المستقبل 9/1/2011،
يتكرر في مقالات الخمينيين الحرسيين، وفي مقالات الإسلاميين السياسيين، وفيما يذهب إليه أنصارهم ومريدوهم وجمهورهم، احتجاج واحد يسوغ سياساتهم كلها، منذ نشأتهم في أوقات متفاوتة وبلاد متفرقة، بأمر عظيم هو إنجازهم أو بناؤهم قوة فاعلة وملموسة. وهذه القوة العسكرية، وسعها مقاتلة العدو، الغربي، الأميركي الصهيوني على وجه التخصيص، والثبات في وجهه، وردعه عن عدوانه المتكرر والرخيص التكلفة عليه، وحمله على النظر المتأني والمَلّي في كل مرة ينوي فيها شن حملة عسكرية على «بلاد» الخمينيين والإسلاميين. فهم أقاموا ميزان رعب متبادل أو ميزان ردع مستقيماً، على قولهم مستعيرين بعض مصطلح الحرب النووية وغير التقليدية. والحال هذه يوكل إليها جلاء الفرق العميق، والبون الشاسع بينهم وبين من سبقهم إلى مقارعة العدو، من منظمات فلسطينية مسلحة، وحركات يسارية محلية، ودول عربية اضطرت إلى قتال الدولة العبرية قبل ان تهادنها أو ترضى السلم معها. وكفة المنظمات والحركات والدول عريضة ولجبة. ويملأ الكفة علناً، من غير إضمار أو تورية، معظمُ التاريخ العربي المشرقي المعاصر أو القريب منذ غداة الحرب العالمية الثانية وعشية «النكبة««
وقوام التاريخ أو التواريخ الإقليمية والوطنية حوادث معروفة، أو تفترض معروفة، تنهض معالمَ على الخسارة والانهيار والتآكل. وهذه كلها جمعها، على معان مختلطة ولا تحصى، ما سماه الدعاة و الخطباء والكتّاب والمثقفون» العرب»، طوال نحو القرنين، الانحطاط، على تباين أوصافه وتشخيص عوامله. وقلما يبالي محْدَثو الحركات هذه، وهم ابتدأوا سيرتهم أو سيرهم غداة 1973 وحربها (وأسعار نفطها ومفاوضات سلامها والانقسامات الأهلية والسياسية الإقليمية التي لابستها وخلفتها وسياسات الانفتاح الاقتصادي غداتها)، قلما يبالون بإسناد مقالاتهم إلى سوابق وأنساب غير إسلامية وغير مذهبية. وهم، صدروا عن سيد قطب وقبله عن حسن البناء أم صدروا عن روح الله خميني وخالفيه، لا يقرون بسبق التشخيص، فضلاً عن سبق العلاج لأعلام «الليبراليين»، على ما سماهم ألبرت حوراني في تأريخه «الفكر العربي الحديث» وتابعه كثر على تسميته السريعة والمبتسرة. وعلى هذا فـ «الانحطاط» ليس من مصطلحهم المعلن، على رغم انهم يعنون أو يريدون بالضعف، والهزائم العسكرية والشعبية، بعض المعاني التي أداها «الانحطاط» في المقالات والسياسات «الليبرالية» أي غير الإسلامية. فإذا هم أحصوا علامات الضعف المعيبة والمهينة لم يبعدوا فوق 1948 أو قبلها، على ما صنعت «وثيقة» الحزب الخميني بلبنان في أوائل 2010، وعلى ما يؤرخ معظم المشرقيين الفتيان (و2 من ثلاثة منهم لما يبلغوا الثلاثين من العمر).
[نقيصة الوطنية
والعلامات هذه لا تقصر الضعف على الوجه العسكري، على نحو ما ان القوة العسكرية المحصَّلة والمفترضة التي يُدِلُّ الخمينيون الحرسيون والإسلاميون «الإحيائيون» (والجهاديون) بإنشائها ويفاخرون، إنما يثبتونها قرينة دامغة على ثورة «إسلامية» و «حضارية» (على قول محمد حسين فضل الله) شاملة، نقلتهم، هم الطليعة، من الاستضعاف إلى القوة، وإلى منطقها وكرامتها معاً. وهذه الحال هي حجتهم على جدوى معالجتهم وطبابتهم الضعف العام والشامل بدوره الذي اعترى إرادات المسلمين ونفوسهم وعملهم وعروتهم وعلمهم، على ما ذهب إليه محمد باقر الصدر في كتابه أو بيانه الأول (فلسفتنا، 1959). وينبغي ان يكونوا غير مسبوقين في إنجازهم وصنيعهم. وهم لا يحسبون المفخرة المصرية، أو المفخرة السورية (الأسدية)، في خريف 1973، من مأثور الحوادث التاريخية الكبيرة أو المجيدة، العربية وبالأحرى الإسلامية. ولا يشفع للحرب العربية الأولى التي بادرت إليها الدولتان المصرية والسورية إنجازُها ما أنجزته. وهي لم تنتهِ إلى تداعٍ سريع وكبير، وردت ارضاً محتلة، ومزجت الحرب بالسياسة والديبلوماسية، وقامت دليلاً على حسن التصرف في ميزان القوى وإعماله في خطة.
فعيوبها، في عين الإسلاميين المحدثين، تفوق بما لا يقاس فضائلها: فهي حرب سياسية و «ضيقة» الغايات والأهداف وليست جهاداً توجه دمارُ العدو واستئصاله وتداعيه، على ما تعاقب خميني ورفسنجاني وخامنئي وأحمدي نجاد على التوقع و «التنبؤ» والاشتراط. وهو ما يتوقعه، اليوم، محمد ضيف العسكري الحماسي الأول. والحرب اشترت وقف النار إما باعتراف بالعدو أو بهدنة طويلة و «قطرية» لا تزال علامة على ضعف مقيم. وقام بالحرب وطنيون مصريون وسوريون حملوها على خاتمة الحروب، عقدوا صلحاً وسلماً شأن أنور السادات أم سلَّموا بوقف نار لم ينتهكوه طوال 40 عاماً تقريباً (إلى اليوم)، وحوّلوا الحرب أهلية وخارجية إلى مسارح احتياطية أبرزها المسرح اللبناني، على ما أقر عبد الحليم خدام غداة «انشقاقه». وناوأ الوطنيون المصريون والسوريون، على رغم خلافاتهم فيما بينهم، الإسلاميين مناوأة حادة، فلم يَسْلم منها في دائرة النفوذ السوري الأسدي إلا من وإلى مضطراً أو مختاراً هذا النفوذ، وانقاد له وخدمه.
ولعل سمة حرب 1973 الوطنية («القطرية») المحدودة، والتقليدية، سلاحاً وقتالاً وأعرافاً وغايات، هي عيبها الأول، ونقيصتها الجوهرية. و «قطريتها» وَلَدت الرغبة في الدعة والسلام التي استبدت بأهل هذه الحرب وقادتها، غداة وضعها أوزارها على نحو وصفه كثر من منتقديها بالمعيب والشائن والناكص. فعلى زعم المنتقدين، كان في وسع الحرب لو شاء الرئيس المصري وأخلص العزم ولم ينو أصلاً تقديم غرضه القطري الجزئي والسياسي الظرفي على الغرض الكلي والشرعي والمشروع وهو الانتصار الكاسح والساحق على الاغتصاب اليهودي كان في وسعها المضي على مراحلها، وبلوغ غايتها المرجوة. ولا يرخِّص المنتقدون ثمن دوام الحرب، لو هي دامت. ولكنهم يرون ان الثمن رخيص قياساً على الإنجاز المرجو: دار عربية وإسلامية من غير كيان يهودي وصهيوني ومن غير أقليات قومية أو دينية، وبلاد عزيزة يحكمها أهلها وحدهم من غير نفوذ غربي ولا اقتسام عوائد مع مصالح استعمارية، ومكانة دولية محورية في قلب الكتلة البرية الأوراسية العظيمة... ويشبه هذا، في لغة اليوم أو البارحة القريبة، الشرق الأوسط الإسلامي، وهو الرد الإيراني على الشرق الأوسط الأميركي، الأوسع فالجديد المولود من حروب جورج بوش الابن الصليبية على الإسلام والمسلمين.
واختلاط أحلام اليقظة وهلوساتها الخلاصية بالمطاليب السائرة والمعقولة ينبغي ألا يحمل على اطراح الوجه الهوامي من خطابة «المقاومة» الخمينية أو الجهادية، ولا على إهماله وإغفاله. فهو ترتبت عليه نتائج عملية، معنوية وسياسية وتنظيمية ومادية ثقيلة ليس أقلها عصف الحرب الأهلية، المعلنة والمستترة، بالمجتمعات المشرقية عقوداً متطاولة واستواء أجهزة الحكم والسيطرة على ذيول الحروب الأهلية هذه وإدارتها من داخل شكل الدولة ومبانيها. وليس أقلها، من وجه آخر يلازم الوجه الأول نشوء حركات مقاتلة جماهيرية وعصبية استولت على مقاليد الجماعات الأهلية، وحصنت الجماعات من نفوذ الدولة، وسلطتها على مرافق السيادة، وتوسلت بالدولة وكيانها السياسي والحقوقي (الدولي) إلى حماية استيلائها من معايير الحكم المشتركة والعامة المفترضة داخل الكيانات السياسية والحقوقية، ومن موجبات العلاقات بين «وحدات» المجتمع الدولي.
[رسوم الأهل ورسوم الحكم
ويدعو نشوء الحركات المقاتلة الجماهيرية والعصبية، وغلبتها على جماعاتها الأهلية وسيطرتها عليها، ثم انخراطها في الأبنية الإقليمية السائدة، الحكومية والشعبية، تدعو هذه إلى فحص السياسات العربية (المشرقية) ومبانيها التي سوغت النشؤ والغلبة والانخراط جميعاً، وماشتها على هذا القدر أو ذاك، ورجحت كفتها في آخر المطاف (على تحفظ ومدافعة ربما). ولا يعقل دوام النظامين البعثيين في سورية والعراق الأعوام الطويلة التي داماها، قبل سقوط «دولة (بعث) صدام» حسين تحت وطأة اجتياح أجنبي غربي، ولا تكاثر المنظمات الفلسطينية المسلحة عشية حزيران 1967 وغداته، وانتشارها هي ووكالاتها الوطنية والمحلية، في ثنايا مجتمعات المشرق والجزيرة والخليج، ولا استقرار ذيولها على هيئات أو شاكلات «فتح» والمنظمة الخمينية المسلحة في لبنان و «حماس» إلا في ضوء تاريخ سياسي مديد ينبغي على الأرجح احتسابه بالعقود السبعة أو الثمانية الأخيرة، منذ ثلاثينات القرن العشرين إلى النصف الثاني من عقد القرن الحالي الأول والمنصرم. ففي أثناء هذه العقود تمثلت السياسات العربية، حركات وتيارات وأفكاراً وأفعالاً، في صورة رد أو ردود على دورة العلاقات السياسية السائدة والمستقرة، المتخلفة عن الإدارات الاستعمارية المباشرة أو غير المباشرة.
وكانت الإدارات الاستعمارية، ومعارضاتها المتفرقة، أفضت كلتاهما، وأدتا متضافرتين، إلى دول مستقلة ورثت أبنية الولايات العثمانية، الجغرافية والأهلية والسياسية والاقتصادية في عهد «التنظيمات». فتوجت أجهزة سيطرة اتحادية أو فيديرالية مراتب الجماعات الأهلية وعلاقات الولاء التي جمعت بينها جميعاً رخواً، وفرقتها على عداوات وأحلاف داخلية وإقليمية مضطربة، معاً. وركن هذه الدول، أو أجهزة السيطرة، جماعات أهلية قوام تماسكها وتنازعها علاقات نسب وصهر وجوار وحلف موروثة ومتقلبة. ولا ريب في أن انضواء الجماعات الطويل والمديد في أبنية سيطرة سلطانية (أو امبراطورية) جامعة وبعيدة، السلطنة العثمانية آخر حبات عقدها قبل ان تتقاسم النفوذ عليها الامبراطوريات الأوروبية، أقرها على رخاوة ائتلافها فيما بينها، حين خلفت السلطنة على ولاية الحكم وتعريفه. فأقام ائتلافها «الوطني» الإقليمي (نسبة إلى أراضي الإقليم المنفصل)، في طور تولي الحكم، على كثير من سماته وصفاته قبل توليه. فلم ينفك الائتلاف، في طوره الجديد، ضعيف اللحمة، متنازع الولاء، تغلب على أجزائه وكتله دالة أصحاب النفوذ الشخصية والموروثة. فتضافر دوام الأبنية الأهلية، وغلبتُها على رسوم السيطرة والأمر والنفوذ، وما نجم عن الدوام والغلبة هذين من ترجح وتقلب وأزمات معلقة، كلها تضافرت على إرساء طرفي ميزان لا يحظى بالقبول والإقناع ولا يُلجأ إليه في أمور تقتضي الحسم، واستبعدت بلورة قواعد مداولة ملزمة وحاسمة.
ولم تكن الجماعات نفسها أحسن حالاً من قممها ونخبها المؤتلفة في إطار جهاز السيطرة الوطني، قبل الاستقلالات وبعدها. فقوام الجماعات، القرابي والاعتقادي والعصبي، يجمع المتانة والإلزام إلى الشرذمة والتحلل من غير قيد تقريباً. والرابطة العصبية تلزم الجماعات الجزئية والآحاد (على المعنى العددي ومن غير المضمون العملي الفردي) والإقامة على رعاية فرائض الرابطة المعنوية والأدبية. ولكنها تحل الجماعات الجزئية والآحاد من تبعات سياسية ومادية مقيدة. وقد تحمل الجماعات الجزئية، شأن الآحاد، على انتهاك المكانة والطعن في الرأي. والحق ان النسب، الوهمي أو الحقيقي، ينزع إلى نفي الحدوث والجدة عن الوقائع، وإلى إثبات القديم على قدمه (ومثال القدم هو غير المحدث ومن لم يزل، وهو الواحد والحق...)، ويسعى في رد الحادث والجديد إلى قديم عريق. فيقال في تلازم «النسبين»، اللبناني والسوري، أن ما بين لبنان وسوريا لم نصنعه نحن البشر الحادثون، بل صنعه الله القديم. وهو، على هذا، «باق». واستقوى أحد موالي الرئيس السوري بقوله هذا فوقع عشية انفجار «حرب التحرير»، في 14 آذار 1989، على أقرباء له من آله في حلب. فالنسب هو الوجه الإلهي، المتصل والنازل على اختلاف وحَدِّ معقولين، من الاضطراب والاختلاط البشريين، ومن عجمة الزمن وجَمْجَمته. فيجوز، في «ثقافة» عربية أصيلة، التدين بدين النسب والقوم، أو دين الأجداد والآباء الأولين. ومن طريق النسب، والإعلاء فيه، يُجمَع المتفرق، ويوحد الشتيت. ويَسوغ للفاتح الحاكم ضم الجماعة المقيمة منذ قرون بمضارب عراقية بعيدة من إقليمه الجنوبي، إذا ساغ له القول: «هم أهلنا»، على ما يروي أمين الريحاني. ويضمر القول ان رسم السلطان والأمر ورسم الأهل والنسب واحد. ويعكس الترتيب، فيحمل رسم السلطان والحكم، إذا استقر بواسطة القوة والقهر، على نسب، ويوحد ما صنعه الفتح والتخويف والتفريق والاغتيال بالصنيع الإلهي في التاريخ.
فما خلا الحرب «المقدسة» وجهادها، وهي موضعية وظرفية على الدوام، لا تتماسك الرابطة العصبية بمُسكة جامعة وموجبة، ولو إلى حين. وامتحنت «التنظيماتُ» والإصلاحات، والسياسات الاستعمارية والانتدابية من بعدها وعلى خطاها، والمجاعات وسنّي القحط والجفاف، والأوبئة والطواعين، والهجرات الضيقة والعريضة، كتلك التي دعت كتلاً متعاظمة من سكان الداخلية (البوادي والسهول والأرياف) إلى ترك منازلهم وقصد الساحلية وزراعاتها وشريط موانئها ومدنها وتجارتها منذ القرن الثامن عشر والتوطن فيها امتحنت هذه كلها الروابط العصبية والأهلية، وخلخلتها، من غير ان تفلح، أو تسعى اصلاً في إنشاء أجسام اجتماعية مختلفة من مادتها أو أنقاضها. وإذا اجتمعت هذه العوامل على تقطيع الروابط والأواصر القرابية، القائمة، وضيعت حلقاتها وكسرت اتصالها، فهي ثبتت قوة المثال القرابي والنسبي العصبي، ودعته إلى الاضطلاع بأعباء النجدة والتعاضد والتآزر بين الناجين والباقين والآحاد المتساقطين من أجسام عشائرهم، والمنقطعين من اجتماعها وتعاونها.
ويقوم الحلف الاضطراري مقام نسب الأرحام ورابطتها. وتمهد المصاهرة إلى تنسيب ترفعه الرواية النسبية المتجددة من غير حرج إلى حلقة مضطربة وقلقة في سلسلة الأنساب. ولاحظ مؤرخو بعض القرى الجبلية اللبنانية المارونية، أن أنساب العائلات المحفوظة والمروية تلحظ على الدوام تقريباً دائرة غامضة يتصل منها النسب المفترض، من طريق هذا الجد أو ذاك، بعمود الأسرة ويتستر على انقطاعه الفعلي. وبعض هؤلاء المؤرخين قدَّر أن الثلث الأول من القرن الثامن عشر قد يكون الوقت الذي شاع فيه الغموض وكثر. والثلث الأول هو زمن هجرة عريضة، رومية كاثوليكية أو ملكية على الأخص، من حلب وبلادها وأريافها إلى جبل لبنان. وشهد جبل عامل، في أوقات مديدة، تسلل بدو سنة من عرب الحولة إلى ثناياه و «أقاليمه» الداخلية (الشومر والتفاح). وأنشأ المهاجرون مزارع، وعملوا «شاوية» في الأرض. وجباهم رؤساء العشائر، على ما كان يدعى الزعماء والأعيان، فيمن كانوا يجبون من السكان «الأصليين». وفي مطالع القرن العشرين أحصى أدباء جبل عامل المهاجرين البدو والسنة السابقين في خطط «الجبل» وعشائره ومتاولته. وتنقيل الأنساب والأحساب كثير في باديتي الشام والعراق، وفي الأحلاف القبلية الكبيرة مثل آل السعدون وعرب الرولَّة. ولم يمتنع التنقيل والتنسيب على رقيق القصور والبلاطات الصغيرة في الواحات النجدية. ولعل رفع صدام حسين نسبه إلى ذرية علي بن ابي طالب من اجلى القرائن المتأخرة على دوام قوة المنطق النسبي العصبي، وعلى عمق أثره في توليد المعاني السياسية ومبانيها العملية و «الروائية» معاً. وسبقت فعلَ صدام حسين وماشته، المشادة اللبنانية، الطرابلسية، على نسب المدينة كلها: أهي لا تزال طرابلس الشام، مدينة (سوريا) الساحلية على قول كبير أعيانها المفتي الشيخ عبد الحميد كرامي، أم مدينة لبنانية وعاصمة لبنان الثانية، على حسبان إرادي واختياري؟ أم هي عاصمة «اللبنانيين السنة»، على ما تردد أصداءُ المشادة المتجددة في آخر شهر من سنة 2010 الميمونة؟
[الائتلاف المتصدع
وكرست السلطنة العثمانية وإصلاحاتها التمثيلية («البرلمانية» القريبة من مجلس الشيوخ والأعيان والبعيدة من مجلس النواب العامي)، والإدارية (أي التعيينات المحلية)، والاقتصادية (وهي «خربت» الاحتكارات التجارية والحرفية التقليدية فوق ما أنشأت سوق تداول وتبادل) والقانونية (و «مساواتها» الرعايا أو مللهم وتأليبها الكثرة على القلات، وسن حماية الملكية الخاصة) كرست السلطنة، في نصف القرن الأخير من حكمها المتقاسم والمهجن، إشراكَ «وجهاء صف ثانٍ» من الأهالي والوطنيين في الدالة والنفوذ. فزادت طبقة جديدة على الطبقات الحاكمة القديمة المؤتلفة ائتلافاً رجراجاً من الأعيان والأشراف ورؤساء العشائر والأقوام والملل وكبار الموظفين و «الكتّاب» السابقين والحاليين وقادة الجند والتجار وملاكي الأرض (منذ 1858 وإنشاء «الطابو») ومشايخ الحرف والطرق الصوفية وشيوخ الفقه والفتوى والقضاء والتدريس ونظار الأوقاف المحبوسة. والطبقة الجديدة تتحدر من الموظفين الأهليين، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، ومن مزيج الإدارة والتجارة وتملك الأرض و (بعض) «العلم» المعتم في الغالب فالحاسر. وانسلخت الطبقة الجديدة من العامة المختلطة والمولدة، واضطلعت بأدوار راجحة في إرساء النفوذ والرئاسة (أي السياسات الجديدة) على إرادة تمثيل اجتماعي لا يقتصر على الموازين العصبية، ومراتب الولاء والخدمة، ويُحتسب في مقومات النفوذ والرئاسة، وعواملهما، المكانة المحدثة والمتأتية من الموارد والتدبير والعلاقات وتثميرها.
و«قادت» الطبقة الجديدة، وهي وسطية أو متوسطة موضعاً ودوراً وقوة، المنازع الوطنية والقومية والاستقلالية، والتحديثية الاجتماعية والإدارية، والتجديدية الدينية والثقافية، معاً وجميعاً. ومعنى «قيادتها» انضمامها، مع الطبقات الأخرى الكثيرة والمتفرقة التي تقدم إحصاؤها، إلى سلك أصحاب النفوذ والدالة، وإسهامها العملي والمادي في العبارة المعلنة عن هذه المنازع، وندبها أفراداً أو آحاداً من أوساطها إلى تولي العبارة وصوغها. واقتصرت قيادتها على هذا. ولم تتعدَّه إلى بلورة كتلة متماسكة على مراتب وأدوار مقرَّرة، وعلى سُلَّم قوى ونفوذ ومصالح تقريبي ومتعارَف يحظى ببعض الإجماع، وتحتكم منازعاته إلى معايير عامة ومشتركة على حد أدنى. والكتلة والسلم والمعايير هي من أطياف «الطبقة الثالثة» الأوروبية ومثالها المتوهَّم والمترسب في قاع ثقافة «تقدمية» سادرة في ثبات تاريخي أشبه بالغيبوبة الدماغية. وهذه طريقة مهذبة ومعتادة ورتيبة في القول ان الطبقة الجديدة فاقمت تصدع الطبقات القديمة وتخليطها وتنافرها وتذبذبها وانتهازيتها وضآلتها. فكانت مرآة منازع الطبقات القديمة الكثيرة والمتضاربة، في شقيها أو شطريها، الحاكم والمحكوم، المسيطر والمنقاد. وقصَّرت عما لم تندب نفسها إليه اصلاً ويندبها إليه «التقدميون» المزعومون على مثال «بورجوازية» بعضهم «الوطنية»، أو على مثال «طليعة إصلاحية» أو «ثورية» متخيلة-. وهو، على سبيل الافتراض، استخلاص قواسم مشتركة، سياسية واجتماعية وثقافية وطنية، ترسي مداميك دولة مدنية ووطنية مجتمعة وحديثة.
وعلى خلاف هذا والضد منه، أسرعت الطبقة الجديدة، وهي مصدر طواقم الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد والثقافة في الدول العربية المستجدة قبل الاستقلالات وبعدها، إلى إنشاء عصبياتها وكتلها، وإلى تسويرها وتحصينها من طريق رفعها إلى أصلاب شريفة. و «جددت» الإنشاء والتسوير، فتوسلت إليهما بإعالة الأنصار والمحازبين وأهل الغرضية من العامة، إما فرادى وآحاداً، فوزعت العطاء العيني أو النقدي ما وسعها وفاضها، وملك يمينها، وإما أهالي وأسراً وقرى وأحياء وخططاً. فقسمت إدارات الدولة ومرافقها إقطاعات ومزارع ودويلات وحصصاً ورخصاً وإعفاءات، وأضعفت الوجه التقني من التدبير والحكم. وقوضت الوجه القانوني أو الحقوقي منه، وشاركت الطبقات القديمة مناوأتها المبادرات والاستثمارات الحرة (على قلتها)، وصورَ التعاون والاجتماع والتسليك المستقلة، والأفكار «الحُرِّية»، والمثالات الاجتماعية الفردية، والمساواة والمواطنة. فأسهمت في قلب الرسوم والسنن الجديدة، السياسية والانتخابية والإدارية، وفي مسخها وإلحاقها بالرسوم والسنن «العثمانية» والمحلية، وحَلِّها في اعتبارات التقريب والتبعيد والغرضية والأهلية. وسايرت مجافاةَ الاعتبارات هذه المعاييرَ التقنية والحقوقية والسياسية المدنية والوطنية. وعلى نحو قريب، سايرت ميول العامة وأهواءها الجماعية، وفي أحيان كثيرة نفخت فيها.
والحق ان العصبيات العامية كتلك التي وصف عبدالرحمن الجبرتي المصري فورانها وانطفاءها وترجحها إبان الحملة الفرنسية على مصر ثم في الأعوام الخمسة أو الستة التي مهدت طريق محمد علي باشا الأرناؤوطي إلى حكم مصر هي التي ملأت السياسات الوطنية والاستقلالية في الدول المحدثة غداة الحرب الأولى. والثورتان «العربيتان»، السورية (الدرزية) في 1925 1928 والفلسطينية «الكبرى» في 1936 1939، كانتا، شأن الحركة السورية الوطنية عشية 1936 ومعاهدتها وشأن «ثورة» 1958 «اللبنانية» العروبية الناصرية وأيلول 1970 «الأسود» والأردني وانتفاضة حماه في شتاء 1982 وانتفاضة 6 شباط 1984 ببيروت والانتفاضة الشعبانية في 1991 بالعراق، انتفاضتين محليتين وبلديتين وأهليتين واسعتين. ولم تبلغا، في ذروتيهما، التنسيق والتكامل والاشتراك التي تجيز حملهما على حركتين سياسيتين حديثتين. فالعامة، أو الطبقات الشعبية، كان اجتماعها، أو روابطها وأواصرها ومنازعاتها وانقساماتها، شديد الشبه باجتماع الطبقات الحاكمة، وترجحها بين التناصر والعداء على غير تبصر وروية وبين الائتلاف لا على بصيرة وخطة
وقوام التاريخ أو التواريخ الإقليمية والوطنية حوادث معروفة، أو تفترض معروفة، تنهض معالمَ على الخسارة والانهيار والتآكل. وهذه كلها جمعها، على معان مختلطة ولا تحصى، ما سماه الدعاة و الخطباء والكتّاب والمثقفون» العرب»، طوال نحو القرنين، الانحطاط، على تباين أوصافه وتشخيص عوامله. وقلما يبالي محْدَثو الحركات هذه، وهم ابتدأوا سيرتهم أو سيرهم غداة 1973 وحربها (وأسعار نفطها ومفاوضات سلامها والانقسامات الأهلية والسياسية الإقليمية التي لابستها وخلفتها وسياسات الانفتاح الاقتصادي غداتها)، قلما يبالون بإسناد مقالاتهم إلى سوابق وأنساب غير إسلامية وغير مذهبية. وهم، صدروا عن سيد قطب وقبله عن حسن البناء أم صدروا عن روح الله خميني وخالفيه، لا يقرون بسبق التشخيص، فضلاً عن سبق العلاج لأعلام «الليبراليين»، على ما سماهم ألبرت حوراني في تأريخه «الفكر العربي الحديث» وتابعه كثر على تسميته السريعة والمبتسرة. وعلى هذا فـ «الانحطاط» ليس من مصطلحهم المعلن، على رغم انهم يعنون أو يريدون بالضعف، والهزائم العسكرية والشعبية، بعض المعاني التي أداها «الانحطاط» في المقالات والسياسات «الليبرالية» أي غير الإسلامية. فإذا هم أحصوا علامات الضعف المعيبة والمهينة لم يبعدوا فوق 1948 أو قبلها، على ما صنعت «وثيقة» الحزب الخميني بلبنان في أوائل 2010، وعلى ما يؤرخ معظم المشرقيين الفتيان (و2 من ثلاثة منهم لما يبلغوا الثلاثين من العمر).
[نقيصة الوطنية
والعلامات هذه لا تقصر الضعف على الوجه العسكري، على نحو ما ان القوة العسكرية المحصَّلة والمفترضة التي يُدِلُّ الخمينيون الحرسيون والإسلاميون «الإحيائيون» (والجهاديون) بإنشائها ويفاخرون، إنما يثبتونها قرينة دامغة على ثورة «إسلامية» و «حضارية» (على قول محمد حسين فضل الله) شاملة، نقلتهم، هم الطليعة، من الاستضعاف إلى القوة، وإلى منطقها وكرامتها معاً. وهذه الحال هي حجتهم على جدوى معالجتهم وطبابتهم الضعف العام والشامل بدوره الذي اعترى إرادات المسلمين ونفوسهم وعملهم وعروتهم وعلمهم، على ما ذهب إليه محمد باقر الصدر في كتابه أو بيانه الأول (فلسفتنا، 1959). وينبغي ان يكونوا غير مسبوقين في إنجازهم وصنيعهم. وهم لا يحسبون المفخرة المصرية، أو المفخرة السورية (الأسدية)، في خريف 1973، من مأثور الحوادث التاريخية الكبيرة أو المجيدة، العربية وبالأحرى الإسلامية. ولا يشفع للحرب العربية الأولى التي بادرت إليها الدولتان المصرية والسورية إنجازُها ما أنجزته. وهي لم تنتهِ إلى تداعٍ سريع وكبير، وردت ارضاً محتلة، ومزجت الحرب بالسياسة والديبلوماسية، وقامت دليلاً على حسن التصرف في ميزان القوى وإعماله في خطة.
فعيوبها، في عين الإسلاميين المحدثين، تفوق بما لا يقاس فضائلها: فهي حرب سياسية و «ضيقة» الغايات والأهداف وليست جهاداً توجه دمارُ العدو واستئصاله وتداعيه، على ما تعاقب خميني ورفسنجاني وخامنئي وأحمدي نجاد على التوقع و «التنبؤ» والاشتراط. وهو ما يتوقعه، اليوم، محمد ضيف العسكري الحماسي الأول. والحرب اشترت وقف النار إما باعتراف بالعدو أو بهدنة طويلة و «قطرية» لا تزال علامة على ضعف مقيم. وقام بالحرب وطنيون مصريون وسوريون حملوها على خاتمة الحروب، عقدوا صلحاً وسلماً شأن أنور السادات أم سلَّموا بوقف نار لم ينتهكوه طوال 40 عاماً تقريباً (إلى اليوم)، وحوّلوا الحرب أهلية وخارجية إلى مسارح احتياطية أبرزها المسرح اللبناني، على ما أقر عبد الحليم خدام غداة «انشقاقه». وناوأ الوطنيون المصريون والسوريون، على رغم خلافاتهم فيما بينهم، الإسلاميين مناوأة حادة، فلم يَسْلم منها في دائرة النفوذ السوري الأسدي إلا من وإلى مضطراً أو مختاراً هذا النفوذ، وانقاد له وخدمه.
ولعل سمة حرب 1973 الوطنية («القطرية») المحدودة، والتقليدية، سلاحاً وقتالاً وأعرافاً وغايات، هي عيبها الأول، ونقيصتها الجوهرية. و «قطريتها» وَلَدت الرغبة في الدعة والسلام التي استبدت بأهل هذه الحرب وقادتها، غداة وضعها أوزارها على نحو وصفه كثر من منتقديها بالمعيب والشائن والناكص. فعلى زعم المنتقدين، كان في وسع الحرب لو شاء الرئيس المصري وأخلص العزم ولم ينو أصلاً تقديم غرضه القطري الجزئي والسياسي الظرفي على الغرض الكلي والشرعي والمشروع وهو الانتصار الكاسح والساحق على الاغتصاب اليهودي كان في وسعها المضي على مراحلها، وبلوغ غايتها المرجوة. ولا يرخِّص المنتقدون ثمن دوام الحرب، لو هي دامت. ولكنهم يرون ان الثمن رخيص قياساً على الإنجاز المرجو: دار عربية وإسلامية من غير كيان يهودي وصهيوني ومن غير أقليات قومية أو دينية، وبلاد عزيزة يحكمها أهلها وحدهم من غير نفوذ غربي ولا اقتسام عوائد مع مصالح استعمارية، ومكانة دولية محورية في قلب الكتلة البرية الأوراسية العظيمة... ويشبه هذا، في لغة اليوم أو البارحة القريبة، الشرق الأوسط الإسلامي، وهو الرد الإيراني على الشرق الأوسط الأميركي، الأوسع فالجديد المولود من حروب جورج بوش الابن الصليبية على الإسلام والمسلمين.
واختلاط أحلام اليقظة وهلوساتها الخلاصية بالمطاليب السائرة والمعقولة ينبغي ألا يحمل على اطراح الوجه الهوامي من خطابة «المقاومة» الخمينية أو الجهادية، ولا على إهماله وإغفاله. فهو ترتبت عليه نتائج عملية، معنوية وسياسية وتنظيمية ومادية ثقيلة ليس أقلها عصف الحرب الأهلية، المعلنة والمستترة، بالمجتمعات المشرقية عقوداً متطاولة واستواء أجهزة الحكم والسيطرة على ذيول الحروب الأهلية هذه وإدارتها من داخل شكل الدولة ومبانيها. وليس أقلها، من وجه آخر يلازم الوجه الأول نشوء حركات مقاتلة جماهيرية وعصبية استولت على مقاليد الجماعات الأهلية، وحصنت الجماعات من نفوذ الدولة، وسلطتها على مرافق السيادة، وتوسلت بالدولة وكيانها السياسي والحقوقي (الدولي) إلى حماية استيلائها من معايير الحكم المشتركة والعامة المفترضة داخل الكيانات السياسية والحقوقية، ومن موجبات العلاقات بين «وحدات» المجتمع الدولي.
[رسوم الأهل ورسوم الحكم
ويدعو نشوء الحركات المقاتلة الجماهيرية والعصبية، وغلبتها على جماعاتها الأهلية وسيطرتها عليها، ثم انخراطها في الأبنية الإقليمية السائدة، الحكومية والشعبية، تدعو هذه إلى فحص السياسات العربية (المشرقية) ومبانيها التي سوغت النشؤ والغلبة والانخراط جميعاً، وماشتها على هذا القدر أو ذاك، ورجحت كفتها في آخر المطاف (على تحفظ ومدافعة ربما). ولا يعقل دوام النظامين البعثيين في سورية والعراق الأعوام الطويلة التي داماها، قبل سقوط «دولة (بعث) صدام» حسين تحت وطأة اجتياح أجنبي غربي، ولا تكاثر المنظمات الفلسطينية المسلحة عشية حزيران 1967 وغداته، وانتشارها هي ووكالاتها الوطنية والمحلية، في ثنايا مجتمعات المشرق والجزيرة والخليج، ولا استقرار ذيولها على هيئات أو شاكلات «فتح» والمنظمة الخمينية المسلحة في لبنان و «حماس» إلا في ضوء تاريخ سياسي مديد ينبغي على الأرجح احتسابه بالعقود السبعة أو الثمانية الأخيرة، منذ ثلاثينات القرن العشرين إلى النصف الثاني من عقد القرن الحالي الأول والمنصرم. ففي أثناء هذه العقود تمثلت السياسات العربية، حركات وتيارات وأفكاراً وأفعالاً، في صورة رد أو ردود على دورة العلاقات السياسية السائدة والمستقرة، المتخلفة عن الإدارات الاستعمارية المباشرة أو غير المباشرة.
وكانت الإدارات الاستعمارية، ومعارضاتها المتفرقة، أفضت كلتاهما، وأدتا متضافرتين، إلى دول مستقلة ورثت أبنية الولايات العثمانية، الجغرافية والأهلية والسياسية والاقتصادية في عهد «التنظيمات». فتوجت أجهزة سيطرة اتحادية أو فيديرالية مراتب الجماعات الأهلية وعلاقات الولاء التي جمعت بينها جميعاً رخواً، وفرقتها على عداوات وأحلاف داخلية وإقليمية مضطربة، معاً. وركن هذه الدول، أو أجهزة السيطرة، جماعات أهلية قوام تماسكها وتنازعها علاقات نسب وصهر وجوار وحلف موروثة ومتقلبة. ولا ريب في أن انضواء الجماعات الطويل والمديد في أبنية سيطرة سلطانية (أو امبراطورية) جامعة وبعيدة، السلطنة العثمانية آخر حبات عقدها قبل ان تتقاسم النفوذ عليها الامبراطوريات الأوروبية، أقرها على رخاوة ائتلافها فيما بينها، حين خلفت السلطنة على ولاية الحكم وتعريفه. فأقام ائتلافها «الوطني» الإقليمي (نسبة إلى أراضي الإقليم المنفصل)، في طور تولي الحكم، على كثير من سماته وصفاته قبل توليه. فلم ينفك الائتلاف، في طوره الجديد، ضعيف اللحمة، متنازع الولاء، تغلب على أجزائه وكتله دالة أصحاب النفوذ الشخصية والموروثة. فتضافر دوام الأبنية الأهلية، وغلبتُها على رسوم السيطرة والأمر والنفوذ، وما نجم عن الدوام والغلبة هذين من ترجح وتقلب وأزمات معلقة، كلها تضافرت على إرساء طرفي ميزان لا يحظى بالقبول والإقناع ولا يُلجأ إليه في أمور تقتضي الحسم، واستبعدت بلورة قواعد مداولة ملزمة وحاسمة.
ولم تكن الجماعات نفسها أحسن حالاً من قممها ونخبها المؤتلفة في إطار جهاز السيطرة الوطني، قبل الاستقلالات وبعدها. فقوام الجماعات، القرابي والاعتقادي والعصبي، يجمع المتانة والإلزام إلى الشرذمة والتحلل من غير قيد تقريباً. والرابطة العصبية تلزم الجماعات الجزئية والآحاد (على المعنى العددي ومن غير المضمون العملي الفردي) والإقامة على رعاية فرائض الرابطة المعنوية والأدبية. ولكنها تحل الجماعات الجزئية والآحاد من تبعات سياسية ومادية مقيدة. وقد تحمل الجماعات الجزئية، شأن الآحاد، على انتهاك المكانة والطعن في الرأي. والحق ان النسب، الوهمي أو الحقيقي، ينزع إلى نفي الحدوث والجدة عن الوقائع، وإلى إثبات القديم على قدمه (ومثال القدم هو غير المحدث ومن لم يزل، وهو الواحد والحق...)، ويسعى في رد الحادث والجديد إلى قديم عريق. فيقال في تلازم «النسبين»، اللبناني والسوري، أن ما بين لبنان وسوريا لم نصنعه نحن البشر الحادثون، بل صنعه الله القديم. وهو، على هذا، «باق». واستقوى أحد موالي الرئيس السوري بقوله هذا فوقع عشية انفجار «حرب التحرير»، في 14 آذار 1989، على أقرباء له من آله في حلب. فالنسب هو الوجه الإلهي، المتصل والنازل على اختلاف وحَدِّ معقولين، من الاضطراب والاختلاط البشريين، ومن عجمة الزمن وجَمْجَمته. فيجوز، في «ثقافة» عربية أصيلة، التدين بدين النسب والقوم، أو دين الأجداد والآباء الأولين. ومن طريق النسب، والإعلاء فيه، يُجمَع المتفرق، ويوحد الشتيت. ويَسوغ للفاتح الحاكم ضم الجماعة المقيمة منذ قرون بمضارب عراقية بعيدة من إقليمه الجنوبي، إذا ساغ له القول: «هم أهلنا»، على ما يروي أمين الريحاني. ويضمر القول ان رسم السلطان والأمر ورسم الأهل والنسب واحد. ويعكس الترتيب، فيحمل رسم السلطان والحكم، إذا استقر بواسطة القوة والقهر، على نسب، ويوحد ما صنعه الفتح والتخويف والتفريق والاغتيال بالصنيع الإلهي في التاريخ.
فما خلا الحرب «المقدسة» وجهادها، وهي موضعية وظرفية على الدوام، لا تتماسك الرابطة العصبية بمُسكة جامعة وموجبة، ولو إلى حين. وامتحنت «التنظيماتُ» والإصلاحات، والسياسات الاستعمارية والانتدابية من بعدها وعلى خطاها، والمجاعات وسنّي القحط والجفاف، والأوبئة والطواعين، والهجرات الضيقة والعريضة، كتلك التي دعت كتلاً متعاظمة من سكان الداخلية (البوادي والسهول والأرياف) إلى ترك منازلهم وقصد الساحلية وزراعاتها وشريط موانئها ومدنها وتجارتها منذ القرن الثامن عشر والتوطن فيها امتحنت هذه كلها الروابط العصبية والأهلية، وخلخلتها، من غير ان تفلح، أو تسعى اصلاً في إنشاء أجسام اجتماعية مختلفة من مادتها أو أنقاضها. وإذا اجتمعت هذه العوامل على تقطيع الروابط والأواصر القرابية، القائمة، وضيعت حلقاتها وكسرت اتصالها، فهي ثبتت قوة المثال القرابي والنسبي العصبي، ودعته إلى الاضطلاع بأعباء النجدة والتعاضد والتآزر بين الناجين والباقين والآحاد المتساقطين من أجسام عشائرهم، والمنقطعين من اجتماعها وتعاونها.
ويقوم الحلف الاضطراري مقام نسب الأرحام ورابطتها. وتمهد المصاهرة إلى تنسيب ترفعه الرواية النسبية المتجددة من غير حرج إلى حلقة مضطربة وقلقة في سلسلة الأنساب. ولاحظ مؤرخو بعض القرى الجبلية اللبنانية المارونية، أن أنساب العائلات المحفوظة والمروية تلحظ على الدوام تقريباً دائرة غامضة يتصل منها النسب المفترض، من طريق هذا الجد أو ذاك، بعمود الأسرة ويتستر على انقطاعه الفعلي. وبعض هؤلاء المؤرخين قدَّر أن الثلث الأول من القرن الثامن عشر قد يكون الوقت الذي شاع فيه الغموض وكثر. والثلث الأول هو زمن هجرة عريضة، رومية كاثوليكية أو ملكية على الأخص، من حلب وبلادها وأريافها إلى جبل لبنان. وشهد جبل عامل، في أوقات مديدة، تسلل بدو سنة من عرب الحولة إلى ثناياه و «أقاليمه» الداخلية (الشومر والتفاح). وأنشأ المهاجرون مزارع، وعملوا «شاوية» في الأرض. وجباهم رؤساء العشائر، على ما كان يدعى الزعماء والأعيان، فيمن كانوا يجبون من السكان «الأصليين». وفي مطالع القرن العشرين أحصى أدباء جبل عامل المهاجرين البدو والسنة السابقين في خطط «الجبل» وعشائره ومتاولته. وتنقيل الأنساب والأحساب كثير في باديتي الشام والعراق، وفي الأحلاف القبلية الكبيرة مثل آل السعدون وعرب الرولَّة. ولم يمتنع التنقيل والتنسيب على رقيق القصور والبلاطات الصغيرة في الواحات النجدية. ولعل رفع صدام حسين نسبه إلى ذرية علي بن ابي طالب من اجلى القرائن المتأخرة على دوام قوة المنطق النسبي العصبي، وعلى عمق أثره في توليد المعاني السياسية ومبانيها العملية و «الروائية» معاً. وسبقت فعلَ صدام حسين وماشته، المشادة اللبنانية، الطرابلسية، على نسب المدينة كلها: أهي لا تزال طرابلس الشام، مدينة (سوريا) الساحلية على قول كبير أعيانها المفتي الشيخ عبد الحميد كرامي، أم مدينة لبنانية وعاصمة لبنان الثانية، على حسبان إرادي واختياري؟ أم هي عاصمة «اللبنانيين السنة»، على ما تردد أصداءُ المشادة المتجددة في آخر شهر من سنة 2010 الميمونة؟
[الائتلاف المتصدع
وكرست السلطنة العثمانية وإصلاحاتها التمثيلية («البرلمانية» القريبة من مجلس الشيوخ والأعيان والبعيدة من مجلس النواب العامي)، والإدارية (أي التعيينات المحلية)، والاقتصادية (وهي «خربت» الاحتكارات التجارية والحرفية التقليدية فوق ما أنشأت سوق تداول وتبادل) والقانونية (و «مساواتها» الرعايا أو مللهم وتأليبها الكثرة على القلات، وسن حماية الملكية الخاصة) كرست السلطنة، في نصف القرن الأخير من حكمها المتقاسم والمهجن، إشراكَ «وجهاء صف ثانٍ» من الأهالي والوطنيين في الدالة والنفوذ. فزادت طبقة جديدة على الطبقات الحاكمة القديمة المؤتلفة ائتلافاً رجراجاً من الأعيان والأشراف ورؤساء العشائر والأقوام والملل وكبار الموظفين و «الكتّاب» السابقين والحاليين وقادة الجند والتجار وملاكي الأرض (منذ 1858 وإنشاء «الطابو») ومشايخ الحرف والطرق الصوفية وشيوخ الفقه والفتوى والقضاء والتدريس ونظار الأوقاف المحبوسة. والطبقة الجديدة تتحدر من الموظفين الأهليين، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، ومن مزيج الإدارة والتجارة وتملك الأرض و (بعض) «العلم» المعتم في الغالب فالحاسر. وانسلخت الطبقة الجديدة من العامة المختلطة والمولدة، واضطلعت بأدوار راجحة في إرساء النفوذ والرئاسة (أي السياسات الجديدة) على إرادة تمثيل اجتماعي لا يقتصر على الموازين العصبية، ومراتب الولاء والخدمة، ويُحتسب في مقومات النفوذ والرئاسة، وعواملهما، المكانة المحدثة والمتأتية من الموارد والتدبير والعلاقات وتثميرها.
و«قادت» الطبقة الجديدة، وهي وسطية أو متوسطة موضعاً ودوراً وقوة، المنازع الوطنية والقومية والاستقلالية، والتحديثية الاجتماعية والإدارية، والتجديدية الدينية والثقافية، معاً وجميعاً. ومعنى «قيادتها» انضمامها، مع الطبقات الأخرى الكثيرة والمتفرقة التي تقدم إحصاؤها، إلى سلك أصحاب النفوذ والدالة، وإسهامها العملي والمادي في العبارة المعلنة عن هذه المنازع، وندبها أفراداً أو آحاداً من أوساطها إلى تولي العبارة وصوغها. واقتصرت قيادتها على هذا. ولم تتعدَّه إلى بلورة كتلة متماسكة على مراتب وأدوار مقرَّرة، وعلى سُلَّم قوى ونفوذ ومصالح تقريبي ومتعارَف يحظى ببعض الإجماع، وتحتكم منازعاته إلى معايير عامة ومشتركة على حد أدنى. والكتلة والسلم والمعايير هي من أطياف «الطبقة الثالثة» الأوروبية ومثالها المتوهَّم والمترسب في قاع ثقافة «تقدمية» سادرة في ثبات تاريخي أشبه بالغيبوبة الدماغية. وهذه طريقة مهذبة ومعتادة ورتيبة في القول ان الطبقة الجديدة فاقمت تصدع الطبقات القديمة وتخليطها وتنافرها وتذبذبها وانتهازيتها وضآلتها. فكانت مرآة منازع الطبقات القديمة الكثيرة والمتضاربة، في شقيها أو شطريها، الحاكم والمحكوم، المسيطر والمنقاد. وقصَّرت عما لم تندب نفسها إليه اصلاً ويندبها إليه «التقدميون» المزعومون على مثال «بورجوازية» بعضهم «الوطنية»، أو على مثال «طليعة إصلاحية» أو «ثورية» متخيلة-. وهو، على سبيل الافتراض، استخلاص قواسم مشتركة، سياسية واجتماعية وثقافية وطنية، ترسي مداميك دولة مدنية ووطنية مجتمعة وحديثة.
وعلى خلاف هذا والضد منه، أسرعت الطبقة الجديدة، وهي مصدر طواقم الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد والثقافة في الدول العربية المستجدة قبل الاستقلالات وبعدها، إلى إنشاء عصبياتها وكتلها، وإلى تسويرها وتحصينها من طريق رفعها إلى أصلاب شريفة. و «جددت» الإنشاء والتسوير، فتوسلت إليهما بإعالة الأنصار والمحازبين وأهل الغرضية من العامة، إما فرادى وآحاداً، فوزعت العطاء العيني أو النقدي ما وسعها وفاضها، وملك يمينها، وإما أهالي وأسراً وقرى وأحياء وخططاً. فقسمت إدارات الدولة ومرافقها إقطاعات ومزارع ودويلات وحصصاً ورخصاً وإعفاءات، وأضعفت الوجه التقني من التدبير والحكم. وقوضت الوجه القانوني أو الحقوقي منه، وشاركت الطبقات القديمة مناوأتها المبادرات والاستثمارات الحرة (على قلتها)، وصورَ التعاون والاجتماع والتسليك المستقلة، والأفكار «الحُرِّية»، والمثالات الاجتماعية الفردية، والمساواة والمواطنة. فأسهمت في قلب الرسوم والسنن الجديدة، السياسية والانتخابية والإدارية، وفي مسخها وإلحاقها بالرسوم والسنن «العثمانية» والمحلية، وحَلِّها في اعتبارات التقريب والتبعيد والغرضية والأهلية. وسايرت مجافاةَ الاعتبارات هذه المعاييرَ التقنية والحقوقية والسياسية المدنية والوطنية. وعلى نحو قريب، سايرت ميول العامة وأهواءها الجماعية، وفي أحيان كثيرة نفخت فيها.
والحق ان العصبيات العامية كتلك التي وصف عبدالرحمن الجبرتي المصري فورانها وانطفاءها وترجحها إبان الحملة الفرنسية على مصر ثم في الأعوام الخمسة أو الستة التي مهدت طريق محمد علي باشا الأرناؤوطي إلى حكم مصر هي التي ملأت السياسات الوطنية والاستقلالية في الدول المحدثة غداة الحرب الأولى. والثورتان «العربيتان»، السورية (الدرزية) في 1925 1928 والفلسطينية «الكبرى» في 1936 1939، كانتا، شأن الحركة السورية الوطنية عشية 1936 ومعاهدتها وشأن «ثورة» 1958 «اللبنانية» العروبية الناصرية وأيلول 1970 «الأسود» والأردني وانتفاضة حماه في شتاء 1982 وانتفاضة 6 شباط 1984 ببيروت والانتفاضة الشعبانية في 1991 بالعراق، انتفاضتين محليتين وبلديتين وأهليتين واسعتين. ولم تبلغا، في ذروتيهما، التنسيق والتكامل والاشتراك التي تجيز حملهما على حركتين سياسيتين حديثتين. فالعامة، أو الطبقات الشعبية، كان اجتماعها، أو روابطها وأواصرها ومنازعاتها وانقساماتها، شديد الشبه باجتماع الطبقات الحاكمة، وترجحها بين التناصر والعداء على غير تبصر وروية وبين الائتلاف لا على بصيرة وخطة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق