيها، أو "الكفاح المسلح" في المصطلح الفلسطيني والعربي، اضطلع بالدور الأوفى والغالب في موازنة نقيضين. فوازن توحيدَ الفلسطينيين وشتاتهم على شرط سياسي مشترك (هو شرط "الثورة") بخلاف التوحيد هذا. وشرذمهم فصائلَ نصبت الواحدة منها نفسها دولة تامة الأوصاف والشمائل، ولا تفتقر إلا الى السيادة.
وانقلب الشتات على النهج الذي تولى، أو أراد تولي تجاوزه وتخطيه الى بلورة وحدة سياسية متماسكة ومتعالية عن عوامل تفريق الشتات هذا. وقصّر "الكفاح المسلح" الفلسطيني، وروافده العربية المحلية أو القطرية، عن خوض حرب وطنية واستقلالية مقيدة بغاية سياسية واضحة و "معقولة"، هي الدولة الوطنية فتقوم الحركة الوطنية والاستقلالية مقام نواة الدولة وحاضنتها و "رحمها"، أو مقام فصلها الأول إذا استغني عن الصور العضوية المتفائلة، ومقام بنية سياسية تستبقها وترهص بها. والقول ان السبب في القصور هو ضعف تكافؤ المتحاربَيْن، أو تقدم أحدهما (الإسرائيلي) وعصريته وحداثته وتأخر الآخر (الفلسطيني)، على ما ذهب إليه وليد الخالدي وقبله ياسين الحافظ، يغفل عن ان ضعف التكافؤ هذا كان التشخيص الذي انتهى إليه دعاة "الكفاح المسلح". واقترح الدعاة معالجته بحرب غير نظامية في مستطاعها، على ما حسبوا وذهب إليه قبلهم بعض تمائم "حرب الشعب" وألويتها، تصريف القوة وموازينها على ترتيب آخر. فينتج الترتيب للضعيف، "المتأخر" أو "المتخلف"، تعظيم موارده وتثميرها في ميادين يتقدم فيها الدفاع على الهجوم، والتملص على الاشتباك، وتتقدم المطاولة على الحسم، والمناوشات الكثيرة على المعركة، وعمق الميدان على الجبهة. وعلى هذا، تقلص الميادين المختلفة فاعلية موارد الخصم أو العدو، على ما توالى على الشرح استراتيجيو الأحزاب الشيوعية المقاتلة في الصين والهند الصينية.
ولم تؤت الحرب غير النظامية، وغير المتكافئة، أُكلها المفترض والمرجو. لم تحرز نصراً استراتيجياً واحداً. وعندما أنجز المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون اتفاق اوسلو، و "عادت" اجزاء من بيروقراطية المنظمات المسلحة الى الوطن، وقامت مقام الفصل الأول من الدولة الوطنية والمستقلة، لم تؤذن "العودة"، على الصورة التي حصلت عليها، بقيام دولة وطنية جامعة. فإلى الملاحظات المعروفة والسائرة على اتفاق أوسلو، مثل تركه المسائل الحاسمة (مسائل "الوضع النهائي". الحدود والسيادة و "عودة" اللاجئين والمستوطنات) معلقة وموكولة الى المفاوضات اللاحقة وظروفها، يلاحظ أن من فاوضوا على الاتفاق، أي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وهي قيادة "الكفاح المسلح" الفلسطيني الإسمية وغير المركزية، ليسوا قيادة الداخل إلا جزئياً. وهم هذا على وجه متخلف عن وقت سبق نشأة منظمات جديدة نامية، اسلامية ومحلية. وكان مرجع المفاوضة الفعلي والماثل السنوات الخمس أو الست (1987 – 1993) التي تقدمت، وملأتها حوادث "الانتفاضة الأولى"، على ما سمي الفصل هذا من الحركة الوطنية والاستقلالية الفلسطينية.
الشقاق الأهلي
وعلى رغم الدور الكبير والبارز الذي تولته بعض منظمات منظمة التحرير في أثناء السنوات هذه، في الحركة الداخلة ووصل الداخل بالشتات القريب والبعيد على وجه الخصوص وفي التمثيل على الرابطة الفلسطينية المشتركة، أدت المنظمات الأهلية والإسلامية الجديدة والمحلية دوراً ذاتياً، تعبوياً وتأطيرياً، فاق ربما نظيره "الخارجي" والمتمرس بالعمل المنظم والسري. وهذه القوى لم تشترك في المفاوضات السياسية الفلسطينية – الإسرائيلية، ولم تستشر فيها. وقد لا يعود هذا الى تعنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والى نازع رأسها (ياسر عرفات) الى الانفراد بالرأي ومزاولته قيادة العمل السياسي على شاكلة قيادة الحركات أو الجماعات السرية، وحسب. فإلى حقيقة هذا كله، ثمة واقعة راجحة وحاسمة هي صدور حركة المقاومة الإسلامية ("حماس")، ثم حركة الجهاد الإسلامي بفلسطين، عن مقدمات وملابسات فلسطينية داخلية ومحلية، أهلية واعتقادية واجتماعية وأمنية وسياسية وجيلية، مختلفة عن المقدمات التي صدرت عنها منظمات "الكفاح المسلح" خارج "فلسطين" وأراضيها الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، و "الأردنية" و "المصرية" سابقاً.
فولد مع "الانتفاضة الأولى"، الى زخم القيام الأهلي والعصبي الداخلي والذاتي على الاحتلال المتمدد والمستوطن والخانق، شقاق فلسطيني أهلي وسياسي عميق بين أهل الشتات وأهل الداخل، وبين أهل الداخل أنفسهم. فناشطو أهل الداخل و "مناضلوه" الإسلاميون يرون أنفسهم، ونضالهم السياسي والعسكري والأمني والاجتماعي، نفياً للنفي الإسرائيلي. فهم، على ما يرون أنفسهم ويريدونها، رد قاطع وباتّ على نفي أو اقتلاع قاطع وبات. ويتوسل النفي هذا بالقوة والقسر المفرطين من غير تحفظ. ورسم الاحتلال المباشر والعام منذ 1967، واستيلاء الحمى المهدوية على جزء من الشعب الإسرائيلي غداة دخول قواته الجزء الشرقي والتوراتي من فلسطين – مستقبلاً مظلماً، جماعياً وفردياً، لم يعد إلا بتفاقم الظلمة والعزلة وامتدادهما. وعلى خلاف حال الجاليات الفلسطينية في الملاجئ العربية، استحال عملياً على الأفراد فك رابطتهم المصيرية بمصائر جماعتهم، والانسلاخ عن المصائر المحتومة هذه. فمن امتنع عليهم الخلاص أو الخروج الجسدي والمادي، وشطر من فلسطينيين الأراضي المحتلة هم نازحون أو لاجئون مثنى وثلاثاً، حملوا إقامتهم الاضطرارية والقسرية على محنة لا خلاص منها إلا بمعجزة أو بالموت. ومن ليست حالهم هذه من الفلسطينيين، أوليست كل حالهم، ويكابدون نتائج الاحتلال الخارجية أو "السطحية" مثل القيود الثقيلة على الانتقال والمداهمات من دون وطأة الاختناق والاكتظاظ والفقر وإهدار الدم التي تنيخ على صدور معظم أهل غزة خصوصاً – يراهم "إخوانهم" ومواطنوهم، ومن هذه حالهم، أغراباً وشطراً من شعب آخر.
وليس حمل الحمساويين والجهاديين، وربما عامة الغزاويين وبعض أهل مدن الضفة الغربية القريبة من الخط الأزرق ومن المستوطنات الكبيرة، أعيانَ السلطة الوطنية الفلسطينية ونافذيها ورؤوس أجهزتها وأنصارها، على "أجندة أميركية" يعملون بوحيها، ليس الحمل هذا ترديداً خالصاً لرطانة ايرانية وخمينية حرسية. والحمساويون والجهاديون، شأن الحزب اللهيين وكثرة من الأمليين في لبنان، على يقين من أن الانشطار والشقاق الفلسطينيين (واللبنانيين) لم يبقيا على رابطة وطنية جامعة. وعندما يسعى الحمساويون، شأن الحزب اللهيين، في إنشاء "دولتهم"، والاستقلال بها عن الدولة الوطنية المشتركة وبيروقراطيتها المسترخية ووجهائها المعتدلين والعاقلين، أو في ضم الدولة القائمة الى سلطانهم، وإرسائها على "المقاومة" والأعمال العسكرية والاستخباراتية والأمنية الخاصة وعلى أعمال الإعالة الاجتماعية الخيرية، فهم لا يعدون استتمام الانقسام الحاد الذي أصاب الجسم الوطني المفترض، ومماشاة الانقسام هذا ومحاكاته. ويغتذي الانقسام من معين كثير الوجوه والمصادر. يشفع بعضها ببعض، ويحققه ويثبته. فيقوي الانتماء الاجتماعي والسكني والتربوي والصحي الانتساب العصبي والأهلي. ويجمع التدين وشعائره ومراتبه فتات الأسر والعائلات، ولكنه يقرها على خصائصها وخصوصياتها وتفرقها، في آن. ويحاكي العمل السري والأمني الأبنية القرابية والمنازع الفردية "البطولية" المولودة منها، ومن تفتتها وتشرذمها وأحلافها المرتجلة. وتصل الأخبار والروايات والذاكرة أوقات الجماعات بعضها ببعض، وتنظم أفعالها بناظم زمني ودرامي تتقاسمه وحدها، ويسوغ مراتبها ومكاناتها بمعزل من "عالم" السياسة العلني.
وتتضافر الأحوال هذه على عزل أصحابها وجماعاتها، وعلى تحصينهم من الاشتراك في سنن سياسة واجتماع "سويين" و "عاديين"، على ما يحسب من يحتكمون الى "حس سليم" سائر ومتقاسم (والكاتب يعد نفسه، ساذجاً، في هؤلاء). والحق أن الاعتزال والتحصين هما من موارد قوة المعتزلين والمتحصنين. وهم يسعون فيهما، ولا سبيل الى تثبيت انكفاء الجماعات المستميتة في مقاومتها وراء أسوار وجدران حصينة وسميكة من المعتقدات، والأبنية الاجتماعية والسياسات، من غير طريق "المفاصلة"، على قول مريدي سيد قطب وبعض قرائه من الجهاديين والتكفيريين. ولا يبدو هؤلاء - وهم معظم الطاقم السياسي أو القيادي الحمساوي، والطاقم الحزب اللهي، وألسنة أجهزة القوة من باسدران وباسيج وكتاب صحافيين وخطباء ايرانيين، ومحللين وديبلوماسيين سوريين – لا يبدون قادمين من كوكب غير الكوكب الأرضي إلا لأنهم يتكلمون "لغتهم" الخاصة في لغة العموم المشتركة ظاهراً. فهم، على شاكلة يزدي، علاّمة محمود أحمدي نجاد وشيخه ومفتيه وعضو مجلس صيانة الدستور، ينتخبون ويقترعون ويميزون الفاضل من المفضول، ويبيحون كثرة المرشحين على شرط استيفائهم كلهم صفات المفاضلة. ولكنهم، في هذا كله، لا يسلِّمون إلا للكلمة الفصل الإلهية، ومستودعها المرشد والولي الفقيه ونائب إمام الزمان.
إقحام اللغات
وحين يكرر حسن نصرالله وأنصاره أن حربه، قبل ثلاثة أعوام، "إلهية"، وهو قبل إعمال الصفة هذه وبعد إعمالها، يبدو متكلماً بلغة مفهومة، ومعبراً عن معانٍ تقبل التصديق (الحمل على ما صدق) والتشكيك والرد، يفهم السامع أو القارئ (المشاهد) "العادي" أن المتكلم الخطيب يقحم في كلامه، وعلى كلامه، ما يخرج عن عقد المكالمة. ولا مدخل لـ "إيمان" السامع أو "إسلامه" في الأمر. فما ينكره من إعمال الخطيب الصفة "الإلهية" هو حملها على ملكية خاصة من العسير عليه، أو المحال. ابراز صكها الإسمي. وهو يحمل الصفة، تارة أخرى، على وقف ذُري، يعود ريعه الى ذريته أو ذراريه. فلا يستوفي الوقف المصلحة العامة، بل يؤلب بعض الأمة على بعض، على خلاف القصد من الأوقاف والحبوس. وفيما عدا إعمال الصفة، وطلب ريعها ووقف هذا الريع على الخطيب وأصحابه وأنصاره ومريديه، يتكلم الخطيب لغة سائرة هي لغة المصالح والمنافع والأضرار والموازين المعروفة والمشتركة. فلا عجب إذا حمل السامع "التأله" على تطفيف في كيل التخاطب والتفاهم. فهو يدخل على الوزن، أو الزنة، وعلى الميزان، ما لا يسع السامع، أي الجمهور، مناقشته بالحجة. فإما أن يسلِّم وإما أن ينكر. ويخرج، في الحالين، عن لغة الخطيب ومنها. وجزاء "الخروج عن اللغة"، على قول ابن عربي المتصوف، أو آيته، هو الجنون. الجنون أو التصهين والتأمرك. وفي نهاية المطاف ينبغي أن تخسر اللغة قوتها على الأداء والتعارف والاحتجاج، وأن تنقلب اصطلاحاً محضاً، على شاكلة حالها في رواية جورج أورويل "1984". فتفصل بين المتسلطين من أهل الاصطلاح، وبين الناس "العاديين"، وتفرق هؤلاء وتشتتهم.
وتجري الحرب غير المتكافئة، وهي حرب أهلية وداخلية على "الشعب الآخر" وشطره المنافق (على قول حسين شريعتمداري الكيهاني الخامنئي والنجادي) وحرب على ولي أمره المحتل والمستكبر، على هذا المثال. وقصر سامي كوهين، في كتابه في الجيش الاسرائيلي ("تساحال") وامتحانه بها (باريس، 2009، دار سوي)، الحرب غير المتكافئة على الحروب الإسرائيلية – الفلسطينية، وفصولها السابقة واللاحقة. واطّرح الحروب الأهلية والداخلية. وهذا معالجة تحمل سياقة واحدة، أو أصلاً من أصول كثيرة، على جملة السياقات، وتقدمها عليها. فهو يعرِّف الحرب غير المتكافئة الإسرائيلية – الفلسطينية، أو حرب الضعيف، غير المسلح بسلاح يكافئ تسلح القوي، على القوي تعريفاً سياسياً. والتعريف السياسي، أو بالغاية السياسية، هو "رأي" الضعيف، الفلسطيني أو الحزب اللهي. فالضعيف لا يطيق الحرب النظامية. فهي تغلّب العامل التقني، وهو العامل الذي تشيل كفة الضعيف و "الفقير" في ميزانه. وهي تعزل ميدان الحرب أو المعركة من الميادين الاجتماعية الأخرى، وتقصر المعركة على قوتين "فنيتين" أو مجردتين تستفرغان في اشتباكهما عدتهما من الدراية والتدريب والتجهيز والخبرة والشجاعة.
وعلى خلاف الحرب النظامية، تزج الحرب غير النظامية في الميدان بـ "الشعب" كله، وتدعوه الى الحجز بين القوات غير النظامية وبين قوات العدو النظامية، أي الى تلقي الرد بصدره. و "الدعوة" هذه، على فرض الاستجابة، تفترض في الداعي، أي في القوة الحزبية والعسكرية والأمنية المبادرة الى الاشتباك والقتال والقتل والمتعمدة قتل المدنيين وتوسيع ميدان الاشتباك، التعويل على تضامن "الشعب" معه، وجواز التعويل هذا. فإذا ردّت قوة العدو النظامية على مصدر النار أو القتل، وهو مصدر مفترض ومخمَّن حين يسدل الشعب عباءته الليلية على المقاتلين، وعلى قول فرانتز فانون المارتينيكي – "الجزائري"، رداً "مفرطاً"، وهذا شأن الرد الإسرائيلي على العموم، أو مع الرد المفرط في الأهالي، وفي مرافق السكن والجوار، خسائر تعزى الى قوات العدو النظامية، ويتحمل المسؤولية العينية والمباشرة عنها.
وجر العدو النظامي الى رد غير متكافئ، فيصيب أولاً غير المقاتلين ومصالحهم، هو جوهر الحرب غير المتكافئة، على تعريف سامي كوهين. فالفصل الذي يلي الرد الجامح والمدمر هو التفاف المصابين الفعليين والمحتملين حول القوة غير النظامية، وتضامنهم معها. ويمثل الكاتب على رأيه بولادة "حزب الله" في أعقاب الحملة الاسرائيلية "سلامة الجليل" في لبنان، وباستيلاء "حماس" على غزة على أنقاض السلطة الفلسطينية وأجهزتها، وبالحربين الأخيرتين بين "حزب الله" و "حماس" وبين الدولة العبرية. فالانتصار العسكري الذي سعت فيه شعوب "الشرق"، وأخطأته "الثورات (العربية) من فوق"، في مستطاع حركات "المقاومة" الإسلامية والعامية، اليوم، انجازه من طريق شقها مجتمعاتها وبلدانها، وجرها الى حروب أهلية وخارجية معاً لا تترتب عليها مسؤوليات ولا تبعات. وإبطال المحاسبة في بلدان ألفت بعض الشيء أنظمة وأبنية نيابية، على رغم ضعف فصلها بين السلطات واستئثار قوة غالبة ومتسلطة بمعظم السلطة، نهج لم تبتدعه الخمينية الإيرانية ولا "البعث" الصدامي أو الأسدي ولا الناصرية الشعبوية قبل هذا وتلك. ولكن الخمينية أرست النهج هذا، وروافده الاجتماعية والفكرية الكثيرة، على "تأليه" السلطان تأليهاً لم يتجاسر على القول به مذهب فكري أو رأي آخر معاصر.
منذ نيف وقرن، أي منذ الحرب الروسية – اليابانية في 1905 على وجه الدقة، وأهل "الشرق"، شرق كيبلينغ الذي تعريفه هو نفسه واستحالة التقائه بصنوه ونقيضه وصادمه، "الغرب"، يصبون الى شيء واحد هو الانتصار العسكري على الصنو والنقيض والصادم أو الصدّام "الحضاري"، المفترض هذا. فيوم انتصرت قوات الامبراطور الياباني الإلهي، وهو إلهي شأن الأباطرة كلهم وشأن ولاتهم وعمالهم وسفرائهم والمتطلعين الى الولاية، على قوات القيصر المقدس، وأغرقت بوارج الأميرال هايهاشيرو توغو ودارعاته وزوارق الطوربيد السريعة سفن الأميرال الروسي زينوفي روديستفينسكي وأسطول البلطيق الذي يقوده في بحر اليابان، بمضيق تسوشيما – هلل أهل الشرق، من طنجة ودكار، غرباً، الى فان فونغ وكام رانه، جنوب بورت – أرثر وفلادينو ستوك، شرقاً.
"الثورة من فوق"
وأسهم أهل الشرق الأوسط، منعقد طرق التجارة والمواصلة والاستيلاء "الإجباري" (بشار الأسد) بين القارات الثلاث القديمة، في مديح إخوانهم الشرقيين المنتصرين على أشباه غربيين وقاصرين عن نصب أوتادهم وخيامهم ورحالهم في قلب الصحن الغربي. فنظموا قصائد وطنية ونهضوية لا تحصى في يقظة بلد مطلع الشمس على الكرة الأرضية. وذهبوا الى ان "العلم"، وهم عزوا إليه النصر المبين، مقسوم بالسوية في أمم الأرض، و "نحن" منها. فلن يحول حائل من دين ومعتقد بين بلوغ العلم، وفنونه وثمراته وآلاته، عقول أمم الشرق الأخرى وسواعدها. وينتصر أميرالات الأمة، شأن أجدادهم، الأروام، في أم الصواري أو في خليج القسطنطينية، على مثال هايهاشيرو توغو، ويلقنون "العالم" درساً لا ينساه.
والحق ان درس تسوشيما وبورت – آرثر كان عسيراً على التلقين، أي على العمل به، والحذو عليه. فالانتصار الياباني كان ثمرة "ثورة من فوق"، على مثال ألماني بروسي انتهت بعض إجراءاته ومناهجه الى الكليات الحربية العثمانية منذ بعض الوقت. وتقتضي "الثورة من فوق" تولي بيروقراطية عسكرية قومية، شديدة المراس والشكيمة والشوكة، تجنيد "الشعب" تحت لوائها، نيابة عن لواء امبراطور سماوي، وخوض حروب التوحيد الداخلي و "التحديث" والإنتاج وإرساء المكانة الإقليمية والدولية المهابة، معاً، على شاكلة حرب واحدة ومتصلة، بعضها مجازي ومعظمها حقيقي. وتفترض "الثورة من فوق"، على المثال الألماني البروسي او على المثال الياباني، وعلى مثال تركي كمالي من بعد، نهوض جزء من أهل القوة والسلطان، أو كتلة مرصوصة ومتغلبة منهم، بالثورة، وحشدهم الكتلة الأعظم من الجمهور في مسارحها وميادينها. ولا يستقيم هذا من غير تحطيم الكتلة المرصوصة والمتغلبة الكتلَ المترددة، والضيقة الأفق والمنكفئة على مصالحها المحدودة والخاصة. والترجمة العملية هي شن حروب أهلية موضعية وجراحية، والاستقواء على القوى "الإقطاعية" والمحلية بمنطق "الدولة" المركزية الذي الذي يتستر به، غالباً، منطق امبراطوري أو سلطاني، فاتح ومستول، والامبراطورية قد تكون حركة أسرية وشعبية معاً، على قول المؤرخين البريطانيين جيب وبووين في السلطنة العثمانية. وهي أسرية على معنى مرتبي، أو طبقي، يضوي أهل "الشرف" والرفعة والأصلاب العالية، وبعضها مصطنع أو منحول ومجلوب في قوم ائتلفوا، قرابة ولغة ومعتقداً وسكناً، من أقوام. وهي شعبية على معنى يشمل القوم كلهم، ويرفعهم بإزاء الأقوام الأخرى من اهل بلاد الفتوح والاستيلاء، ويخصهم بوظائف وعوائد وشارات ليست مقسومة بالسوية في الأقوام كلها أو كلهم.
والاختبار الحربي والعسكري لا غنى للثورات من فوق عنه، وعن نجاحها فيه. فهو سُلَّمها الى دمج قومها أو شعبها في كتلة واحدة ومرصوصة، لحمتها الرمز وقوته وتعاليه عن "حدود" الأفراد، وعن خفتهم في ميزان المصائر الكونية ووقتهم العابر والقصير. وهو مسوغ التضحيات العظيمة التي لا تقوم نهضة، ولا يقوم انبعاث إلا بها وجراءها. ولولا غاليبولي، في 1915 – 1916، وخسارة قوات الحلفاء على الشاطئ التركي الأوروبي، لما وسع مصطفى كمال من بعد استنهاض الترك، وقيادة إبائهم الإذعان للفرمانات البريطانية والفرنسية وحربهم عليها. ولما وسعه استعادة تركيا التركية العثمانية في حرب استقلالية توجتها معاهدة لوزان (1923) ودامت نحو نصف عقد، وكانت "حرب شعب" وطنية من غير حزب أو "طليعة" متسلطة، على خلاف المثال الصيني الماوي وذيوله المدمرة. وعلى الوجه السالب للمثال نفسه، أودت خسارة مصر، في قيادة جمال عبدالناصر، "حرب" حزيران 1967 بحركة التوحيد العربية الوليدة وبقيادتها المصرية. وكان "انتصار" السويس الملتبس، في 1956، باباً على الدمج المصري – السوري، غداة نيف وسنة واحدة على إحرازه. فإذا استحال النصر العسكري على اصحاب "الثورة من فوق" وقادتها، ضعفت دالتهم على الجماعات الأهلية، والكتل الاجتماعية، في الداخل الوطني. وخرج الأقران والأشقاء الإقليميون عليهم، وخسروا حروب التوحيد و "التحديث" والإنتاج والمكانة (والكرامة) جميعاً.
فخرجت من "تحت" العباءة الناصرية العربية، أو من جوارها القريب، حركات أهلية، عامية ووطنية معاً، دعاها قيامها خارج أجهزة الدولة والإدارة – وشطرها الفلسطيني الغالب كان خارج معظم أرضه الوطنية، وخسرها قبل نحو عشرين سنة – إلى انتهاج ما حسبه دعاتها وألسنتها حرباً شعبية وغير نظامية. وعللت الحركات هذه "الهزيمة" العربية المفترضة واحدة، وهي كثيرة على كثرة المسهمين والمساهمين فيها، بصدورها من "فوق"، أي من الدولة. وحملت الحركات الأهلية والعامية الوطنية الدولةَ على التسلط والاستئثار، والتحدر من الاستعمار والتجزئة. وحملتها على الامتثال لمعايير قانونية دولية ظالمة ومجحفة تسري على الضعفاء وتقضي، فيما تقضي فيه، بتسليح يقصّر عن "التوازن الاستراتيجي"، ويلجم الرغبة الشعبية العارمة في القتال والكفاح المسلح، ومقارعة المحتل، وبناء المجتمع الأصيل والمقتدر، معاً وجميعاً. فجمعت حركات "المقاومة"، في مقالة أو سياسة واحدة، الإنكار على الدولة الوطنية، الفئوية والتابعة والقطرية والقانونية والمهادنة، والدعوة الى "شعب" أو ثورة من غير دولة ولا قيد على شعب الثورة أو ثورة الشعب.
البحث عن الدولة... وتدميرها
ودمج بعض المؤرخين الفلسطينيين الأمرين أو الوجهين في وجه واحد غير متناقض ولا متدافع هو "البحث عن الدولة"، على وسم يزيد صايغ تأريخه "الكفاح المسلح" الفلسطيني. ولما قصر المؤرخ تأريخه على الوقائع والحوادث التي سبقت اتفاقات أوسلو، في أواخر 1993، وسعه التخفف من ثقل التأليف بين الطعن على الدولة الوطنية، وعلى صورها الفعلية وأبنيتها الماثلة، وبين طلبها من طريق "ثورة" تبطلها، أصولاً وفروعاً، وتخنق في المهد، أي في اثناء خروج "الشعب" على الدول ووصايتها، نشأتها وسيرورة النشأة وعواملها. فكانت سيرورة "البحث عن الدولة" الوطنية الفلسطينية، أي تاريخ الحركة الوطنية والاستقلالية الفلسطينية المسلحة والمدنية معاً، سيرورة تدمير شروط الدولة، وإبطال نشوئها عن إجماع وطني وشعبي عليها وعلى سيادتها ووحدتها. وما أوكل إليه الاضطلاع بإيجاب الشعب والدولة معاً، وهو الحرب الوطنية والانتصار فيها، أو "الكفاح المسلح" في المصطلح الفلسطيني والعربي، اضطلع بالدور الأوفى والغالب في موازنة نقيضين. فوازن توحيدَ الفلسطينيين وشتاتهم على شرط سياسي مشترك (هو شرط "الثورة") بخلاف التوحيد هذا. وشرذمهم فصائلَ نصبت الواحدة منها نفسها دولة تامة الأوصاف والشمائل، ولا تفتقر إلا الى السيادة.
وانقلب الشتات على النهج الذي تولى، أو أراد تولي تجاوزه وتخطيه الى بلورة وحدة سياسية متماسكة ومتعالية عن عوامل تفريق الشتات هذا. وقصّر "الكفاح المسلح" الفلسطيني، وروافده العربية المحلية أو القطرية، عن خوض حرب وطنية واستقلالية مقيدة بغاية سياسية واضحة و "معقولة"، هي الدولة الوطنية فتقوم الحركة الوطنية والاستقلالية مقام نواة الدولة وحاضنتها و "رحمها"، أو مقام فصلها الأول إذا استغني عن الصور العضوية المتفائلة، ومقام بنية سياسية تستبقها وترهص بها. والقول ان السبب في القصور هو ضعف تكافؤ المتحاربَيْن، أو تقدم أحدهما (الإسرائيلي) وعصريته وحداثته وتأخر الآخر (الفلسطيني)، على ما ذهب إليه وليد الخالدي وقبله ياسين الحافظ، يغفل عن ان ضعف التكافؤ هذا كان التشخيص الذي انتهى إليه دعاة "الكفاح المسلح". واقترح الدعاة معالجته بحرب غير نظامية في مستطاعها، على ما حسبوا وذهب إليه قبلهم بعض تمائم "حرب الشعب" وألويتها، تصريف القوة وموازينها على ترتيب آخر. فينتج الترتيب للضعيف، "المتأخر" أو "المتخلف"، تعظيم موارده وتثميرها في ميادين يتقدم فيها الدفاع على الهجوم، والتملص على الاشتباك، وتتقدم المطاولة على الحسم، والمناوشات الكثيرة على المعركة، وعمق الميدان على الجبهة. وعلى هذا، تقلص الميادين المختلفة فاعلية موارد الخصم أو العدو، على ما توالى على الشرح استراتيجيو الأحزاب الشيوعية المقاتلة في الصين والهند الصينية.
ولم تؤت الحرب غير النظامية، وغير المتكافئة، أُكلها المفترض والمرجو. لم تحرز نصراً استراتيجياً واحداً. وعندما أنجز المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون اتفاق اوسلو، و "عادت" اجزاء من بيروقراطية المنظمات المسلحة الى الوطن، وقامت مقام الفصل الأول من الدولة الوطنية والمستقلة، لم تؤذن "العودة"، على الصورة التي حصلت عليها، بقيام دولة وطنية جامعة. فإلى الملاحظات المعروفة والسائرة على اتفاق أوسلو، مثل تركه المسائل الحاسمة (مسائل "الوضع النهائي". الحدود والسيادة و "عودة" اللاجئين والمستوطنات) معلقة وموكولة الى المفاوضات اللاحقة وظروفها، يلاحظ أن من فاوضوا على الاتفاق، أي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وهي قيادة "الكفاح المسلح" الفلسطيني الإسمية وغير المركزية، ليسوا قيادة الداخل إلا جزئياً. وهم هذا على وجه متخلف عن وقت سبق نشأة منظمات جديدة نامية، اسلامية ومحلية. وكان مرجع المفاوضة الفعلي والماثل السنوات الخمس أو الست (1987 – 1993) التي تقدمت، وملأتها حوادث "الانتفاضة الأولى"، على ما سمي الفصل هذا من الحركة الوطنية والاستقلالية الفلسطينية.
الشقاق الأهلي
وعلى رغم الدور الكبير والبارز الذي تولته بعض منظمات منظمة التحرير في أثناء السنوات هذه، في الحركة الداخلة ووصل الداخل بالشتات القريب والبعيد على وجه الخصوص وفي التمثيل على الرابطة الفلسطينية المشتركة، أدت المنظمات الأهلية والإسلامية الجديدة والمحلية دوراً ذاتياً، تعبوياً وتأطيرياً، فاق ربما نظيره "الخارجي" والمتمرس بالعمل المنظم والسري. وهذه القوى لم تشترك في المفاوضات السياسية الفلسطينية – الإسرائيلية، ولم تستشر فيها. وقد لا يعود هذا الى تعنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والى نازع رأسها (ياسر عرفات) الى الانفراد بالرأي ومزاولته قيادة العمل السياسي على شاكلة قيادة الحركات أو الجماعات السرية، وحسب. فإلى حقيقة هذا كله، ثمة واقعة راجحة وحاسمة هي صدور حركة المقاومة الإسلامية ("حماس")، ثم حركة الجهاد الإسلامي بفلسطين، عن مقدمات وملابسات فلسطينية داخلية ومحلية، أهلية واعتقادية واجتماعية وأمنية وسياسية وجيلية، مختلفة عن المقدمات التي صدرت عنها منظمات "الكفاح المسلح" خارج "فلسطين" وأراضيها الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، و "الأردنية" و "المصرية" سابقاً.
فولد مع "الانتفاضة الأولى"، الى زخم القيام الأهلي والعصبي الداخلي والذاتي على الاحتلال المتمدد والمستوطن والخانق، شقاق فلسطيني أهلي وسياسي عميق بين أهل الشتات وأهل الداخل، وبين أهل الداخل أنفسهم. فناشطو أهل الداخل و "مناضلوه" الإسلاميون يرون أنفسهم، ونضالهم السياسي والعسكري والأمني والاجتماعي، نفياً للنفي الإسرائيلي. فهم، على ما يرون أنفسهم ويريدونها، رد قاطع وباتّ على نفي أو اقتلاع قاطع وبات. ويتوسل النفي هذا بالقوة والقسر المفرطين من غير تحفظ. ورسم الاحتلال المباشر والعام منذ 1967، واستيلاء الحمى المهدوية على جزء من الشعب الإسرائيلي غداة دخول قواته الجزء الشرقي والتوراتي من فلسطين – مستقبلاً مظلماً، جماعياً وفردياً، لم يعد إلا بتفاقم الظلمة والعزلة وامتدادهما. وعلى خلاف حال الجاليات الفلسطينية في الملاجئ العربية، استحال عملياً على الأفراد فك رابطتهم المصيرية بمصائر جماعتهم، والانسلاخ عن المصائر المحتومة هذه. فمن امتنع عليهم الخلاص أو الخروج الجسدي والمادي، وشطر من فلسطينيين الأراضي المحتلة هم نازحون أو لاجئون مثنى وثلاثاً، حملوا إقامتهم الاضطرارية والقسرية على محنة لا خلاص منها إلا بمعجزة أو بالموت. ومن ليست حالهم هذه من الفلسطينيين، أوليست كل حالهم، ويكابدون نتائج الاحتلال الخارجية أو "السطحية" مثل القيود الثقيلة على الانتقال والمداهمات من دون وطأة الاختناق والاكتظاظ والفقر وإهدار الدم التي تنيخ على صدور معظم أهل غزة خصوصاً – يراهم "إخوانهم" ومواطنوهم، ومن هذه حالهم، أغراباً وشطراً من شعب آخر.
وليس حمل الحمساويين والجهاديين، وربما عامة الغزاويين وبعض أهل مدن الضفة الغربية القريبة من الخط الأزرق ومن المستوطنات الكبيرة، أعيانَ السلطة الوطنية الفلسطينية ونافذيها ورؤوس أجهزتها وأنصارها، على "أجندة أميركية" يعملون بوحيها، ليس الحمل هذا ترديداً خالصاً لرطانة ايرانية وخمينية حرسية. والحمساويون والجهاديون، شأن الحزب اللهيين وكثرة من الأمليين في لبنان، على يقين من أن الانشطار والشقاق الفلسطينيين (واللبنانيين) لم يبقيا على رابطة وطنية جامعة. وعندما يسعى الحمساويون، شأن الحزب اللهيين، في إنشاء "دولتهم"، والاستقلال بها عن الدولة الوطنية المشتركة وبيروقراطيتها المسترخية ووجهائها المعتدلين والعاقلين، أو في ضم الدولة القائمة الى سلطانهم، وإرسائها على "المقاومة" والأعمال العسكرية والاستخباراتية والأمنية الخاصة وعلى أعمال الإعالة الاجتماعية الخيرية، فهم لا يعدون استتمام الانقسام الحاد الذي أصاب الجسم الوطني المفترض، ومماشاة الانقسام هذا ومحاكاته. ويغتذي الانقسام من معين كثير الوجوه والمصادر. يشفع بعضها ببعض، ويحققه ويثبته. فيقوي الانتماء الاجتماعي والسكني والتربوي والصحي الانتساب العصبي والأهلي. ويجمع التدين وشعائره ومراتبه فتات الأسر والعائلات، ولكنه يقرها على خصائصها وخصوصياتها وتفرقها، في آن. ويحاكي العمل السري والأمني الأبنية القرابية والمنازع الفردية "البطولية" المولودة منها، ومن تفتتها وتشرذمها وأحلافها المرتجلة. وتصل الأخبار والروايات والذاكرة أوقات الجماعات بعضها ببعض، وتنظم أفعالها بناظم زمني ودرامي تتقاسمه وحدها، ويسوغ مراتبها ومكاناتها بمعزل من "عالم" السياسة العلني.
وتتضافر الأحوال هذه على عزل أصحابها وجماعاتها، وعلى تحصينهم من الاشتراك في سنن سياسة واجتماع "سويين" و "عاديين"، على ما يحسب من يحتكمون الى "حس سليم" سائر ومتقاسم (والكاتب يعد نفسه، ساذجاً، في هؤلاء). والحق أن الاعتزال والتحصين هما من موارد قوة المعتزلين والمتحصنين. وهم يسعون فيهما، ولا سبيل الى تثبيت انكفاء الجماعات المستميتة في مقاومتها وراء أسوار وجدران حصينة وسميكة من المعتقدات، والأبنية الاجتماعية والسياسات، من غير طريق "المفاصلة"، على قول مريدي سيد قطب وبعض قرائه من الجهاديين والتكفيريين. ولا يبدو هؤلاء - وهم معظم الطاقم السياسي أو القيادي الحمساوي، والطاقم الحزب اللهي، وألسنة أجهزة القوة من باسدران وباسيج وكتاب صحافيين وخطباء ايرانيين، ومحللين وديبلوماسيين سوريين – لا يبدون قادمين من كوكب غير الكوكب الأرضي إلا لأنهم يتكلمون "لغتهم" الخاصة في لغة العموم المشتركة ظاهراً. فهم، على شاكلة يزدي، علاّمة محمود أحمدي نجاد وشيخه ومفتيه وعضو مجلس صيانة الدستور، ينتخبون ويقترعون ويميزون الفاضل من المفضول، ويبيحون كثرة المرشحين على شرط استيفائهم كلهم صفات المفاضلة. ولكنهم، في هذا كله، لا يسلِّمون إلا للكلمة الفصل الإلهية، ومستودعها المرشد والولي الفقيه ونائب إمام الزمان.
إقحام اللغات
وحين يكرر حسن نصرالله وأنصاره أن حربه، قبل ثلاثة أعوام، "إلهية"، وهو قبل إعمال الصفة هذه وبعد إعمالها، يبدو متكلماً بلغة مفهومة، ومعبراً عن معانٍ تقبل التصديق (الحمل على ما صدق) والتشكيك والرد، يفهم السامع أو القارئ (المشاهد) "العادي" أن المتكلم الخطيب يقحم في كلامه، وعلى كلامه، ما يخرج عن عقد المكالمة. ولا مدخل لـ "إيمان" السامع أو "إسلامه" في الأمر. فما ينكره من إعمال الخطيب الصفة "الإلهية" هو حملها على ملكية خاصة من العسير عليه، أو المحال. ابراز صكها الإسمي. وهو يحمل الصفة، تارة أخرى، على وقف ذُري، يعود ريعه الى ذريته أو ذراريه. فلا يستوفي الوقف المصلحة العامة، بل يؤلب بعض الأمة على بعض، على خلاف القصد من الأوقاف والحبوس. وفيما عدا إعمال الصفة، وطلب ريعها ووقف هذا الريع على الخطيب وأصحابه وأنصاره ومريديه، يتكلم الخطيب لغة سائرة هي لغة المصالح والمنافع والأضرار والموازين المعروفة والمشتركة. فلا عجب إذا حمل السامع "التأله" على تطفيف في كيل التخاطب والتفاهم. فهو يدخل على الوزن، أو الزنة، وعلى الميزان، ما لا يسع السامع، أي الجمهور، مناقشته بالحجة. فإما أن يسلِّم وإما أن ينكر. ويخرج، في الحالين، عن لغة الخطيب ومنها. وجزاء "الخروج عن اللغة"، على قول ابن عربي المتصوف، أو آيته، هو الجنون. الجنون أو التصهين والتأمرك. وفي نهاية المطاف ينبغي أن تخسر اللغة قوتها على الأداء والتعارف والاحتجاج، وأن تنقلب اصطلاحاً محضاً، على شاكلة حالها في رواية جورج أورويل "1984". فتفصل بين المتسلطين من أهل الاصطلاح، وبين الناس "العاديين"، وتفرق هؤلاء وتشتتهم.
وتجري الحرب غير المتكافئة، وهي حرب أهلية وداخلية على "الشعب الآخر" وشطره المنافق (على قول حسين شريعتمداري الكيهاني الخامنئي والنجادي) وحرب على ولي أمره المحتل والمستكبر، على هذا المثال. وقصر سامي كوهين، في كتابه في الجيش الاسرائيلي ("تساحال") وامتحانه بها (باريس، 2009، دار سوي)، الحرب غير المتكافئة على الحروب الإسرائيلية – الفلسطينية، وفصولها السابقة واللاحقة. واطّرح الحروب الأهلية والداخلية. وهذا معالجة تحمل سياقة واحدة، أو أصلاً من أصول كثيرة، على جملة السياقات، وتقدمها عليها. فهو يعرِّف الحرب غير المتكافئة الإسرائيلية – الفلسطينية، أو حرب الضعيف، غير المسلح بسلاح يكافئ تسلح القوي، على القوي تعريفاً سياسياً. والتعريف السياسي، أو بالغاية السياسية، هو "رأي" الضعيف، الفلسطيني أو الحزب اللهي. فالضعيف لا يطيق الحرب النظامية. فهي تغلّب العامل التقني، وهو العامل الذي تشيل كفة الضعيف و "الفقير" في ميزانه. وهي تعزل ميدان الحرب أو المعركة من الميادين الاجتماعية الأخرى، وتقصر المعركة على قوتين "فنيتين" أو مجردتين تستفرغان في اشتباكهما عدتهما من الدراية والتدريب والتجهيز والخبرة والشجاعة.
وعلى خلاف الحرب النظامية، تزج الحرب غير النظامية في الميدان بـ "الشعب" كله، وتدعوه الى الحجز بين القوات غير النظامية وبين قوات العدو النظامية، أي الى تلقي الرد بصدره. و "الدعوة" هذه، على فرض الاستجابة، تفترض في الداعي، أي في القوة الحزبية والعسكرية والأمنية المبادرة الى الاشتباك والقتال والقتل والمتعمدة قتل المدنيين وتوسيع ميدان الاشتباك، التعويل على تضامن "الشعب" معه، وجواز التعويل هذا. فإذا ردّت قوة العدو النظامية على مصدر النار أو القتل، وهو مصدر مفترض ومخمَّن حين يسدل الشعب عباءته الليلية على المقاتلين، وعلى قول فرانتز فانون المارتينيكي – "الجزائري"، رداً "مفرطاً"، وهذا شأن الرد الإسرائيلي على العموم، أو مع الرد المفرط في الأهالي، وفي مرافق السكن والجوار، خسائر تعزى الى قوات العدو النظامية، ويتحمل المسؤولية العينية والمباشرة عنها.
وجر العدو النظامي الى رد غير متكافئ، فيصيب أولاً غير المقاتلين ومصالحهم، هو جوهر الحرب غير المتكافئة، على تعريف سامي كوهين. فالفصل الذي يلي الرد الجامح والمدمر هو التفاف المصابين الفعليين والمحتملين حول القوة غير النظامية، وتضامنهم معها. ويمثل الكاتب على رأيه بولادة "حزب الله" في أعقاب الحملة الاسرائيلية "سلامة الجليل" في لبنان، وباستيلاء "حماس" على غزة على أنقاض السلطة الفلسطينية وأجهزتها، وبالحربين الأخيرتين بين "حزب الله" و "حماس" وبين الدولة العبرية. فالانتصار العسكري الذي سعت فيه شعوب "الشرق"، وأخطأته "الثورات (العربية) من فوق"، في مستطاع حركات "المقاومة" الإسلامية والعامية، اليوم، انجازه من طريق شقها مجتمعاتها وبلدانها، وجرها الى حروب أهلية وخارجية معاً لا تترتب عليها مسؤوليات ولا تبعات. وإبطال المحاسبة في بلدان ألفت بعض الشيء أنظمة وأبنية نيابية، على رغم ضعف فصلها بين السلطات واستئثار قوة غالبة ومتسلطة بمعظم السلطة، نهج لم تبتدعه الخمينية الإيرانية ولا "البعث" الصدامي أو الأسدي ولا الناصرية الشعبوية قبل هذا وتلك. ولكن الخمينية أرست النهج هذا، وروافده الاجتماعية والفكرية الكثيرة، على "تأليه" السلطان تأليهاً لم يتجاسر على القول به مذهب فكري أو رأي آخر معاصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق