المستقبل 25/7/201
يؤرق أهل المجتمعات العربية عموماً، وهم يقصدون بلوغ أو إنجاز ما يرفعهم الى مرتبة القدوة "الكونية" وينصب ما يصنعونه (أو يصنعه بعضهم) معياراً عاماً وجامعاً إنسانياً، وقوعُهم في خصوصية بلدية يرغبون فيها وينفرون منها في آن. ويبدو السعي هذا متناقضاً ومتدافعاً. فإرادة الصفة الكونية والإنسانية تلازمها إرادة دمغ الإنجاز أو العمل العلمي أو السياسي او الثقافي بدمغة الخصوصية "العربية" الخالصة. والترجح بين حدين يُجزم في بعد الشقة بينهما، وعسر جمعهما أو تهجينهما، يُسْلِم الى ضروب من الإفراط في التبعيد والتخصيص والتقييد تؤدي بدورها الى تقابلات وأضداد محمومة. وقد يتذكر بعضنا تأويل حصول أحمد زويل قبل نحو عقد من الزمن على جائزة نوبل في الكيمياء. فذهب بعض الى ان الجائزة "الكبيرة" قرينة على مضاهاة "العقل العربي"، ويفترض أن زويل قبس منه وبعض فيضه، "العقل الغربي"، وميزان نوبل آلة قياسه. وحمل معلقون وسياسيون "نبوغ" الباحث المصري – الأميركي على تربيته العائلية في مصر. وبعضهم خصص أو عمَّ فقال الإسلامية. وقصروا أثر دراسته الأميركية، في معاهد الولايات المتحدة ومختبراتها وفرق الأبحاث فيها، على نقل التفوق من القوة الى الفعل أو التفعيل، على ما درج القول.
الفيض والنسب
والصيغة الزويلية فرع ضئيل على أصل عظيم هو أصل إنجاب الأمة. فيقال أن أمة أنجبت فلاناً – وفلان هو "عبدالناصر" من غير "جمال"، بديهة، أي ابن الأمة البكر والمثال القاطع على البنوة الأمية المباشرة والأشبه بالخلق والتسوية والصنع من غير تضافر أنساب أو أرحام، أو فلان هو ملازم أول في الجيش اللبناني خرج على قيادته الوطنية والتحق بالفلسطينيين المسلحين وشهر ولاءه العروبي – لا تموت أو لن تموت، على سبيل التابيد الأثير والمستحب. والرجال الكبار، "آيات الله"، يبعثون على رأس كل مئة عام، على تذكير أسرة رجل توفي اخيراً، هم ولائد هذا الصنف من الولادة، ويتحدرون من غير وساطة أنفسهم، من الأمة التي لا تموت.
ولعل تعذر تعليل إسهام الباحث العلمي المصري – الأميركي في احد ميادين الأبحاث العلمية والتقنية الكونية أو العالمية، من غير حمله على بعض فيض "عقل" أو "روح" أهله أو جماعته وأمته، ومن طريق الإقرار بفرادته وجَلْو هذه الفرادة في هيئات وأبنية وأنظمة مشتركة، علامة من علامات كثيرة على عسر تدبر أمرين شديدي التلازم هما فردية الأشخاص والآحاد، من وجه، وتعهد الهيئات والأبنية والأنظمة الاجتماعية (التعليمية والتربوية والتقنية والذهنية والقيمية والذاتية) الأشخاص الآحاد وفرادتهم، وحمل فرد من الناس ("العرب") على قومه، على "عقلهم" أو على "أخلاقهم"، وفي كلتا الحالين على جميعهم. ونسبته إليهم من غير وساطة، تقود إليه في الغالب أبنية اجتماعية وسياسية وثقافية تُحِل الجميع (أو الجماعة) في آحاده (أو آحادها وأفرادها). وتتناول الجماعة الآحاد والأفراد، وتصنعهم وتعرِّفهم وتلبسهم، على صيغة التبعيض. فهم بعضها، صلباً ودماً ورحماً واسماً وطباعاً ومكانة.
وآلة تناول الجماعة الآحاد الأفراد على صيغة التبعيض، أو القبس والفيض، هي النسب أو الأنساب. فمن طريق الانتساب، والانتساب ركن الجماعة وعصبيتها وتماسكها وعددها وشوكتها أو قوتها، يستدرك الأفراد الآحاد على انفراط عقد جميع الجماعة، وتذررها عشائر وقبائل وبطوناً، وفي آخر المطاف أفراداً "عضويين" وتامي الخلقة والحياة المتعضِّية. ويغالب النسب أو الانتساب، والأبنية القرابية والسياسية والمكانية المتحدرة منه وحارسته والقوامة على دوامه، الانفراطَ الطبيعي، والتباين أو الفرق الاجتماعي والصناعي، معاً. ويترتب على الاستدراك (على انفراط عقد الجميع) والمغالبة، بذل الجماعات جهداً مجهداً في سبيل الحؤول دون نهوض هيئات وأبنية ونظم أو رسوم اجتماعية تتوسط علاقات الأفراد الآحاد بنواة الجماعة، أو بنفسها (روحها) وعقلها المفترضين. فمثل هذه العلاقات، أو الوسائط، تعقِّد انتساب الأفراد الآحاد الى اصلابهم أو صلبهم الجامع، مناط "وحدتهم" وتعصبهم، وهي تضعفه وقد تبدده. فيحسب الواحد انه عامل أو عالم أو تاجر أو راقص قبل ان "يكون" من هذا البلد، أو هذا الوطن، أو هذا المذهب والمعتقد، أو هذه العائلة... فينسب نفسه الى جزء أو فرع من اصل يفترض اوَّلَ وركناً، ويفترض ابتداءً جامعاً ومستوفياً التعريف التام والحقيقي، ومفرِّقاً الأصيل من الدخيل.
فلا يستقيم القول السائر والمتفق عليه أن مجتمعاتنا وبلداننا ودولنا "تنقصها" المؤسسات والهيئات والأبنية "المتخصصة" أو التقنية، أو أنها "تفتقر" الى "روح" المبادرة الفردية و "المبدعة"، وإلى المغامرة والمنافسة والابتكار. والأدق ربما القول (بعد الملاحظة والتقرير) أن المجتمعات والبلدان والدول هذه تدفع المؤسسات والهيئات والأبنية الوسيطة دفعاً ومدافعةً، وأنها تكاد تجمع على إنكار جواز قيامها أو اضطلاعها بأعمال أو مهمات تختص بها، ويتولى اصحابها وأهلها مناقشة معايير عملها، وإقرار هذه المعايير. فتكثير المؤسسات والهيئات والبنية الوسيطة يفتت الجماعة دوائر وأجساماً واختصاصات ومعايير وأحكام عمل، ويشرذمها تالياً لحمات و "أنساباً" (على معنى روابط "التضامن") ويفرقها تواريخ وذاكرات، ويشقها طبقات ويذررها أفراداً وآحاداً. ويُكَثِّر هذا الولاءاتِ، ويتركها للأهواء والحوادث والآراء، ويقطع اتصالها واصطفافها في مراتب يحتوي بعضها بعضاً، ويتضمن أعلاها أدناها ويبطنه. وانحلال الجماعة، وجسمها الواحد والمجتمِع على ما تكني عنه الأمة على مثالها النسبي والقرابي الأبوي والأخوي، يلد مسوخاً غريبة يرى إليها "عقل" الجماعة عدواناً على العقل والمنطق السويين والمستقيمين.
الطائفيتان... المستولية والمتربصة
والحق ان مسألة انفراط الأمة، او الجماعة الجامعة، يقود تتبعها او تعقبها الى وجهين مختلفين وليسا متفرقين وحسب. والوجه المعهود والمعروف في اختبارنا (العربي والإسلامي) هو الانفراط "إلى" قبائل وعشائر ودوائر أهل ونواح وطوائف وملل وأصناف وطرق. والقبائل والدوائر والنواحي والملل تتداعى، أي يدعو بعضها بعضاً ويجره ويعضده ويستدرجه الى الميل معه ومماشاته. وتتضافر على القصد شطراً واحداً. وينكر الحكم المركزي، "القومي" ذو المصدر التشريعي والدستوري الديني أو الوطني (شرط انتسابه الصريح الى الأمة وحمل نفسه على قطعة منها تنتظر بفارغ الصبر عودتها إليها)، ينكر على الأبعاض أو القطع المنفرطة طعنها العميق والثخين في الأمة التي يقوم هو، الحكم المركزي والعسكري الأمني غالباً، مقامها. وهجاء الطائفية المرير، ومعظمه يجري على ألسنة طوائف مذهبية مستولية وبعضه على ألسنة علمانيين ذهنيين أو "ذُهانيين"، يكاد يكون الأدب "السياسي" المشترك الأول. ولعل السبب في عنف الهجاء وعمومه ودوامه، منذ انحلال نظام الملل العثماني في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، هو اشتراك المركز أو المستولين، والخارجين عليه (أو المعارضين في صيغة أقل فظاظة وأقرب الى الوقائع ومقالاتها)، في علل وأنساب طائفية أو مللية وأهلية متضاربة أو متقابلة، على شاكلة "قبائل" الجمجمة وعظامها المتناظرة.
وأهل المركز يعلمون بعلم معصوم "إلهي" (محمد باقر الصدر) وقاطع ان انقلابهم (إلى) عصبية الدولة المركزية، واستيلاءهم على هذه بـ "ضربة"، على قول أعجمي، هو ثمرة ائتلاف ملي على ملل ضعيفة اللحمة، وعلى إدارات وأجهزة أصاب الاهتراء رأس "سمكتها". وما حصل في الاستيلاء السابق جائز في استيلاء لاحق. ويتهدد السابق استيلاءٌ لاحق على الدوام. فيبدو هذا وشيكاً، ولا دافع له إلا بأحكام عرفية وطوارئ متجددة "الى الأبد"، على القول المشهور. واستقرار الاستيلاء والولاء على التضامن العصبي المتقنع بأقنعة الدولة المركزية الوطنية ("القومية" = الأمة المنتظرة والكامنة) لا يدفعه ولا يقيده، ما دام مجتمع الجماعات على هذه الصورة، إلا تضامن عصبي مثله (عصبية) وخلافه (مادة عصبية وقواماً). فتخاف "ائتلافات" شيعة العراق، على رغم عدد نوابها الغالب وتوليها إنشاء الإدارات والأجهزة في عهدة أميركية متملقة، ائتلافاً سنياً – شيعياً يتهدد خليطه "الوطني" صفاءها وتجانسها المفترضين. وتتسمر الحياة السياسية والحكومية في مكانها الدبق هذا. ومضى على بعض "المراكز" المستولية نحو نصف قرن، عصفت تحولاته وأطواره بمجتمعات العالم المزعومة راكدة، من غير ان يطرأ عليها طارئ غير تعاقب الدهر من غير سأم ولا سؤال ثقيل.
والوجه المعهود والمعروف لانفراط الأمة ودولتها (إلى) قبائل وملل ونواحٍ وأصناف إنما تحاربه الدولة العصبية المركزية لأنه الوجه الشبيه بها، ونقيضها القوي والناهل من معينها ومائها. وهو يكذب زعمها انها تقوم مقام الأمة، وأنها عدلها وكفؤها، وتقاتل، أي تقتل غالباً وتغتال وتقهر وتصادر، بسيفها. فتنشأ عن هذه الحال سلطنات أو ممالك أو امبراطوريات (في ترجمة عربية تقريبية) تلم، على شاكلة الأساطير الفرعونية، قَصَصاً يُجمع بعضه الى بعض، ويُضم ضماً. وتبقى القطع او الأجزاء على حالها من الانكفاء الداخلي، ويبقى "الكل" المجموع على حاله من الجمع المفتعل والتحاجر. فيقال "مناطق مضمومة"، بعد 90 عاماً في الأقضية الأربعة التي استوى معها لبنان "كبيراً" في حدود أهلية وملية، شأن تلك التي غلبت على إنشاء الولايات وتمييزها بعضها من بعض. ويقال "البدون" في جماعات تتقلب منذ قرون بين أظهر "المواطنين" ولا يفصلهم عنهم حاجز غير نسب لا يحول. ويسوغ الخوف من التوطين، المدعو كذباً توطيناً لنفي التبعة عن النفس، إنشاء معازل سكنية بائسة ومهينة بذريعة حمايتها هوية سياسية ووطنية يُخشى تخلي أهلها المفترضين عنها. ويحمل تسلحها في رعاية "قومية" على مقاومتها "التوطين".
الإصعاد والحلول
ويقتصر "التوحيد" الرأسي على انتصاب قوة مادية وأهلية غالبة، غلبتُها الظرفية و "الواقعية" رهنُ التزامها بعض القيود والحدود في سوسها الجماعات الأخرى الوطنية، فيها جماعتها الأهلية نفسها، ورهن ضعف الجماعات الأخرى وتفككها وغرقها في منطقها العصبي والخاص. ويحفظ لحمة السلطنة، التشريحية والظاهرة، فزع الجماعات من ثمن قيامها على الرأس المركزي المقحم والمستولي، المتحصن بالقوة العسكرية والأمنية والإدارية. وهو ثمن أهلي باهظ لا يطاق، على ما اختبر في عدن، "الديموقراطية الشعبية"، في الأيام الأولى من 1986، واختبر قبلها هنا وهناك في "انتفاضات" مدينية أهلية قمعت في دم غزير لم يُشف منه غداة نحو 30 عاماً، ويحول دون التئام جروحه قانون طوارئ مزمن. ويحفظ لحمة السلطنة، من وجه آخر ملازم، رعب الجوار الإقليمي، وما يليه من جوار دولي أي أوروبي، من تداعيات خروج الجماعات الأهلية على عصبيات دولها، وأثر التداعيات في "عمق" الجوار "الاستراتيجي" اللصيق، على قول مدرس علوم سياسية تركي، "عثماني" تاريخاً ومخاوفَ إن لم يكن نسباً وعرقاً.
ويتصدى الرأس السلطاني لتصدع الجسم الملصوق الأجزاء قسراً، بآلة المنطق التعبيري الذي تتفتق عنه الأبنية النسبية والعصبية. إلى تصديه بواسطة القوة المستولية الواقعية والتلويح المروع بالحروب الأهلية وتداعياتها "العميقة". فعلى هذا المنطق – وهو "حس" شائع وعام يتشاركه جمهور مجتمع في وقت من الأوقات، ويقوم من معاملاتهم ومقالاتهم مقام البدائه أو البديهيات – تصدر السياسة عن معنى جامع بؤرته الأمة. ولا تطعن كثرة الأجسام الأهلية في البؤرة وتوحيدها المفترض. فمن طريق الإصعاد في النسب تلفي أو تجد العشائر والعصائب الكثيرة ظاهراً نفسها "واحداً" حقيقة وجوهراً، يجري في عروقها دم واحد هو تمثيل على اسم ومعنى جامعين. وترد الفروع على الأصول، وتطوى في أصل أصولها من طريق الإصعاد في النسب. وينزل السلطان، صاحب السلطنة وأهله، الأصلَ أو البؤرة، ويحلها حلولاً مقدساً، أو "إلهياً" على قول بعض الفرق و "أئمتها". وهذا الضرب أو الصنف من الحلول يربط عالم ما تحت القمر، على قول يوناني قديم في "عالم" الكون (الولادة) والفساد (التغير والموت)، بعالم المعقولات الثابتة.
وقبول السلطان الهيئات والمؤسسات والأبنية الدستورية التمثيلية المنتخبة والقضائية والإدارية والتقنية، أو رضوخه لها، إذعان صوري وشكلي. وهذا ما يعلنه دستور الجمهورية "الإسلامية" الإيرانية من غير مواربة. وتسليط المجالس، مجلس حراس الدستور والخبراء والصيانة ومجلس تشخيص مصلحة النظام، على الهيئات الناخبة والمنتخبة، وعلى الترشيحات والتعيينات والقرارات والسياسات، في إشراف المرشد الأعلى "الدائم"، قرينة على إيداع السلطان وديعة بيد من لا قيد من التمثيل والمداولة والمصالح عليه. وهو قرينة على قيام السلطان وأهله، بمحل يتعالى على المحاسبة والمراقبة والمداولة والمخالفة العامية أو "الجمهورية". وبعض الدساتير ينيط قيادة "الدولة والمجتمع"، سلفاً بالحزب الحاكم. والحزب الحاكم، المتحدر من استيلاء، وُهب اصحابه نصف قرن لتسويغ استيلائهم، من بعد. فإذا شابت التوكيل المطلق من أي قيد "شائبة"، هي رأي الهيئات الناخبة وإرادتها، "جاز" للولي، فقيهاً ام ابناً، تكرير الشائبة وتهذيبها، وتشذيبها بالقوة المسلحة "الشعبية".
النقيض والضد
وعلى هذا، فلا ضد للمتربع في سدة الولاية المركزية المستولية والعصبية، وينبغي ألا يكون عليه وعلى سياساته قيد. فالقيد إذا كانت الجماعات الطرفية والمتربصة مصدره من تلقاء وجودها ومصالحها وقوتها، عالج المركز الأمر بمزيج من الاستجابة وشراء الولاء والقمع. وحال بين العلاج وبين استوائه سابقة يقاس عليها. وإذا كان مصدر القيد قوة سياسية وأهلية تنافس على السلطة كلها باسم عصبية مهزومة ومغلوبة، حق في هذه النفي من الحياة "العامة"، أي دوام النفي من دائرة المساومة وشراء الولاء الجزئي. فلا ينبغي، على أي وجه أو مقدار، ظهور معارضة سياسية تقوم من المركز المستولي مقام الضد. فتتولى إرساء المنازعة على الحكم على قواعد أو نهج تصريف الحكم وتداوله، وعلى توزيع الأصول والاستثمارات والعوائد، في إطار هوية تاريخية سياسية تقر للحاضر وللتاريخ القريب بحقيقة راهنة. والضد، ومقاومه، هو خلاف النقيض الذي يتشارك ونقيضه المثال النسبي والعصبي الواحد والكلي. وليس أيسر على المركز المستولي من قلب ضده، إذا استوفى بعض شروط القيام، الى نقيض لا يستقيم معه وفيه إلا النقض والنفي المعنويان، وإلا الحرب الأهلية ومنزعها الى الاستئصال والغلبة المطلقة وغير المقيدة. ويترتب هذا على منطق التعبير السلطاني. فالمتربع في المركز من طريق الاستيلاء والقوة الواقعية، على رغم قلته (أو أقليته) وهامشيته تمثيلاً وعدداً وموارد وقوة على التأليف، يساوي الحكم بالاستيلاء، ويحسب انه قادر على الحكم، وجدير به "مئة مرة" على قول صاحبهم، ما دام في وسعه ووسع كردوسه المسلح والأمني ملء "البر" بمسلحيه وسلاحه.
وركن قوة التعبير السلطانية، أو سلاحها الماضي والجارح هو الحرب و "مجتمعها" المزعوم. والحرب تنفي المجتمع واستواءه على علاقات تقسيم العمل والاختلاف والتضامن والتكامل معاً. فقسمة "المجتمع" نقيضين معنويين وماديين، وإدارة القسمة على هوية المجتمع والدولة، وعلى انتسابهما الجوهري والأصلي، تنصبان العصبية المستولية في موقع الأصل والقطب، وتنفيان العصبيات الأخرى، الطرفية، أو الوطنية المعارضة، الى خارج مريض ومعادٍ. فلا تدين ببقائها إلا الى استحالة استئصالها المادي، وإلى الفزع والذعر الإقليميين والدوليين اللذين سبق الإلماح إليهما. ولا يبطل الأمران السعي الدؤوب والملح في إبطال العصبيات المعارضة والطرفية بطلاناً معنوياً يترتب عليه بطلان مادي وسياسي، ولا في إخراجها من الانتساب الى اصل مشترك وجامع تالياً. وأوكلت الثقافة "السياسية" العربية الغالبة، وأجهزتها وأبنيتها العاملة على النسب والأصل والتراث الى "فلسطين"، وآلاتها العينية ومعانيها النافذة ومقالاتها المعيارية، الاضطلاع بالبطلان والإخراج هذين، وبإدارة القسمة الأهلية على "مجتمع الحرب" ونقيضيه المتنافيين.
وإناطة السياسة "العربية" ومنازعاتها وخلافاتها، بـ "فلسطين" هذه، واختصار السياسة فيها بعد حملها هي ("فلسطين" المفترضة) على القداسة والأصل (القضية الأولى) والصراع و "الوجود" وحدَّي البقاء والاندثار... يدخلها في حد التدين والحرب الدينية الاستئصالية، ويخرجها في الوقت نفسه من حد المنازعات السياسية والاجتماعية والثقافية الحادثة والحاضرة. وتعليق السياسة "العربية" المشتركة و "الجامعة" على المعنى الفلسطيني الصوفي هذا، يلحق السياسات المحلية بالمعنى الصوفي، الأصلي والنسبي، وينفي منها ما لا يحتمل الذوبان فيه، ويقضي فيها بالمعيار الأصولي. وفي ختام مطاف عمليات التعليق والإلحاق والقضاء يتألق الرسم العظمي والخميني الحرسي المعروف: "مقاومة" هي نور الوجود في جهة، و "لاجهة" "إسرائيل" وظلمة الخلق وديجوره وجهنمه.
وغلبة النسب القدسي على السياسات ومقالاتها وثقافتها، من طريق المعنى الفلسطيني في صيغته العروبية – الإسلامية اليوم، تلتهم المؤسسات والأبنية والهيئات والأجسام الاجتماعية، والوقائع المشتركة، وتطرح الأفراد الآحاد، وتحيل تصورهم على غير صورة الذهانيين المجردين أو صورة "المقاومين الاستشهاديين" الانتحاريين. ولا يجتمع معنى "كوني" من جماعات لا تفارق جميعَها إلا فراق الموت. ولا ترى الأفراد الآحاد إلا على صورة الجانحين والمنحرفين والمدخولين، ولا يبعد ان يرى الأفراد الآحاد أنفسهم على هذه الصورة. وتحمل الجماعات هذه الانقسام والمنازعة على الاستدخال والانتهاك، على نحو ما تحمل "الانتماء" الغفل على السوية والصدق والأصالة.
يؤرق أهل المجتمعات العربية عموماً، وهم يقصدون بلوغ أو إنجاز ما يرفعهم الى مرتبة القدوة "الكونية" وينصب ما يصنعونه (أو يصنعه بعضهم) معياراً عاماً وجامعاً إنسانياً، وقوعُهم في خصوصية بلدية يرغبون فيها وينفرون منها في آن. ويبدو السعي هذا متناقضاً ومتدافعاً. فإرادة الصفة الكونية والإنسانية تلازمها إرادة دمغ الإنجاز أو العمل العلمي أو السياسي او الثقافي بدمغة الخصوصية "العربية" الخالصة. والترجح بين حدين يُجزم في بعد الشقة بينهما، وعسر جمعهما أو تهجينهما، يُسْلِم الى ضروب من الإفراط في التبعيد والتخصيص والتقييد تؤدي بدورها الى تقابلات وأضداد محمومة. وقد يتذكر بعضنا تأويل حصول أحمد زويل قبل نحو عقد من الزمن على جائزة نوبل في الكيمياء. فذهب بعض الى ان الجائزة "الكبيرة" قرينة على مضاهاة "العقل العربي"، ويفترض أن زويل قبس منه وبعض فيضه، "العقل الغربي"، وميزان نوبل آلة قياسه. وحمل معلقون وسياسيون "نبوغ" الباحث المصري – الأميركي على تربيته العائلية في مصر. وبعضهم خصص أو عمَّ فقال الإسلامية. وقصروا أثر دراسته الأميركية، في معاهد الولايات المتحدة ومختبراتها وفرق الأبحاث فيها، على نقل التفوق من القوة الى الفعل أو التفعيل، على ما درج القول.
الفيض والنسب
والصيغة الزويلية فرع ضئيل على أصل عظيم هو أصل إنجاب الأمة. فيقال أن أمة أنجبت فلاناً – وفلان هو "عبدالناصر" من غير "جمال"، بديهة، أي ابن الأمة البكر والمثال القاطع على البنوة الأمية المباشرة والأشبه بالخلق والتسوية والصنع من غير تضافر أنساب أو أرحام، أو فلان هو ملازم أول في الجيش اللبناني خرج على قيادته الوطنية والتحق بالفلسطينيين المسلحين وشهر ولاءه العروبي – لا تموت أو لن تموت، على سبيل التابيد الأثير والمستحب. والرجال الكبار، "آيات الله"، يبعثون على رأس كل مئة عام، على تذكير أسرة رجل توفي اخيراً، هم ولائد هذا الصنف من الولادة، ويتحدرون من غير وساطة أنفسهم، من الأمة التي لا تموت.
ولعل تعذر تعليل إسهام الباحث العلمي المصري – الأميركي في احد ميادين الأبحاث العلمية والتقنية الكونية أو العالمية، من غير حمله على بعض فيض "عقل" أو "روح" أهله أو جماعته وأمته، ومن طريق الإقرار بفرادته وجَلْو هذه الفرادة في هيئات وأبنية وأنظمة مشتركة، علامة من علامات كثيرة على عسر تدبر أمرين شديدي التلازم هما فردية الأشخاص والآحاد، من وجه، وتعهد الهيئات والأبنية والأنظمة الاجتماعية (التعليمية والتربوية والتقنية والذهنية والقيمية والذاتية) الأشخاص الآحاد وفرادتهم، وحمل فرد من الناس ("العرب") على قومه، على "عقلهم" أو على "أخلاقهم"، وفي كلتا الحالين على جميعهم. ونسبته إليهم من غير وساطة، تقود إليه في الغالب أبنية اجتماعية وسياسية وثقافية تُحِل الجميع (أو الجماعة) في آحاده (أو آحادها وأفرادها). وتتناول الجماعة الآحاد والأفراد، وتصنعهم وتعرِّفهم وتلبسهم، على صيغة التبعيض. فهم بعضها، صلباً ودماً ورحماً واسماً وطباعاً ومكانة.
وآلة تناول الجماعة الآحاد الأفراد على صيغة التبعيض، أو القبس والفيض، هي النسب أو الأنساب. فمن طريق الانتساب، والانتساب ركن الجماعة وعصبيتها وتماسكها وعددها وشوكتها أو قوتها، يستدرك الأفراد الآحاد على انفراط عقد جميع الجماعة، وتذررها عشائر وقبائل وبطوناً، وفي آخر المطاف أفراداً "عضويين" وتامي الخلقة والحياة المتعضِّية. ويغالب النسب أو الانتساب، والأبنية القرابية والسياسية والمكانية المتحدرة منه وحارسته والقوامة على دوامه، الانفراطَ الطبيعي، والتباين أو الفرق الاجتماعي والصناعي، معاً. ويترتب على الاستدراك (على انفراط عقد الجميع) والمغالبة، بذل الجماعات جهداً مجهداً في سبيل الحؤول دون نهوض هيئات وأبنية ونظم أو رسوم اجتماعية تتوسط علاقات الأفراد الآحاد بنواة الجماعة، أو بنفسها (روحها) وعقلها المفترضين. فمثل هذه العلاقات، أو الوسائط، تعقِّد انتساب الأفراد الآحاد الى اصلابهم أو صلبهم الجامع، مناط "وحدتهم" وتعصبهم، وهي تضعفه وقد تبدده. فيحسب الواحد انه عامل أو عالم أو تاجر أو راقص قبل ان "يكون" من هذا البلد، أو هذا الوطن، أو هذا المذهب والمعتقد، أو هذه العائلة... فينسب نفسه الى جزء أو فرع من اصل يفترض اوَّلَ وركناً، ويفترض ابتداءً جامعاً ومستوفياً التعريف التام والحقيقي، ومفرِّقاً الأصيل من الدخيل.
فلا يستقيم القول السائر والمتفق عليه أن مجتمعاتنا وبلداننا ودولنا "تنقصها" المؤسسات والهيئات والأبنية "المتخصصة" أو التقنية، أو أنها "تفتقر" الى "روح" المبادرة الفردية و "المبدعة"، وإلى المغامرة والمنافسة والابتكار. والأدق ربما القول (بعد الملاحظة والتقرير) أن المجتمعات والبلدان والدول هذه تدفع المؤسسات والهيئات والأبنية الوسيطة دفعاً ومدافعةً، وأنها تكاد تجمع على إنكار جواز قيامها أو اضطلاعها بأعمال أو مهمات تختص بها، ويتولى اصحابها وأهلها مناقشة معايير عملها، وإقرار هذه المعايير. فتكثير المؤسسات والهيئات والبنية الوسيطة يفتت الجماعة دوائر وأجساماً واختصاصات ومعايير وأحكام عمل، ويشرذمها تالياً لحمات و "أنساباً" (على معنى روابط "التضامن") ويفرقها تواريخ وذاكرات، ويشقها طبقات ويذررها أفراداً وآحاداً. ويُكَثِّر هذا الولاءاتِ، ويتركها للأهواء والحوادث والآراء، ويقطع اتصالها واصطفافها في مراتب يحتوي بعضها بعضاً، ويتضمن أعلاها أدناها ويبطنه. وانحلال الجماعة، وجسمها الواحد والمجتمِع على ما تكني عنه الأمة على مثالها النسبي والقرابي الأبوي والأخوي، يلد مسوخاً غريبة يرى إليها "عقل" الجماعة عدواناً على العقل والمنطق السويين والمستقيمين.
الطائفيتان... المستولية والمتربصة
والحق ان مسألة انفراط الأمة، او الجماعة الجامعة، يقود تتبعها او تعقبها الى وجهين مختلفين وليسا متفرقين وحسب. والوجه المعهود والمعروف في اختبارنا (العربي والإسلامي) هو الانفراط "إلى" قبائل وعشائر ودوائر أهل ونواح وطوائف وملل وأصناف وطرق. والقبائل والدوائر والنواحي والملل تتداعى، أي يدعو بعضها بعضاً ويجره ويعضده ويستدرجه الى الميل معه ومماشاته. وتتضافر على القصد شطراً واحداً. وينكر الحكم المركزي، "القومي" ذو المصدر التشريعي والدستوري الديني أو الوطني (شرط انتسابه الصريح الى الأمة وحمل نفسه على قطعة منها تنتظر بفارغ الصبر عودتها إليها)، ينكر على الأبعاض أو القطع المنفرطة طعنها العميق والثخين في الأمة التي يقوم هو، الحكم المركزي والعسكري الأمني غالباً، مقامها. وهجاء الطائفية المرير، ومعظمه يجري على ألسنة طوائف مذهبية مستولية وبعضه على ألسنة علمانيين ذهنيين أو "ذُهانيين"، يكاد يكون الأدب "السياسي" المشترك الأول. ولعل السبب في عنف الهجاء وعمومه ودوامه، منذ انحلال نظام الملل العثماني في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، هو اشتراك المركز أو المستولين، والخارجين عليه (أو المعارضين في صيغة أقل فظاظة وأقرب الى الوقائع ومقالاتها)، في علل وأنساب طائفية أو مللية وأهلية متضاربة أو متقابلة، على شاكلة "قبائل" الجمجمة وعظامها المتناظرة.
وأهل المركز يعلمون بعلم معصوم "إلهي" (محمد باقر الصدر) وقاطع ان انقلابهم (إلى) عصبية الدولة المركزية، واستيلاءهم على هذه بـ "ضربة"، على قول أعجمي، هو ثمرة ائتلاف ملي على ملل ضعيفة اللحمة، وعلى إدارات وأجهزة أصاب الاهتراء رأس "سمكتها". وما حصل في الاستيلاء السابق جائز في استيلاء لاحق. ويتهدد السابق استيلاءٌ لاحق على الدوام. فيبدو هذا وشيكاً، ولا دافع له إلا بأحكام عرفية وطوارئ متجددة "الى الأبد"، على القول المشهور. واستقرار الاستيلاء والولاء على التضامن العصبي المتقنع بأقنعة الدولة المركزية الوطنية ("القومية" = الأمة المنتظرة والكامنة) لا يدفعه ولا يقيده، ما دام مجتمع الجماعات على هذه الصورة، إلا تضامن عصبي مثله (عصبية) وخلافه (مادة عصبية وقواماً). فتخاف "ائتلافات" شيعة العراق، على رغم عدد نوابها الغالب وتوليها إنشاء الإدارات والأجهزة في عهدة أميركية متملقة، ائتلافاً سنياً – شيعياً يتهدد خليطه "الوطني" صفاءها وتجانسها المفترضين. وتتسمر الحياة السياسية والحكومية في مكانها الدبق هذا. ومضى على بعض "المراكز" المستولية نحو نصف قرن، عصفت تحولاته وأطواره بمجتمعات العالم المزعومة راكدة، من غير ان يطرأ عليها طارئ غير تعاقب الدهر من غير سأم ولا سؤال ثقيل.
والوجه المعهود والمعروف لانفراط الأمة ودولتها (إلى) قبائل وملل ونواحٍ وأصناف إنما تحاربه الدولة العصبية المركزية لأنه الوجه الشبيه بها، ونقيضها القوي والناهل من معينها ومائها. وهو يكذب زعمها انها تقوم مقام الأمة، وأنها عدلها وكفؤها، وتقاتل، أي تقتل غالباً وتغتال وتقهر وتصادر، بسيفها. فتنشأ عن هذه الحال سلطنات أو ممالك أو امبراطوريات (في ترجمة عربية تقريبية) تلم، على شاكلة الأساطير الفرعونية، قَصَصاً يُجمع بعضه الى بعض، ويُضم ضماً. وتبقى القطع او الأجزاء على حالها من الانكفاء الداخلي، ويبقى "الكل" المجموع على حاله من الجمع المفتعل والتحاجر. فيقال "مناطق مضمومة"، بعد 90 عاماً في الأقضية الأربعة التي استوى معها لبنان "كبيراً" في حدود أهلية وملية، شأن تلك التي غلبت على إنشاء الولايات وتمييزها بعضها من بعض. ويقال "البدون" في جماعات تتقلب منذ قرون بين أظهر "المواطنين" ولا يفصلهم عنهم حاجز غير نسب لا يحول. ويسوغ الخوف من التوطين، المدعو كذباً توطيناً لنفي التبعة عن النفس، إنشاء معازل سكنية بائسة ومهينة بذريعة حمايتها هوية سياسية ووطنية يُخشى تخلي أهلها المفترضين عنها. ويحمل تسلحها في رعاية "قومية" على مقاومتها "التوطين".
الإصعاد والحلول
ويقتصر "التوحيد" الرأسي على انتصاب قوة مادية وأهلية غالبة، غلبتُها الظرفية و "الواقعية" رهنُ التزامها بعض القيود والحدود في سوسها الجماعات الأخرى الوطنية، فيها جماعتها الأهلية نفسها، ورهن ضعف الجماعات الأخرى وتفككها وغرقها في منطقها العصبي والخاص. ويحفظ لحمة السلطنة، التشريحية والظاهرة، فزع الجماعات من ثمن قيامها على الرأس المركزي المقحم والمستولي، المتحصن بالقوة العسكرية والأمنية والإدارية. وهو ثمن أهلي باهظ لا يطاق، على ما اختبر في عدن، "الديموقراطية الشعبية"، في الأيام الأولى من 1986، واختبر قبلها هنا وهناك في "انتفاضات" مدينية أهلية قمعت في دم غزير لم يُشف منه غداة نحو 30 عاماً، ويحول دون التئام جروحه قانون طوارئ مزمن. ويحفظ لحمة السلطنة، من وجه آخر ملازم، رعب الجوار الإقليمي، وما يليه من جوار دولي أي أوروبي، من تداعيات خروج الجماعات الأهلية على عصبيات دولها، وأثر التداعيات في "عمق" الجوار "الاستراتيجي" اللصيق، على قول مدرس علوم سياسية تركي، "عثماني" تاريخاً ومخاوفَ إن لم يكن نسباً وعرقاً.
ويتصدى الرأس السلطاني لتصدع الجسم الملصوق الأجزاء قسراً، بآلة المنطق التعبيري الذي تتفتق عنه الأبنية النسبية والعصبية. إلى تصديه بواسطة القوة المستولية الواقعية والتلويح المروع بالحروب الأهلية وتداعياتها "العميقة". فعلى هذا المنطق – وهو "حس" شائع وعام يتشاركه جمهور مجتمع في وقت من الأوقات، ويقوم من معاملاتهم ومقالاتهم مقام البدائه أو البديهيات – تصدر السياسة عن معنى جامع بؤرته الأمة. ولا تطعن كثرة الأجسام الأهلية في البؤرة وتوحيدها المفترض. فمن طريق الإصعاد في النسب تلفي أو تجد العشائر والعصائب الكثيرة ظاهراً نفسها "واحداً" حقيقة وجوهراً، يجري في عروقها دم واحد هو تمثيل على اسم ومعنى جامعين. وترد الفروع على الأصول، وتطوى في أصل أصولها من طريق الإصعاد في النسب. وينزل السلطان، صاحب السلطنة وأهله، الأصلَ أو البؤرة، ويحلها حلولاً مقدساً، أو "إلهياً" على قول بعض الفرق و "أئمتها". وهذا الضرب أو الصنف من الحلول يربط عالم ما تحت القمر، على قول يوناني قديم في "عالم" الكون (الولادة) والفساد (التغير والموت)، بعالم المعقولات الثابتة.
وقبول السلطان الهيئات والمؤسسات والأبنية الدستورية التمثيلية المنتخبة والقضائية والإدارية والتقنية، أو رضوخه لها، إذعان صوري وشكلي. وهذا ما يعلنه دستور الجمهورية "الإسلامية" الإيرانية من غير مواربة. وتسليط المجالس، مجلس حراس الدستور والخبراء والصيانة ومجلس تشخيص مصلحة النظام، على الهيئات الناخبة والمنتخبة، وعلى الترشيحات والتعيينات والقرارات والسياسات، في إشراف المرشد الأعلى "الدائم"، قرينة على إيداع السلطان وديعة بيد من لا قيد من التمثيل والمداولة والمصالح عليه. وهو قرينة على قيام السلطان وأهله، بمحل يتعالى على المحاسبة والمراقبة والمداولة والمخالفة العامية أو "الجمهورية". وبعض الدساتير ينيط قيادة "الدولة والمجتمع"، سلفاً بالحزب الحاكم. والحزب الحاكم، المتحدر من استيلاء، وُهب اصحابه نصف قرن لتسويغ استيلائهم، من بعد. فإذا شابت التوكيل المطلق من أي قيد "شائبة"، هي رأي الهيئات الناخبة وإرادتها، "جاز" للولي، فقيهاً ام ابناً، تكرير الشائبة وتهذيبها، وتشذيبها بالقوة المسلحة "الشعبية".
النقيض والضد
وعلى هذا، فلا ضد للمتربع في سدة الولاية المركزية المستولية والعصبية، وينبغي ألا يكون عليه وعلى سياساته قيد. فالقيد إذا كانت الجماعات الطرفية والمتربصة مصدره من تلقاء وجودها ومصالحها وقوتها، عالج المركز الأمر بمزيج من الاستجابة وشراء الولاء والقمع. وحال بين العلاج وبين استوائه سابقة يقاس عليها. وإذا كان مصدر القيد قوة سياسية وأهلية تنافس على السلطة كلها باسم عصبية مهزومة ومغلوبة، حق في هذه النفي من الحياة "العامة"، أي دوام النفي من دائرة المساومة وشراء الولاء الجزئي. فلا ينبغي، على أي وجه أو مقدار، ظهور معارضة سياسية تقوم من المركز المستولي مقام الضد. فتتولى إرساء المنازعة على الحكم على قواعد أو نهج تصريف الحكم وتداوله، وعلى توزيع الأصول والاستثمارات والعوائد، في إطار هوية تاريخية سياسية تقر للحاضر وللتاريخ القريب بحقيقة راهنة. والضد، ومقاومه، هو خلاف النقيض الذي يتشارك ونقيضه المثال النسبي والعصبي الواحد والكلي. وليس أيسر على المركز المستولي من قلب ضده، إذا استوفى بعض شروط القيام، الى نقيض لا يستقيم معه وفيه إلا النقض والنفي المعنويان، وإلا الحرب الأهلية ومنزعها الى الاستئصال والغلبة المطلقة وغير المقيدة. ويترتب هذا على منطق التعبير السلطاني. فالمتربع في المركز من طريق الاستيلاء والقوة الواقعية، على رغم قلته (أو أقليته) وهامشيته تمثيلاً وعدداً وموارد وقوة على التأليف، يساوي الحكم بالاستيلاء، ويحسب انه قادر على الحكم، وجدير به "مئة مرة" على قول صاحبهم، ما دام في وسعه ووسع كردوسه المسلح والأمني ملء "البر" بمسلحيه وسلاحه.
وركن قوة التعبير السلطانية، أو سلاحها الماضي والجارح هو الحرب و "مجتمعها" المزعوم. والحرب تنفي المجتمع واستواءه على علاقات تقسيم العمل والاختلاف والتضامن والتكامل معاً. فقسمة "المجتمع" نقيضين معنويين وماديين، وإدارة القسمة على هوية المجتمع والدولة، وعلى انتسابهما الجوهري والأصلي، تنصبان العصبية المستولية في موقع الأصل والقطب، وتنفيان العصبيات الأخرى، الطرفية، أو الوطنية المعارضة، الى خارج مريض ومعادٍ. فلا تدين ببقائها إلا الى استحالة استئصالها المادي، وإلى الفزع والذعر الإقليميين والدوليين اللذين سبق الإلماح إليهما. ولا يبطل الأمران السعي الدؤوب والملح في إبطال العصبيات المعارضة والطرفية بطلاناً معنوياً يترتب عليه بطلان مادي وسياسي، ولا في إخراجها من الانتساب الى اصل مشترك وجامع تالياً. وأوكلت الثقافة "السياسية" العربية الغالبة، وأجهزتها وأبنيتها العاملة على النسب والأصل والتراث الى "فلسطين"، وآلاتها العينية ومعانيها النافذة ومقالاتها المعيارية، الاضطلاع بالبطلان والإخراج هذين، وبإدارة القسمة الأهلية على "مجتمع الحرب" ونقيضيه المتنافيين.
وإناطة السياسة "العربية" ومنازعاتها وخلافاتها، بـ "فلسطين" هذه، واختصار السياسة فيها بعد حملها هي ("فلسطين" المفترضة) على القداسة والأصل (القضية الأولى) والصراع و "الوجود" وحدَّي البقاء والاندثار... يدخلها في حد التدين والحرب الدينية الاستئصالية، ويخرجها في الوقت نفسه من حد المنازعات السياسية والاجتماعية والثقافية الحادثة والحاضرة. وتعليق السياسة "العربية" المشتركة و "الجامعة" على المعنى الفلسطيني الصوفي هذا، يلحق السياسات المحلية بالمعنى الصوفي، الأصلي والنسبي، وينفي منها ما لا يحتمل الذوبان فيه، ويقضي فيها بالمعيار الأصولي. وفي ختام مطاف عمليات التعليق والإلحاق والقضاء يتألق الرسم العظمي والخميني الحرسي المعروف: "مقاومة" هي نور الوجود في جهة، و "لاجهة" "إسرائيل" وظلمة الخلق وديجوره وجهنمه.
وغلبة النسب القدسي على السياسات ومقالاتها وثقافتها، من طريق المعنى الفلسطيني في صيغته العروبية – الإسلامية اليوم، تلتهم المؤسسات والأبنية والهيئات والأجسام الاجتماعية، والوقائع المشتركة، وتطرح الأفراد الآحاد، وتحيل تصورهم على غير صورة الذهانيين المجردين أو صورة "المقاومين الاستشهاديين" الانتحاريين. ولا يجتمع معنى "كوني" من جماعات لا تفارق جميعَها إلا فراق الموت. ولا ترى الأفراد الآحاد إلا على صورة الجانحين والمنحرفين والمدخولين، ولا يبعد ان يرى الأفراد الآحاد أنفسهم على هذه الصورة. وتحمل الجماعات هذه الانقسام والمنازعة على الاستدخال والانتهاك، على نحو ما تحمل "الانتماء" الغفل على السوية والصدق والأصالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق