الأحد، 17 يوليو 2011

الحرسيّون يقاضون الجريمة والعقاب

   كان سواق السيارة العمومية الضخم الجسم والرأس، والفتي قسمات الوجه، يقود سيارته رزيناً مطمئناً، وفيها راكبان أحدهما الى جانبه (هو المسكين لربه)، يستغرقه كلام "سماحة السيد" حسن نصرالله، حين انعطف بالسيارة من ساحة "الاونسكو" مُصْعداً الى كورنيش المزرعة فثكنة الحلو فمارالياس. وكان الخطيب يتناول، في الاثناء، نقل هيئة تحقيق المحكمة الدولية تجهيزاتها من مكاتبها ببيروت، أو إحدى ضواحيها، الى مقرها بضاحية لاهاي. وكرر المحدث عدد "الـ97 كمبيوتر"، على ما قال متجنباً لفظة الحاسوب أو الحواسيب التي لم يتجنبها الشاهد المصوَّر حين دعاه المحدث الى الشهادة والصورة، مرات. وأردف خبر نقل الجهاز الالكتروني من طريق الناقورة البري، اللبناني – الاسرائيلي، ونبه الى التواء الطريق هذا قياساً على النقل البحري أو الجوي "العادي"، وطلب الى "الاخوة" ان يُروا المشاهدين السامعين والمستغرقين، على مثال السائق، قسيمة الجمرك الاسرائيلي، ورقم المستوعب المتسلسل، وتوقيع الضابط (غير المقروء؟) في أسفلها. وحين بلغ الخطيب هذا الموضع من خطبته، ومن برهانه الساطع والمتلألئ على جبلّة المحكمة (المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومحاكمة اغتيال رفيق الحريري وصحبه) "الاسرائيلية" والمتحاملة "حتى النخاع" على "المقاومة"، لم يملك السائق الضخم والرزين والفتّي الوجه إلا القول الخفيض والهامس: "كيف يعرفون كل هذا".
  وهو قالها محدثاً نفسه. وحين تلفظ أحد الراكبين بجواب عملي، وكأن السائل يسأله، أو كأن سؤاله سؤال حقاً وليس آية إكبار وتعظيم وتسليم خطابية، فقال (الراكب) أن القسيمة جزء من المحفوظات الكومبيوترية التي يسع "الاسرائيليين" دخولها ونقل محتوياتها ووثائقها وبثها الى الخارج، وقع الجواب العملي الموقع اللائق، بحر الصمت والغيبة المترامي. فالمستمع المصغي الى الخطبة "الساحرة" لا تختبر أذنه، وهو معها أو وراءها بكليته، صدق القول أو بنيته او قصده. ولا يدعوه القول اللجب والمتدافع و"المنظم"، والقرينة على نظمه "فهرست" الأبوابُ، او النقاط المتماسكة التي يقرأها الخطيب من ورقة أمامه ويذكر بمراحلها المدرسية الواحدة بعد الاخرى، لا يدعوه الى مثل الاختبار العسير والصاحي هذا. فما يريده الخطيب من خطبته، وهو انشأها على هذا المراد أو الغرض، هو انبهار المستمعين وتصديقهم، وهم جمهور و"جمع" على شاكلة "جمهور الست أم كلثوم"، وانتشاؤهم، وعلى حالٍ "جمهورية" أو "جمعية" نوامية (تنويمية ومغناطيسية) لا يبلغها إلا أصحاب المراتب والمقامات.
الواقعة الخرساء
  وعلى هذا، لا تصيب الردود العملية والمنطقية النثرية (على خلاف "الشعرية") على خُطابة الخطيب البليغة أغراضها. فهي (الردود) تُغفل اللغة التي يتكلمها، وأبنية هذه اللغة، ومسالك العبارة بها، وأمثلة الاحتجاج والبرهان. فشيخ الخطابة الخمينية والحرسية في لبنان والمشرق "العربي" لا تتطرق خطبه ولا سياسته أو سياسة جماعته المسلحة الى واقعة اغتيال رفيق الحريري، على المعنى المادي والمفهوم والسائر و"التافه". فالواقعة او الحادثة، على هذا الوجه، شأن صغير وضئيل يوكل الى أناس مثل (العميد السابق) مصطفى حمدان، يوم كان قائداً وسيداً على حرس (العماد السابق) إميل لحود وقصره، أو مثل (اللواء السابق) جميل السيد، مدير عام الامن العام من قبل وفي عهد العماد العتيد. وهذا الشأن لم يتناوله "سيد" الخطباء يوماً في عشرات الخطب والدورات (الخطابية) المسلسلة والمتلفزة، منذ غرة 8 آذار المجيد، "يوم الشكر"، شكر "سوريا" (الأسد ورستم غزالة).
  فهو حوّم وطوَّق وطار، وأطل على الحادثة من علياء إقليمية ودولية وتاريخية، وطواها في ثنية استراتيجيات كونية وأخروية لا يحاط بها عقلاً ولا نقلاً. وركب آلة زمان ترمح في مضمار مداه 300 سنة الى أمام وشهق علواً الى قوائم العرش أو غير بعيدٍ منها، وبعث موتى استشهدهم الشهادات والاخبار والآثار. ولكنه سكت، في هذا كله، وفي أثناء مئات الساعات الخطابية المصورة، عن الواقعة نفسها: كيف "التقى" القاتلُ قتيله أول ظهيرة يوم الاثنين الواقع في 14 شباط 2005، على رصيف انحناءة طريق أوتيل السان جورج المنعطف الى الشرفة البحرية أو كورنيش المنارة؟ ومن يكون القاتل؟ وكيف انتهت آلة القتل اليه؟ وكيف سبق قتيله الى كتف الطريق وناصيته؟ وأنّى له "العلم" هذا؟ والآلة هذه؟ ومن دبَّر "اللقاء" وضرب الموعد؟
  وإهمال الواقعة ومركبَّها العيني والمادي، ثم محلها من سياقة مادية ومبتذلة هي الاخرى تتناول الحلقات المفضية الى الحادثة (من تعقب "الصيد"؟ منذ متى؟ ما آلات التعقب؟ وما دوائره وحلقاته؟ وهي الاسئلة التي أراد النقيب القتيل وسام عيد والعقيد سمير شحادة فكها فقتل الاول وأصيب الثاني إصابة بليغة وقتل بعض مرافقيه)- هذا الاهمال ليس من قبيل السهو والغلط، ولا من عشيرهما أو اخواتهما نحواً ومنهجاً. وإنما هو سياسة أو "بوليتيكا"، على قول بعض اهل جبلنا الشمالي. وعمل خطيب المسافات الطويلة، والآماد الزمنية الأطول، لا يتصاغر الى تحقيق الواقعة، أو حملها على حقيقتها المادية الضئيلة. فهذه متروكة الى بعض "عمال" الامن وموظفيه ومحركي "بلدوزر" من هنا وموصلي شريط مسجل من هناك. فخطيب الخطباء يتولى عملاً شريفاً هو إيجاب الوقائع والحوادث وحقائقها، وإنشاؤها، او خلقها لو جاز القول ولم يخش القائل الشرك.
  ولعل هذا هو السر في اقتضاء عمل الخطيب الساعات الطويلة التي اقتضاها ايجابه واقعة اغتيال رفيق الحريري على نحو ايجابه اياها، من غير تناولها ولا التطرق اليها من بعيد أو قريب. وهو لما أراد الكلام في خريطة رواح الحريري ومجيئه، في "خطبة القرائن" والصور الجوية الشهيرة في صيف 2010، اختلطت طرق الخريطة البرية وتاهت، واحتدت زواياها المنفرجة وانطوت، على ما لاحظ أحد أصحابنا يومها. ولم يقع "محققو" المسلسل المصور، والباهر الصور (الاسرائيلية)، في ميدان الجريمة ومسرحها الا على "عميل" مفترض وهارب "مر من هنا"ك قبل يوم من الجريمة ولم يخلف أثراً غير بعث تشكك مرير لا يروي غليله سراب يقين أو دليل. فكأن الواقعة المادية تمتنع من كلام من جعل حملها (وفعلها) على غيره، هو وقبيله وعشيره و"طبقته"، شغله الشاغل ودأبه منذ 6 سنوات ونصف السنة تقريباً. وامتناعها من كلامه وبراهينه وحججه وصوره هو ثمن سعيه الممض في تبديدها وإخراسها والطعن في حصولها. وهو ثمن إقامة شيخ الخطباء الحرسيين محل الواقعة المادية المركبة البدائل التي أقامها، هو وقبيله، محل الحادثة: التحقيق الدولي، والقرار 1757، ومشروعية الحكومة وأعمالها، واستهداف سوريا، وحرب 2006، والقرار 1701، والتسييس، وشهود الزور، وإفشاء بعض الاسماء، و"القاعدة" المحلية، وطلعات الطيران الاسرائيلي، و"شبكات العملاء"، و"انتهاك الحرمات"، ومناداة السفير فيلتمان بـ"جيف" (أو "قرينة جيف" على ما سماها بعضهم) و"ويكيليكس"، وهو كثير، والفساد، الخ.
 الطياحة والحرب العامة
  واختلط حابل المسائل المتشابكة والملتفة بنابلها. ودارت حروب اعلامية وسياسية و"دستورية" وقضائية وعسكرية أهلية وإقليمية، يومية وموسمية، لا تحصر عدداً وموضوعات وترددات و"اشتراكات"، على المعنى الطبي. وغلب في اول الامر أسلوب أو نهج "الطياحة، وهي صفة حروب الخروج الاهلي على السلطنة العثمانية وباشواتها وولاتها في بلاد الاطرف والظواهر، على الحروب هذه. وتتوسل "الطياحة بالكمائن والبيات، او اللطو عند المنعطفات، والغارة والانكفاء وإماتة الجبهات واحيائها وتكثيرها وحصرها. وهذا كله، وغيره مثله، ظاهر في الحروب العصبية العربية و"الاسلامية" المحلية والملبننة جميعاً. وهو على قدر ما يرمي الى تشتيت الخصوم وإشغالهم وتسخيف أفعالهم وبرامجهم وقادتهم، يرمي، في آن، الى تصديع الحلفاء، والحؤول بينهم وبين الاستقرار على لحم جامعة تعلو الجماعات والقيادات وتستقل بنفسها. فينبغي، في ميزان "الطياحة" السياسية، ألا تستقوي جماعة أو طرف بمشروعية ترسو مباشرة على مرجع مشترك أو يقبل الاشتراك، شأن تقاليد تاريخية أو دستورية أو ثقافية متضافرة. والتقاليد الاهلية نفسها، درزية أم طرابلسية سنية أم كسروانية مارونية أم شيعية عاملية، أثارت حفيظة "القيادة" السورية ومن بعدها الايرانية على نحو ما أثارت حفيظة فلسطينية من قبل. فالتقاليد الاهلية توهم بمشروعية قائمة في نفسها وبنفسها. ويؤاتي هذا سعي "القيادة" العصبية العشائرية والاهلية الغالبة في التشتيت والشرذمة والاقتتال والتسخيف. ولكنه يخالف احتياج البيروقراطية البوليسية المركزية، وهي الشق "الثاني" من مباني السلطان القيادي، الى الارتقاء بحروبها المتناثرة و"الصغيرة"، وبجبهاتها المبثوثة في ثنايا الاجتماع الاهلي، إما إلى مستوى التمرد الاهلي العام أو الى مرتبة الحرب القومية (حرب القوم وليس الدولة "القومية" أي الوطنية) أو الاقليمية.
  واستجاب انشاء الجماعة الخمينية (ومن ورائها جماعتها الاثني عشرية الامامية) المسلحة والامنية في لبنان، وايجابها ايجاباً صناعياً وادارياً أي بوليسياً و"عقلانياً"، الداعي البيروقراطي المركزي. وأوكل بها سيداها أو راعياها، على قول مخفف، جمع "الطياحة"، على وجوهها ومستوياتها، الى الحرب العامة ووحدتها السياسية (الوطنية) والميدانية. وعلق السيدان، وهما تعهدا انشاء الجماعة الاهلية المسلحة معاً منذ 1978 – 1982 على أقرب تقدير، علقا الانشاء على الحروب الفلسطينية – الاسرائيلية وفروعها، وربطاه ربطاً وثيقاً ومحكماً بها. وكان التمهيد السوري والفلسطيني والاسرائيلي للميدان اللبناني سابقاً وفاعلاً. فالربط والتعليق القويان والعضويان يضمنان إقليمية الدور المنشود، ويسوغان أمام "الشارع" العربي والمجتمع الدولي الولاية العامة والمطلقة على "المنشأة" وشبكاتها (العسكرية والاعلامية والمالية والاستخبارية)، وعلى مسارحها غير المقتصرة على المسرح اللبناني والممتدة الى الكويت والبحرين والعراق والسودان ومصر ومهاجر اللبنانيين والعرب في الاميركيتي وافريقيا وأوستراليا.
  فانخرطت المنشأة الاهلية والبيروقراطية، على مثال "دولتَيْ" سيديها، في سياق استراتيجي وإقليمي سياسي عريض هي حلقة قوية من حلقاته المتفاوتة المتانة والتماسك. ويفترض هذا السياق، على ما يرى أهل الحل والعقد فيه، نزاعاً عاماً وشاملاً قطباه الغرب الاسرائيلي، وشياطينه الكثيرة، على احجامها وأدوارها المتصلة، و"الاسلام" الثوري والتحرري وشعوبه الصاحية من غفوتها وسباتها تحت اللواء الايرايني القومي – الامامي. وهو يفترض، من وجه آخر وملازم، تسييس النزاع العام وانتصابه ونصبه مجابهة مستميتة ورأسية بين "إيران الاسلامية" وبين "أميركا الصهيونية". وذلك على مثال مشهود وقريب هو "الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية" الذي أوجبته السياسة الشيوعية والسوفياتية، قبل دخولها فصل نزعها الاخير، "سمة عصرنا". وهو مثال الحروب العالمية، منذ عهد العولمة الاولى في أواخر القرن التاسع عشر (وبروز الولايات المتحدة وألمانيا ندين لبريطانيا العظمى، واستواء الامبراطورية شكلاً سياسياً غالباً).
  ويفترض هذا المثال الحرب العامة في الخارج وحال الطوارئ في الداخل. والحرب العامة في الخارج تبعث أحوال "الطبيعة" وطبائعها، أي العدوان والهمجية و"شريعة الغاب" المفترسة. وعليه، فتمييز العدو من الصديق القليل مسألة حياة أو موت. و"المجتمع الدولي" ومعه "حق الناس" أي قوانين العلاقات الدولية في الحرب والسلم، كذب وتمويه وتلبيس، على ما لا ينفك فقهاء ايران وجنرالات باسدرانها ("حرسها الثوري") وباسيجها (متطوعو الحسبة والشرطة) ووكلاؤهم "العرب" يقولون. ويتابعهم على قولهم خليط لبناني معمم وحاسر، "مدني" وديني، طائفي وعلماني... وحال الطوارئ في الداخل، أعلنت أم ألغيت وسنت أم افترضت وخصت بمؤسساتها "القضائية الثورية" أم تركت للاجتهاد المأجور، تترتب على طباع بهائم "المجتمع الدولي" العدوانية، أو استباحته الداخل من غير اذن ولا دستور. والدعوة المريبة الى تقييد أجهزة أمن "الثورة" أو "الدولة" وضبط معاملتها الرعايا بمعايير وقوانين مدنية وقضائية، هذه الدعوة تصدر عن اغبياء ومغرضين خاسرين وذوي أطماع محمومة في السلطة والوراثة ("الطاغوت"). فالحرب الاهلية المستعرة هي مرآة حروب الخارج الملتهبة. ووصف هذا يقع عليه قارئ صحافة "خضراء"، على سمت ليبي قبل عقود وإيراني وارف اليوم ومنذ أعوام.
 

خروج القانون على السياسة
وحين تعلو أصوات بعض أصحاب القلوب الطيبة والسرائر البيض، وهم أصحاب طوايا سود من وجه آخر، فينفون التهمة عن حزب مظنوني تقرير "السيد" بلمار والتحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، ويحملونهم، وحزبهم العتيد وأميره، على البراءة – يضحك "الحزب" في سره وعلانيته ضحكاً قد لا يبلغ حد ابداء النواجذ، على قول بعض المحدثين وأصحاب السيرة، لكنه يحاذيه حتماً. فهؤلاء، 14 آذار وفرانسوا روه (رئيس مكتب الدفاع في المحكمة الدولية) وانطونيو كاسيزي (رئيس المحكمة ومنذ الخطبة العصماء وغير المعصومة طبعاً، "صديق اسرائيل العزيز" غيابياً) و"المجتمع الدولي" والسفراء - يحسبون في انفسهم وشرائع غابهم وسياساتهم القوة - على مقاضاة المجاهدين والشهداء الاحياء والذين قضوا وسؤالهم أمام هيئاتهم ودواوينهم السخيفة. فهم لم يفهموا أن التسييس ليس خللاً طرأ على عمل المحكمة من خارج، فهو في صلبها وطينتها. والالتجاء الى القضاء، بمعزل ومنأى مزعومين من النزاع السياسي العام على العالم، وافتراض حاجة الى القضاء والقانون والحق للفض في نزاع أحد خصميه ومتقاضييه "الثورة الاسلامية"، أو احدى ولاياتها أو أحد ولاتها وعمالها، يصدران (الالتجاء والافتراض) عن سياسة منحرفة ومنحازة الى الجاهلية أو "اليزيدية" وهي أدهى من الجاهلية وأفظع. وفكرة القانون، أو القضاء الذي "يعلو" المتقاضين، هي سياسة صليبية ويهودية مغرضة ومدلسة.
  فيذهب بعض ألسنتهم الوزارية المحدثة، من المحامين حرفة ومهنة، الى أن شرطهم على قيام محكمة تنظر وتقضي في قتل رفيق الحريري "سواء محلية أو دولية" هو "الاجماع الكامل" عليها، على نحو ما أن القاضي، على زعم التعريف العجيب والمبتكر هذا، هو "من ارتضى المدعي والمدعى عليه حكمه وقضاءه". ويستتبع الاشتراط العام أن القانون ليس ما يُحتكم اليه في المنازعة والخلاف، بل ما يرتضيه المتقاضون والخصوم وهم سواسية، عبدالله القاتل وعبدالله القتيل. وهذا قانون الطبيعة وقبائلها وعشائرها المتقاتلة "قبل" إجماعها، وهو الاجماع الاول والفريد والاخير، على انتصاب الدولة وقوانينها وحقوق المجتمع "فوق" المتخاصمين والمتقاضين. ويتحدد الشرط المعطل، والمبطل فكرة التشريع والقضاء من أساسها، من "الحكومة" (التحكيم) العشائرية والاهلية، ومعيارها عدالة الحكام القضاة في أنفسهم، وحكمهم وبصيرتهم وصدق حدسهم. وهو يتحدد كذلك من معايير التعديل ( الحكم بعدالة الشاهد أو المحدِّث وهو شاهد على القول) والتجوير (الحكم بالجور على الضد من العدالة) أو الجرح (الانتقاص من العدالة). ومبنى هذه المعايير على "نفس" المحكِّم القاضي، وعلى "نفس" الشاهد. وصبُّ المعممين ورجال الامن السابقين ورجال السياسة الحزبيين والحركيين وخطباء الجمعة والمحامين والصحافيين وسواقي السيارات العمومية، صبُّهم مطاعنهم على التشهير بمن يربطه خيط واهٍ بمقاضاة قتلة رفيق الحريري، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً (وهذا معنى "الاشارة الى "المحكمة المحلية")، واستنباط الرذائل والعيوب والانساب والاخبار وحملها عليهم يترتب على المصدر نفسه. والقول ان المحكمة مسيسة يريد به اصحابه ان المعايير الاهلية والقبلية العشائرية التي يُعملونها في العدالة، وفي الدماء على وجه التخصيص، لا تقر للحق والقانون، ولا للدولة المدنية ولا "الشرعية"، تالياً، بانسلاخها من حكومة الصلح ووساطتها.
  وحين يكرر "الابرياء من دم رفيق الحريري، على ما ينفكون يصفون أنفسهم فعلاً وحقيقة، أن تصديق تهمتهم، او حتى الظن فيهم، هو تبرئة ("مجانية") لاسرائيل، ومن ورائها وبين يديها امريكا، فهم يُعمِلون قسمة الحرب الاهلية والقومية والدينية (العالمية) في المسألة القضائية والسياسية المتنازعة. ورأيهم في المقاضاة هو رأيهم في الحرب المقيمة والمزمنة بين "حزبهم" على امتداد العالم، كما يحسبون، وبين "حزب" الاخرين، الاعداء من غير فرق. وهذه الحرب العامة سجال. وحزباها او طرفاها هما مثل كفتي الميزان الواحد. فإذا شالت كفة أو علت، رجحت الاخرى لا محالة. ومحصلة الحركة الواحدة والمزدوجة هي على الدوام صفر: فما "تكسبه" كفة "تخسره" الاخرى. و"سياسة المحصلة صفر" تطلق على مناهج سياسات ايديولوجية منكفئة وعاجزة عن الانخراط في دوائر اقليمية ودولية واسعة ومركبة يتنافس أطرافها وأفرقاؤها على مصالح مشتركة ومتضافرة في حدود متفاوتة. وسياسة الامن المشترك – على نحو ما اقتُرحت بين الحربين العالميتين وأدى اخفاقها الى انفجار الحرب الثانية، قبل العودة اليها غذاة هذه – هي من ثمار انتهاج خلاف "سياسة المحصلة الصفر" الصراعية والايديولوجية.
نفي الداخل
  وسياسة "مجتمع الحرب" التي تنتهجها الطبقة العشائرية العصبية والبيروقراطية الامنية في سوريا وايران، ووكلاؤهما المشتركين على هذا القدر أو ذاك في لبنان وفلسطين والعراق، لا يسعها الاقرار بدولة مدنية، غير أهلية، وليس في مستطاعها الانقياد لقضاء مستقل بقوانينه وعمله ومراجعه. فالجماعة المذهبية المسلحة، تربعت في السلطة أم استقرت جسماً أهلياً ملحقاً بسلطة يتولاها "رأس" الجسم المذهبي والبيروقراطي، تحمل علاقات المجتمع بالدولة الاهلية، العصبية والبيروقراطية البوليسية، على الحرب. فالمجتمع وجماعاته وطبقاته ونواحيه، إما ان يذوب في "الدولة"، وجهاز سيطرتها العصبي والامني، ويذعن لها، وينكر مصالحه المستقلة والمتنازعة، وإما أن يقوم عليها، ويجنح ربما الى نفي نصاب الدولة والوحدة السياسية الوطنية والمدنية. ويخيّر الاستيلاء العصبي العشائري والامني البيروقراطي المجتمع وجماعاته بين الامرين المرين العقيمين هذين. فإما الاستقرار أو السلم الاهلي في قبضة جهاز أمني وعسكري واداري يستقي لحمته الاولى والنواتية من غلبة عصبية جماعة المستولين، وهي عصبية مذهبية وبلدية وقرابية وسلكية مهنية وحزبية، وإما الحرب الاهلية والمذهبية المعلنة، على المثال اللبناني منذ 1982 وعلى المثال اللبناني – الفلسطيني في 1971 – 1982، والمثال الاردني – الفلسطيني في 1967 – 1971 وما بعدها على أنحاء أخرى.
  وهو الخيار الذي تحشر الجماعة الخمينية الحرسية المسلحة اللبنانيين بين دفتيه وشفرتيه. وذلك على مثال سوري أسدي عريق، ومثال عراقي صدامي يجاري زميله قدماً وعراقة، ومثال ليبي قذافي من الجيل نفسه، وعلى أنموذج ايراني خميني وحرسي يفوق المثالات الاخرى السابقة قوة وموارد وعرضاً. وهو خيار لم تنفك "القيادات" المستولية على هذه البلدان ومجتمعاتها وجماعاتها تجدده. وسلاحها الاول هو ارساء "الدولة"، أو نظام الاستيلاء، على الحرب الخارجية والاقليمية (و"الدولية" على سبيل الاستطراد المنطقي والذهني) وعلى ظلها الداخلي و الاهلي اللصيق. فلا سياسة داخلية، أي داخل الاجتماع السياسي والوطني الذي يضوي الجماعات، والحال هذه. ولا كلمات أو لغة ومفهومات تتناول علاقات الجماعات المتفرقة (الاهلية والاجتماعية والقومية) بعضها ببعض على وجوه هذه العلاقات الكثيرة، ولا علاقات الافراد، ولا علاقات هؤلاء وتلك بالدولة، بما هي سلطة وهيئات تمثيل وتشريع ومساومة وموازنة. والسكوت عن العلاقات المتفرقة ("المتعددة")، وحظر الخوض فيها إلا همساً (يروي أحد زائري تونس أخيراً أن أحد مضيفيه التونسيين وقف  أمام مبنى وزارة الداخلية ودل بأصبعه الى المبنى وقال هذه وزارة الداخلية! وأردف: لم يكن هذا متاحاً في عهد بن علي)، ليس إلا صدى حظر المعاملات والابنية السياسية والاجتماعية والحقوقية والثقافية التي تبلور علناً محل الدولة والسلطة والادارة من المجتمع وجماعاته، وتحكِّم في سبل البلورة،  والمنازعات والخلافات المشروعة عليها.
  والديموقراطية، وبالاحرى "التعددية" (وهذه تسللت أخيراً الى لغة فاروق الشرع وخطابته اللتين كانت "القيادة" تعلو سنامها المزدوج)، هي هذا، أي إرساء علاقات الجماعات والافراد والهيئات والسلطة على داخل وطني ومدني أولاً يفترض المنازعة والعلانية العامة والمشتركة. وقبل أن تُحمل الخلافات المتفجرة قتلاً واعتقالاً ولجوءاً وتظاهراً وحواجز وعيادات سرية وتهاتفاً مشفراً، على المصالح الاجنبية والاستعمارية، يقتضي الاقرار بحق المواطنين في السياسة الداخلية، والتحري عن أسباب الازمة الداخلية والسياسية (علاقات السلطة وموقعها من المجتمع وجماعاته). وهذا يعود عنه فاروق الشرع في الخطبة "التشاورية" و"الحوارية" الواحدة حين يشترط على "الشعب السوري"، أي على الحركة الوطنية المدنية والديموقراطية، تعاون "جميع أطيافه ومن دون أي تدخل أجنبي"، وحين ينسب "الجدل المحتدم بين الحل السياسي ... والحل الامني" الى "من لا يهمهم مستقبل هذا الوطن أو التغيير تحت سقفه... من دون أن يدركوا أن هذا يخدم مصلحة أعداء سورية في تقسيم الوطن". ويردد لازمة رئيسه في شأن لبنان (وفلسطين ومصر والاردن و... تركيا أخيراً):" ... ان استعانة العرب بالاجنبي واستقواءهم به لم تجلب لهم الحرية المنشودة وانما المزيد من فقدان الامن والارض". فالهرب الى "الاجنبي" نظير السكوت عن الحرب والانفراد والقهر والاذلال والمصادرة والتفريق والتذرير في الداخل، هو فعلاً استصدار ذاتي ومتعسف لبراءة همايونية، ومضي على السكوت القهري عن طبائع النظام العشائري – البيروقراطي.
  وإشاحة الجزء اللبناني المحلي من الجهاز الاقليمي العصبي والبيروقراطي (المستولي على ايران وسوريا) عن جريمة اغتيال رفيق الحريري (وولادة 14 آذار في اعقابها) هو من صنف إشاحة الشطر السوري اليوم عن نشوء الحركة الوطنية المدنية والديموقراطية في أنحاء سوريا وانفجار احتجاجها، ومن صنف المراوغة الحرسية و"الفقهية" الايرانية في "الحركة الخضراء" منذ أواخر ربيع 2009 الى اليوم. فـ"الطبقة الحاكمة"، على وجوه متباينة، في أجزاء النظام الاقليمي – الاهلي المتشابك والمتداخل تريد بقواها كلها استبعاد الداخل وعوامله ومشكلاته وأزماته، من دائرة التقصي عن وقائع "الجرائم" المرتكبة ومرتكبيها ومسارحها وسياقاتها. وإقرارها بدائرة من هذا الصنف لا تنحل في زيارة سفير أميركي من هنا أو برقية موفد غربي من هناك، يصدِّع البنيان السياسي الذي تسلطه "الطبقة الحاكمة" في المركز والولايات على رعاياها ومجتمعاتها وجماعاتها.
"طبقة" الجريمة 
والخطر الداهم في لبنان هو بلوغ "طبقة" الجريمة وراء أو تحت "طبقات" الاجراء، والتحقيق في وقائعها المادية وحوادثها، وليس في بعض الاجراءات والمراحل المفضية الى النواة. وفي هذا الضوء، الوطني المحلي والاقليمي والدولي، تبدو المحطات أو المراحل التي يشترط المظنونون، قضائياً ورأياً عاماً، اجتيازها قبل النظر في القضية – من انشاء المحكمة، ونظام عملها وملابسات اقرارها، وقبلها هيئة التحقيق الدولية ونظامها القضائي وتقارير المحققين وعمل المحققين اختيارهم، وقبلها القرار الدولي 1559، وبعد هذه كلها مسارات التحقيق ومادته وتسرب جزء من وقائعه...- هذه المخططات والمراحل حواجز صنع معظمها المظنونون أنفسهم، ورفعوها في الطريق الى النواة المادية. فالضباط الامنيون الذين تعمدوا إما العبث بمسرح الجريمة عبثاً مسرحياً ومشهوداً، أو دعوة التحقيق الى تعقب الشاب أحمد أبو عدس وتصديق قرينته وحمله على "الموت الامني"، معاً، هم من صلب الوكالة العشائرية - البيروقراطية اللبنانية. وعندما لم يؤدِ تعرضهم الظاهرُ التعمد للتهمة، وهم ليسوا جزءاً من تقسيم العمل الاجرائي والتنفيذي، الى تهمتهم بأدلة بينة، خرج شهود الزور المفترضون، ومعظمهم سوريون ومخبرون عاملون، وشهدوا بما يبدو محققاً للشهادات المجتمعة من السياسيين والمراقبين.
  فأدلوا بشهادات عينية عن اجتماعات ضلع فيها على زعمهم الضباط الاربعة. فأوقعوا التحقيق المستعجل و"الساذج" في شرك حاكوه، ودعوا الى حياكته، قبل أن يعلنوا على الملأ افتعالهم واحتيالهم. وكان بعض هؤلاء استعاده جهازه وحجبه، وبعضهم الآخر حمله تورطه المفرط وتوريطه غيره الى التواري. وربما ساعده على هذ سياسيون مستعجلون رأوا أن احقاق التهمة في متناول اليد. وأثمر تضافر العوامل والشراك والاعداد المحكم والمعقد للجريمة، تقنياً وسياسياً، الى توقيف "الاربعة"، تحميل المسؤولية عن التوقيف المستدرج، من غير أدلة قوية، الى التحقيق الدولي، ثم إلى شريكه اللبناني والى الفريق السياسي الاستقلالي. وحاز المظنونون، أفرقاء وأشخاصاً، "شهداءهم" وقميص عثمانهم. ونفخت حرب صيف 2006 ورياحها التي هبت استجابة لأغراض متفرقة، بعضها تضافر مع الغرض الذي رمى اليه اغتيال رفيق الحريري والاغتيالات المتصلة، في أشرعة المظنونين السياسية فوق القضائية. فاستكملت الاغتيالات، وتولت منازعات الكتل البرلمانية وحال الرئاسة الاولى (الممدة عنوةً) وتسويغ الاستقالات الوزارية، الطعن في صفة المحكمة، وفي اتفاقيتها وحيازتها الشروط القانونية. وانتهك أفرقاء المظنونين الاعراف الدستورية والقانونية والسياسية والنيابية والاعلامية انتهاكاً دعا الخصوم الى اطراح قيود غير ملزمة.
  وطعن تكتل "8 آذار" في سياسة الحكومة (الادارية) الامنية. وآية مطاعنه انشاء فرع المعلومات. فالتكتل المظنون رأى، ولا يزال على رأيه، أن الادارات جزء من حصونه، وآلة في حربه الاهلية والاستئصالية المعنوية والسياسية اذا امتنعت الحرب المادية والجسدية، على "العدو". فلما توسل "العدو" الحاكم بالادارة الى حماية نفسه، والى حماية اللبنانيين عموماً، وهذ أضعف حقوق اللبنانيين على "14 آذر" وعلى الدولة اللبنانية، شن تكتل المظنونين وحلفائهم الجدد حملة مدمرة على الدولة والادارة والمجتمع جميعاً بذريعة اضطلاع "14 آذار" بجبه المظنونين. ففرضت اضراباتهم العامة القسرية واحتلالاتهم، وقطعهم الطرق الى المرافق الحيوية، والصدامات الاهلية والموضعية المنظمة والمتدرجة، واستدراج الجيش الى المخيمات والاحياء وشله، وتواتر ضرب جديد من الاغتيالات اتفق واستخراج شعبة المعلومات ترسيم الاغتيال الاول وبعض الاغتيالات اللاحقة وشبكتي التعقب والتنفيذ اللتين تولتا العمل. وتوج اغتيال الضابط وسام عيد، مستخرج الترسيم، وقبله محاولة اغتيال الضابط سمير شحادة من شعبة المعلومات، السياق هذا.
  وكانت الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة أرست شبكة اتصالاتها الخاصة، واستقلت بها على رغم الدولة. ووسعها اختراق جهاز اتصالات الدولة، والشبكات الفرعية، وجزء من الشبكات الاقليمية. وكان بعض دأبها أعمال تنصت واسعة وعميقة على اتصالات لجنة التحقيق الدولية، ثم على اتصالات مكتب المحكمة. واستدراج التحقيق من طريق الشهود المزروعين والمصطفين، ومن طريق التعرض المتعمَّد للتهمة، قد يدعو الى ظن الاستدراج في اذاعة بعض اسماء المظنونين المباشرين الاربعة من طريق الصحيفة الفرنسية "لوفيغارو" والاسبوعية الالمانية "دير شبيغل"، وضلوع أصحاب المظنونين في الافشاء. فتشابك الشبكات، واختراق بعضها بعضاً، واضطلاع بعض الصحافة بمهمات استخبارية وقيام بعض الاجهزة الاستخبارية بأعمال صحافية، وإقبال الدول والجماعات والاحزاب على الاستخبار والاعلام في بيئة تكثر فيها جبهات "الحروب" والتشبيه والتضليل على أنواعها، هذا كله يجعل من ترجيح جهة واحدة مصدراً لتسريب يجوز استعماله على أكثر من وجه، على ما يفعل خطيب الجماعة الحرسية، جزءاً من عمل حربي أو شرك منصوب.
  ويصح القول نفسه في ذيول التحقيق والمحكمة والمسائل المتفرعة عنها مثل محاولة سعد الحريري مصالحة رأس الجهاز الاسدي، وزيارته دمشق، وكلامه في "شهود الزور"، وقبوله خطة مقايضة الادعاء في القضية بـ"تمدين" الحزب المسلح وضويه في اطار سياسي ووطني خارج التسلط العشائري والبيروقراطي السوري. ولكن هذا لم يستقم في ميزان "مجتمع الحرب المستشري والمستميت. فالاقرار بصفة الواقعة، واقعة اغتيال رفيق الحريري وولادة 14 آذار" من حمل اللبنانيين الاغتيال على جريمة ارهاب سياسي، وبحقيقتها المادية وجواز الاحتكام الى هيئة قضائية دولية تتولى الحكم فيها، يفوق (الاقرار) طاقة الفرع الحرسي، ناهيك بالرأس أو الرأسين، على الاحتمال. وذلك الى أن تقوض الحركتان الوطنيتان والمدنيتان الديموقراطيتان بإيران وسوريا النظامين العصبيين والبيروقراطيين المتسلطين على الدولتين والمجتمعين ويقوض اللبنانيون حرسييهم المحليين. 

ليست هناك تعليقات: