المستقبل، 23/1/2011
استقرت الكيانات السياسية والإدارية و«الاجتماعية» (على معنى الجماعات الأهلية) العربية في المشرق، وخلفتها الدول المستقلة من دون تغيير إلى اليوم، على رغم تجاذب نشأتها، ثم استقرارها ودوامها وثباتها، موقفين متباينين وربما متناقضين (عطفاً على مقال الكاتب في «نوافذ المستقبل»، 9/1/2011). فمن وجه، بدت هذه الكيانات تقسيمات إدارية وبلدانية جغرافية وأهلية قريبة من تقسيمات الولايات العثمانية في طورها الأخير (1864 1871)، وهي رست على 27 ولاية تجمع الواحدة سناجق ومتصرفيات ومديريات وأقضية ونواحي يتصدرها وال وطاقم إداري استانبوليان). وكانت مجتمعات هذه الولايات تؤلف تأليفاً مضطرباً ومترجحاً بين جماعات أهلية وإقليمية تتمتع أو تقوم بإدارة بلادها وديراتها و«مجتمعها الخاص» (على قول سليمان ظاهر العاملي النبطاني فاللبناني)، وتقر البلاد والديرات على أهاليها وعاداتهم وتقاليدهم، وبين «قمم« ونخب، أعيان وموظفين وأعضاء مجالس عمومية منتخبين ووجهاء صف ثان...، تنخرط المجتمعات هذه من طريقهم في أطر «مجتمع» سياسي سلطاني رخو الترتيب ومائع المراتب. ونحا المجتمع السياسي السلطاني، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نحو بعض التماسك والتشابك على قاعدة ائتلافية وكونفيديرالية مضمرة، بينما أقامت الجماعات الأهلية، القرابية والبلدية والمذهبية والقومية، على معظم أحوالها من التفرق والتباين والانكفاء.
فالوَصْلات والجسور والشبكات بين الجماعات ومجتمعاتها الخاصة وديراتها إنما معظم مصدرها «الدولة»، على المعنى العثماني التركي الذي يلحظ شطراً عريضاً في هذا المعنى للحوالة أو جهاز الجباية والأمن القسريين والمتعسفين. وما كان مصدرُه من الوصلات والجسور والشبكات «طبقات» الحكام، وأهلَ الرئاسات المحليين، كان ضعيفاً، ورهنَ الإدارة البيروقراطية والإرادات السلطانية والتعيينات والوكالات. وهو، إذا استقل عن البيروقراطية والإرادات احتذى على المثالات والسنن المعروفة والمعهودة. فالمجتمع السياسي العربي في كرسي السلطنة، في المجالس المنتخبة وفي الجمعيات على حد سواء، إنما جامعه ولحمته مصاهرات الأعيان، وقرابات أسرهم وعشائرهم. فاستوت «الدولة» والمجتمع السياسي الأهلي في تعاليهما عن الجماعات المحلية، وفي تصدرهما الجماعات وقيادتها وحكمها من غير علاقات تمثيل أو روابط مصلحة قوية. فالتمثيل، في هذه الأحوال، مال إلى صيغة هي أقرب إلى التجسيد، وإلى التمثيل على الجسم الأهلي والعصبي المنفصل، وعلى وحدته وكتلته بإزاء الوحدات («القبائل» القبيل على معنى المقابل النظير) الأخرى. وعليه، فالتمثيل لم يكن تمثيلاً مركباً يبطن ويعلن معاً انقسام الجماعات وفروقها الداخلية، وموازين مصالحها وقواها المتغيرة والمتقلبة. فهذا، أي التمثيل المنقسم والمركب، ليس شأن الرئاسات «العربية» أو مثالها الأنموذجي، المتخيل والفاعل في آن. وهو ليس شأن السلطنة، وأبنيتها السلطانية، كذلك. فهذه إنما تمثّل على مجتمع الأمة أو الملة، وعلى شملها الملتئم والمتصل، فوق الأقوام والحوادث ومن طريق حبل سرة هذه وأولئك، بالمبعث والدعوة والفتوح والسلطان في الأرض. فالسلطان في الأرض، ببرَّيْها وبحريها، أي التسلط عليها (وجبايتها) هو جزاء الإقامة على «العهد»، شعار نشرة الحزب الخميني المسلح (في لبنان) الأولى. والسلطنة الجامعة والمسكونية، على قول روماني فكنسي كاثوليكي، هي ظل الواحد المتربع على العرش في الملأ الأعلى، بحسب تصريح أول أئمة الفقه المسلمين، أبو حنيفة (صاحب فقه الحنفية، مذهب السلطنة المقدَّم منذ صوغ مدونة «قانوننامه» في عهد سليمان القانوني او «الرائع» على رأي الأوروبيين)..
[تعرف وإنكار
فجاءت الكيانات السياسية والإدارية والاجتماعية الأهلية الجديدة في صورة إقامة شطر راجح من القديم على قدمه وحاله. وأصاب التجديد، للوهلة الأولى، «الولاة» النافذين والمنتدبين إلى التدبير والحكم والسلطان وحدهم. وهم في الحالين، العثمانية والجديدة الخالفة، يسميهم وينصبهم من هم فوق الولاة والرئاسات والمناصب. والأولياء الجدد يصدرون في سياساتهم وتدبيرهم ورسومهم، وفي هيئاتهم وأشخاصهم وألسنتهم ومعتقداتهم، عن معانٍ ودواعٍ وغايات تخالف المعاني والدواعي والغايات التي يصدر عنها أهل مجتمعات السلطنة سابقاً، وتنقض معظمها. فبدت الكيانات الجديدة، في هذه المرآة، مقحمة وهجينة ومتعسفة. وهذا هو الوجه الآخر، أو الموقف المباين والمناقض للموقف الأول الذي حمل الكيانات الجديدة على الكيانات السابقة والمستقرة في ختام نحو قرن من الزمن («أوله» التقريبي بداية الإصلاحات في العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر، وآياتها إلغاء الانكشارية وتقييد إفتاء شيخ الإسلام وابتداء إلغاء التمييز الديني والقومي في ولايات السلطنة). فلم يتعرف «مسلمو» الولايات السابقة، والدول والكيانات الجديدة، على تدوير وتربيع وتقسيم وضم طاولت الأقاليم في حدودها الجديدة، لم يتعرفوا «الأوطان» الجديدة أوطانهم، ولا «الدول» دولهم.
والحق ان الإنكار هذا، او رفض التعرف، كان نظير الإقبال والانقياد (أو الوجه الأول) وضوحاً وبروزاً. وهذه عبارة مواربة أو ملتوية للقول ان الإنكار كان على قدر الإقبال والتسليم ميوعة ورخاوة. فالنخب السياسية الأهلية المتحدرة من السلطنة في مرحلتيها، الإصلاحية والمحافظة المنكمشة (مع عبدالحميد الثاني ثم مع الضباط الاتحاديين القوميين في العقدين الأولين من القرن العشرين)، أقامت في المجالس الاستشارية التي جلست فيها وانتدبت إليها، وفي الوظائف او الأعمال التي تولتها، وفي الرئاسات والمناصب التي آلت إليها من أنسابها وأحسابها، والجمعيات والمحافل التي ضوت إليها على أحلافها وائتلافاتها الرخوة وغير الملزمة إقامتها على خلافاتها وانقساماتها غير المقيِّدة. فلا الجمعيات (السرية) ولا المحافل والمنتديات والصحافة العلنية وسَّعت فعلاً دائرة المجتمع السياسي «الضيق»، على ما وصفه لونغريغ مؤرخ الانتدابات الأوروبية في سوريا ولبنان والعراق، ولا غيرت معايير انتخابه، وإعماله نفوذه، وعلاقات مراتبه وأجزائه بعضها ببعض. فبقي، في معظمه، مجتمع رئاسات وأعيان ومشيخات ووجاهات، يتصدر جماعاته الأهلية، ويمثل على هيئاتها وأجسامها المتخيلة، وعلى مقاماتها ومكاناتها المفترضة.
وخسارة العروة أو الرابطة الإسلامية التي تعهدتها السلطنة الخلافة، واستمدتها السنن والرسوم والاجتهاد، أيقن رعايا السلطنة العرب المشرقية مفاعيلها أولاً وعلى الخصوص من طريق وطأة المصالح والانقسامات المذهبية والدينية، وزخمها الجديد في إطار الكيان السياسي الضيق والملحق بدول الوصاية والانتداب الأوروبيين. فتقدمت الوطأة هذه، وتقدم إطارها، الخسارة المباشرة نفسها. والأرجح ان الإحساس بهذه اقتصر على رئاسات الأجسام المذهبية وسلكها ومناصب السلك هذا. وليس هذا تهويناً من أثر ما استشعره أهلون كثر خروجاً عن نظام حكومة، وهيئة اجتماع ومعيار معنى استقرت (النظام والهيئة والمعيار) في الأمة استقرار الطبائع في الخلق. ولكن ترك السلطنة الخلافة، وهي كانت سلطنة فوق ما كانت خلافة، وترك أبنيتها، السياسية والإدارية إلى أبنية وطنية وكيانية، فضلاً عن انه دام حوإلى قرن من الزمن أصاب فيه السلطنة المرض (على قول القيصر الروسي)، حصل تدريجاً وعلى مراحل أرهصت بالكيانات القادمة، ولوحت بالمنافع والمصالح والعوائد المترتبة على «الأندستري قولونيه»، على ما سمى رفاعة رافع الطهطاوي الإدارة الاستعمارية والسان سيمونية المتوقعة. وهي عوائد ومنافع مترتبة كذلك، على مرافئ الإدارة ومواصلاتها البرية المعبدة والحديد وتجاراتها ومرافق عملها وسيولتها النقدية وسلعها ومهاجرها ومدنها، ومتعها وحرياتها وقوتها. وجملة هذه هي ما سماه المعاصرون تقدماً وتمدناً ونهضة وإحياء وعصرية (في وسم كتاب رفاعة الطهطاوي الثاني «مناهج الألباب»، 1869).
وفي الأثناء، حدس بعض الساسة وأصحاب الولايات والأراضي والموظفين والمتعلمين المدنيين و«الإكليركيين» المعممين والطلبة والتقنيين والمترجمين والتجار، وذلك في سياق التوسع الأوروبي المتصل والنزاع العام على الأقاليم والموارد وطرق التجارات الشرقية المتفرقة، حدسوا في أسباب «التقدم» الأوروبي، وفي أسباب «تأخر» المسلمين أو الشرقيين أو العرب أو العرب المسلمين، تباعاً على وجه التقريب. وحُملت هذه، أي أسباب «التأخر»، على خلاف تلك وأضدادها الرأسية والحرفية. وافتتن «عوام» الجماعات الحادسة وأطرافُها، مرتبة ومكانة وحرفة وإقليماً وطائفة أو مذهباً وسناً، بوعود «المدنية» الآتية مع «ريح الغرب»، وبثمرات التشبه بها، ولباس جلدها وقميصها (أو تقمصها) والانتساب إليها والمتِّ بحبل سرة داخلي وحميم، على ما رجا طه حسين من بعد. وعوَّل عوام الجماعات فيما عوَّلوا عليه من ثمرات المدنية العصرية، على امتلاك أسباب القوة و «المنعة»، وعلى المساواة في الرعية، ثم في الحكم وتولي المناصب وحيازة الثروات والممتلكات (وخصوصاً الأرض)، وتعظيم العوائد من المعاملات التجارية والمالية والعلمية مع دول الغرب وشركاته ومعاهده ومدارسه. وبرز نقد «الاستبداد» في السياقة المعقدة هذه عَلَماً على منازع كثيرة ومشتبك بعضها ببعض. وتناول معظمها العوامل المحدثة في الاستبداد ووطأته الشديدة. وكان التحديث الإداري والمالي والعسكري والاستخباري الأمني والسياسي (التمثيلي) حمل السلطنة، ونواتها السلطان الخليفة نفسه، ومن ورائها وفوقها دول الوصاية الأوروبية المتنازعة، حملها على التشدد في جباية ضرائب التلزيمات العائدة إلى القروض وأبواب إيفائها. وأخرجتها من أيدي الملتزمين المحليين والأهليين المتفرقين إلى يد بيروقراطية صارمة ومتجبرة وفاسدة معاً.
[المختلف والمؤتلف
فتضافر على التنديد بالاستبداد السلطاني، مطلب المساواة، جماعات وأفرقاء متفرقة المنازع والمصالح والأحوال والغايات. فمن الأفرقاء جماعات أثقل عليها التمييز الملي والديني، وحَصَرها في ديرات ضيقة، ومنعها من اتصال بعضها ببعض، واتصال كلها بماضيها وتراثها وبنظرائها وأشباهها و «إخوتها» خارج «الحدود» المتغيرة والسيادة المفروضة. وضيَّق التمييز على هذه الجماعات آفاق القيام بنفسها، واستقواءها بأحلافها وفرصها المتاحة، وتوليها الولايات والأعمال العالية، وتثمير الموارد في بناء هيئاتها والإصعاد في مراتب التماسك والمناعة والقوة. ومن الأفرقاء جماعات أثقل عليها الترتيب القومي (وليس «القومية» بعد وتقدمُ الترك، من حاشية السلطان القريبة ووزرائه ومواليه وصنائعه ومفتيه وعيونه وأرصاده ومدبري الديوان الخاص والضباط، أعيانَ الأقوام الأخرى (والعرب على الخصوص) وخواصها وأبناء هؤلاء المقيمين بالآستانة، والمتعلمين بها أسوة بزملائهم من العرق التركي والمتكلمين بلسانه على رغم إدلالهم بـ «لغة القرآن» واعتزازهم بها. والترتيب القومي فرَّق صفوف الأقوام نفسها ورتبها بدورها على مراتب متنازعة. فتقدم الموظفون ومن جمعوا «العِلم» والدراية البيروقراطية والتقنية إلى المكانة في قومهم والثراء، ابناءَ العشائر «الخلص». فأقام معظم هؤلاء على بعدهم وحذرهم وتحفظهم عن هيكل المراتب العثماني، وعصبيتهم عليه ومناوأتهم إياه على هذا القدر أو ذاك. وتغذت نقمة كلا الفريقين واحدهما على الآخر، وتضرب النقمة هذه بجذورها في منازعة أهل البداوة وأهل الحضر والزرع، وفي حصار الأولين هؤلاء وجبايتهم على شاكلة «الخوّات» (أو ضريبة «المؤاخاة» المزعومة وعلاوتها لقاء رفع الحصار والكف عن السطو والنهب).
وترتب على وجهي التمييز، المذهبي الديني والقومي، وصحبَهما تمييز اجتماعي أو «طبقي» لا يقتصر على التصنيف على طبقتين هما طبقة الرؤساء وأهل القوة وطبقة العوام وأهل الضعف. فالسلطنة نهضت، شأن الممالك عموماً و (الممالك) القومية الدينية خصوصاً، على فروق بين الفاتحين المستولين، وهم قوم وديانة، وبين أهالي بلاد الفتوح ودياناتهم. وهؤلاء، بدورهم، طبقات ومكانات. وسعت السلطنة الخلافة في استتباع رئاسات الجماعات الأهلية المسلمة ببلاد الفتوح. فأقرتها على مراتبها السابقة في جماعاتها، وألحقتها في خدمة ولاتها وعمالها، وقربت بعض الرئاسات الأهلية، واستعملت نفوذها المحلي في تقييد سلطة الولاة والعمال العثمانيين ونازعهم إلى التحايل على استانبول، واقتسام النفوذ والأموال معها، وانتهاز فرص الاستقلال عنها. وأما بعض أقوام غير المسلمين من أرمن ويونانيين (أروام) ومسيحيين «عرب»، فندب بعض أفرادها إلى أعمال فنية وتقنية وتنفيذية وإجرائية. وآذن إلغاء الانكشارية، وتقييد سلك المفتين وعلى رأسهم قاضي القضاة شيخ الإسلام، وابتداء «التنظيمات»، معاً، بإضعاف الحاجزين الديني والقومي بين الفاتحين وبين الجماعات الأهلية والمحلية (الوطنية). وفتح تدريجاً باب عثمنة ضيقة ونزرة، كان شرط ابتدائها، قبل توسعها البطيء، ارتضاء قمم السلطنة الخلافة ضعف الحواجز بين المراتب القومية والدينية على جهتي المراتب وضفتيها، العثمانية والمسلمة من جهة، والأقوام والديانات الأخرى قبالتها ونظيرها. ولعل الفصل الأول من السيرورة الطويلة والمتعرجة هذه هو دخول السلطنة الخلافة الجوق الأوروبي من باب ضيق، وانخراطها في دائرة قيادة العالم السياسية والأوروبية. وصفة المرض التي أطلقها القيصر الروسي ألكسندر الثاني على استانبول أو إنما أوقعها طاغية شرق أوروبا على «رجل أوروبا» (المريض)، على ما وصف تركيا العثمانية.
فـ «التنظيمات»، ومقدمتاها: العسكرية (النظام الجديد محل الانكشارية) والقضائية الحقوقية والفقهية (حل قبضة علماء الدين على الاجتهاد والأحكام)، اضطلعت بدورين متلازمين هما إدخال السلطنة في منظومة الأمم الغالبة والمتنازعة والمتباينة الثقل لقاء تخليها المتدرج عن عوامل عزلتها وحصانتها (القومية العسكرية والدينية القضائية). وكانت عواملَ قوة السلطنة الخلافة في أيام فتوتها التي صادفت انعطاف أوروبا من نظام التقسيم والاقتتال الإقطاعي والجامعة الكنسية إلى نظام نشوء الممالك المطلقة والإقليمية الوطنية (ومهدت هذه طريق الدول الأمم التالي). وتقدم التخلي عن عوامل العزلة والحصانة، وتقدمت مترتباته المتلازمة والمتشابكة المكاسبَ المحتملة والناجمة عن دخول السلطنة نادي الدول الكبيرة الست. وتغليب الصفة الاستعمارية على سياسة دول الجوق الأوروبي بإزاء العضو الضعيف، وإهمال حال الشراكة واحتمالاتها ومواردها الجائزة، يقودان إلى التقليل من دور موازين القوى في منازعات الدول، ويصرفان صرفاً مؤذياً عن فحص العوامل الموضوعية، العسكرية والاقتصادية والإدارية والنفسية الإرادية، وأثرها في مصائر العالم السياسية والعامة. والانصراف عن الفحص هذا يُسلم إلى إدانة أخلاقية ملتبسة. وهذه تعمي بصيرة صاحبها عن أحواله السابقة والراهنة، وهو «استعماري» مستول ومستبد قاهر شأن من يدينهم، وتحله من تبعاته الماضية واللاحقة عن ضعفه، وتدعوه إلى تشخيص عوامل قوة زائفة ومتوهمة. (وقد يدعو إلى النظر في فصل وجهي «المرض» العثماني، وجواز الفصل وصحته، مديح أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، في كتابه «العمق الاستراتيجي»، توسل ديبلوماسية السلطنة في الحرب الروسية العثمانية الثانية، 1877 1879، منازعات دول الجوق الأوروبي وتغذيتها على خلاف انقيادها إلى ائتلافها وتنسيقها في أثناء حرب القرم قبل نحو عقدين. وهذا كان محالاً لولا وجه الشراكة).
فلا غرابة إذا قصّرت إدارة السلطنة عشية الحرب الأولى وغداتها مباشرة، عن معالجة المنازع «الليبرالية» في الولايات التركية نفسها وفي الولايات العربية، واستباق التيارات الانفصالية والاستقلالية القومية والدينية السياسية المتضافرة والمتشابكة. ولا عجب، من وجه آخر متممٍ الوجه الأول، إذا التبست مدافعة التمييز (المرتبي) الديني والقومي بمناهضة الاستبداد السياسي والمدني، وإذا التبست المدافعة والمناهضة هاتان بالتقييد الاجتماعي والاقتصادي الناجم معظمه عن النظام السلطاني ومقوماته وإدارته. فهذه الوجوه، الملتبس بعضها ببعض، حال التباسها المعمّي دون بلوغ المنازع والتيارات والحركات المتفرقة (التحررية السياسية والدينية والقومية والأهلية و«الاجتماعية»...) آمادها ومراميها البعيدة. فكبحت الرابطة الدينية الباعث القومي، وقيد الباعثُ القومي المنزع الليبرالي، وخنقت الرئاسات العصبية والمرتبية الدينية رغبات عامية محلية وبيروقراطية إدارية في إضعاف نظام المراتب وتبعاته القديمة والمستجدة، وحاصرت البوادي الرابضة على تخوم الأرياف الهزيلة ومدنَ الخطط المملوكية المسورة والخائفة من البحر ومن الداخلية معاً.
[السلطنة والمملكة والحدود
فلم تتحصل من الالتباسات كلها هذه لا حركات شعبية أو أهلية عريضة وجامعة، لا يستعدي بعضها بعضها الآخر أو أبعاضها وأجزاءها استعداء مستميتاً ومميتاً، ولا كتلُ نخبٍ متكاتفة على تشخيص احتياجات ومطامح مشتركة ومتواردة على هذا القدر أو ذاك. ولم تتوصل «مذاهب» فكرية أو ثقافية تعد العدة لجلاء موقع المجتمعات والبلدان، العثمانية إلى الأمس أو المخلفة الرابطة العثمانية وراءها والمستقبلة مصائرها الوطنية الوشيكة والآتية، من العالم، ومحلها من أطواره ومن أطوارها الذاتية. فغلب خليط أهلي وديني وقومي عصبي ووطني واجتماعي فئوي صنفي (أو طائفين، من طوائف الحرف)، حداثي وتقليدي، لا يتميز ولا يترتب على مراتب. فدخلت المجتمعات والبلدان، وأقوامها وجماعاتها وأهاليها، الدولة الوطنية والسياسية المحدثة ووجهها (وجوهها المتفرقة) إلى مواضيها المتخيلة والمتوهمة الامبراطورية وروابطها الداخلية الصلبة وقيود المواضي والروابط. فكانت «الثورة» الوطنية الديموقراطية (العامية) صاحبة الدولة الموعودة، وصانعتها متعاونة مع دول الانتداب والسيطرة ومخالفتها ومناقضتها معاً سالبة أو سلبية. وهذا كناية عن جمعها كتلاً وشراذم من غير لحمة داخلية مركبة، ولا كتلة غالبة «استحقت» الغلبة وحلقت حولها كتلاً مختلفة أقامت على اختلافها. فالدولة الوطنية والسياسية المحدثة أفضت إلى جماعات الولايات، وآلت إليها. وهي لم تردها على هذا الوجه، ولا على غيره، لا جغرافية وحدوداً، ولا سكاناً وجماعات، ولا موارد ومواصلات، ولا إدارات وهيئات، ولا مزيجاً أو تفرقاً.
والحق ان العقود الأخيرة التي سبقت الخروج من السلطنة، ومهدت الطريق إليه على أنحاء كثيرة ومتضاربة، لم ترهص بمصير مختلف، ولم تجل سياسات جائزة أخرى (على وجه الدقة: لم تجل نسيجاً «اجتماعياً تاريخياً»، على قول أحد المفكرين المعاصرين، آخر، وهذا النسيج هو الأرض أو التربة التي يضرب الاجتماع المفرد بجذوره ومصادره وموارده فيها). ولعل آية الحال هي ما سمي «الثورة العربية الأولى» أو «ثورة» الشريف حسين. فنهض عَلَماً على دخول المشرق العربي عصر الدولة الوطنية والسياسية الجديد نقيبُ الأشراف الهاشميين بالحجاز، وأمير مكة وديراتها وضواحيها البدوية القريبة (قياساً على الأحلاف القبلية القوية في الداخل)، المنزوع السلاح والضعيف الشوكة والعصبية والدالة، ووكيل الولاية العثمانية الإسمي، وأليف البلاط السلطاني، و «حليف» عامل استخبارات الجيش البريطاني بمصر. وشهرس إ. لورنس نسب الشريف الهاشمي النبوي والعربي «سلاحاً ميتافيزيقياً»، على قوله في مضمون دعاوته وتحريضه على استانبول وقواتها وسكتها الحديد. وتجاوز النسب الشريف، أشرف الأنساب في المجتمعات العربية والإسلامية، الطبقات الناشئة (الطريفة) والقديمة (التليدة)، الطامحة إلى الحكم والقيادة والمجرَّبة بعض التجريب في المضمار هذا والمتخللة الجماعات الأهلية والإدارات. وتخطى اقتراحه على الرئاسات الأهلية الاجتماعية رئيساً، أو شيخاً وملكاً، الجماعات المتفرقة، من أهل مدن وأهل أرياف وأقوام غير عرب وأقوام غير مسلمين، ومن تجار وأعيان وملاكي أرض وإداريين ووجهاء صف ثانٍ وفنيين وكتّاب ومدرسين...
فتنصيبه بهذا المنصب (أي تنصيب ابنه فيصل)، وهو من هو نسباً وعملاً و (ضعف) أواصر بـ «مملكته» ورعيته وتطرفاً في ميزان البلدان وماضياً ودراية، إنما هو قرينة على محل السياسات في «الاجتماعي التاريخي» وأبنيته «العربية» أو المشرقية. فالسياسات، بهذه الحال، لا تعدو المنصب أو المناصب، أي تصدر الجماعات المتلاحمة والتحصن بها وتحصينها وتجييشها وتعبئتها، واستتباع الجماعات الأضعف منها، وضمها وجبايتها وتجنيدها في «حروب» وغزوات. ومثال هذه السياسات هو السلطنة أو الامبراطورية (واللفظة العربية كانت تطلق على ملك شيوخ عشائر صغيرة، واللفظة المعربة والفخمة ينبغي ألا يعدو معناها معنى الأولى، فليس ما يدعو إلى انتفاخ الأوداج حين تراد بها دولة هزيلة وضعيفة وفقيرة جل طموحها ان تكون عقدة طرقات وأنابيب). و «السلطان» لا يصدر عن «تحت»، ولا يتحدر منه، ولا يستقوي بغير عصبيته ونسبه «النبوي» الحقيقي أو المتوهم، وبغير أجهزته التي تمده بها الدولة الوطنية المحدثة. وسلطنته «الواحدة» إنما لحمتها من فوق. وهذا ما شَبَّه على «عرب» مطلع القرن، ولا يزال يشبِّه على بعض «طلائعهم» و «نخباتهم»، على قول أحد أئمة عصبة منها، أن الوحدة القومية العربية هي «مشروع» غير سياسي، وأن ما يحول دونه هو المصالح «القطرية» الضيقة و «معوقات» مصطنعة. (ومن محدثات «الخطاب القومي» أنه «انتبه» إلى «مسألة الأقليات» في العقد الثامن من القرن الماضي، للقول أن حد أنسباء «الخطاب» العتيد تطرق إلى المسألة، متخلفاً 14 عقداً عن السلطان محمود الثاني، فـ «الخطاب القومي» المزعوم يحذو على مثال سلسلة المحدثين، وهو يختص بحديث أو «علم»، ويتناقله وحده).
وحين اضطر الملك المنصَّب بقوة نسبه، وضعف شوكته، وتعاليه عن المحايثات الأهلية والوطنية والإدارية، إلى الدفاع عن منصبه، لم يطق دفاعاً ولا حرباً. ولم ينجده «أحد»، على المعنى العسكري والسياسي. واستجابت «الدعوة»، على مقدار ضئيل وعابر، جماعات طرفية، عسكرية محترفة أو بدوية تنزل الثنايا بين بلاد الرعي وبلاد الزرع (وينهض علماً عليها أدهم خنجر في أطراف جبل عامل، وملحم قاسم في البقاع الشمالي، وقادة «الثورات» الأهلية السورية والفلسطينية والعراقية واللبنانية إلى اليوم، وهي مرت في القسم الأول من المقال). والجماعات الطرفية هذه هي مادة «المقاومات» المتعاقبة، ووقود حروب أهلية إقليمية فوق ما هي حركات وطنية وسياسية. ودأبها الاستيلاء والاقتطاع والسطو والولاء وليس الحكم والتدبير والتأليف. وقبيل تسليم فيصل وغداته انفجرت حدود الولايات القديمة، واضطربت بحركات (أو «هرجات») نازعت الكيانات الناشئة على أراضيها. فمن البوكمال، بين سوريا والعراق، شمالاً، إلى مدين على تخوم الاردن، جنوباً، وبينهما الأكراد والأحلاف البدوية والعشائرية المحلية والجماعات المذهبية ومجتمعاتها الخاصة والمدن، قامت جماعات أهلية متفرقة على السلطان الأجنبي، وعلى الطبقات والرئاسات المتصدية لحكم الكيانات الجديدة، وعلى أهل الزرع والتجارة والبلدات والمدن الصغيرة وغير المسلمين. وهؤلاء هم الخصوم والأعداء. فتناثرت «المملكة العربية» جماعات وعصابات وبلاداً ونواحي. فجمعتها الدول الأوروبية الغازية والمحتلة مجتمعات «وطنية» وحلقتها حول أجسام إدارية وعسكرية إقليمية، ومرافق تمثيلية واقتصادية ومالية وتعليمية ومواصلات. ولم يفضِ انقلاب الأنظمة السياسية، وتداولها حكم بلدانها، في أعقاب قرن مضطرب، إلى تغيير ثابت في حدود الكيانات هذه. وحالا فلسطين والاردن، وشطري اليمن، لا يكذبان الملاحظة. وباءت 3 عقود من المحاولات السورية بفشل مدمر قصاراه إطلاق حروب أو منازعات أهلية وإقليمية من عقالها.
استقرت الكيانات السياسية والإدارية و«الاجتماعية» (على معنى الجماعات الأهلية) العربية في المشرق، وخلفتها الدول المستقلة من دون تغيير إلى اليوم، على رغم تجاذب نشأتها، ثم استقرارها ودوامها وثباتها، موقفين متباينين وربما متناقضين (عطفاً على مقال الكاتب في «نوافذ المستقبل»، 9/1/2011). فمن وجه، بدت هذه الكيانات تقسيمات إدارية وبلدانية جغرافية وأهلية قريبة من تقسيمات الولايات العثمانية في طورها الأخير (1864 1871)، وهي رست على 27 ولاية تجمع الواحدة سناجق ومتصرفيات ومديريات وأقضية ونواحي يتصدرها وال وطاقم إداري استانبوليان). وكانت مجتمعات هذه الولايات تؤلف تأليفاً مضطرباً ومترجحاً بين جماعات أهلية وإقليمية تتمتع أو تقوم بإدارة بلادها وديراتها و«مجتمعها الخاص» (على قول سليمان ظاهر العاملي النبطاني فاللبناني)، وتقر البلاد والديرات على أهاليها وعاداتهم وتقاليدهم، وبين «قمم« ونخب، أعيان وموظفين وأعضاء مجالس عمومية منتخبين ووجهاء صف ثان...، تنخرط المجتمعات هذه من طريقهم في أطر «مجتمع» سياسي سلطاني رخو الترتيب ومائع المراتب. ونحا المجتمع السياسي السلطاني، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نحو بعض التماسك والتشابك على قاعدة ائتلافية وكونفيديرالية مضمرة، بينما أقامت الجماعات الأهلية، القرابية والبلدية والمذهبية والقومية، على معظم أحوالها من التفرق والتباين والانكفاء.
فالوَصْلات والجسور والشبكات بين الجماعات ومجتمعاتها الخاصة وديراتها إنما معظم مصدرها «الدولة»، على المعنى العثماني التركي الذي يلحظ شطراً عريضاً في هذا المعنى للحوالة أو جهاز الجباية والأمن القسريين والمتعسفين. وما كان مصدرُه من الوصلات والجسور والشبكات «طبقات» الحكام، وأهلَ الرئاسات المحليين، كان ضعيفاً، ورهنَ الإدارة البيروقراطية والإرادات السلطانية والتعيينات والوكالات. وهو، إذا استقل عن البيروقراطية والإرادات احتذى على المثالات والسنن المعروفة والمعهودة. فالمجتمع السياسي العربي في كرسي السلطنة، في المجالس المنتخبة وفي الجمعيات على حد سواء، إنما جامعه ولحمته مصاهرات الأعيان، وقرابات أسرهم وعشائرهم. فاستوت «الدولة» والمجتمع السياسي الأهلي في تعاليهما عن الجماعات المحلية، وفي تصدرهما الجماعات وقيادتها وحكمها من غير علاقات تمثيل أو روابط مصلحة قوية. فالتمثيل، في هذه الأحوال، مال إلى صيغة هي أقرب إلى التجسيد، وإلى التمثيل على الجسم الأهلي والعصبي المنفصل، وعلى وحدته وكتلته بإزاء الوحدات («القبائل» القبيل على معنى المقابل النظير) الأخرى. وعليه، فالتمثيل لم يكن تمثيلاً مركباً يبطن ويعلن معاً انقسام الجماعات وفروقها الداخلية، وموازين مصالحها وقواها المتغيرة والمتقلبة. فهذا، أي التمثيل المنقسم والمركب، ليس شأن الرئاسات «العربية» أو مثالها الأنموذجي، المتخيل والفاعل في آن. وهو ليس شأن السلطنة، وأبنيتها السلطانية، كذلك. فهذه إنما تمثّل على مجتمع الأمة أو الملة، وعلى شملها الملتئم والمتصل، فوق الأقوام والحوادث ومن طريق حبل سرة هذه وأولئك، بالمبعث والدعوة والفتوح والسلطان في الأرض. فالسلطان في الأرض، ببرَّيْها وبحريها، أي التسلط عليها (وجبايتها) هو جزاء الإقامة على «العهد»، شعار نشرة الحزب الخميني المسلح (في لبنان) الأولى. والسلطنة الجامعة والمسكونية، على قول روماني فكنسي كاثوليكي، هي ظل الواحد المتربع على العرش في الملأ الأعلى، بحسب تصريح أول أئمة الفقه المسلمين، أبو حنيفة (صاحب فقه الحنفية، مذهب السلطنة المقدَّم منذ صوغ مدونة «قانوننامه» في عهد سليمان القانوني او «الرائع» على رأي الأوروبيين)..
[تعرف وإنكار
فجاءت الكيانات السياسية والإدارية والاجتماعية الأهلية الجديدة في صورة إقامة شطر راجح من القديم على قدمه وحاله. وأصاب التجديد، للوهلة الأولى، «الولاة» النافذين والمنتدبين إلى التدبير والحكم والسلطان وحدهم. وهم في الحالين، العثمانية والجديدة الخالفة، يسميهم وينصبهم من هم فوق الولاة والرئاسات والمناصب. والأولياء الجدد يصدرون في سياساتهم وتدبيرهم ورسومهم، وفي هيئاتهم وأشخاصهم وألسنتهم ومعتقداتهم، عن معانٍ ودواعٍ وغايات تخالف المعاني والدواعي والغايات التي يصدر عنها أهل مجتمعات السلطنة سابقاً، وتنقض معظمها. فبدت الكيانات الجديدة، في هذه المرآة، مقحمة وهجينة ومتعسفة. وهذا هو الوجه الآخر، أو الموقف المباين والمناقض للموقف الأول الذي حمل الكيانات الجديدة على الكيانات السابقة والمستقرة في ختام نحو قرن من الزمن («أوله» التقريبي بداية الإصلاحات في العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر، وآياتها إلغاء الانكشارية وتقييد إفتاء شيخ الإسلام وابتداء إلغاء التمييز الديني والقومي في ولايات السلطنة). فلم يتعرف «مسلمو» الولايات السابقة، والدول والكيانات الجديدة، على تدوير وتربيع وتقسيم وضم طاولت الأقاليم في حدودها الجديدة، لم يتعرفوا «الأوطان» الجديدة أوطانهم، ولا «الدول» دولهم.
والحق ان الإنكار هذا، او رفض التعرف، كان نظير الإقبال والانقياد (أو الوجه الأول) وضوحاً وبروزاً. وهذه عبارة مواربة أو ملتوية للقول ان الإنكار كان على قدر الإقبال والتسليم ميوعة ورخاوة. فالنخب السياسية الأهلية المتحدرة من السلطنة في مرحلتيها، الإصلاحية والمحافظة المنكمشة (مع عبدالحميد الثاني ثم مع الضباط الاتحاديين القوميين في العقدين الأولين من القرن العشرين)، أقامت في المجالس الاستشارية التي جلست فيها وانتدبت إليها، وفي الوظائف او الأعمال التي تولتها، وفي الرئاسات والمناصب التي آلت إليها من أنسابها وأحسابها، والجمعيات والمحافل التي ضوت إليها على أحلافها وائتلافاتها الرخوة وغير الملزمة إقامتها على خلافاتها وانقساماتها غير المقيِّدة. فلا الجمعيات (السرية) ولا المحافل والمنتديات والصحافة العلنية وسَّعت فعلاً دائرة المجتمع السياسي «الضيق»، على ما وصفه لونغريغ مؤرخ الانتدابات الأوروبية في سوريا ولبنان والعراق، ولا غيرت معايير انتخابه، وإعماله نفوذه، وعلاقات مراتبه وأجزائه بعضها ببعض. فبقي، في معظمه، مجتمع رئاسات وأعيان ومشيخات ووجاهات، يتصدر جماعاته الأهلية، ويمثل على هيئاتها وأجسامها المتخيلة، وعلى مقاماتها ومكاناتها المفترضة.
وخسارة العروة أو الرابطة الإسلامية التي تعهدتها السلطنة الخلافة، واستمدتها السنن والرسوم والاجتهاد، أيقن رعايا السلطنة العرب المشرقية مفاعيلها أولاً وعلى الخصوص من طريق وطأة المصالح والانقسامات المذهبية والدينية، وزخمها الجديد في إطار الكيان السياسي الضيق والملحق بدول الوصاية والانتداب الأوروبيين. فتقدمت الوطأة هذه، وتقدم إطارها، الخسارة المباشرة نفسها. والأرجح ان الإحساس بهذه اقتصر على رئاسات الأجسام المذهبية وسلكها ومناصب السلك هذا. وليس هذا تهويناً من أثر ما استشعره أهلون كثر خروجاً عن نظام حكومة، وهيئة اجتماع ومعيار معنى استقرت (النظام والهيئة والمعيار) في الأمة استقرار الطبائع في الخلق. ولكن ترك السلطنة الخلافة، وهي كانت سلطنة فوق ما كانت خلافة، وترك أبنيتها، السياسية والإدارية إلى أبنية وطنية وكيانية، فضلاً عن انه دام حوإلى قرن من الزمن أصاب فيه السلطنة المرض (على قول القيصر الروسي)، حصل تدريجاً وعلى مراحل أرهصت بالكيانات القادمة، ولوحت بالمنافع والمصالح والعوائد المترتبة على «الأندستري قولونيه»، على ما سمى رفاعة رافع الطهطاوي الإدارة الاستعمارية والسان سيمونية المتوقعة. وهي عوائد ومنافع مترتبة كذلك، على مرافئ الإدارة ومواصلاتها البرية المعبدة والحديد وتجاراتها ومرافق عملها وسيولتها النقدية وسلعها ومهاجرها ومدنها، ومتعها وحرياتها وقوتها. وجملة هذه هي ما سماه المعاصرون تقدماً وتمدناً ونهضة وإحياء وعصرية (في وسم كتاب رفاعة الطهطاوي الثاني «مناهج الألباب»، 1869).
وفي الأثناء، حدس بعض الساسة وأصحاب الولايات والأراضي والموظفين والمتعلمين المدنيين و«الإكليركيين» المعممين والطلبة والتقنيين والمترجمين والتجار، وذلك في سياق التوسع الأوروبي المتصل والنزاع العام على الأقاليم والموارد وطرق التجارات الشرقية المتفرقة، حدسوا في أسباب «التقدم» الأوروبي، وفي أسباب «تأخر» المسلمين أو الشرقيين أو العرب أو العرب المسلمين، تباعاً على وجه التقريب. وحُملت هذه، أي أسباب «التأخر»، على خلاف تلك وأضدادها الرأسية والحرفية. وافتتن «عوام» الجماعات الحادسة وأطرافُها، مرتبة ومكانة وحرفة وإقليماً وطائفة أو مذهباً وسناً، بوعود «المدنية» الآتية مع «ريح الغرب»، وبثمرات التشبه بها، ولباس جلدها وقميصها (أو تقمصها) والانتساب إليها والمتِّ بحبل سرة داخلي وحميم، على ما رجا طه حسين من بعد. وعوَّل عوام الجماعات فيما عوَّلوا عليه من ثمرات المدنية العصرية، على امتلاك أسباب القوة و «المنعة»، وعلى المساواة في الرعية، ثم في الحكم وتولي المناصب وحيازة الثروات والممتلكات (وخصوصاً الأرض)، وتعظيم العوائد من المعاملات التجارية والمالية والعلمية مع دول الغرب وشركاته ومعاهده ومدارسه. وبرز نقد «الاستبداد» في السياقة المعقدة هذه عَلَماً على منازع كثيرة ومشتبك بعضها ببعض. وتناول معظمها العوامل المحدثة في الاستبداد ووطأته الشديدة. وكان التحديث الإداري والمالي والعسكري والاستخباري الأمني والسياسي (التمثيلي) حمل السلطنة، ونواتها السلطان الخليفة نفسه، ومن ورائها وفوقها دول الوصاية الأوروبية المتنازعة، حملها على التشدد في جباية ضرائب التلزيمات العائدة إلى القروض وأبواب إيفائها. وأخرجتها من أيدي الملتزمين المحليين والأهليين المتفرقين إلى يد بيروقراطية صارمة ومتجبرة وفاسدة معاً.
[المختلف والمؤتلف
فتضافر على التنديد بالاستبداد السلطاني، مطلب المساواة، جماعات وأفرقاء متفرقة المنازع والمصالح والأحوال والغايات. فمن الأفرقاء جماعات أثقل عليها التمييز الملي والديني، وحَصَرها في ديرات ضيقة، ومنعها من اتصال بعضها ببعض، واتصال كلها بماضيها وتراثها وبنظرائها وأشباهها و «إخوتها» خارج «الحدود» المتغيرة والسيادة المفروضة. وضيَّق التمييز على هذه الجماعات آفاق القيام بنفسها، واستقواءها بأحلافها وفرصها المتاحة، وتوليها الولايات والأعمال العالية، وتثمير الموارد في بناء هيئاتها والإصعاد في مراتب التماسك والمناعة والقوة. ومن الأفرقاء جماعات أثقل عليها الترتيب القومي (وليس «القومية» بعد وتقدمُ الترك، من حاشية السلطان القريبة ووزرائه ومواليه وصنائعه ومفتيه وعيونه وأرصاده ومدبري الديوان الخاص والضباط، أعيانَ الأقوام الأخرى (والعرب على الخصوص) وخواصها وأبناء هؤلاء المقيمين بالآستانة، والمتعلمين بها أسوة بزملائهم من العرق التركي والمتكلمين بلسانه على رغم إدلالهم بـ «لغة القرآن» واعتزازهم بها. والترتيب القومي فرَّق صفوف الأقوام نفسها ورتبها بدورها على مراتب متنازعة. فتقدم الموظفون ومن جمعوا «العِلم» والدراية البيروقراطية والتقنية إلى المكانة في قومهم والثراء، ابناءَ العشائر «الخلص». فأقام معظم هؤلاء على بعدهم وحذرهم وتحفظهم عن هيكل المراتب العثماني، وعصبيتهم عليه ومناوأتهم إياه على هذا القدر أو ذاك. وتغذت نقمة كلا الفريقين واحدهما على الآخر، وتضرب النقمة هذه بجذورها في منازعة أهل البداوة وأهل الحضر والزرع، وفي حصار الأولين هؤلاء وجبايتهم على شاكلة «الخوّات» (أو ضريبة «المؤاخاة» المزعومة وعلاوتها لقاء رفع الحصار والكف عن السطو والنهب).
وترتب على وجهي التمييز، المذهبي الديني والقومي، وصحبَهما تمييز اجتماعي أو «طبقي» لا يقتصر على التصنيف على طبقتين هما طبقة الرؤساء وأهل القوة وطبقة العوام وأهل الضعف. فالسلطنة نهضت، شأن الممالك عموماً و (الممالك) القومية الدينية خصوصاً، على فروق بين الفاتحين المستولين، وهم قوم وديانة، وبين أهالي بلاد الفتوح ودياناتهم. وهؤلاء، بدورهم، طبقات ومكانات. وسعت السلطنة الخلافة في استتباع رئاسات الجماعات الأهلية المسلمة ببلاد الفتوح. فأقرتها على مراتبها السابقة في جماعاتها، وألحقتها في خدمة ولاتها وعمالها، وقربت بعض الرئاسات الأهلية، واستعملت نفوذها المحلي في تقييد سلطة الولاة والعمال العثمانيين ونازعهم إلى التحايل على استانبول، واقتسام النفوذ والأموال معها، وانتهاز فرص الاستقلال عنها. وأما بعض أقوام غير المسلمين من أرمن ويونانيين (أروام) ومسيحيين «عرب»، فندب بعض أفرادها إلى أعمال فنية وتقنية وتنفيذية وإجرائية. وآذن إلغاء الانكشارية، وتقييد سلك المفتين وعلى رأسهم قاضي القضاة شيخ الإسلام، وابتداء «التنظيمات»، معاً، بإضعاف الحاجزين الديني والقومي بين الفاتحين وبين الجماعات الأهلية والمحلية (الوطنية). وفتح تدريجاً باب عثمنة ضيقة ونزرة، كان شرط ابتدائها، قبل توسعها البطيء، ارتضاء قمم السلطنة الخلافة ضعف الحواجز بين المراتب القومية والدينية على جهتي المراتب وضفتيها، العثمانية والمسلمة من جهة، والأقوام والديانات الأخرى قبالتها ونظيرها. ولعل الفصل الأول من السيرورة الطويلة والمتعرجة هذه هو دخول السلطنة الخلافة الجوق الأوروبي من باب ضيق، وانخراطها في دائرة قيادة العالم السياسية والأوروبية. وصفة المرض التي أطلقها القيصر الروسي ألكسندر الثاني على استانبول أو إنما أوقعها طاغية شرق أوروبا على «رجل أوروبا» (المريض)، على ما وصف تركيا العثمانية.
فـ «التنظيمات»، ومقدمتاها: العسكرية (النظام الجديد محل الانكشارية) والقضائية الحقوقية والفقهية (حل قبضة علماء الدين على الاجتهاد والأحكام)، اضطلعت بدورين متلازمين هما إدخال السلطنة في منظومة الأمم الغالبة والمتنازعة والمتباينة الثقل لقاء تخليها المتدرج عن عوامل عزلتها وحصانتها (القومية العسكرية والدينية القضائية). وكانت عواملَ قوة السلطنة الخلافة في أيام فتوتها التي صادفت انعطاف أوروبا من نظام التقسيم والاقتتال الإقطاعي والجامعة الكنسية إلى نظام نشوء الممالك المطلقة والإقليمية الوطنية (ومهدت هذه طريق الدول الأمم التالي). وتقدم التخلي عن عوامل العزلة والحصانة، وتقدمت مترتباته المتلازمة والمتشابكة المكاسبَ المحتملة والناجمة عن دخول السلطنة نادي الدول الكبيرة الست. وتغليب الصفة الاستعمارية على سياسة دول الجوق الأوروبي بإزاء العضو الضعيف، وإهمال حال الشراكة واحتمالاتها ومواردها الجائزة، يقودان إلى التقليل من دور موازين القوى في منازعات الدول، ويصرفان صرفاً مؤذياً عن فحص العوامل الموضوعية، العسكرية والاقتصادية والإدارية والنفسية الإرادية، وأثرها في مصائر العالم السياسية والعامة. والانصراف عن الفحص هذا يُسلم إلى إدانة أخلاقية ملتبسة. وهذه تعمي بصيرة صاحبها عن أحواله السابقة والراهنة، وهو «استعماري» مستول ومستبد قاهر شأن من يدينهم، وتحله من تبعاته الماضية واللاحقة عن ضعفه، وتدعوه إلى تشخيص عوامل قوة زائفة ومتوهمة. (وقد يدعو إلى النظر في فصل وجهي «المرض» العثماني، وجواز الفصل وصحته، مديح أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، في كتابه «العمق الاستراتيجي»، توسل ديبلوماسية السلطنة في الحرب الروسية العثمانية الثانية، 1877 1879، منازعات دول الجوق الأوروبي وتغذيتها على خلاف انقيادها إلى ائتلافها وتنسيقها في أثناء حرب القرم قبل نحو عقدين. وهذا كان محالاً لولا وجه الشراكة).
فلا غرابة إذا قصّرت إدارة السلطنة عشية الحرب الأولى وغداتها مباشرة، عن معالجة المنازع «الليبرالية» في الولايات التركية نفسها وفي الولايات العربية، واستباق التيارات الانفصالية والاستقلالية القومية والدينية السياسية المتضافرة والمتشابكة. ولا عجب، من وجه آخر متممٍ الوجه الأول، إذا التبست مدافعة التمييز (المرتبي) الديني والقومي بمناهضة الاستبداد السياسي والمدني، وإذا التبست المدافعة والمناهضة هاتان بالتقييد الاجتماعي والاقتصادي الناجم معظمه عن النظام السلطاني ومقوماته وإدارته. فهذه الوجوه، الملتبس بعضها ببعض، حال التباسها المعمّي دون بلوغ المنازع والتيارات والحركات المتفرقة (التحررية السياسية والدينية والقومية والأهلية و«الاجتماعية»...) آمادها ومراميها البعيدة. فكبحت الرابطة الدينية الباعث القومي، وقيد الباعثُ القومي المنزع الليبرالي، وخنقت الرئاسات العصبية والمرتبية الدينية رغبات عامية محلية وبيروقراطية إدارية في إضعاف نظام المراتب وتبعاته القديمة والمستجدة، وحاصرت البوادي الرابضة على تخوم الأرياف الهزيلة ومدنَ الخطط المملوكية المسورة والخائفة من البحر ومن الداخلية معاً.
[السلطنة والمملكة والحدود
فلم تتحصل من الالتباسات كلها هذه لا حركات شعبية أو أهلية عريضة وجامعة، لا يستعدي بعضها بعضها الآخر أو أبعاضها وأجزاءها استعداء مستميتاً ومميتاً، ولا كتلُ نخبٍ متكاتفة على تشخيص احتياجات ومطامح مشتركة ومتواردة على هذا القدر أو ذاك. ولم تتوصل «مذاهب» فكرية أو ثقافية تعد العدة لجلاء موقع المجتمعات والبلدان، العثمانية إلى الأمس أو المخلفة الرابطة العثمانية وراءها والمستقبلة مصائرها الوطنية الوشيكة والآتية، من العالم، ومحلها من أطواره ومن أطوارها الذاتية. فغلب خليط أهلي وديني وقومي عصبي ووطني واجتماعي فئوي صنفي (أو طائفين، من طوائف الحرف)، حداثي وتقليدي، لا يتميز ولا يترتب على مراتب. فدخلت المجتمعات والبلدان، وأقوامها وجماعاتها وأهاليها، الدولة الوطنية والسياسية المحدثة ووجهها (وجوهها المتفرقة) إلى مواضيها المتخيلة والمتوهمة الامبراطورية وروابطها الداخلية الصلبة وقيود المواضي والروابط. فكانت «الثورة» الوطنية الديموقراطية (العامية) صاحبة الدولة الموعودة، وصانعتها متعاونة مع دول الانتداب والسيطرة ومخالفتها ومناقضتها معاً سالبة أو سلبية. وهذا كناية عن جمعها كتلاً وشراذم من غير لحمة داخلية مركبة، ولا كتلة غالبة «استحقت» الغلبة وحلقت حولها كتلاً مختلفة أقامت على اختلافها. فالدولة الوطنية والسياسية المحدثة أفضت إلى جماعات الولايات، وآلت إليها. وهي لم تردها على هذا الوجه، ولا على غيره، لا جغرافية وحدوداً، ولا سكاناً وجماعات، ولا موارد ومواصلات، ولا إدارات وهيئات، ولا مزيجاً أو تفرقاً.
والحق ان العقود الأخيرة التي سبقت الخروج من السلطنة، ومهدت الطريق إليه على أنحاء كثيرة ومتضاربة، لم ترهص بمصير مختلف، ولم تجل سياسات جائزة أخرى (على وجه الدقة: لم تجل نسيجاً «اجتماعياً تاريخياً»، على قول أحد المفكرين المعاصرين، آخر، وهذا النسيج هو الأرض أو التربة التي يضرب الاجتماع المفرد بجذوره ومصادره وموارده فيها). ولعل آية الحال هي ما سمي «الثورة العربية الأولى» أو «ثورة» الشريف حسين. فنهض عَلَماً على دخول المشرق العربي عصر الدولة الوطنية والسياسية الجديد نقيبُ الأشراف الهاشميين بالحجاز، وأمير مكة وديراتها وضواحيها البدوية القريبة (قياساً على الأحلاف القبلية القوية في الداخل)، المنزوع السلاح والضعيف الشوكة والعصبية والدالة، ووكيل الولاية العثمانية الإسمي، وأليف البلاط السلطاني، و «حليف» عامل استخبارات الجيش البريطاني بمصر. وشهرس إ. لورنس نسب الشريف الهاشمي النبوي والعربي «سلاحاً ميتافيزيقياً»، على قوله في مضمون دعاوته وتحريضه على استانبول وقواتها وسكتها الحديد. وتجاوز النسب الشريف، أشرف الأنساب في المجتمعات العربية والإسلامية، الطبقات الناشئة (الطريفة) والقديمة (التليدة)، الطامحة إلى الحكم والقيادة والمجرَّبة بعض التجريب في المضمار هذا والمتخللة الجماعات الأهلية والإدارات. وتخطى اقتراحه على الرئاسات الأهلية الاجتماعية رئيساً، أو شيخاً وملكاً، الجماعات المتفرقة، من أهل مدن وأهل أرياف وأقوام غير عرب وأقوام غير مسلمين، ومن تجار وأعيان وملاكي أرض وإداريين ووجهاء صف ثانٍ وفنيين وكتّاب ومدرسين...
فتنصيبه بهذا المنصب (أي تنصيب ابنه فيصل)، وهو من هو نسباً وعملاً و (ضعف) أواصر بـ «مملكته» ورعيته وتطرفاً في ميزان البلدان وماضياً ودراية، إنما هو قرينة على محل السياسات في «الاجتماعي التاريخي» وأبنيته «العربية» أو المشرقية. فالسياسات، بهذه الحال، لا تعدو المنصب أو المناصب، أي تصدر الجماعات المتلاحمة والتحصن بها وتحصينها وتجييشها وتعبئتها، واستتباع الجماعات الأضعف منها، وضمها وجبايتها وتجنيدها في «حروب» وغزوات. ومثال هذه السياسات هو السلطنة أو الامبراطورية (واللفظة العربية كانت تطلق على ملك شيوخ عشائر صغيرة، واللفظة المعربة والفخمة ينبغي ألا يعدو معناها معنى الأولى، فليس ما يدعو إلى انتفاخ الأوداج حين تراد بها دولة هزيلة وضعيفة وفقيرة جل طموحها ان تكون عقدة طرقات وأنابيب). و «السلطان» لا يصدر عن «تحت»، ولا يتحدر منه، ولا يستقوي بغير عصبيته ونسبه «النبوي» الحقيقي أو المتوهم، وبغير أجهزته التي تمده بها الدولة الوطنية المحدثة. وسلطنته «الواحدة» إنما لحمتها من فوق. وهذا ما شَبَّه على «عرب» مطلع القرن، ولا يزال يشبِّه على بعض «طلائعهم» و «نخباتهم»، على قول أحد أئمة عصبة منها، أن الوحدة القومية العربية هي «مشروع» غير سياسي، وأن ما يحول دونه هو المصالح «القطرية» الضيقة و «معوقات» مصطنعة. (ومن محدثات «الخطاب القومي» أنه «انتبه» إلى «مسألة الأقليات» في العقد الثامن من القرن الماضي، للقول أن حد أنسباء «الخطاب» العتيد تطرق إلى المسألة، متخلفاً 14 عقداً عن السلطان محمود الثاني، فـ «الخطاب القومي» المزعوم يحذو على مثال سلسلة المحدثين، وهو يختص بحديث أو «علم»، ويتناقله وحده).
وحين اضطر الملك المنصَّب بقوة نسبه، وضعف شوكته، وتعاليه عن المحايثات الأهلية والوطنية والإدارية، إلى الدفاع عن منصبه، لم يطق دفاعاً ولا حرباً. ولم ينجده «أحد»، على المعنى العسكري والسياسي. واستجابت «الدعوة»، على مقدار ضئيل وعابر، جماعات طرفية، عسكرية محترفة أو بدوية تنزل الثنايا بين بلاد الرعي وبلاد الزرع (وينهض علماً عليها أدهم خنجر في أطراف جبل عامل، وملحم قاسم في البقاع الشمالي، وقادة «الثورات» الأهلية السورية والفلسطينية والعراقية واللبنانية إلى اليوم، وهي مرت في القسم الأول من المقال). والجماعات الطرفية هذه هي مادة «المقاومات» المتعاقبة، ووقود حروب أهلية إقليمية فوق ما هي حركات وطنية وسياسية. ودأبها الاستيلاء والاقتطاع والسطو والولاء وليس الحكم والتدبير والتأليف. وقبيل تسليم فيصل وغداته انفجرت حدود الولايات القديمة، واضطربت بحركات (أو «هرجات») نازعت الكيانات الناشئة على أراضيها. فمن البوكمال، بين سوريا والعراق، شمالاً، إلى مدين على تخوم الاردن، جنوباً، وبينهما الأكراد والأحلاف البدوية والعشائرية المحلية والجماعات المذهبية ومجتمعاتها الخاصة والمدن، قامت جماعات أهلية متفرقة على السلطان الأجنبي، وعلى الطبقات والرئاسات المتصدية لحكم الكيانات الجديدة، وعلى أهل الزرع والتجارة والبلدات والمدن الصغيرة وغير المسلمين. وهؤلاء هم الخصوم والأعداء. فتناثرت «المملكة العربية» جماعات وعصابات وبلاداً ونواحي. فجمعتها الدول الأوروبية الغازية والمحتلة مجتمعات «وطنية» وحلقتها حول أجسام إدارية وعسكرية إقليمية، ومرافق تمثيلية واقتصادية ومالية وتعليمية ومواصلات. ولم يفضِ انقلاب الأنظمة السياسية، وتداولها حكم بلدانها، في أعقاب قرن مضطرب، إلى تغيير ثابت في حدود الكيانات هذه. وحالا فلسطين والاردن، وشطري اليمن، لا يكذبان الملاحظة. وباءت 3 عقود من المحاولات السورية بفشل مدمر قصاراه إطلاق حروب أو منازعات أهلية وإقليمية من عقالها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق