الجمعة، 25 يونيو 2010

طريق الأعلام وجادتها العريضة الى الجمهور المضطرب الهوية... معبدة بالحرب والدم

المستقبل 20/6/2010
غداة العاصفة الديبلوماسية والإعلامية التي بعثتها مهاجمة قوات إسرائيلية سفينة تركية في المياه الدولية، قبالة ساحل غزة، وقتلها ناشطين أتراك كانوا على سطح المركب، سرت في الجماعات العربية المشرقية حمى هوى تركي، أردوغاني على وجه الخصوص، بلغت الألسنة والعقول والصدور والأيدي. فاستظل ناس الجماعات هذه العلم التركي الأحمر البسيط والجميل وهلاله بضعة أيام، كان أولها مساء الحادي والثلاثين يوماً اللائي خلون من أيار، على قول الإخباريين. ويلاحظ طلال أبو دية، وهو غزاوي يملك محل هدايا وتذكارات تتصدرها الأعلام في بعض الظروف، أن رجب طيب أردوغان جنى "شعبية فورية ضخمة" في "الأراضي الفلسطينية"، وهو يقصد غزة في المرتبة الأولى، حين رد على حادثة السفينة التركية، "مافي مرمرة"، ومقتل مواطنيه من ناشطي جمعية الحقوق والحريات الإنسانية الخيرية التركية، صاحبة حملة "غزة الحرة"، بحملة ديبلوماسية وإعلامية عريضة وصاخبة. ولم تقتصر الحملة على التنديد بعنف القوات الإسرائيلية، وتهمتها بتعمّد القتل وقصده، بل وضعت نصب العين "معاقبة إسرائيل"، على قول أبودية.
فالتصدي للاقتصاص من القتل المتعمد، على قول الأتراك، وإدانته والتمثيل على الإدانة الصريحة بعقوبة وتعويض ينزعان عن العمل استظهاره بالحق المشروع في الدفاع عن النفس، ويثبتان نسبته الى العدوان والانتهاك – هذه كلها استحقت شيوع هوى تركي أردوغاني في صفوف جماعات عربية تتقلب في دول متنازعة الهوية الوطنية، ومنقسمة على دولها ووطنيتها. ولا ريب في ان مبادرة القادة والحكام الأتراك، وهم من تربط دولتهم وبلدهم بالدولة العبرية والجيش الإسرائيلي علاقات قوية، الى صرم العلاقات هذه، ظاهراً، وتوسلهم في هذا السبيل بخطابة ونبرة قويتي الشبه بالخطابة والنبرة العربيتين، دعت الجمهور "العربي" الفلسطيني إلى مبايعة رأي أو هوى خاله الجمهور مشايعاً لرأيه هو في "الكيان الصهيوني"، وبطلانه جوهرياً، واستوائه على غصب خالص. فحيا الجمهور الخطابة والنبرة، أو ما سمعه منهما وما طاب له سماعه، وصفق لشبههما بخطابته ونبرته هو. وقرأ في الانقلاب التركي على الحليف العسكري والأطلسي و "الأميركي" القريب تبرؤاً وانفضاضاً لعلهما يؤذنان بضعف العدو ومهانته وانكساره، وفي نهاية المطاف بتقوضه وتقطع خيوط بيته المنسوجة من لعاب العنكبوت السوداء والقابعة في وسط حصن متداع، بحسب كناية من الكنايات الأثيرة.

تسديد الدَّين
فالجمهور، والحال هذه، يقضي ديناً عليه. فيقول أحد الغزاويين الى صحافي وكالة الصحافة الفرنسية (صحف 12 حزيران): "أهدروا (وهو يريد بذلوا) دمهم من أجلنا، ونحن مدينون لهم بالدماء هذه". ويقضي الجمهور دينه الى القتلى الأتراك، وإلى الدم التركي الذي امتزج بالدم العربي على قول الرئيس السوري في منتدى الأمن بأنقره قبل أيام قليلة، من طريق الامتنان والميل والإكبار والانتساب. والجمهور القريب الفلسطيني، والمفترض صاحب الهوى الأقوى، يرد دين الدم، وما يكني الدم عنه من طعن في حق الدفاع وصرم حلف وتقويض كيان، ولا يغفل عن رد ديون أخرى. فجمعية الحقوق والحريات الإنسانية الخيرية، "صاحبة" سفينة الأسطول الأولى، تنشط بغزة منذ استقلال "حماس" بالسيطرة على القطاع، وإناختها عليه بثقلها "الإسلامي" والأمني. وتولت نقل الغذاء، ما وسعها الأمر، إلى الغزاويين. وخططت لإعمار الرقعة الفلسطينية المنكوبة وجمع مواد البناء التي يحتاجها الإعمار المعلق (وهي حصلت خبرة في اثناء الزلزال الذي هز الساحل التركي في 1999، ومهدت مذذاك فيمن مهدوا لسطوع نجم حزب العدالة والتنمية، وفوزه في انتخابات 2002 واستقراره في الحكم).
وسبق لتركيا ان بنت مستشفيات في غزة، وأرسلت مساعدات. وفي 9 حزيران وزعت الجمعية ألعاباً على بعض أيتام غزة الذين فقدوا آباء وأمهات عن يد الجيش الإسرائيلي. ومصدر الألعاب، على الأرجح، هو سفن "أسطول الحرية" التي قادتها السلطات الإسرائيلية بالقوة، الى أشدود، ونقلت حمولتها الى غزة، وجمدت "حماس" توزيعها بعض الوقت، ثم رضخت لرغبة الجمعية التركية في إبلاغها غايتها فعلاً، أي أولاد الأطفال، دون الاقتصار على أثر الأسطول الدعاوي المدوي، ورمي حمولته من مأكل ومشرب وألعاب.
ويرد الجمهور الفلسطيني القريب، ومعه الجمهور العربي، الدين التركي برفع الأعلام حيث يُقيَّض رفعها، أي في الأمكنة وعلى الصواري كلها. ويلاحظ احد الغزاويين ان رد الجميل التركي الأردوغاني برفع العلم الأحمر وهلاله على مقهى، والمقهى في العهد الحمساوي "الإسلامي" والإخواني موبوء وقريب الى النجاسة، قد يبدو ملتوياً ونابياً. ولكن الغزاوي يقوّم الرأي هذا. فيصبغ المقهى بصبغة "السياسة". ويطهره من فساد "آلاته" المعروفة مثل ورق الشدة (الكوتشينة)، ونفث الدخان، وتبديد الوقت، و "مقالات" السوء و "أكل لحم" الغير، ويعتذر عن احتضان السياسة المقهى بالقول: "وجودنا كله مسيَّس". واستظلال العلم، أي علم، في الظروف كلها هو إعلان ولاء، ودخول في حماية اهل العلم، أو قومه وأرضه ودولته، وفي جوارهم وإجارتهم. فهم له، للمحتمي بهم والمستجير، "جار" على قول أحد أشراف قريش في "ابن عمه"، النبي القرشي، حين عز المجير. فتنشأ بين الجار ومواليه، أو مولاه، رابطة شديدة التعقيد ومن غير سوية، هي ميدان السياسة العربية بامتياز.
فالداخل في الولاء إنما هو الضعيف. ولكن الولاء ليس استضعافاً، والمستقوي على من يوالونه ليس أهلاً لولائهم، إلا ان يكون استقواؤه بهم على أعدائهم. وولاؤهم يدخلهم في القوم، وفي "أهل" رئيس القوم وشيخهم على وجه التخصيص. وهم ينتسبون الى القوم من طريق انتسابهم الى "الشيخ". ومن مزايا "الشيخ" قوته على إدخال ناس في "ذمة" قومه، على ما جاء في الأثر. وهي قوة أراد الإسلام قسمتها في ضعفاء المسلمين، على رغم أقويائهم. وفي المعرض هذا نفسه، رئيس القوم هو عَلَمهم، وهو جبلهم على قول الخنساء في رثاء صخر: "كأنه علم في رأسه نار". والولاء، ورابطته هي غير رابطة النسب والدم وولد الفراش، مداره على الدم والحرب. وحق المولى على مولاه حمايتُه، والانتصار له، ومنعه من (أي الحؤول بينه وبين) العدوان عليه. فينبغي ان تردع مهابة الولي وقوته اللتين أسبغهما على مولاه الضعيف، وألبسهما إياه، العدوَ القوي من العدوان أو العَدْو على الضعيف. وهذا، أي الردع، هو من تلقاء فضيلة الولاء، وإلزامها الولي الانتصار لمولاه، وحمايته. فكأن الاثنين (قوم) واحد، وعصبية واحدة، ودم واحد، وعلم واحد، وحمى واحد.

أمواج الأعلام
وعندما يؤرخ الغزاويون للأعلام التي رفعوا بعضها فيما مضى، ويرفعون بعضاً آخر اليوم، لا ينسون أنهم رفعوا العلم الفرنسي في 1996. فيومها زار الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، "الديغولي"، غزة. فكانت زيارته، ثلاثة أعوام تقريباً بعد أوسلو، و "السلطة" وليد يحبو ويعد الوعود، وياسر عرفات في أوج "ديغوليته"، كانت الزيارة ديْناً طوق به الرئيس الفرنسي الجديد عنق "فلسطين". فرد الفلسطينيون الوطنيون، و "الإسلاميون" على بعض التردد، الدين انتساباً رمزياً وجزئياً. وقضى بالرمزية والجزئية ان دماً لم يسفك، وحرباً لم يلوح بها. واقتصر الأمر، في هذا الباب، على ضيق الزائر الفرنسي، في القدس الشرقية، بمبالغة حرسه الإسرائيلي في "حمايته" من أيدي الفلسطينيين المقدسيين الممدودة لمصافحته. فخرج الزائر عن (بعض) طوره، وطلب تركه وشأنه ومضيفيه من غير مجاملة. وحين زار الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، غزة المحتلة في 1998، لوح الفلسطينيون بأعلام "الصديق الأميركي"، على ما كان ياسر عرفات يسرع الى القول. الأرجح ان الأعلام الأميركية لم تشخ في أيدي الأولاد، ولم يزد عمرها عن عمر الوردة المقطوفة، وذبلت بعد ساعات على مرور الزائر، رئيس الدولة.
فرعاية مفاوضة تؤدي، حتماً، الى صدوع بالنزول عن بقية أرض، وإلى حدود ضيقة تزداد ضيقاً، وسيادة منقوصة، واختبار لا يتستر على شكوك وظنون متكاثرة وتعصى الطمأنة، رعاية مفاوضة مثل هذه، بواشنطن أو واي بلانتايشن أو طابا، لا تنتج ولاء أو قرابة، ولا تُشعر بنسب. وفي 2006، على قول صانع الأعلام وبائعها طارق أبو دية، ابن طلال، حمل الغزاويون وفلسطينيون وعرب كثر الأعلام اللبنانية مع أعلام "حزب الله"، حسباناً منهم ان هذه تمت الى تلك برابطة وقرابة. وفي كانون الثاني 2006 "انتشرت الإعلام الفنزويلية في القطاع غداة قطع الرئيس الفينزويلي هوغو تشافيز علاقات بلده بإسرائيل "عقاباً لها على عدوانها الدامي"، على قول أبو دية، الوالد وابنه. وباع المتجر المتواضع "الآلاف من الأعلام التركية" لقاء 40 شيقل (10 دولارات) للعلم الواحد، ثم 30 شيقل (8 دولارات أو أقل بقليل) "تشجيعاً". ولا يخفى على صانع الأعلام، ومؤرخها الحكيم، ان الأعلام تمضي وتنقضي، شأن الأماني والحياة و "موج الموت"، على ما ترجم الشاعر اللبناني زميله الفرنسي الرومنطيقي، والحدثان السياسية الشريفة النسب. و "الاحتفاء الذي لقيه (ويلقاه) العلم التركي يشرف على نهايته". وهو يُسْلم مكانته ومحله الى "أعلام 32 دولة تتنافس على كأس كرة القدم العالمي"، ليس فيها ولا بينها، على الدولة التركية، بحسب تأويل المراقب والمؤرخ الغزاوي.
وربما نسي "مؤرخنا" أول علم غير فلسطيني انتشر في غزة انتشار النار في العشب اليابس. فهو يعود الى شتاء 1991، يوم قصف صدام حسين، العراقي أو "صاحب العراق"، ضاحية تل أبيب، عشية طلبه وقف إطلاق النار، ببضع عشرات من الصواريخ أخطأ معظمها المدينة وأهلها. فرفع الفلسطينيون علم الدولة العراقية و "شيخها" المهيب والمجيد. ودعا صدام حسين، من طريق موالٍ كثر، الفلسطينيين الى الإلقاء بأنفسهم على الإسرائيليين، وقتلهم والموت معهم. ووعد من يفعل هذا، ويستجيب الدعوة، بآلاف الدولارات عداً ونقداً، وأن تعذر تصوير متقاضي الهبة الكريمة المكرمين، وأهل الكرامة على المعنى الذي أوجبته واستحدثته حوادث لبنان القاتلة والمتلفزة، بالعدسة التلفزيونية الجزيرية والمنورة. فما تكني عنه الأعلام التركية الأردوغانية كناية، وما يستخرجه التأويل القاصر ولا يفلح في إحضاره، جَهَرَه صدام حسين بالفم الملآن. فلوح بحرق إسرائيل بـ "المثلث الكيماوي" سبعة أشهر قبل دخوله الكويت عنوة، ونشر أعلامه خفاقة على أرضها. ودل إيران خامنئي وأحمدي نجاد والباسيج والباسدران والجماعات الحرسية المسلحة هنا وهناك، على الطريقة الوحيدة الناجعة في معالجة العدو، وإجلائه عن الأرض المحتلة، ومن الهواء المحتل، والحياة المغتصبة والمنحولة و "السرطانية" التي يحيا بها، على ما أفتى الإمام المرشد الأول.
وعلى هذا، فطريق الأعلام المَلَكية والعريضة الى الجمهور المضطرب الهوية الوطنية هي طريق الحرب والدم، الموعودين إذا عصي إنجازهما، وطريق النسب والولاء المموهين والمشبهين الوحدة التامة. فيقول "الشيخ" والعلم التركي ان "العرب هم عيون الأتراك"، وهم "من لا طعم للعالم إلا بهم". يقول إن "تركيا وسوريا شيء واحد"، وأن "تركيا ولبنان، على المقياس نفسه، شيء واحد". وعلى مثال معروف في الأنساب العربية، والبدوية أو القبلية عموماً، يربط النسّابون حليفين يريدون توثيق روابطهما بنسب دموي واحد، ويرفعون النسب الى صلب أو مصدر عال وقديم أو بعيد زمناً. ويجلو النسب الواحد والقديم، والمنسي في الأثناء، "سر" الحاضر، وحلفه وأواصره ووشائجه. فإذا سفح أتراك دماءهم على ظهر مركب ييمم شطر غزة المحاصرة، وأهلها الجائعين وأولادهما اليتامى، فما ذلك إلا برهان ساطع على عظمة العرب والأتراك، وبينة باهرة على إرهاب إسرائيل. فيعطف الأتراك على العرب، والعرب على الأتراك، نسبٌ فلسطيني (وإسلامي) واحد. فقضية فلسطين، على قول الرئيس السوري في منتدى أمن الشرق الأوسط، هي قضية المنطقة والعالم الأولى. ومن مت إليها بنسب، من طريق خوض حرب غابرة أو إيواء قيادة أو تسليح فصيل أو تدريب ناشطين أو رعاية حليف أو تمويل قيادة أو جزء من قيادة واستدخالها... حظي بمكانة عالية، وعاد إليه ريع وقف ذري لا ينقطع، وحق نظارة على تصريف "الوقف الفلسطيني" ودقائقه وتفاصيله. وسند الحق في الريع وفي النظارة نسب صوفي ومعنوي أقوى بما لا يقاس من نسب الأصلاب والأرحام.

عَلَم من غير ذوبان
والمقارنة بين الهوى التركي المشبوب والمتخلف عن مأساة، أو مآسي غزة المتناسلة والمتعاظمة منذ استيلاء الحركة الإخوانية الفلسطينية عليها، وبين ضعف الانعطاف الذاوي في صف الجمهور العربي الى الحركة الديموقراطية الإيرانية، هذه المقارنة، وهي يدعو إليها اتفاق واقعة سفينة "مرمرة" وانقضاء سنة تامة على الانتخابات الإيرانية "المسروقة"، بليغة الدلالة على حال الجمهور العربي ومجتمعاته المتفرقة. فعلى خلاف تركيا الإسلامية "المعتدلة" والعثمانية، وعلى خلاف إيران الخمينية المقاتلة والثائرة، وأخيراً على خلاف فلسطين المضطربة والقلقة والمعلقة في أشتات تعصى الوصل والجمع، اقتصرت الحركة الخضراء بإيران على برنامج سياسي ودستوري أساسي وداخلي.
فالحركة الإيرانية ولدت لتوها من حوادثها نفسها، ومن تأويل اصحابها هذه الحوادث. وهي صدرت عن اجتماع اصحابها أو أفرادها على تأييد مرشحين "إصلاحيين" الى رئاسة الجمهورية. والمرشحون، أو المرشحان مهدي كروبي ومير حسين موسوي بعد انسحاب المرشح المحتمل محمد خاتمي، وأنصارهم فتحوا عيونهم أو أدركوا ما هم عليه، ومن يكونون، في سياقة الانتخابات وحوادثها. وفي هذه السياقة، وليس في حضن ماض نسبي وأسطوري يصرف الأنظار عن الوقائع والعقول والألسنة عن تدبرها وقولها، شدت الروابط بعض جمهور الناخبين الى بعضهم، وميزت بعضهم من بعض. وكان ذلك مشهوداً في التظاهرات والمهرجانات. وسمع الجمهور المتفرق أحزاباً وشيعاً وجماعات، في أثناء الحملة الانتخابية، آراء ومواقف متباينة ومختلفة. ولم يقتصر دوره على الاستماع والتدوين. فقارن وأحصى وفحص وامتحن، ودعاه هذا الى المناقشة والرد، وإلى التهاتف والمكاتبة الإلكترونية على أنواعها ووسائطها. وميز جمهور المعارضة نفسه من الكل العصبي والقومي المذهبي الذي ينتصب أهل القوة والسلطان علماً عليه، ويوجبون على عموم الإيرانيين الانضمام إليه والانخراط فيه، قرينة على إذعانهم لأهل القوة والسلطان. فاختاروا اللون الأخضر، وعصبه وأساوره ومناديله وقمصانه و "سقوفه"، شارة خاصة، وعلماً على رابطتهم السياسية الجديدة والوليدة.
وفوق هذا، وهو كثير، حملوا انفسهم، أي آراءهم وأحكامهم ورابطتهم وإراداتهم وتوقهم، على تاريخ اقتطعوه من حوادث الدولة الإيرانية "الإسلامية"، ومن تاريخ الأمة الإيرانية وشعوبها (على ما يقر ساسة إيران كلاماً). فمن التاريخ المقتطع ثورة 1978 – 1979. وعلى خلاف من استولوا على الثورة بالقوة والمكر وتجييش الأهواء والتدليس والحرب وانفردوا بالحكم، مدح اصحابُ الموجة الخضراء كثرة مصادر الثورة وتياراتها، واختلاط المصادر والتيارات وسعي اهلها في رعاية الكثرة وبلورة قواسمها المشتركة. واطرحوا من مديحهم، وعما يستتبع المديح من تقديم نهج على نهج، الأعوام الثمانية "السود" التي تذرع بها، وبحربها المديدة والفظيعة، مستولو 1979 – 1980 إلى إرساء أركان استيلائهم على هيئات حرب أهلية وخارجية، مثل "الحرس" و "الباسيج" وأجهزة الاستخبار والاغتيال والاصطفاء والاستبعاد. والأعوام الثمانية هذه – وفي اثنائها قتل نحو 600 ألف إيراني (الى نحو 400 ألف عراقي) على جبهات القتال، وقضى عشرات الآلاف اغتيالاً واختفاء وراء خطوط القتال في البلدين – مدحها محسن رضائي، أحد المرشحين الى الانتخابات الرئاسية في 2009 وأحد "آباء" الحرس الثوري، مديحاً حاراً، وجهر عجزه عن قول "عظمتها".
والحق ان معظم حكام ايران اليوم، وأهل القوة في أروقة السلطة والمناصب النافذة، هم اولاد "العظمة" المكتومة والخرساء التي لم يفق رضائي من غاشيتها بعد. ويشبه تعظيم غاشية أعوام القتل والموت و "سرفها"، على قول عبدالله بن عمر في مقاتل ابن الزبير بالكوفة، من غير حساب ولا قيد، تعظيم الفاشيين والنازيين الأوروبيين الأوائل الحرب العالمية الأولى و "أعاصير الفولاذ" (إرنست يونغير الألماني) التي عصفت بعشرات الملايين من الجنود والمدنيين، وقَتَلتهم وعطبتهم ودمرت عمرانهم. والحروب "العظيمة"، على هذه الشاكلة، غالباً ما تمزج الحرب "الوطنية" بالحرب الأهلية، وتربط بين المقاتلين برابطة حميمة وقوية. فتستمد هذه من الإلفة المتمادية بالموت، ومن يقين الناجين بالانتخاب والاصطفاء، اعتداداً وإيماناً راسخين يأسف من اختبرهما على خسارتهما، ويحن إليهما حنيناً موجعاً.
وعلى رغم تحدر مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحمد خاتمي، ومئات دعاة الحركة الخضراء البارزين، من الحرب القومية والأهلية التي ولدت "النظام الإسلامي" وأنجزته، نصب أنصار الحركة وصانعوها وناشطوها "أعوام خاتمي" مرجعاً ودليلاً، من غير تصنيم ولا تحجير. وجمعوا أوقاتاً ثلاثة – الثورة الدستورية (المشروطية) الإيرانية في 1906، وبدايات حركة 1978 – 1979 الكثيرة المصادرة، وإرهاصات ولايتي محمد خاتمي الليبرالية – في جملة زمنية وتاريخية متناغمة. وعلى خلاف العصبية الحرسية والباسيجية، بديهة، وكذلك على خلاف الأعلام الفلسطينية والفينزويلية والعراقية والحزب اللهية (و "اللبنانية") والحمساوية، والتركية اليوم، لا يقسر أخضر الحركة الإيرانية السياسية الدستورية الإيرانيين، ولا "الأشقاء"، على الذوبان في كتلة محمومة واحدة ومندمجة. وهو يدعوهم الى النظر في روابطهم المشتركة، وموقع أمتهم من تاريخها ومن عالم اليوم، ويحملهم على تدبر خلافاتهم وانقسامهم جماعات، وطرق معالجة الخلافات والانقسامات من غير عسف ولا عنف. وإذا كانت الأعلام العصبية والحربية أعلام هويات قلقة ومتكتلة، وتكتلها يداري قلقها، فالعَلَم السياسي والدستوري دعوة الى منازعة علنية واحتجاجية (من الاحتجاج والإدلاء بحجة) عمومية، لا تستأثر جماعة أو فئة أو مرتبة بإيجاب مضمونها أو معانيها سلفاً والبت فيها، من وجه، وتقتضي عموميتها، من وجه آخر، ألا يعود عائد المضمون أو الرأي الذي تنتهي إليه المنازعة على جماعة أو فئة مخصوصة بالنفع.
ومباشرة السياسة على النحو "الأخضر" هذا تقود الى ليبرالية فردية، وتفضي، شاء دعاتها وأنصارها النتائج المترتبة عليها أم لم يشاؤوا، الى تصديع الأجسام العصبية والمراتب والأسلاك والجماعات الأهلية المنفصلة. وحين يدعو مير حسين موسوي ومهدي كروبي انصار الحركة الخضراء السياسية والدستورية الى ترك التظاهر في الذكرى السنوية الأولى للانتخابات الرئاسية، وتفادي القتل والاغتيال في ساحة "الحرب" التي يشنها النظام الحرسي والباسيجي، وأعيانه، على المواطنين والناخبين الإيرانيين، إنما يقدِّم الرجلان القيم الفردية والليبرالية على نازع القيم العصبية الى الموت والحرب. والدعوة الأخرى الى "القتال" بـ "جيوش الإنترنت"، والاستعاضة بها عن كراديس اصحاب الهراوات الحديد، وراكبي الدراجات النارية، وقَتَلة الصبايا المتظاهرات غيلة، تعيّن مجال المواجهة الليبرالية وميدانها، أي الاحتجاج بالكلام والقول، وبسط الخلافات من طريقهما.
والاقتصار على أوقات تاريخية معاصرة وغير بطولية (على معنى لا يفترض الدم ولا الحرب ولا النسب المجيد الاسطوري، وعلى معنى قَبول العمومية والمساواة الإنسية، وفي "عرق" الإنسية، على قول فيكو)، واقتراح نهج سياسي ينهض على العلانية ويتناول الخلافات والانقسامات والمنازعات ومعالجتها من طريق التحكيم والمداولة، والتوسل بالحقوق الأساسية الى تقييد سلطان الحاكم المطلق والمتعسف – هذه الأسس مجتمعة لم تُحوِج الحركة الديموقراطية والدستورية الإيرانية الى السطو على أعلام الحرب والدم، ولا إلى استمطار الأيقونة الفلسطينية (أو النووية أو العثمانية...) الهوى المحموم والأخرس الذي يحجز به أهل السلطان ووكلاؤهم على عقول الأنصار وصدورهم وألسنتهم. وذهب متظاهرو الحركة الخضراء بإيران الى جهر إنكارهم عبادة الأيقونات وتصنيمها، فهتفوا: "لا غزة ولا لبنان، أولاً إيران". فهويتهم الوطنية السياسية لا تفتقر الى ركن مكين تنهض عليه، وتغرف منه قيمها ومعاييرها ومراجعها، وتستدل به الى مسالكها. وأولوية إيران او صدارتها، قياساً على سياسة تصدير الحرب والسلاح والمال وشراء الولاء والاقتتال و "المقاومة"، هي أولوية علاقات الإيرانيين بعضهم ببعض، وإرساء السياسة على شروط تعاقد داخلي أولاً.
والحق ان الأصول التي تنهض عليها "الحركة الخضراء" أو تفترضها، مثل انتخاب أوقات تاريخية معاصرة تراثاً، وطلب العمومية والمساواة، وإعلان الخلافات والانقسامات، وارتضاء التحكيم فيها، وتقييد السلطان المطلق بالحقوق الأساسية وبتقسيم السلطة – هذه الأصول توجبها الحركة الديموقراطية في أثناء مسيرها، وتدعو الى اختبارها. ويخالف هذا مخالفة حادة نهج "الأصوليين"، وإطلاقهم الأسطوري، أو أساطيرهم "التاريخية"، وردهم الحوادث والوقائع والروايات والأفراد الى "حادثة" واحدة رتيبة ومميتة، تصدر عن الموت وتؤدي الى الموت. وهذا على شاكلة أعلامهم، رايات وبشراً، بشراً يتكلمون بكلام الرايات الفقير والإيمائي والمكرر، ويخفقون بريح تهب عليهم من خارج، وقصاراهم التموج بها ومعها، وتشبيه هبوبها ودوام الهبوب لا إلى غاية أو وقت.
فهم يحسبون أن "هذا الأمر (الحكم) فينا (فيهم) الى ألف عام"، على قول السفاح العباسي الأول. والألف عام في ذهنه هي الدهر وأبده. و "الأمر الى ألف عام"، المولود من الدم المسفوح، ومن حروب أهلية تنفخ فيها ضغينة تتصبب عرقاً في كهوف وسراديب تلفزيونية موحشة، صقيع جليدي يجمد الكلمات والوجوه والحركات والسكنات والسياسات، ويصلبها على كرتون (مشهد) مقوى. فإذا نزع الجليد الى التمثيل على نفسه في فن، وأراد تصوير نفسه في لوحة، عمد الى رصاصة "عظيمة"، هي كناية عن صاروخ. ويشبه الصاروخ الذي يكني عن الرصاصة برج بابل وطبقاته الملتفة، على ما يرى في رسوم الكتب المدرسية القديمة وربما الجديدة. وأخرج الصقيعُ الجليدي، المتعمد الفن، الرصاصة – الصاروخ – برج بابل من حضن روابي الجنوب ("اللبناني") ووديانه القاحلة والملتفة إخراج بوتيشيلي الإيطالي افروديت العارية والمستحية، على خلاف الرصاصة، من قاع المياه المتلاطمة، ومن صدفة البحر العريضة. ويلف الرصاصة، وهي يناطح رأسها المدبب غيم السماء وسحابها، وشاحان يقومان مقام جدائل الشعر الطويل المنسدلة على الأجساد البضة والممتلئة في لوحة الرسام الإيطالي، ويلفان "خصر" الصاروخ، وينسفحان على قاعدته في قلب الأرض. والوشاحان هما... علمان متعانقان، ويعانقان بدورهما الرصاصة الشامخة، ويلفانها، ويحاكيان حركتها المفترضة من بطن الأرض الموّارة الى كبد السماء.

ليست هناك تعليقات: