1/6/2010
صادفت (أو لم تصادف اتفاقاً) المناورات الإسرائيلية «الكبيرة» الذكرى العاشرة للجلاء الإسرائيلي عن معظم الأراضي اللبنانية التي احتلتها القوات الإسرائيلية غداة 1967 و1969 (بعض مزارع شبعا) ثم في 1978 (الشريط الى الليطاني). وسبقت المناورات العتيدة حملة ديبلوماسية وخطابية عريضة على تسلح الجماعة الشيعية المقاتلة في لبنان بصواريخ «سكود»، المتوسطة والدقيقة التصويب والمحملة برؤوس كيماوية، من طريق سورية وأراضيها، وسيطِ المصدر الإيراني. وتخللت الحملة وأعقبتها، الى اليوم، حركة زيارات جرارة الى المشرق عموماً، وإلى لبنان وفلسطين وإسرائيل وسورية خصوصاً. وكان سهم لبنان فيها، استقبالاً ومبادرة، راجحاً. وفي الأثناء، ألبت مناقشات مبادلة اليورانيوم الإيراني وقرار العقوبات الدولي في حق إيران ومؤتمر مراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي والتوصية بإخلاء الشرق الأوسط من السلاح المدمر، المجتمع الدولي وأقطابه، في العواصم الإقليمية و «الحاضرة» الدولية والأممية على حد سواء.
والمناورات الإسرائيلية الطويلة (5 أيام) والشاملة (الجبهة المدنية) ركنها معالجة قصف صاروخي كثيف على أراضي الدولة العبرية وسكانها ومرافقها المدنية والعسكرية جميعاً. ومصادر القصف المتوقع هي جبهات الحدود الثلاثة المجاورة، لبنان وغزة وسورية، ومصدر بعيد، على نحو 2000 كلم يملك صواريخ بعيدة قياساً على المسافة هذه، هو إيران. واختبرت الدولة العبرية، في أوقات متفرقة القصف الصاروخي هذا من سورية (في 1973) ثم من لبنان (طوال التسعينات وفي 2006) ومن فلسطين (طوال العقد الأول المنصرم وذورته في 2008 – 2009)، على مقادير متفرقة. وحين تفترض المناورات قصفاً متزامناً ومترابطاً ومنسقاً من الجبهات الثلاث العريبة، فهي تبني أنموذجاً مركباً غير مسبوق. ففي اثناء «الحروب» السابقة عملت هذه الجبهات منفردة ومستقلة الواحدة عن الأخرى. وعلى هذا، فضم الجبهة الإيرانية الرابعة، النائية، إنما يستكمل الأنموذج التخطيطي على وجهه السياسي والإرادي فوق وجهه العملي والمختبر.
ويبدو ضم الجبهات هذه (الثلاث القريبة على وجه التخصيص) رزمة واحدة، رداً على بعض ما خلصت إليه القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية من اختبارات هذه الجبهات في الأوقات المتفرقة الماضية. فدمجها في حرب واحدة، وتقدير غلبة القصف الصاروخي المنسق عليها، وإدخال الجبهة السورية (ودولتها) تحت رسم أو باب واحد من منظمتين أهليتين وغير نظاميتين، قد تكون قرينة على احتساب إطار واحد ومشترك للرد. وتوحيد إطار الرد يفترض استدراج الجبهات الثلاث، وهي استفادت في الاشتباكات السابقة من استقلالها، الى الاندماج في جبهة عسكرية متصلة على نحو ما هي جبهة سياسية واستراتيجية مترابطة. وقد لا تكون «هرجة» صواريخ «سكود» الديبلوماسية والإعلامية والخطابية بمنأى من توحيد إطار الرد، والاستدراج إليه، وتمهيد طريقه. وإطار الرد وإطار الردع هما، في هذا المعرض، إطار واحد. ويتولى إطار الردع استبعاد الرد.
ففي ضوء الاختبارات (المتطاولة) الثلاثة، على الجبهات الثلاث، نهضت «الدولة» السورية بأعباء تماسك الجبهتين الأخريين، سياسة وديبلوماسية وتسليحاً. وحين خاضت الدولة السورية الحرب، في 1973، مبادِرة ومختارة، وفي 1982 (على الأراضي اللبنانية) مضطرة، عادت صفة الدولة، أو الكيان السياسي، على الأداء الحربي النظامي الضعيف اصلاً بالضعف. واضطرت القيادة السورية إلى استجداء وقف النار، في المرحلة الثانية من الحرب. وخلصت، مذذاك، إلى ان حربها هذه هي آخر حرب تخوضها، على ما كرر أحد أعيان النظام يومذاك واستثنى لبنان ساحة حرب سورية – إسرائيلية فرعية ومواربة. وكان الإسهام السوري، السياسي والأمني، في إنشاء «المقاومة» الخمينية راجحاً. وهو وجه من وجوه الرد على القصور العسكري السوري الفادح، أي على «افتقار سورية الى خيار عسكري» على قول إسرائيلي مهين ولئيم. وتخطى الإسهام والدور الإيرانيان الحساب السوري الأول، قبل ان تتخطى الاستراتيجية الإيرانية، ومحوراها الإقليمي والنووي، طاقة القيادة السورية على التخطيط.
ومهما كان من شأن اعادة النظر السورية في خطة حربها، وتحولها من الأسلحة والقوات التقليدية (الطيران الحربي والمدرعات وقوات المشاة المحمولة) الى سلاح الصواريخ واقتنائها 70 ألف صاروخ على زعم إسرائيلي رائج، فالدولة السورية، واضطلاع الحكم بالمسؤولية عن الحرب ونتائجها المادية والبشرية، هي مكمن ضعف فادح في الاستراتيجية العسكرية السورية الى اليوم. ولا يحول التسلح الصاروخي، بالغاً ما بلغ تنوعه وتعقيده، دون إباحة الأراضي الوطنية والسكان والمرافق والقوات نفسها لتفوق سلاح الجو الإسرائيلي تفوقاً حاسماً وثقيلاً. وليس إرفاق أزمة «سكود»، حال ثورتها أو إثارتها، بتهديد الدولة السورية بـ «إعادتها الى العصر الحجري» إلا تلويحاً بموطن الضعف، وتذكيراً به.
والانفكاك من الدولة أو التحرر من مسؤولياتها الاضطرارية والقسرية، هو سلاح «المقاومة الإسلامية» الخمينية الأمضى. فالمنظمة الأهلية المذهبية، والعسكرية الأمنية، تخففت من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن أمن اللبنانيين والدولة اللبنانية، من وجه، واستظلت، من وجه آخر، الحماية السياسية والأخلاقية التي تؤمنها الدولة (اللبنانية) لأراضيها وسكانها، ويقر لها المجتمع الدولي، وفيه إسرائيل، بحقها فيها. ووسع الجماعة الشيعية المسلحة الارتقاء الى هذه المكانة من طريق متعرجة. فجمعت معظم شيعة لبنان حولها طوقاً ودرعاً، وأعملت في الجمع والتطويق الأسلحة كلها. ورعت السياسة السورية سطو الجماعة المسلحة على طائفتها، وخاطت على مقاس السطو اجهزة «الدولة» وسياساتها وهيئاتها وسياسييها، أو معظمهم.
ففي مستطاع الجماعة الأهلية المسلحة «المقاوِمة» استدراج الخسائر الجسيمة والهائلة على «الشعب» من غير ان تتحمل هي المسؤولية، على خلاف النظام السوري «المقاوم»، عن الخسائر، ومن غير ان يضطلع «الجيش» (الدولة) بغير مسؤولية حماية «المقاومة» في وجه المجتمع الدولي ومنه. ويحمي المثلث الإيراني – السوري – الحزب اللهي (اللبناني)، على نحو الصورة الفوتوغرافية التي «غيرت وجه المنطقة» على قول «جنرال» الجنوب المعمم، المعادلة هذه بواسطة التلويح بالحرب الأهلية وطيفها المقيم والمزمن. والسلاح الصاروخي، الإيراني المصدر والشراء والسوري المعبر والجسر، هو التمثيل المادي والعسكري على المعادلة، وعلى جمعِها تنصل «الشعب والجيش والمقاومة»، بالتكافل والتضامن على الاستقالة، من المسؤولية عن شن الحرب أو الاستدراج إليها، وعن نتائجها وكلفتها.
والحلقة الفلسطينية هجينة. وتجمع من الحلقتين السورية واللبنانية، بعض سماتهما. فـ «حماس» دولة وحكم ونظام، وتتمتع فعلاً وحقيقة بمشروعية انتخابية وتمثيلية تستجيب معايير ارتضاها المجتمع الدولي. وهي، من ناحية ثانية، جماعة أهلية مسلحة ومستولية، وتسوس رعاياها بسياسة متسلطة وفئوية تكاد لا تغبطها عليها السياسة السورية الداخلية، وتود سياسة «المقاومة الإسلامية» الخمينية في لبنان مضاهاتها في الأوقات العادية وخارج أحكام الطوارئ التي تفرضها على رعيتها المنقادة، وعلى المواطنين من غير (الرعايا) قسراً.
وعلى هذا، وسع «حماس»، على شاكلة الجماعة الشيعية المسلحة في لبنان، استدراج الدولة العبرية الى «حرب»، أو عملية «تأديبية»، معلنة ومتوقعة، وخوض الحرب هذه على شاكلة الحزب الشيعي المسلح، أي في صفوف الأهالي وبين بيوتهم ومرافقهم واستدراج الرد العسكري المفرط عليهم، و «توحيدهم» على التنديد بإفراط الرد وعنفه وانتهاكه بعض المعايير الدولية. وعلى خلاف المثال السوري، لم تتهدد الخسائر الفادحة في الأرواح والأرزاق القبضة الأمنية والسياسية والاجتماعية الحماسية بالانهيار الجدي. وشفع ربما لـ «حماس» ضعف تجهيزها وتسليحها، على نحو ما شفعت لها مذهبيتها العربية الغالبة، وقربها من مصر، وانزواؤها الجغرافي وبؤس اهاليها وفقرهم، الى «أهليتها» المتحللة من المسؤولية السياسية.
وفي الأعوام السبعة المنصرمة منذ احتلال القوات الأميركية العراق، و «مشتقات» الاحتلال المتشابكة والمتداعية، وسع طهران، وظهيرها السوري الحميم، إنشاء نظام إقليمي فرعي وهجين يضم دولاً تحكمها طبقة مستولية على حافة الفشل والمروق، وجماعات أهلية مسلحة موالية للدول هذه وتتمتع بحماية دولها الوطنية وأنظمتها التي تعاديها وتستدخلها معاً، تحت طائلة تجديد الحرب الأهلية المجربة. ولا تتستر الأنظمة على مساندتها السياسية والدعاوية الجماعات الأهلية المسلحة، ولا على دورها في إنشائها وحضانتها وقيادتها. لكن النظام السوري يتورع عن تحمل المسؤولية العسكرية والأمنية المباشرة عن الجماعة التي شارك ايران الخمينية في إنشائها. وهذا على قدر تباهيه، «بشفافية» يمدحه عليها الخطيب الخميني، بالحضانة السياسية. ويحمي تمييز الانخراطين (السياسي والعسكري) واحدهما من الآخر، على رغم هشاشة التمييز، الأراضي السورية من الرد والردع العسكريين. ودعا تشكيك واشنطن في حقيقة التمييز وصدقِه الزعيمَ السوري، إبان أزمة «سكود»، الى نعي «نزاهة» واشنطن، على مثال دعاوي مجرب. وكرر طلبه الدليل المادي، وإنكار النتائج الملموسة والعينية. ويحمل النظام السوري والنظام الإيراني، وأذرعتهما، الدليل المادي على إقرار الجاني بالفعل، وإلا بطل الدليل.
وتكاد تثبت المناورات الإسرائيلية الأخيرة والطويلة، غداة قضية «سكود»، صحة ما اشتمه النظام السوري في ثنايا قضية الصواريخ من نوايا أو خطط عسكرية تبطل تمييز الانخراط السياسي والأمني، والانخراط السياسي، واحدهما من الآخر. ويترتب على إبطال التمييز زج الجبهة السورية الصاروخية في ميدان الحرب العسكرية، والتلويح بالإبطال عامل ردع قوياً. والرغبة السورية في «التوافق بين قوى المنطقة (و) إعادة رسم نظام لها»، على قول الزعيم السوري الى صحيفة إيطالية، يفهم على وجهين هما مرآة «طبيعة» النظام الذي يتزعمه ويقوده. فحمل الكلام الملتبس على القرب من المملكة العربية السعودية ومصر، وقبض اليد عن لبنان وتقييدها، يفسره على معنى تغليب منطق نظام الدول. ويُخرج سورية من الميدان العسكري الصاروخي، ويقصر دورها، في رعاية عربية، على عامل ردع شريطة بعض التحفظ. وحمله على الصورة الدمشقية ومثلثها، احمدي نجاد ونصر الله والأسد، يرده الى النظام الهجين الذي سابق الحرب الأميركية في العراق على حضانة الأزمات والانفجارات والانهيارات.
صادفت (أو لم تصادف اتفاقاً) المناورات الإسرائيلية «الكبيرة» الذكرى العاشرة للجلاء الإسرائيلي عن معظم الأراضي اللبنانية التي احتلتها القوات الإسرائيلية غداة 1967 و1969 (بعض مزارع شبعا) ثم في 1978 (الشريط الى الليطاني). وسبقت المناورات العتيدة حملة ديبلوماسية وخطابية عريضة على تسلح الجماعة الشيعية المقاتلة في لبنان بصواريخ «سكود»، المتوسطة والدقيقة التصويب والمحملة برؤوس كيماوية، من طريق سورية وأراضيها، وسيطِ المصدر الإيراني. وتخللت الحملة وأعقبتها، الى اليوم، حركة زيارات جرارة الى المشرق عموماً، وإلى لبنان وفلسطين وإسرائيل وسورية خصوصاً. وكان سهم لبنان فيها، استقبالاً ومبادرة، راجحاً. وفي الأثناء، ألبت مناقشات مبادلة اليورانيوم الإيراني وقرار العقوبات الدولي في حق إيران ومؤتمر مراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي والتوصية بإخلاء الشرق الأوسط من السلاح المدمر، المجتمع الدولي وأقطابه، في العواصم الإقليمية و «الحاضرة» الدولية والأممية على حد سواء.
والمناورات الإسرائيلية الطويلة (5 أيام) والشاملة (الجبهة المدنية) ركنها معالجة قصف صاروخي كثيف على أراضي الدولة العبرية وسكانها ومرافقها المدنية والعسكرية جميعاً. ومصادر القصف المتوقع هي جبهات الحدود الثلاثة المجاورة، لبنان وغزة وسورية، ومصدر بعيد، على نحو 2000 كلم يملك صواريخ بعيدة قياساً على المسافة هذه، هو إيران. واختبرت الدولة العبرية، في أوقات متفرقة القصف الصاروخي هذا من سورية (في 1973) ثم من لبنان (طوال التسعينات وفي 2006) ومن فلسطين (طوال العقد الأول المنصرم وذورته في 2008 – 2009)، على مقادير متفرقة. وحين تفترض المناورات قصفاً متزامناً ومترابطاً ومنسقاً من الجبهات الثلاث العريبة، فهي تبني أنموذجاً مركباً غير مسبوق. ففي اثناء «الحروب» السابقة عملت هذه الجبهات منفردة ومستقلة الواحدة عن الأخرى. وعلى هذا، فضم الجبهة الإيرانية الرابعة، النائية، إنما يستكمل الأنموذج التخطيطي على وجهه السياسي والإرادي فوق وجهه العملي والمختبر.
ويبدو ضم الجبهات هذه (الثلاث القريبة على وجه التخصيص) رزمة واحدة، رداً على بعض ما خلصت إليه القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية من اختبارات هذه الجبهات في الأوقات المتفرقة الماضية. فدمجها في حرب واحدة، وتقدير غلبة القصف الصاروخي المنسق عليها، وإدخال الجبهة السورية (ودولتها) تحت رسم أو باب واحد من منظمتين أهليتين وغير نظاميتين، قد تكون قرينة على احتساب إطار واحد ومشترك للرد. وتوحيد إطار الرد يفترض استدراج الجبهات الثلاث، وهي استفادت في الاشتباكات السابقة من استقلالها، الى الاندماج في جبهة عسكرية متصلة على نحو ما هي جبهة سياسية واستراتيجية مترابطة. وقد لا تكون «هرجة» صواريخ «سكود» الديبلوماسية والإعلامية والخطابية بمنأى من توحيد إطار الرد، والاستدراج إليه، وتمهيد طريقه. وإطار الرد وإطار الردع هما، في هذا المعرض، إطار واحد. ويتولى إطار الردع استبعاد الرد.
ففي ضوء الاختبارات (المتطاولة) الثلاثة، على الجبهات الثلاث، نهضت «الدولة» السورية بأعباء تماسك الجبهتين الأخريين، سياسة وديبلوماسية وتسليحاً. وحين خاضت الدولة السورية الحرب، في 1973، مبادِرة ومختارة، وفي 1982 (على الأراضي اللبنانية) مضطرة، عادت صفة الدولة، أو الكيان السياسي، على الأداء الحربي النظامي الضعيف اصلاً بالضعف. واضطرت القيادة السورية إلى استجداء وقف النار، في المرحلة الثانية من الحرب. وخلصت، مذذاك، إلى ان حربها هذه هي آخر حرب تخوضها، على ما كرر أحد أعيان النظام يومذاك واستثنى لبنان ساحة حرب سورية – إسرائيلية فرعية ومواربة. وكان الإسهام السوري، السياسي والأمني، في إنشاء «المقاومة» الخمينية راجحاً. وهو وجه من وجوه الرد على القصور العسكري السوري الفادح، أي على «افتقار سورية الى خيار عسكري» على قول إسرائيلي مهين ولئيم. وتخطى الإسهام والدور الإيرانيان الحساب السوري الأول، قبل ان تتخطى الاستراتيجية الإيرانية، ومحوراها الإقليمي والنووي، طاقة القيادة السورية على التخطيط.
ومهما كان من شأن اعادة النظر السورية في خطة حربها، وتحولها من الأسلحة والقوات التقليدية (الطيران الحربي والمدرعات وقوات المشاة المحمولة) الى سلاح الصواريخ واقتنائها 70 ألف صاروخ على زعم إسرائيلي رائج، فالدولة السورية، واضطلاع الحكم بالمسؤولية عن الحرب ونتائجها المادية والبشرية، هي مكمن ضعف فادح في الاستراتيجية العسكرية السورية الى اليوم. ولا يحول التسلح الصاروخي، بالغاً ما بلغ تنوعه وتعقيده، دون إباحة الأراضي الوطنية والسكان والمرافق والقوات نفسها لتفوق سلاح الجو الإسرائيلي تفوقاً حاسماً وثقيلاً. وليس إرفاق أزمة «سكود»، حال ثورتها أو إثارتها، بتهديد الدولة السورية بـ «إعادتها الى العصر الحجري» إلا تلويحاً بموطن الضعف، وتذكيراً به.
والانفكاك من الدولة أو التحرر من مسؤولياتها الاضطرارية والقسرية، هو سلاح «المقاومة الإسلامية» الخمينية الأمضى. فالمنظمة الأهلية المذهبية، والعسكرية الأمنية، تخففت من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن أمن اللبنانيين والدولة اللبنانية، من وجه، واستظلت، من وجه آخر، الحماية السياسية والأخلاقية التي تؤمنها الدولة (اللبنانية) لأراضيها وسكانها، ويقر لها المجتمع الدولي، وفيه إسرائيل، بحقها فيها. ووسع الجماعة الشيعية المسلحة الارتقاء الى هذه المكانة من طريق متعرجة. فجمعت معظم شيعة لبنان حولها طوقاً ودرعاً، وأعملت في الجمع والتطويق الأسلحة كلها. ورعت السياسة السورية سطو الجماعة المسلحة على طائفتها، وخاطت على مقاس السطو اجهزة «الدولة» وسياساتها وهيئاتها وسياسييها، أو معظمهم.
ففي مستطاع الجماعة الأهلية المسلحة «المقاوِمة» استدراج الخسائر الجسيمة والهائلة على «الشعب» من غير ان تتحمل هي المسؤولية، على خلاف النظام السوري «المقاوم»، عن الخسائر، ومن غير ان يضطلع «الجيش» (الدولة) بغير مسؤولية حماية «المقاومة» في وجه المجتمع الدولي ومنه. ويحمي المثلث الإيراني – السوري – الحزب اللهي (اللبناني)، على نحو الصورة الفوتوغرافية التي «غيرت وجه المنطقة» على قول «جنرال» الجنوب المعمم، المعادلة هذه بواسطة التلويح بالحرب الأهلية وطيفها المقيم والمزمن. والسلاح الصاروخي، الإيراني المصدر والشراء والسوري المعبر والجسر، هو التمثيل المادي والعسكري على المعادلة، وعلى جمعِها تنصل «الشعب والجيش والمقاومة»، بالتكافل والتضامن على الاستقالة، من المسؤولية عن شن الحرب أو الاستدراج إليها، وعن نتائجها وكلفتها.
والحلقة الفلسطينية هجينة. وتجمع من الحلقتين السورية واللبنانية، بعض سماتهما. فـ «حماس» دولة وحكم ونظام، وتتمتع فعلاً وحقيقة بمشروعية انتخابية وتمثيلية تستجيب معايير ارتضاها المجتمع الدولي. وهي، من ناحية ثانية، جماعة أهلية مسلحة ومستولية، وتسوس رعاياها بسياسة متسلطة وفئوية تكاد لا تغبطها عليها السياسة السورية الداخلية، وتود سياسة «المقاومة الإسلامية» الخمينية في لبنان مضاهاتها في الأوقات العادية وخارج أحكام الطوارئ التي تفرضها على رعيتها المنقادة، وعلى المواطنين من غير (الرعايا) قسراً.
وعلى هذا، وسع «حماس»، على شاكلة الجماعة الشيعية المسلحة في لبنان، استدراج الدولة العبرية الى «حرب»، أو عملية «تأديبية»، معلنة ومتوقعة، وخوض الحرب هذه على شاكلة الحزب الشيعي المسلح، أي في صفوف الأهالي وبين بيوتهم ومرافقهم واستدراج الرد العسكري المفرط عليهم، و «توحيدهم» على التنديد بإفراط الرد وعنفه وانتهاكه بعض المعايير الدولية. وعلى خلاف المثال السوري، لم تتهدد الخسائر الفادحة في الأرواح والأرزاق القبضة الأمنية والسياسية والاجتماعية الحماسية بالانهيار الجدي. وشفع ربما لـ «حماس» ضعف تجهيزها وتسليحها، على نحو ما شفعت لها مذهبيتها العربية الغالبة، وقربها من مصر، وانزواؤها الجغرافي وبؤس اهاليها وفقرهم، الى «أهليتها» المتحللة من المسؤولية السياسية.
وفي الأعوام السبعة المنصرمة منذ احتلال القوات الأميركية العراق، و «مشتقات» الاحتلال المتشابكة والمتداعية، وسع طهران، وظهيرها السوري الحميم، إنشاء نظام إقليمي فرعي وهجين يضم دولاً تحكمها طبقة مستولية على حافة الفشل والمروق، وجماعات أهلية مسلحة موالية للدول هذه وتتمتع بحماية دولها الوطنية وأنظمتها التي تعاديها وتستدخلها معاً، تحت طائلة تجديد الحرب الأهلية المجربة. ولا تتستر الأنظمة على مساندتها السياسية والدعاوية الجماعات الأهلية المسلحة، ولا على دورها في إنشائها وحضانتها وقيادتها. لكن النظام السوري يتورع عن تحمل المسؤولية العسكرية والأمنية المباشرة عن الجماعة التي شارك ايران الخمينية في إنشائها. وهذا على قدر تباهيه، «بشفافية» يمدحه عليها الخطيب الخميني، بالحضانة السياسية. ويحمي تمييز الانخراطين (السياسي والعسكري) واحدهما من الآخر، على رغم هشاشة التمييز، الأراضي السورية من الرد والردع العسكريين. ودعا تشكيك واشنطن في حقيقة التمييز وصدقِه الزعيمَ السوري، إبان أزمة «سكود»، الى نعي «نزاهة» واشنطن، على مثال دعاوي مجرب. وكرر طلبه الدليل المادي، وإنكار النتائج الملموسة والعينية. ويحمل النظام السوري والنظام الإيراني، وأذرعتهما، الدليل المادي على إقرار الجاني بالفعل، وإلا بطل الدليل.
وتكاد تثبت المناورات الإسرائيلية الأخيرة والطويلة، غداة قضية «سكود»، صحة ما اشتمه النظام السوري في ثنايا قضية الصواريخ من نوايا أو خطط عسكرية تبطل تمييز الانخراط السياسي والأمني، والانخراط السياسي، واحدهما من الآخر. ويترتب على إبطال التمييز زج الجبهة السورية الصاروخية في ميدان الحرب العسكرية، والتلويح بالإبطال عامل ردع قوياً. والرغبة السورية في «التوافق بين قوى المنطقة (و) إعادة رسم نظام لها»، على قول الزعيم السوري الى صحيفة إيطالية، يفهم على وجهين هما مرآة «طبيعة» النظام الذي يتزعمه ويقوده. فحمل الكلام الملتبس على القرب من المملكة العربية السعودية ومصر، وقبض اليد عن لبنان وتقييدها، يفسره على معنى تغليب منطق نظام الدول. ويُخرج سورية من الميدان العسكري الصاروخي، ويقصر دورها، في رعاية عربية، على عامل ردع شريطة بعض التحفظ. وحمله على الصورة الدمشقية ومثلثها، احمدي نجاد ونصر الله والأسد، يرده الى النظام الهجين الذي سابق الحرب الأميركية في العراق على حضانة الأزمات والانفجارات والانهيارات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق