الحياة 14/7/2010
في جمعة من أيام الجمع، في 1986 أو 1987، كان يستمع سائق سيارة النقل العمومية الى خطبة يوم الصلاة، ويُسمعها ركاب السيارة. وكان الخطيب تعرَّفه نبرته المترجحة بين الحنجرة وبين الصدر ولهجة عراقية صريحة، قبل أن تُعرِّفه خطابة متأنية تبدي في موضوعها أو موضوعاتها وتعيد شرحاً وتفصيلاً وصياغات فصيحة وعامية ونقلية ومنطقية، هو محمد حسين فضل الله. ودأبت سيارات الأجرة الصغيرة على بث خطبة «السيد» من مسجد الرضا ببير العبد. ولعله أول من استن هذا النهج الدعوي قبل أن يعم منابرَ دعوة الحزب الخميني وتحريضه، وتلابس الخطاب، على أصنافها، أوقات الحياة اليومية كلها.
وتناول الخطيب، يومها، «نصرة أهل البيت» والثمن الباهظ الذي يرتبه تكلفها، وتكلف نصرة «الحق» في المواقف كلها، على «المؤمن». وبعد أن روى بعض خبر مسلم بن عقيل في الكوفة، ورسائل بيعة أهل الكوفة، ونقضهم بيعتهم وتخلفهم، ومر بالتوابين وحركتهم غداة كربلاء، خرج الخطيب من روايته الكربلائية التقليدية، وخرج الصوت من تعليقه في رهبة الحادثة، الى مخاطبة المصلين الساكتين والمكلومين بكلام قريب من العامية. فقال لهم (على وجه التقريب): وأنتم؟ ماذا تظنون كنتم فاعلين في موقف مثل هذا؟ ابن بنت نبيكم يخرج على الظالم يطلب الحق للمظلومين، وإصلاح دين المسلمين، فهل كنتم تنصرونه؟ مهما كلفكم الأمر، وكلف أهلكم وعيالكم؟ هل كنتم تتركون عملكم ووظائفكم وأرضكم وتقولون هذا حق علينا نؤديه؟ وبعد استرسال في احصاء ووصف حسيَّيْن ومعاصرَيْن لما قد يترتب فعله على نصير الحق والعدل الممتحن، انعطف الخطيب بكلامه الى قول قاطع: أنتم واهمون إذا كنتم تحسبون أنكم ممن لا يخافون نصرة الحسين، هل كان بقي منكم معه 20 في المئة؟ هذا ادعاء كبير، 15 في المئة؟ أنا أقول أن 10 في المئة كثيرة عليكم... وتناول تفصيلاً، وفي عامية على عتبة الفصحى لفظاً، ما قد يقوله «المتخاذل» في نفسه، اليوم، إذا دعي الى «الجهاد». فرسم لوحات سريعة للمتخاذلين المفترضين، وحاكى أقوالهم ساخراً ومؤنباً مقرعاً. فسمع المستمعُ من الإذاعة، وهذه حالي، انفراج وجوه المصلين وأنفاسهم في صدورهم، وبكاء بعضهم بكاء خافتاً هو رجع إقرار صامت بصدق حكم الخطيب لتوه في تقدير شطر «المتخاذلين».
المنتحي
ولم تكن الخطبة من الإذاعة، قبل قراءة ملخصها اليوم التالي في الصحف المحلية على جاري عادة مكتب الخطيب في توزيع خطبته مصورة بالفيديو على الصحف، لم تكن «اللقاء» الأول بـ «السيد الشيخ»، على قول صحافيين غربيين وبعض أهل السنّة الذي أشكل عليهم اللقب الأول. فسبق لقاءٌ مباشر به في حسينية النبعة ببرج حمود في خريف 1973. وهو كان قدم من العراق، مدينة النجف العلمية والدراسية و «السياحية»، قبل نحو 7 أعوام، في مستهل عقده الرابع وغداة رسالة اجتهاده. واتفق مقدمه مع ايذان عالم معمم آخر، عاملي (نسبة الى جبل عامل) من قرية شلفيت المهجورة والخاوية، هو موسى الصدر، بابتداء «حركته» الأهلية والاجتماعية والسياسية. وأقام الصدر، قريب آل شرف الدين من طريق المصاهرة المتجددة بصور (بعد شحور في الداخل)، حيث استبق انشاءُ المدرسة الجعفرية من أموال المهاجرين وخمسهم نهجاً اجتماعياً ومحلياً بطيئاً ومتعثراً. وكان مدخله، وهو سليل أسرة مراجع ومجتهدين بين إيران والعراق، الى القيادة الأهلية منازعته كامل أحمد الأسعد زعامة الشيعة التاريخية و «القومية» العشائرية. وتقلب القادم الجديد، الطلق المحيا والمربوع القامة ومتكلم العربية بلكنة فارسية، وكاتب مقدمة كتاب هنري كوربان في العرفان الشيعي، بين أهل المناصب والثراء والإدارة والوجاهة، وحقوق «المحرومين» علمه. واستقبل عامة المدن والأرياف في فناء البيت «الخلفي». وأقر لهم، ولجناحهم العشائري على الخصوص، بـ «جمال» السلاح بأيدي الفرسان على ظهور الخيل بين مرجة بعلبك ومراحات قراها الجبلية، وبين شط صور الرملي يومذاك، فيما هو يسعى الى انتزاع مجلس إسلامي شيعي أعلى، وملي، من شارل حلو المنبهر بـ «حداثة» الشيخ، ومن «المكتب الثاني» المتحسس أفول الشهابية والناصرية والملتمس مد الجسور مع طاقم السلطة السوري العسكري والأهلي الجديد. وكان الصدر، باسم التقريب بين المذاهب وتراث آل شرف الدين وثيق الصلة بكبار هذا الطاقم وهم بعد ضباط أمن متواضعو الرتبة.
واختار السيد العيناثي، قياساً على الأضواء والمسارح والجلبة والتظاهرات الصدرية، الانتحاء جانباً. فأنشأ مدرسة تعليم في حي فقير يقصده منذ عقود مهاجرون من بلدات عاملية قريبة من بلدة والده وأهله، وينشط فيه وبين نزلائه حزبيون ونقابيون من المذاهب والملل كلها. وعكف على بناء «ناد» حسيني، أو خلية، تجمع مسجدَ الصلاة والاعتكاف الى مدرسة «العلم» الإسلامي المتجدد والصارم، وقاعةِ المنتدى والخطابة والشعائر الحسينية، والمستوصفِ والمستشفى والخدمات، وحجرة الاستقبال والمؤاساة والتعزية. وحلَّق حوله، من طلبة العلم الإمامي الشبان ومن طلاب «إسلاميين» انصرفوا عن التيارات القومية و «الماركسية» الى «إسلام» أصيل ومعاصر وفاعل (حركي أو متحرك)، حلقات انقطع أفرادها إلى شيخهم ومدرسهم ومقدمهم وعميدهم وملاذهم وقطبهم انقطاع المريدين الى صاحب طريقة. فلما التمستُ منه، أنا الوافد على ديرته من دائرة يسارية غريبة، استقبال شبان تحت درج النادي الحسيني يتولون مبادلة كتب التلامذة المستعملة بعضها لقاء بعض وتوفير شراء بعضها على المحتاجين (وسمينا العملية «تبادل الكتب»)، نظر إليّ بعينين رأيت بعض الفضول فيهما، ولم آنسْ مودة أو إقبالاً، وقال من غير تردد أو ارتجال: ما نقوم به في أسرة التآخي يقوم به إسلاميون ولا نشارك أحداً عمله. ونصح، رداً على معاودة السؤال، بالتوجه الى جامع الإمام علي بن أبي طالب، على بعد أمتار من مبنى الحسينية، وجزم باستقبال الجامع، وإمامه من جهاز المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، البادرة.
وفي أعقاب عشر سنين تقريباً على الواقعة الصغيرة، قرأت في الصحف خبراً عن دعوة مسجد الإمام الرضا ببير العبد، وهو المسجد الذي أمه السيد منذ هجرته القسرية من النبعة وأسرة التآخي في 1976، التلامذة وأهلهم الى «تبادل الكتب» في جناح من أجنحة مبنى المسجد. فبدا أن رأس «الأسرة» العتيدة لم ينسَ الاقتراح المتواضع الذي لم يشأ مشاطرة المبادرين الى الاضطلاع به من طريق المبنى والمرفق. وحين كلمته بالتلفون، متردداً وعلى مضض، في ربيع 1985، ورجوته التوقيع على نداء الى خاطفي ميشال سورا ومحتجزيه يدعوهم الى تخليته وينوه بصداقته مع من أقام بينهم وبـ «براءته»، أجابني صوت يغالب الغضب. وسأل لماذا أكلمه هو في المسألة، وما شأنه بالخطف والخاطفين. ولما قلت ان الطلب اليه، والى الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسن الأمين، توقيع النداء، وتزكيته، قرينة على «البراءة» من الخطف والخاطفين، لان الصوتُ بعض الشيء، وقال انه لولا قرابة بيننا لما استقبل الاتصال وأجاب الطلب. وتذكرتُ ما لم يذكّرني به قبل 12 عاماً، في حسينية أسرة التآخي، وما نسيته وكنت أعرفه معرفة غائمة، أي رابطة قرابة أغفلها المضيف المقطب. فوالد السيد محمد حسين، السيد عبدالرؤوف، تزوج بنت الحاج حسن بزي البنتجبيلي و «سلطان بر(ها)» ووالد علي بزي وزوج بنت الشيخ موسى شرارة، وهذه أخت جدتي لأبي. فكان علي بزي، وكنا نسميه «ابن خالتي»، خال السيد محمد حسين فضل الله، وقريب أقرباء كثر من هذا الباب.
الضعف والضعفاء
والحق أن منشئ الحوزة العلمية المحلية المقطب والصارم (حين يكلم «الغرباء»)، والمنتحي ناحية قصية ومتواضعة من منازل شيعة لبنان، والمعتزل أضواء المسرح اللبناني وتظاهراته، إنما كان يصدر في حركاته وسكناته عن فكرة أو «فلسفة»، على قول زميل دراسته ومذاكر دروس السطوح في النجف، محمد باقر الصدر، بسطها قولاً وعملاً طوال الأربعين عاماً اللاحقة الى حين وفاته القريبة. فهو كان على يقين من أن «الإسلام هو الحل»، على قول الإخوانيين، وأن «فكر الإسلام» هو ند العالم السياسي والاجتماعي والثقافي المعاصر، وكفؤه وجواب مشكلاته كلها.
ولا يعدو يقين المجتهد الشاب، ثم العلامة فالمرجع آية الله العظمى، ما ذهب اليه زميله (الشاب) في تصدير بيانه الأول «فلسفتنا» من أن الإسلام (القرآني والإمامي معاً في حسبانه) «رفع راية انسانية، وأقام دولة فكرية» على «القاعدة المعنوية والخلقية فأخذت بزمام العالم (في) ربع قرن، واستهدفت الى توحيد البشر كله، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم أسلوب الحياة ونظامها». والإسلام، على هذا، «وعي سياسي عميق، مرده الى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق (...). وكل وعي سياسي آخر فهو إما أن يكون وعياً سياسياً سطحياً... أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة». وبإزاء «النظام الرأسمالي الديموقراطي»، المفتقر الى «عقيدة في الحياة»، والاشتراكية والشيوعية الماديتين والجدليتين، يرسي المجتهد الشاب، «وعينا الاجتماعي السياسي لقضية العالم كله» على «المفهوم الإلهي للعالم». فيتاح «للأمة أن تعلن كلمة (الله) في المعترك، وتنادي بها، وتدعو العالم اليها». وما عدا هذا فهو من «(مدد) الاستعمار... في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأمة، وسر أصالتها المتمثل في الإسلام».
ودرَّس منشئ الحوزة ببرج حمود كتابي زميله المتقدم (وهو يكبره سناً بنحو 7 أعوام)، وكتب حواشيه وشروحه السياسية والفكرية عليهما. وأخرج الحواشي والشروح في كتابين هما نواة مقالاته وخطبه اللاحقة، تناول فيهما الحوار والقوة في القرآن الكريم. وعلى رغم القرابة المعلنة والصريحة التي جمعت الرجلين و «العالمين»، اختط الشيخ العيناثي العاملي فاللبناني نهجاً مختلفاً، فجمع الى يقينه الفكري والإيماني، وهو مصدر صلابة وربما قسوة لم تغادراه، يقيناً حسياً بمعنى الضعف والضعفاء، وبأخوّتهم ورابطتهم. ولعل رجل المبرات والمدارس والمستشفيات والمستوصفات ومكتب «الخدمات» المادية والفقهية صدر عن إشفاق عميق على أهل الضعف عموماً، ومنهم المحتاجون واليتامى والأرامل والمطلقات والنساء عموماً. وفي أماسي العشر الأوائل من محرم، كل سنة، كانت حسينية أسرة التآخي تنقلب الى ميدان يتبارى فيه المتبرعون لخطط السيد الخيرية في خدمة هؤلاء.
وهو أراد تتويجها، قبل 1975 - 1976، ببناء مستشفى الى جنب مبنى الحسينية، في وسعه خدمة 80 سريراً. فكان مذياع المبنى يذيع، في ختام مجلس العزاء، على مسامع الأهالي المقيمين بين مقطع سكة سن الفيل وبين الغيلان كمب سيس أسماء المحسنين من ميسوري شيعة برج حمود الجدد، وسطاء العقارات وأصحاب «معامل» الأحذية والأثاث وتجار الخردة واللحوم. ولم تقل المبالغ التي تبرع بها هؤلاء - مستحيين من السيد ومعتذرين، وهم في ملابسهم الخلقة الداكنة والمتهالكة، عن تقصيرهم - عن تلك التي كان يتبرع بها أثرياء المهاجر الأفريقية بين يدي موسى الصدر في الحازمية. وتعمد ناظر خلية أسرة التآخي، وهو يتوسط الحاج من التجار وأصحاب المصالح في عباءته البنية الفاتحة، إذاعة الأسماء من غير ترتيب المبالغ. فيعلو المذياع باسم حاج تبرع بعشر ليرات لبنانية ثم باسم آخر تبرع بـ 15 ألفاً أو 20 ألفاً (وكانت هذه تشتري شقة سكن متوسطة في حي سكن بيروتي متوسط).
فالرجل الذي بدا، منذ تركه النبعة وانخراطه في دائرة الملأ والأشهاد، نهباً لهوى فكري وخطابي سجالي، لم يفتأ أخاً للمستضعفين حقيقة وفعلاً، وعلى معنى لا يستوفيه المعنى السياسي الاجتماعي الخميني. فربطته بهم (وبهن في هذا المعرض) وبأحوالهم وآلامهم ومهاناتهم، وهذه شديدة الوطأة، آصرة عائلية ورحمية لم تكن بعيدة من الآصرة «الحسينية»، الأسرية والدينية الاعتقادية معاً وجميعاً. وأراد أن تعم هذه الرابطة، وهي شخصية ومباشرة الى صفتها «الشرعية»، صلات من يأتمون به بعضهم ببعض، وأن يرعى بعضهم بعضاً، ويكون له سنداً. فهو وارث تقليد علمائي ومحلي عريق ومتقطع قضى بتصدي أهل العلم للرؤساء المتحدرين من أهل الحرب ومشايخ القبائل العربية، والمترسبين من قبائل الرعي بين ضفة الأردن الشرقية وبين سهول الجزيرتين العراقية والشامية. وهؤلاء غلاظ الطباع، قلوبهم فظة. وإليهم نسب أهلُ بلاد بشارة فظاظة بعض رؤسائهم المتأخرين.
وتتضافر التقاليد التاريخية هذه مع تأويل خلاصي وسياسي للضعف والاستضعاف، على نقيض الاستكبار. فالضعفاء هم ركن التاريخ وحوادثه الثابت. ومن هذا شأنه لا يهزم. وإذا خسر معركة، قام من خسارته بعد ألف وأربعمئة سنة، وانتصر. وكان هذا (بعض) تأويل «السيد» لثورة روح الله خميني بإيران. ولعله (بعض) تأويله لحركة الشيعة في لبنان، ولما سماه «المقاومة»، وأقام على التسمية والتأويل والنصرة الى وفاته.
ورد ضعفاء ملته رعايته وحدبه ومؤاساته، ويقينه، ميلاً وجدانياً، وتعلقاً قوياً. فاستمعوا اليه، والى خطبه ودروسه وخطابتها المجردة والغريبة على أسماعهم. وبايعوا خططه، وأعلوا مكانته ومقامه، وحملوه على الولاية، واستفتوه في شؤونهم وشجونهم. وهم أسرعوا الى هذا ففي 1968، توافد أعيان الشيعة الى إحياء عاشوراء في المدرسة العاملية ببيروت. ومر رئيس المجلس النيابي الأسبق كامل الأسعد في الحفل. فوقف كثيرون للرجل، ورددوا: «اللهم صل على محمد وآل محمد»، تكريماً وإجلالاً. ولم يحظ بالوقوف، واستنزال الصلاة، غير سليل البيت العائلي و «العلي الكبير»، إلا العالم الشاب والقادم من النجف منذ سنتين. وتوفد عشرات الآلاف في أيام الجمع الى مسجد الحسنين قرينة على دوام الخطوة.
وبلغ عدد مقلديه ومستفتيه في شؤون دينهم ودنياهم نحو مليون مسلم، على ما قدَّر هو في بعض أحاديثه الأخيرة. وهذا عدد غفير في «كرسي» مرجعية ضيق مثل لبنان، ولا يحظى بتقاليد ثابتة وسابقة. فعلى سبيل المقارنة، يقلد المرجع الأول بالعراق نحو 25 مليون مسلم. ومقلدو المراجع ليسوا كلهم ولا حتى كثرتهم في بلدان اقامة المراجع. ولبنان، أو الإماميون اللبنانيون هم بعض مستفتي محمد حسين فضل الله ومؤدي الخمس الى تدبيره (من مبرات ومدارس...)، وهما ركنا «التقليد». ويقيم معظم هؤلاء في بلدان عربية الشيعةُ الإماميون قلة فيها، عددية أو سياسية، أو يقيمون في مهاجر اللبنانيين التاريخية والمحدثة، ببلدان الخليج وأفريقيا أولاً، ثم في شمال القارة الأميركية وجنوبها وباستراليا وأوروبا.
ولا ريب في أن ملابسة «المفتي» فضل الله الاجتماع اللبناني، على النحو الذي أراد ملابسته واختباره في «بلاد» مثل برج حمود، بأرمنها (على طوائفهم) ومسيحييها النازلين اليها من الجبال البعيدة والقرى والبلدات القريبة، وأكرادها، وفلسطينييها الفائضين عن المخيم القريب، وطبقات شيعتها القادمين من بلاد بعلبك - الهرمل وبلاد جبيل والجنوب، والمتوطنين والمتملكين تباعاً وجيلاً بعد جيل، ثم المهجَّرين الى الشياح والغبيري وبرج البراجنة وحي السلم - لا ريب في أن الملابسة والاختبار هذين أتاحا للمرجع مادة تدبر وفقه عريضة. فنأى بتعليله فتاواه، وبلغة التعليل، من «مصطلح» الاختصاص المهني والتقني. وحين أفتى بجواز أكل الفلسطينيين المحاصرين في مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة الميتة (المواشي النافقة) وإباحتها، في 1985، اقتصر على أصل الضرورة واختصر. فالعلل الفقهية والشرعية مضمرة في التعليل التجريبي السائر والمشهور.
«الحوار» الباتر
والأرجح أنه كان يرى ما رآه روح الله خميني حين أوكل الى مجلس صيانة الدستور بإيران ضرباً من حال طوارئ تجيز حماية الثورة وقيادتها وتقدم موجبات الحماية على العمل بالمعايير والموازين المتناقلة والملزمة. فأدخل ما سماه «حواراً»، ودعا الى نصبه نهجاً وميزاناً، في باب يختلط فيه العقلي بالنقلي، والعمومي المنطقي والتجريبي المعلن بالتراثي والثقافي المضمر. وتنقل بين الوجوه المتفرقة والمختلفة، وحملها على الاتصال. فخلَّف في كثيرين من سامعيه اعتقاداً راسخاً بجباية ريع الوجوه كلها من غير تدافع ولا افتئات. وحمى «المنهج» هذا بإسناده الى خدمة الإسلام «الثوري» و «المفهوم الإلهي»، والى خدمة المستضعفين وإمامتهم ووراثتهم. فأثار نخوة مخاطبيه واعتزازهم واعتدادهم بـ «قضيتهم»، ودعاهم الى الانغماس في مجتمعاتهم الجديدة والغريبة والالتصاق بسندهم معاً، مهوناً المشكلات التي قد تعترض الجمع المفترض من طريق حمله على ضعف النفوس، ووهن الإرادات، والتسليم للغرب الاستعماري، على قول محمد البهي «الإخواني»، واستعلائه ومزاعمه، بواسطة «قابلية للاستعمار» (مالك بن نبي) كان غالباً ما يندد بها، وينكرها ويعلل بها «أمراض» المجتمعات الإسلامية. وتوج هذا البنيان، إذا جازت اللفظة، بتشديد النكير على الضعف، على صوره وأشكاله، وتعظيم السعي في القوة. وطمأن المريدين والأنصار الى ضرورة انتماء «الحوار» الى إيجاب الحق وإثباته، والى اقرار المتحاورين به، والنزول على حكمه الباتر.
وهذا زاد ثمين في مجتمعات أهلها مترجحون وقلقون. وعلى شاكلة أرخميدوس، التمس السيد فضل الله نقطة ثابتة واحدة أرسى عليها رافعته السياسية والعملية الكونية، ووجدها في «المفهوم الإلهي للعالم»، وحرب «الاستعمار» عليه، وعلى أمته، وحربه على الاستعمار، الأميركي، وأقنعته وتلبيسه. وحين اجتاح الجيش الإسرائيلي شطراً غالباً من لبنان، في 1982، وحلت القوات المتعددة الجنسيات (الأميركية والفرنسية والإيطالية) ببيروت وجوارها، غداة مجزرة صبرا وشاتيلا الفظيعة، تصور «الاستعمار» في صورة إبليسية وشريرة «مطلقة»، على قول موسى الصدر، و «سرطانية»، على فتوى خميني وخامنئي. فلم يبق شك في قطبية «الحرب» العامة. ودعا إمام مسجد الرضا، في بعض خطبه الأولى المشهورة والمتداولة التي ابتدأت ظهوره السياسي وتقدمه على المجلس الإسلامي الشيعي والجهاز الصدري، دعا الى ألا تفلت اسرائيل من الفخ الذي أوقعت نفسها فيه حين اجتاحت لبنان، وارتكبت الجريمة الإنسانية، واستحقت العقاب الأليم على فعلتها، والعذاب بأيدي «المقاومين».
ولم يشك نزيل بير العبد في تضافر استعادة إيران الخمينية معظم أراضيها المحتلة من قوات صدام حسين، ومبادرة قواتها الى مهاجمة الأراضي العراقية، وإنشائها ذراعاً عراقية هي المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وخطو الجماعة الشيعية المسلحة خطواتها الأولى في لبنان تسعفها «هدايا» إيران (على ما قالت الصحافة الخمينية المحلية في الشاب الذي هاجم مقر القوات الأميركية ببئر حسن) وتقديماتها - لم يشك في تضافر هذه على انفجار حرب متصلة أو معركة «إسلامية» مظفرة على الاستكبار «الأمريكي». ومدح «السيد» الحرب المستعرة، القائمة والآتية، مديحاً مستفيضاً. وكان تحلق حوله وافدون من «الكتيبة الطلابية» الفتحاوية، ومن اتخذوا «أبو جهاد» (خليل الوزير)، قائد «فتح» العسكري والإخواني السابق والمقيم، قدوة ومثالاً، وفي هؤلاء على ما شاع القول عماد مغنية. وكانت بعض هجمات حزب الدعوة على مرافق عراقية في لبنان علامات في الطريق، على قول ذائع. فسار بعض هؤلاء في تظاهرة، قليلة، حملت لافتتها المتصدرة شعار «لا حكم إلا لله»، مرددة أصداء «الحاكمية» على تأويل سيد قطب الذي خصه «السيد»، في 1986، بتأبين فكري بليغ.
ولكن المبادرات الميدانية و «الجمهورية» لم تكن عبارة مناسبة عن دور الرجل، ولا عن مكانته المتعاظمة في رعاية إيرانية ظاهرة تكلفت، فيما تكلفت، إبعاد خالف موسى الصدر على رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي عن «الساحة» المحلية وإضعافه. فالعبارة المناسبة هي المواقف المدوية. فذهب في 1982 - 1983، إبان شن الحرس الثوري «موجاته» وهجماته الدامية على طريق البصرة - بغداد، الى أن «تحرير البصرة» مفتاح مشاكل الشرق الأوسط وحلها كلها. وناصرَ، من غير تكلف تظاهر احتفالي، الجماعات الخمينية، قبل انصهارها في حزب واحد، على جماعات «أمل»، قبل انفجار الخلاف الأهلي الفرعي بين «الحزبين»، ودبيبه الدامي منذ اندلاع الحرب الفلسطينية - الأهلية في 1985 الى «ختامه» في 1990، وبعد ختامه. وحين استعرت الحرب الفرعية هذه في الجنوب، وأرادت الجماعة الخمينية المسلحة إضعاف «أمل» واستمام انهاكها العسكري والسياسي، وكثرت اغتيالات «الشيوعيين» و «اليساريين» في بلاد ولاية الحركة الصدرية، لم تعز الجماعة كلمات التشجيع. وبعضها، غداة مقتل شيخ شاب من آل كريِّم على حاجز قريب من صور، دعا من غير تورية الى إقامة الحد الصارم والقاطع. وكان هذا من فصول الحروب المحلية والفرعية البارزة والأخيرة.
وسبقت دخول القوات السورية بيروت في شتاء 1987، إلى الحرب الإسرائيلية - الشيعية (عملياً) المقيمة، والاشتباكات الفلسطينية - الأملية، حروب فرعية لا تحصى انفجرت في انحاء لبنان كله. واستولى «أمير» حركة التوحيد على طرابلس، الى حين انهياره تحت القصف المدفعي السوري. وكانت الحرب العراقية - الإيرانية بلغت ذروة أرهصت بقرب نهايتها، وتحتاج إيران في الإعداد للنهاية الوشيكة والباهظة الى الجبهات والميادين التي أسهمت في فتحها كلها. فلم يتردد من سطع في الأثناء، غداة محاولة اغتياله في مسجده ببير العبد (1985)، علماً على «المقاومة الإسلامية» العالمية، في تزكية كل عضد لإيران. وحين تحفظ بعض الحزب اللهيين عن طريقة عودة القوات السورية الى بيروت من بوابة ثكنة فتح الله وقتلاها، لام الشيخ السياسي المتحفظين، وسألهم عن تبصرهم بنتائج تصدع الحلف الإيراني - السوري، و «أخرستهم» حجته. وهوَّن شأن الخسارة الإيرانية في الحرب (1988). ومدح الشيخ سعيد شعبان على استظلاله عباءة طهران. واستقبل الهزيمة السوفياتية في افغانستان بالترحاب. ورأى في الهزيمة بشائر «إسلام ثوري» عالمي عوَّل على انتشاره في السودان والجزائر وجزيرة العرب والمهاجر الغربية. وشكك فيما نسب الى الجماعات «الإسلامية» الوليدة، وحمل ما لم تتبرأ هي منه على الاستخبارات و «لعبتها» المعقدة والخفية. وعاد عن اسـتبـشاره خـيراً في حـركـات وتـيارات غرقت في أنهار من الدماء. فدان هجمات 11 ايلول (سبتمبر). وأفتى، في صيف 2002، بمقاومة الحملة الأميركية على العراق. فشكر صدام حسين المرجع على فتواه. وغداة حزيران (يونيو) 2009 الإيراني، رأى ان المعارضة «الخضراء» تهددت الجمهورية الإسلامية بـ «الفوضى» المدمرة، فجاز الحؤول بينها وبين تقويض الجمهورية بالقوة. فحماية ولاية أهل الضعف لا تطرح آلات أهل القوة والسلطان وحمايتهم سلطانهم. وهم أولى بهذه الآلات من غيرهم. وهذا ما بدا «السيد» قاطعاً فيه وغير متردد ولا متحفظ.
في جمعة من أيام الجمع، في 1986 أو 1987، كان يستمع سائق سيارة النقل العمومية الى خطبة يوم الصلاة، ويُسمعها ركاب السيارة. وكان الخطيب تعرَّفه نبرته المترجحة بين الحنجرة وبين الصدر ولهجة عراقية صريحة، قبل أن تُعرِّفه خطابة متأنية تبدي في موضوعها أو موضوعاتها وتعيد شرحاً وتفصيلاً وصياغات فصيحة وعامية ونقلية ومنطقية، هو محمد حسين فضل الله. ودأبت سيارات الأجرة الصغيرة على بث خطبة «السيد» من مسجد الرضا ببير العبد. ولعله أول من استن هذا النهج الدعوي قبل أن يعم منابرَ دعوة الحزب الخميني وتحريضه، وتلابس الخطاب، على أصنافها، أوقات الحياة اليومية كلها.
وتناول الخطيب، يومها، «نصرة أهل البيت» والثمن الباهظ الذي يرتبه تكلفها، وتكلف نصرة «الحق» في المواقف كلها، على «المؤمن». وبعد أن روى بعض خبر مسلم بن عقيل في الكوفة، ورسائل بيعة أهل الكوفة، ونقضهم بيعتهم وتخلفهم، ومر بالتوابين وحركتهم غداة كربلاء، خرج الخطيب من روايته الكربلائية التقليدية، وخرج الصوت من تعليقه في رهبة الحادثة، الى مخاطبة المصلين الساكتين والمكلومين بكلام قريب من العامية. فقال لهم (على وجه التقريب): وأنتم؟ ماذا تظنون كنتم فاعلين في موقف مثل هذا؟ ابن بنت نبيكم يخرج على الظالم يطلب الحق للمظلومين، وإصلاح دين المسلمين، فهل كنتم تنصرونه؟ مهما كلفكم الأمر، وكلف أهلكم وعيالكم؟ هل كنتم تتركون عملكم ووظائفكم وأرضكم وتقولون هذا حق علينا نؤديه؟ وبعد استرسال في احصاء ووصف حسيَّيْن ومعاصرَيْن لما قد يترتب فعله على نصير الحق والعدل الممتحن، انعطف الخطيب بكلامه الى قول قاطع: أنتم واهمون إذا كنتم تحسبون أنكم ممن لا يخافون نصرة الحسين، هل كان بقي منكم معه 20 في المئة؟ هذا ادعاء كبير، 15 في المئة؟ أنا أقول أن 10 في المئة كثيرة عليكم... وتناول تفصيلاً، وفي عامية على عتبة الفصحى لفظاً، ما قد يقوله «المتخاذل» في نفسه، اليوم، إذا دعي الى «الجهاد». فرسم لوحات سريعة للمتخاذلين المفترضين، وحاكى أقوالهم ساخراً ومؤنباً مقرعاً. فسمع المستمعُ من الإذاعة، وهذه حالي، انفراج وجوه المصلين وأنفاسهم في صدورهم، وبكاء بعضهم بكاء خافتاً هو رجع إقرار صامت بصدق حكم الخطيب لتوه في تقدير شطر «المتخاذلين».
المنتحي
ولم تكن الخطبة من الإذاعة، قبل قراءة ملخصها اليوم التالي في الصحف المحلية على جاري عادة مكتب الخطيب في توزيع خطبته مصورة بالفيديو على الصحف، لم تكن «اللقاء» الأول بـ «السيد الشيخ»، على قول صحافيين غربيين وبعض أهل السنّة الذي أشكل عليهم اللقب الأول. فسبق لقاءٌ مباشر به في حسينية النبعة ببرج حمود في خريف 1973. وهو كان قدم من العراق، مدينة النجف العلمية والدراسية و «السياحية»، قبل نحو 7 أعوام، في مستهل عقده الرابع وغداة رسالة اجتهاده. واتفق مقدمه مع ايذان عالم معمم آخر، عاملي (نسبة الى جبل عامل) من قرية شلفيت المهجورة والخاوية، هو موسى الصدر، بابتداء «حركته» الأهلية والاجتماعية والسياسية. وأقام الصدر، قريب آل شرف الدين من طريق المصاهرة المتجددة بصور (بعد شحور في الداخل)، حيث استبق انشاءُ المدرسة الجعفرية من أموال المهاجرين وخمسهم نهجاً اجتماعياً ومحلياً بطيئاً ومتعثراً. وكان مدخله، وهو سليل أسرة مراجع ومجتهدين بين إيران والعراق، الى القيادة الأهلية منازعته كامل أحمد الأسعد زعامة الشيعة التاريخية و «القومية» العشائرية. وتقلب القادم الجديد، الطلق المحيا والمربوع القامة ومتكلم العربية بلكنة فارسية، وكاتب مقدمة كتاب هنري كوربان في العرفان الشيعي، بين أهل المناصب والثراء والإدارة والوجاهة، وحقوق «المحرومين» علمه. واستقبل عامة المدن والأرياف في فناء البيت «الخلفي». وأقر لهم، ولجناحهم العشائري على الخصوص، بـ «جمال» السلاح بأيدي الفرسان على ظهور الخيل بين مرجة بعلبك ومراحات قراها الجبلية، وبين شط صور الرملي يومذاك، فيما هو يسعى الى انتزاع مجلس إسلامي شيعي أعلى، وملي، من شارل حلو المنبهر بـ «حداثة» الشيخ، ومن «المكتب الثاني» المتحسس أفول الشهابية والناصرية والملتمس مد الجسور مع طاقم السلطة السوري العسكري والأهلي الجديد. وكان الصدر، باسم التقريب بين المذاهب وتراث آل شرف الدين وثيق الصلة بكبار هذا الطاقم وهم بعد ضباط أمن متواضعو الرتبة.
واختار السيد العيناثي، قياساً على الأضواء والمسارح والجلبة والتظاهرات الصدرية، الانتحاء جانباً. فأنشأ مدرسة تعليم في حي فقير يقصده منذ عقود مهاجرون من بلدات عاملية قريبة من بلدة والده وأهله، وينشط فيه وبين نزلائه حزبيون ونقابيون من المذاهب والملل كلها. وعكف على بناء «ناد» حسيني، أو خلية، تجمع مسجدَ الصلاة والاعتكاف الى مدرسة «العلم» الإسلامي المتجدد والصارم، وقاعةِ المنتدى والخطابة والشعائر الحسينية، والمستوصفِ والمستشفى والخدمات، وحجرة الاستقبال والمؤاساة والتعزية. وحلَّق حوله، من طلبة العلم الإمامي الشبان ومن طلاب «إسلاميين» انصرفوا عن التيارات القومية و «الماركسية» الى «إسلام» أصيل ومعاصر وفاعل (حركي أو متحرك)، حلقات انقطع أفرادها إلى شيخهم ومدرسهم ومقدمهم وعميدهم وملاذهم وقطبهم انقطاع المريدين الى صاحب طريقة. فلما التمستُ منه، أنا الوافد على ديرته من دائرة يسارية غريبة، استقبال شبان تحت درج النادي الحسيني يتولون مبادلة كتب التلامذة المستعملة بعضها لقاء بعض وتوفير شراء بعضها على المحتاجين (وسمينا العملية «تبادل الكتب»)، نظر إليّ بعينين رأيت بعض الفضول فيهما، ولم آنسْ مودة أو إقبالاً، وقال من غير تردد أو ارتجال: ما نقوم به في أسرة التآخي يقوم به إسلاميون ولا نشارك أحداً عمله. ونصح، رداً على معاودة السؤال، بالتوجه الى جامع الإمام علي بن أبي طالب، على بعد أمتار من مبنى الحسينية، وجزم باستقبال الجامع، وإمامه من جهاز المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، البادرة.
وفي أعقاب عشر سنين تقريباً على الواقعة الصغيرة، قرأت في الصحف خبراً عن دعوة مسجد الإمام الرضا ببير العبد، وهو المسجد الذي أمه السيد منذ هجرته القسرية من النبعة وأسرة التآخي في 1976، التلامذة وأهلهم الى «تبادل الكتب» في جناح من أجنحة مبنى المسجد. فبدا أن رأس «الأسرة» العتيدة لم ينسَ الاقتراح المتواضع الذي لم يشأ مشاطرة المبادرين الى الاضطلاع به من طريق المبنى والمرفق. وحين كلمته بالتلفون، متردداً وعلى مضض، في ربيع 1985، ورجوته التوقيع على نداء الى خاطفي ميشال سورا ومحتجزيه يدعوهم الى تخليته وينوه بصداقته مع من أقام بينهم وبـ «براءته»، أجابني صوت يغالب الغضب. وسأل لماذا أكلمه هو في المسألة، وما شأنه بالخطف والخاطفين. ولما قلت ان الطلب اليه، والى الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسن الأمين، توقيع النداء، وتزكيته، قرينة على «البراءة» من الخطف والخاطفين، لان الصوتُ بعض الشيء، وقال انه لولا قرابة بيننا لما استقبل الاتصال وأجاب الطلب. وتذكرتُ ما لم يذكّرني به قبل 12 عاماً، في حسينية أسرة التآخي، وما نسيته وكنت أعرفه معرفة غائمة، أي رابطة قرابة أغفلها المضيف المقطب. فوالد السيد محمد حسين، السيد عبدالرؤوف، تزوج بنت الحاج حسن بزي البنتجبيلي و «سلطان بر(ها)» ووالد علي بزي وزوج بنت الشيخ موسى شرارة، وهذه أخت جدتي لأبي. فكان علي بزي، وكنا نسميه «ابن خالتي»، خال السيد محمد حسين فضل الله، وقريب أقرباء كثر من هذا الباب.
الضعف والضعفاء
والحق أن منشئ الحوزة العلمية المحلية المقطب والصارم (حين يكلم «الغرباء»)، والمنتحي ناحية قصية ومتواضعة من منازل شيعة لبنان، والمعتزل أضواء المسرح اللبناني وتظاهراته، إنما كان يصدر في حركاته وسكناته عن فكرة أو «فلسفة»، على قول زميل دراسته ومذاكر دروس السطوح في النجف، محمد باقر الصدر، بسطها قولاً وعملاً طوال الأربعين عاماً اللاحقة الى حين وفاته القريبة. فهو كان على يقين من أن «الإسلام هو الحل»، على قول الإخوانيين، وأن «فكر الإسلام» هو ند العالم السياسي والاجتماعي والثقافي المعاصر، وكفؤه وجواب مشكلاته كلها.
ولا يعدو يقين المجتهد الشاب، ثم العلامة فالمرجع آية الله العظمى، ما ذهب اليه زميله (الشاب) في تصدير بيانه الأول «فلسفتنا» من أن الإسلام (القرآني والإمامي معاً في حسبانه) «رفع راية انسانية، وأقام دولة فكرية» على «القاعدة المعنوية والخلقية فأخذت بزمام العالم (في) ربع قرن، واستهدفت الى توحيد البشر كله، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم أسلوب الحياة ونظامها». والإسلام، على هذا، «وعي سياسي عميق، مرده الى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق (...). وكل وعي سياسي آخر فهو إما أن يكون وعياً سياسياً سطحياً... أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة». وبإزاء «النظام الرأسمالي الديموقراطي»، المفتقر الى «عقيدة في الحياة»، والاشتراكية والشيوعية الماديتين والجدليتين، يرسي المجتهد الشاب، «وعينا الاجتماعي السياسي لقضية العالم كله» على «المفهوم الإلهي للعالم». فيتاح «للأمة أن تعلن كلمة (الله) في المعترك، وتنادي بها، وتدعو العالم اليها». وما عدا هذا فهو من «(مدد) الاستعمار... في معركته التي خاضها للإجهاز على كيان الأمة، وسر أصالتها المتمثل في الإسلام».
ودرَّس منشئ الحوزة ببرج حمود كتابي زميله المتقدم (وهو يكبره سناً بنحو 7 أعوام)، وكتب حواشيه وشروحه السياسية والفكرية عليهما. وأخرج الحواشي والشروح في كتابين هما نواة مقالاته وخطبه اللاحقة، تناول فيهما الحوار والقوة في القرآن الكريم. وعلى رغم القرابة المعلنة والصريحة التي جمعت الرجلين و «العالمين»، اختط الشيخ العيناثي العاملي فاللبناني نهجاً مختلفاً، فجمع الى يقينه الفكري والإيماني، وهو مصدر صلابة وربما قسوة لم تغادراه، يقيناً حسياً بمعنى الضعف والضعفاء، وبأخوّتهم ورابطتهم. ولعل رجل المبرات والمدارس والمستشفيات والمستوصفات ومكتب «الخدمات» المادية والفقهية صدر عن إشفاق عميق على أهل الضعف عموماً، ومنهم المحتاجون واليتامى والأرامل والمطلقات والنساء عموماً. وفي أماسي العشر الأوائل من محرم، كل سنة، كانت حسينية أسرة التآخي تنقلب الى ميدان يتبارى فيه المتبرعون لخطط السيد الخيرية في خدمة هؤلاء.
وهو أراد تتويجها، قبل 1975 - 1976، ببناء مستشفى الى جنب مبنى الحسينية، في وسعه خدمة 80 سريراً. فكان مذياع المبنى يذيع، في ختام مجلس العزاء، على مسامع الأهالي المقيمين بين مقطع سكة سن الفيل وبين الغيلان كمب سيس أسماء المحسنين من ميسوري شيعة برج حمود الجدد، وسطاء العقارات وأصحاب «معامل» الأحذية والأثاث وتجار الخردة واللحوم. ولم تقل المبالغ التي تبرع بها هؤلاء - مستحيين من السيد ومعتذرين، وهم في ملابسهم الخلقة الداكنة والمتهالكة، عن تقصيرهم - عن تلك التي كان يتبرع بها أثرياء المهاجر الأفريقية بين يدي موسى الصدر في الحازمية. وتعمد ناظر خلية أسرة التآخي، وهو يتوسط الحاج من التجار وأصحاب المصالح في عباءته البنية الفاتحة، إذاعة الأسماء من غير ترتيب المبالغ. فيعلو المذياع باسم حاج تبرع بعشر ليرات لبنانية ثم باسم آخر تبرع بـ 15 ألفاً أو 20 ألفاً (وكانت هذه تشتري شقة سكن متوسطة في حي سكن بيروتي متوسط).
فالرجل الذي بدا، منذ تركه النبعة وانخراطه في دائرة الملأ والأشهاد، نهباً لهوى فكري وخطابي سجالي، لم يفتأ أخاً للمستضعفين حقيقة وفعلاً، وعلى معنى لا يستوفيه المعنى السياسي الاجتماعي الخميني. فربطته بهم (وبهن في هذا المعرض) وبأحوالهم وآلامهم ومهاناتهم، وهذه شديدة الوطأة، آصرة عائلية ورحمية لم تكن بعيدة من الآصرة «الحسينية»، الأسرية والدينية الاعتقادية معاً وجميعاً. وأراد أن تعم هذه الرابطة، وهي شخصية ومباشرة الى صفتها «الشرعية»، صلات من يأتمون به بعضهم ببعض، وأن يرعى بعضهم بعضاً، ويكون له سنداً. فهو وارث تقليد علمائي ومحلي عريق ومتقطع قضى بتصدي أهل العلم للرؤساء المتحدرين من أهل الحرب ومشايخ القبائل العربية، والمترسبين من قبائل الرعي بين ضفة الأردن الشرقية وبين سهول الجزيرتين العراقية والشامية. وهؤلاء غلاظ الطباع، قلوبهم فظة. وإليهم نسب أهلُ بلاد بشارة فظاظة بعض رؤسائهم المتأخرين.
وتتضافر التقاليد التاريخية هذه مع تأويل خلاصي وسياسي للضعف والاستضعاف، على نقيض الاستكبار. فالضعفاء هم ركن التاريخ وحوادثه الثابت. ومن هذا شأنه لا يهزم. وإذا خسر معركة، قام من خسارته بعد ألف وأربعمئة سنة، وانتصر. وكان هذا (بعض) تأويل «السيد» لثورة روح الله خميني بإيران. ولعله (بعض) تأويله لحركة الشيعة في لبنان، ولما سماه «المقاومة»، وأقام على التسمية والتأويل والنصرة الى وفاته.
ورد ضعفاء ملته رعايته وحدبه ومؤاساته، ويقينه، ميلاً وجدانياً، وتعلقاً قوياً. فاستمعوا اليه، والى خطبه ودروسه وخطابتها المجردة والغريبة على أسماعهم. وبايعوا خططه، وأعلوا مكانته ومقامه، وحملوه على الولاية، واستفتوه في شؤونهم وشجونهم. وهم أسرعوا الى هذا ففي 1968، توافد أعيان الشيعة الى إحياء عاشوراء في المدرسة العاملية ببيروت. ومر رئيس المجلس النيابي الأسبق كامل الأسعد في الحفل. فوقف كثيرون للرجل، ورددوا: «اللهم صل على محمد وآل محمد»، تكريماً وإجلالاً. ولم يحظ بالوقوف، واستنزال الصلاة، غير سليل البيت العائلي و «العلي الكبير»، إلا العالم الشاب والقادم من النجف منذ سنتين. وتوفد عشرات الآلاف في أيام الجمع الى مسجد الحسنين قرينة على دوام الخطوة.
وبلغ عدد مقلديه ومستفتيه في شؤون دينهم ودنياهم نحو مليون مسلم، على ما قدَّر هو في بعض أحاديثه الأخيرة. وهذا عدد غفير في «كرسي» مرجعية ضيق مثل لبنان، ولا يحظى بتقاليد ثابتة وسابقة. فعلى سبيل المقارنة، يقلد المرجع الأول بالعراق نحو 25 مليون مسلم. ومقلدو المراجع ليسوا كلهم ولا حتى كثرتهم في بلدان اقامة المراجع. ولبنان، أو الإماميون اللبنانيون هم بعض مستفتي محمد حسين فضل الله ومؤدي الخمس الى تدبيره (من مبرات ومدارس...)، وهما ركنا «التقليد». ويقيم معظم هؤلاء في بلدان عربية الشيعةُ الإماميون قلة فيها، عددية أو سياسية، أو يقيمون في مهاجر اللبنانيين التاريخية والمحدثة، ببلدان الخليج وأفريقيا أولاً، ثم في شمال القارة الأميركية وجنوبها وباستراليا وأوروبا.
ولا ريب في أن ملابسة «المفتي» فضل الله الاجتماع اللبناني، على النحو الذي أراد ملابسته واختباره في «بلاد» مثل برج حمود، بأرمنها (على طوائفهم) ومسيحييها النازلين اليها من الجبال البعيدة والقرى والبلدات القريبة، وأكرادها، وفلسطينييها الفائضين عن المخيم القريب، وطبقات شيعتها القادمين من بلاد بعلبك - الهرمل وبلاد جبيل والجنوب، والمتوطنين والمتملكين تباعاً وجيلاً بعد جيل، ثم المهجَّرين الى الشياح والغبيري وبرج البراجنة وحي السلم - لا ريب في أن الملابسة والاختبار هذين أتاحا للمرجع مادة تدبر وفقه عريضة. فنأى بتعليله فتاواه، وبلغة التعليل، من «مصطلح» الاختصاص المهني والتقني. وحين أفتى بجواز أكل الفلسطينيين المحاصرين في مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة الميتة (المواشي النافقة) وإباحتها، في 1985، اقتصر على أصل الضرورة واختصر. فالعلل الفقهية والشرعية مضمرة في التعليل التجريبي السائر والمشهور.
«الحوار» الباتر
والأرجح أنه كان يرى ما رآه روح الله خميني حين أوكل الى مجلس صيانة الدستور بإيران ضرباً من حال طوارئ تجيز حماية الثورة وقيادتها وتقدم موجبات الحماية على العمل بالمعايير والموازين المتناقلة والملزمة. فأدخل ما سماه «حواراً»، ودعا الى نصبه نهجاً وميزاناً، في باب يختلط فيه العقلي بالنقلي، والعمومي المنطقي والتجريبي المعلن بالتراثي والثقافي المضمر. وتنقل بين الوجوه المتفرقة والمختلفة، وحملها على الاتصال. فخلَّف في كثيرين من سامعيه اعتقاداً راسخاً بجباية ريع الوجوه كلها من غير تدافع ولا افتئات. وحمى «المنهج» هذا بإسناده الى خدمة الإسلام «الثوري» و «المفهوم الإلهي»، والى خدمة المستضعفين وإمامتهم ووراثتهم. فأثار نخوة مخاطبيه واعتزازهم واعتدادهم بـ «قضيتهم»، ودعاهم الى الانغماس في مجتمعاتهم الجديدة والغريبة والالتصاق بسندهم معاً، مهوناً المشكلات التي قد تعترض الجمع المفترض من طريق حمله على ضعف النفوس، ووهن الإرادات، والتسليم للغرب الاستعماري، على قول محمد البهي «الإخواني»، واستعلائه ومزاعمه، بواسطة «قابلية للاستعمار» (مالك بن نبي) كان غالباً ما يندد بها، وينكرها ويعلل بها «أمراض» المجتمعات الإسلامية. وتوج هذا البنيان، إذا جازت اللفظة، بتشديد النكير على الضعف، على صوره وأشكاله، وتعظيم السعي في القوة. وطمأن المريدين والأنصار الى ضرورة انتماء «الحوار» الى إيجاب الحق وإثباته، والى اقرار المتحاورين به، والنزول على حكمه الباتر.
وهذا زاد ثمين في مجتمعات أهلها مترجحون وقلقون. وعلى شاكلة أرخميدوس، التمس السيد فضل الله نقطة ثابتة واحدة أرسى عليها رافعته السياسية والعملية الكونية، ووجدها في «المفهوم الإلهي للعالم»، وحرب «الاستعمار» عليه، وعلى أمته، وحربه على الاستعمار، الأميركي، وأقنعته وتلبيسه. وحين اجتاح الجيش الإسرائيلي شطراً غالباً من لبنان، في 1982، وحلت القوات المتعددة الجنسيات (الأميركية والفرنسية والإيطالية) ببيروت وجوارها، غداة مجزرة صبرا وشاتيلا الفظيعة، تصور «الاستعمار» في صورة إبليسية وشريرة «مطلقة»، على قول موسى الصدر، و «سرطانية»، على فتوى خميني وخامنئي. فلم يبق شك في قطبية «الحرب» العامة. ودعا إمام مسجد الرضا، في بعض خطبه الأولى المشهورة والمتداولة التي ابتدأت ظهوره السياسي وتقدمه على المجلس الإسلامي الشيعي والجهاز الصدري، دعا الى ألا تفلت اسرائيل من الفخ الذي أوقعت نفسها فيه حين اجتاحت لبنان، وارتكبت الجريمة الإنسانية، واستحقت العقاب الأليم على فعلتها، والعذاب بأيدي «المقاومين».
ولم يشك نزيل بير العبد في تضافر استعادة إيران الخمينية معظم أراضيها المحتلة من قوات صدام حسين، ومبادرة قواتها الى مهاجمة الأراضي العراقية، وإنشائها ذراعاً عراقية هي المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وخطو الجماعة الشيعية المسلحة خطواتها الأولى في لبنان تسعفها «هدايا» إيران (على ما قالت الصحافة الخمينية المحلية في الشاب الذي هاجم مقر القوات الأميركية ببئر حسن) وتقديماتها - لم يشك في تضافر هذه على انفجار حرب متصلة أو معركة «إسلامية» مظفرة على الاستكبار «الأمريكي». ومدح «السيد» الحرب المستعرة، القائمة والآتية، مديحاً مستفيضاً. وكان تحلق حوله وافدون من «الكتيبة الطلابية» الفتحاوية، ومن اتخذوا «أبو جهاد» (خليل الوزير)، قائد «فتح» العسكري والإخواني السابق والمقيم، قدوة ومثالاً، وفي هؤلاء على ما شاع القول عماد مغنية. وكانت بعض هجمات حزب الدعوة على مرافق عراقية في لبنان علامات في الطريق، على قول ذائع. فسار بعض هؤلاء في تظاهرة، قليلة، حملت لافتتها المتصدرة شعار «لا حكم إلا لله»، مرددة أصداء «الحاكمية» على تأويل سيد قطب الذي خصه «السيد»، في 1986، بتأبين فكري بليغ.
ولكن المبادرات الميدانية و «الجمهورية» لم تكن عبارة مناسبة عن دور الرجل، ولا عن مكانته المتعاظمة في رعاية إيرانية ظاهرة تكلفت، فيما تكلفت، إبعاد خالف موسى الصدر على رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي عن «الساحة» المحلية وإضعافه. فالعبارة المناسبة هي المواقف المدوية. فذهب في 1982 - 1983، إبان شن الحرس الثوري «موجاته» وهجماته الدامية على طريق البصرة - بغداد، الى أن «تحرير البصرة» مفتاح مشاكل الشرق الأوسط وحلها كلها. وناصرَ، من غير تكلف تظاهر احتفالي، الجماعات الخمينية، قبل انصهارها في حزب واحد، على جماعات «أمل»، قبل انفجار الخلاف الأهلي الفرعي بين «الحزبين»، ودبيبه الدامي منذ اندلاع الحرب الفلسطينية - الأهلية في 1985 الى «ختامه» في 1990، وبعد ختامه. وحين استعرت الحرب الفرعية هذه في الجنوب، وأرادت الجماعة الخمينية المسلحة إضعاف «أمل» واستمام انهاكها العسكري والسياسي، وكثرت اغتيالات «الشيوعيين» و «اليساريين» في بلاد ولاية الحركة الصدرية، لم تعز الجماعة كلمات التشجيع. وبعضها، غداة مقتل شيخ شاب من آل كريِّم على حاجز قريب من صور، دعا من غير تورية الى إقامة الحد الصارم والقاطع. وكان هذا من فصول الحروب المحلية والفرعية البارزة والأخيرة.
وسبقت دخول القوات السورية بيروت في شتاء 1987، إلى الحرب الإسرائيلية - الشيعية (عملياً) المقيمة، والاشتباكات الفلسطينية - الأملية، حروب فرعية لا تحصى انفجرت في انحاء لبنان كله. واستولى «أمير» حركة التوحيد على طرابلس، الى حين انهياره تحت القصف المدفعي السوري. وكانت الحرب العراقية - الإيرانية بلغت ذروة أرهصت بقرب نهايتها، وتحتاج إيران في الإعداد للنهاية الوشيكة والباهظة الى الجبهات والميادين التي أسهمت في فتحها كلها. فلم يتردد من سطع في الأثناء، غداة محاولة اغتياله في مسجده ببير العبد (1985)، علماً على «المقاومة الإسلامية» العالمية، في تزكية كل عضد لإيران. وحين تحفظ بعض الحزب اللهيين عن طريقة عودة القوات السورية الى بيروت من بوابة ثكنة فتح الله وقتلاها، لام الشيخ السياسي المتحفظين، وسألهم عن تبصرهم بنتائج تصدع الحلف الإيراني - السوري، و «أخرستهم» حجته. وهوَّن شأن الخسارة الإيرانية في الحرب (1988). ومدح الشيخ سعيد شعبان على استظلاله عباءة طهران. واستقبل الهزيمة السوفياتية في افغانستان بالترحاب. ورأى في الهزيمة بشائر «إسلام ثوري» عالمي عوَّل على انتشاره في السودان والجزائر وجزيرة العرب والمهاجر الغربية. وشكك فيما نسب الى الجماعات «الإسلامية» الوليدة، وحمل ما لم تتبرأ هي منه على الاستخبارات و «لعبتها» المعقدة والخفية. وعاد عن اسـتبـشاره خـيراً في حـركـات وتـيارات غرقت في أنهار من الدماء. فدان هجمات 11 ايلول (سبتمبر). وأفتى، في صيف 2002، بمقاومة الحملة الأميركية على العراق. فشكر صدام حسين المرجع على فتواه. وغداة حزيران (يونيو) 2009 الإيراني، رأى ان المعارضة «الخضراء» تهددت الجمهورية الإسلامية بـ «الفوضى» المدمرة، فجاز الحؤول بينها وبين تقويض الجمهورية بالقوة. فحماية ولاية أهل الضعف لا تطرح آلات أهل القوة والسلطان وحمايتهم سلطانهم. وهم أولى بهذه الآلات من غيرهم. وهذا ما بدا «السيد» قاطعاً فيه وغير متردد ولا متحفظ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق