الأحد، 24 يوليو 2011

محمد أبي سمرا في "طرابس ساحة الله وميناء الحداثة"...مدوَّنة المترحّل الغريب في الأقاليم المتحرّكة وأخلاط أهلها وهجنائها

المستقبل - الاحد 24 تموز 2011


هجم المجتمع الوضيع هجمة نرجس واحد على آلة (التصوير) الرخيصة

ليبث في الشعب القرف من التاريخ.

بودلير (1862)



لو لم أغادر اميركا لما رغبت في تصوير نيويورك. وحين ألقيت عليها نظرة بكر، أدركت انها بلادي أنا، وأن عليَّ تصويرها صوراً فوتوغرافية.

بيرينيس أبوت (1939)



في قص محمد أبي سمرا أو روايته، أو ريبورتاجه ("الحمل من جديد" حرفياً)، يخرج الناس الى كثرتهم وزركشتهم، شأن الأشياء والمواضع والحوادث والمشاهد والمعاني حين يتناولها صاحب "طرابلس ساحة الله وميناء الحداثة" (2011، دار الساقي، بيروت). فهو لا يرى، حين يكتب ويخبر، ما يراه إذا لم تنفخ فيه الجهات والأصوات واللهجات والوجوه، ولا تقوم له قائمة، في الرواية المكتوبة، إذا لم تتنازعه الألوان والنوايا والذكريات والأحكام. وإذا جاس بباب التبانة (الفصل السابع) في المرحلة الأولى من سفره الى خليل عكاوي، الشاب الذي أنشأ غداة مقتل أخيه علي رمياً بالرصاص في دمشق (1974) "إمارة" لجان شعبية بالحي، ورحلته إلى ما بقي من الشاب الذي قتل بطرابلس في 1984 وهو خارج من لقاء بضابط أمن سوري، وكان مقدم لجان الأحياء والمساجد التقى الرئيس السوري حافظ الأسد 4 ساعات تامة بدمشق قبل أيام قليلة من مصرعه هجمت على أجزاء الباب التي يتناولها القص "أشياء (لا تسمى)"، لشدة غموضها وبعثرتها و "تستيفها" (مراكمتها بعضها فوق بعض)، وتركها "من أزمنة لتعتق على رفوف متآكلة"، ولعسر تصنيفها من غير "تحديق" يفردها شيئاً فشيئاً على حدة، وإذا لم يحدق النظر ولم يصنف أفضى بها "مشهدُها الإجمالي (إلى) باب المهملات".

وواسطة الكاتب الراوي الى المشهد، وبابه على المشهد، هو صاحب المحل أو الدكان، رجل أربعيني جالس متهالكاً على "كرسي متهالك" بباب المحل. ويستقبل الرجل، في 2007 على ما قال الراوي مدققاً، الصحافي الزائر بالمقارنة بين "الحياة في باب التبانة" والحياة، إذا صدق القول إنها حياة، في مخيم نهر البارد، يوم كان المخيم ساحة حرب ابتدأتها "فتح الإسلام"، المولودة من "فتح الانتفاضة" بين عشية وضحاها، بذبح نحو عشرين جندياً لبنانياً غيلة. ويخلص رجل المحل من مقارنته الى تفضيل الحياة في مخيم نهر البارد، أو غيره على الحياة في باب التبانة. فالمخيمات اسم نوع يَكْني عن نفي الحياة أو انتفائها. ولا يقدِّم تخصيص المخيم باسم وموضع في تعريفه ووصفه ولا يؤخر. والمقارنة ضرب من الخطابة. فليس في الفروق بين المهملات المبعثرة، المتآكلة والمتراكمة من أزمان وأوقات من غير تأريخ، ما يصلح مَعْلَماً وشارة، فكيف يصلح ميزان مفاضلة.

المحلَّف

ويوسط الزائرُ الراوي صاحبَ المحل بينه، ومن بعده وورائه القارئ الآتي والمفترض، وبين المشهد أو المسرح الذي يجول فيه، وينوي "حمله من جديد"، وبسطه امام النظر والفهم. والتوسيط هذا هو من باب الاحتراز والأمانة. فلا يحسب الزائر الكاتب، أي محمد أبي سمرا، أنه هو شاهد "محلَّف" وأمين وثقة. ولا يحسب، من وجه آخر يلازم الوجهَ الأول، أن ما يشاهده ويراه ينطق بحقيقة ما عليه إلا قطافها أو نقلها وجهرها. فلا يغفل عن ان لقاءه الناس والأشياء والحوادث في "ساحة" أو مضمار هو باب التبانة، أو هو شارع الميناء الجديد أو مجمَّع فيلا الأحلام أو ساحة التل أو محلة أبو سمرا أو جامع سيف الدين طينال أو جامع التوبة أو حي عاقبة الزاحول (في محلة القبة)... وكل موضع منها مواضع كثيرة هو، أي اللقاء، حادثة بدوره. والحادثة هذه لا ريب صدرت عن روافد وحوادث سابقة اجتمع بعضها مصادفة، وبعضها الآخر ترتب ترتباً ضرورياً عن مقدمات. ويدعو لقاءُ الكاتب الراوي من يلقاهم وما يلقى على هذا النحو، نحوِ الحادثة، الى احتساب حصة الحدوث والجواز والاتفاق في "مجيء" المعاني والمشاهد المرئية والروايات المنقولة أو انعقادها وبنائها.

فيُدخل الراوي الكاتب "حادثة" اللقاء، والذين تولوا التعريف ومهدوا الطريق إليه، في روايته المكتوبة. ولعل هذا قرينة على غرابة القص، وإقرار بهذه الغرابة. فـ"المجتمعات" اللبنانية، وغيرها طبعاً، انقسمت وتفرقت "طبقات" مختلفة ومتباينة. وانحلت وحدة الجماعات الداخلية وذاكراتها ولغاتها، وخسرت بدائهها او بداهاتها الأولى ومسلماتها، أدركت ذلك ام غفلت عنه وتعمدت الغفلة. والكاتب الراوي لا يسعه القول: ذهبت ورأيت وتحققت (أو آمنت، على قول الإنجيلي) فصدقوني. وقُصاراه (القول) انه ذهب ليتقصى، فأراه فلان كذا وكذا، بينما كان يحدثه ويخبره ويصف له ويتذكر ويُسمع هذا أو ذاك من الناس، وحدثه آخر عن نفسه وعن آخرين. فيُسلم صاحبُ الخبر المستمعَ، وهو يحدثه ويروي له ويشهده على المواضع والأمكنة وآثار الحوادث والوقائع فيها، الى أخبار ومخبرين وآثار أخرى.

وعليه، فـ "رحلة" الراوي الكاتب الى ميدانه وحقله ومسرحه، وإلى ناس الميدان أولاً، جزء من الحوادث وروايتها، وإيذان بها، لا تستقيم ولا تتماسك على صورتها إلا بالجزء والإيذان هذين. وليس الأمر على هذا الوجه عملاً بأصل فيزيائي محدث يقضي باحتساب موقع المراقب من موضوع مراقبته في تقدير سرعة الموضوع وقياسها (وهو الأصل النِسْبي الساري في ثقافات الحداثة على تفرقها) وحسب. فهذا الأمر ناجم ربما أولاً عن الصدوع بتفرق المجتمعات والجماعات أشتاتاً ونثرات وكتلاً، وعن ترجحها بين مقامين: مقام الجماعة الواحدة الضاوية أو "الأمة"، على معنى نصف مجازي استعاره محمد أبي سمرا من مسافر "غريب" آخر هو ميشال سورا وقلَّبه على وجوه كثيرة، وبين مقام الأفراد الآحاد وسيرهم وضربهم في شعاب يشقونها خارج "الشوارع" العريضة، على ما سمى أهل الأمصار الإسلامية الأولى طرق مدنهم الجامعة على حدود مربعات الخطط الكبيرة. والترجح منزلة بين أكثر من منزلتين. فالجماعة العصبية، القرابية والمحلية والمهنية والمسجدية الشيخية، أو الأهلية في تسمية سريعة، لا تزال على بعض المُسكة الفاعلة في أجزاء منها، قد تستثني الشبان والفتيان استثناءً عابراً أو مديداً. ولكن "المتساقطين" منها لم "يبلغوا" حال الذرات الاجتماعية المنتصبة ذوات قائمة بنفسها وفيها، ولو على سبيل الفرض الحقوقي القانوني.

الاسماء العامية والجمهورية

ومدونة الرحلة الى "ديار" أجزاء الجماعات و(اجزاء) مضاربها وحاراتها وشوارعها و "أبطالها"، هي الرسم أو الفن الذي انتهى إليه محمد أبي سمرا، كاتباً راوياً. وهو ربما خلص الى رسم تدوين الرحلة من اختبارين أو تجريبين: اختبار الرواية واختبار المقالة. والأول، في "سكان الصور" (2002، دار النهار) على الخصوص، يفترض الأفراد الآحاد على حال من التجريد والتخصيص والجواز قد لا تتخلص من الاختبار العام والسائر "الجميعي" إلا بشق النفس، نفس الكاتب ونفس القارئ و "نفس" الجمهور. ويدير اختبار المقالة التناول على كتل مرصوصة، وأبواب عامة ومشتركة، وعلى أفكار متقاسمة على هذا القدر أو ذاك. وينزع التناول على هذه الشاكلة الى معيارية مستبدة هي صدى للمعيارية التي تجمع كسرات الكتل والجماعات على روابطها ولحماتها وأساطيرها. والتدوين الإخباري والصحافي، على معنى يستأنف اختلاط الرواية بالصحافة والصحافة بالرواية في الشطر الأول من القرن التاسع عشر الأوروبي، يستعير من "فن" الرواية افتراق المغامر الفرد عن الجماعة، ومن المقالة عمومية التجريد والاستغناء عن الوسائط.

والراوي الكاتب والمترحل، أو الرحالة، لا ينكر وجهاً من الوجوه التي تفترضها "أسماؤه" العامية والجمهورية. وهذه الأسماء تنم من غير تخفٍ بالوسطاء وصلات الوصل والأدلاء. وهم، في الكتاب المؤتلف من رحلات ووفادات وروحات وجيئات، ومن مفترقات تنعطف بالراوي (والقارئ) الى حيث لا يعرف ولا يحتسب، الوسطاء والأدلاء وصلات الوصل جماعة لجبة وكثيرة. ففي الفصل السادس، وهو يتناول أهل الحداثة، إذا جازت التسمية، يدلف الوافد الى بغيته من طريق "شاب" سأله أن يدله الى ساحة في المدينة "(قال) له انها تسمى (ساحة الله)"، على نحو ما دلف في الفصل السابع، في طريقه الى باب التبانة، من طريق صاحب الدكان، أبو بلال الزعبي، الذي تقدم وصف دكانه. وكان صاحب الدكان أسلم الكاتب الراوي الى "محدث" لا يلبث ان يتكشف عن أبو داود، صاحب السيرة الحربية في فصل الكتاب الأول، أو الاصح أن أبو داود أسلم الكاتبَ على أبو بلال. ويُشهد أبو بلال الزعبي وأبو داود الكاتبَ على "شاب في بنطلون اسود على خاصرته من تحت قميصه الأسود جزء من مسدس حربي لامع" صادف مروره في الطريق. فأدخلاه حالاً في روايتهما، "نموذجاً من الشخصيات والحوادث التي (يرويان) أخبارها". والشاب الدليل الى "ساحة الله"، وهو يصوب الاسم الى "ساحة النور"، ويبتسم قرينة على حدسه في "غربة" السائل، هذا الشاب حلقة أولى من سلسلة أدلاء ورواة وشهود كثيرة الحلقات.

وهم لا يدلون الى شيء واحد. وقد لا يكون الشيء العتيد مشتركاً. فالدليل الأول لا يصوب غلط الاسم، أو يدل الى الساحة وتعاقب أجزاء الطرق إليها. فابتسامته هي مرآة تعرفه (على) وفادة الغريب، وبقاء هذا الغريب عند شيوع التسمية في وقت فات ومضى، وتفويته هذا الوقت وانقلاب الساحة، وأهل المدينة من حال الى حال. وتتولى "سيدة طرابلسية من مدرسات الجامعة اللبنانية في المدينة" رواية الانقلاب هذا. وهو انقلاب موقوف، قبل به بعض أهل طرابلس، ولم يرتضه "الإسلام الشعبي أو الأهلي" ولا المجلس البلدي، لعلتين متباينتين. ويتصل خبر "أستاذ جامعي طرابلسي" بخبر زميلته السابقة. ويعطف خبرُ الأستاذ الاحتجاج المسلح والحربي على عودة الساحة الى عَلَمها السابق، عبدالحميد كرامي، على حادثة الضنية في آخر ليلة من 1999، و "احتفال" الطرابلسيين المتشددين بأواخر الأعوام الميلادية بالمتفجرات والرصاص. ويتولى "متنورون" محليون، هم المدرّسة وزميلها وصديقتها "مديرة مقهى عصري" وآخرون وأخريات منهم سهاد، تلميذة "الليسيه" السابقة، و "أحوالها" وفصولها كثيرة وروايتها جزء راجح من الفصل، وبكر أخواتها التي تثبِّت قصة سهاد في بيئة متنوعة. وتخلف زميلة سهاد المسيحية، ليليان، الأخت على القص والحكاية. وتشاركها نهاد الخلافة، ومعها عبير، ابنة خالة سهاد، قبل ان تستأنف المدرسة الجامعية التأريخ. ولكنها، هذه المرة، تعود من طرابلس الى بيروت، المدينة التي قصدتها للدراسة قبل 1975 بنحو عقد ونصف العقد، فتروي طرابلس من بيروت.

وشأن "الغرباء" في التدوين الإخباري والصحافي، تجيز رواية الغريبة الراجعة، على مثال المصورة الفوتوغرافية النيويوركية التي عادت من أوروبا الى "التفاحة الكبيرة" (انظر بيرينيس أبوت أعلاه)، النفاذ الى دواخل المدينة المنكفئة. وتتحرى المدونة آثار غرباء رواة آخرين. السيدة من عائلة طرابلسية عريقة المتزوجة بأستاذ جامعي غير طرابلسي، وزوجات بعض السفراء الآسيويين والزائرات مدينة لبنان "الثانية"، ودريد حيدر أحد أبناء جالية الـ "آي بي سي" النفطية المنصرمة، ومراسل إحدى الصحف البيروتية بطرابلس، وبعض مخالطي "كوبلات السهر الجماعي" ببيروت، ونيفين أفيوني صاحبة اسم "شارع الكسدورة" (شارع الميناء)، وسليل عائلة طرابلسية وصاحب محل حلويات عريق وشريك إنشاء فندق فخم... ولا يستوفي الإحصاء الطويل سلسلة الرواة. فبعض الرواة لا يُذكرون بالاسم ولا بالصفة، ويستدل القارئ عليهم من آثارهم. ومن هذه الآثار الخبر عن "بناية السفراء". وهو خبر متشابك تنعقد بعض أطرافه بذيول رواية "كوبلات السهر الجماعي" والسيدة المتزوجة بالأستاذ غير الطرابلسي وتلميذة "الليسيه" السابقة وبعض قريباتها. وتذر هذه الآثار إلى فتيان الأحياء الداخلية وأهومتهم الجنسية التي توقظها فيهم الشقراوات والأجنبيات المفترضات من بنات "السفراء" (وهم سفير واحد سابق). والفتيان، سناً وخلقاً، سبق ان اقتص الكاتب الراوي بعض أخبارهم، فالتقاهم أو قرأ ما كتبه من التقوهم. وعاد إليهم من باب أبو عربي (خليل عكاوي) و "ملحمته" المتداولة الى اليوم على ألسنة أهل باب التبانة، معقله ومعقل روابطه ومساجد أهل الروابط.

المصلَّبيات

وينبغي ألا يحمل القارئ الرواة والمخبرين والمحدِّثين الذين أحصيتُ بعضهم على "ناطقين" باسم جماعات: بنت العائلة الطرابلسية، الأستاذ الجامعي، ابن الموظف السابق في الـ "آي بي سي"، وارث عائلة صناع الحلويات، صاحبة المقهى... فالتعريف النَّسَبي، وهو مقرون على الدوام بسيرة فريدة، باب من أبواب التعريف الكثيرة. والمحدثون، وهم يتقصون الى سيرتهم سيرَ أقاربهم وأصحابهم و "زملائهم"، ويُجْملون التقصي في باب أو أبواب اجتماعية ومشتركة، لا يقتصرون على الجملة أو الإجمال، فبعضهم، سهاد أو عبير أو نهاد أو المدرِّسة الجامعية العائدة من بيروت أو المرأة الشابة التي تزوجت باكراً وطلّقت باكراً...، تعرو أصواتهن (أو أصواتهم)، حين يقصون بعض ما رأوا أو ألمّ بهم نبرة لا تخطئ الأذن رنتها ولا ترجيعها ما ترجِّع من خيبة وألم وملل أو من دهشة وحماسة. فالمحدثون أصحاب سير وخُبُر. واستماع المدون الذي يسألهم، ويستخبرهم أخبارهم، ويومئ الى جهاتهم ومواردهم التي يرِدونها، فيصيخ السمع حيناً ويفتر سمعه حيناً آخر، هذا المدون المستعطي الروايات يبعث الحكايات ويُخرجها من هيولاها ونطفها الى كيانات أو أكوان لم ترتسم لا في هذه ولا في تلك. وهو حين يكتبها، فيقوم بعضها بإزاء بعض ويولد بعضها من بعض، وتتردد أصداء أجزاء منها في ثنايا أجزاء أُخَر، وتستوي المعاني من الإحالة والجوار والاستئناف والإغضاء والتكرار والاستباق، تبعثها الكتابة مرة ثانية وتجلوها صوراً "بارزة" لا يدري "العراقي"، وهو القارئ، إذا برزت "من ذا تطوَّف بالأركان أو سجداً"، على قول الشاعر في حاجة جميلة "رواها". فالمفترقات، أو "المصلبيات" التي تنعطف منها الحكايات، وتسعى في زمن بديد أو تحيي حوادثَ آثارُها لا تزال شاهدة عليها أو تنحو ناحية غير بعيدة تشرف منها على سياقة مجتمعة بعض الاجتماع، هذه المفترقات هي في صلب المدونة وإنشائها. ولعلها أثر الكاتب الراوي الأبعد والأعمق في "ريبورتاجه" وصحافته وكتابته.

ولا تنسب هذه الكتابة، ومنزلتها بين منازل الرواية والمقالة والحكاية والتقصي والسيرة، "طرابلس ساحة الله وميناء الحداثة" الى مذهب أو مصدر مفتعل وكاذب من المذاهب "العربية" المزعومة، مثل "ألف ليلة وليلة" التي يتبجح بالانتساب إليها مهرجانيون إمبرازيريون وصيادون. ولا تفضي كثرة الرواة والمحدثين المتناسل بعضهم من بعض الى ذواء المعاني أو تعليقها وإرجائها، على رغم مواربة المداخل والتفاف الأنساب وتشابك السياقات. فكتابة محمد أبي سمرا وروايته تحتفيان أيما احتفاء بالمواربة والالتفاف والتشابك. فهي قرينة على خصب الكثرة، وتوليدها، وتوشيتها الفاحشة في بعض الأحيان. وبإزائها تبدو "روايات" كثيرة ضامرة ضموراً مرضياً، متأتياً من ضعف الاشتهاء أو من عقم الأرحام، أو من الأمرين. وتبعث الكثرة هذه على تشكك نهم، وعلى عزيمةِ تعقُّب مرهقة. وهي بنت المدن، تلك الحقيقية التي أقام بها الكاتب ولابسها ولابستهن أم تلك التي حلم بها، واشتهاها، وسواها من كلمات الحكايات، وصور الأشرطة السينمائية، ومثالات الأهواء السياسية الديموقراطية.

(وتشاء الصدفة أن ينشر رئيس مجلس الإدارة والمدير المسؤول ورئيس التحرير في "الأخبار" البيروتية، ابراهيم الأمين، في 12 تموز الجاري، أي في الأسبوع الذي وزع فيه "طرابلس...."، "وقائع جولة ميدانية" جالها جوزيف سماحة، "رئيس التحرير المؤسس" على ما تسمي لوحة تعريف الصحيفة الصحافي الراحل، "برفقة الشهيد عماد مغنية، القائد العسكري في المقاومة في حينه". و "الوقائع" المروية في ما يزعم ريبورتاجاً يسردها الصحافي المفترض على مثال لو شاء الواحد ان يتخيل نقيضاً لكتابة أو رواية محمد أبي سمرا لما وسعه إنجازه على هذا القدر من الدقة والحدة. فالراوي، وهو رئيس مجلس الإدارة والمدير ورئيس التحرير على ما ينبغي، يمحو قسماته وحركاته ظل "القائد" المرشد الطاغي والحالك، وظل الصحافي والصدى المردِّد من بَعد. وهو لا يستوي "واحداً" إلا حين اطراحه من الخمسة الذين يستقلون سيارة دفع رباعي أميركية. والظل الحالك يخرج، ويستوي رجلاً، من "التعليمات" والأوامر. وهو إذا تكلم، و "كسر الصمت" الذي لم يتجرأ أحد على كسره قبله، "لاحق" من انتخبه محادثاً بـ "الأسئلة". والمحادث، إذا تكلم بدوره، وهو يُكلَّم بحساب ويتكلم بحساب، "صاغ بسرعة هائلة مجموعة اسئلة تخصصية". وكان "الحاج يتولى الإجابة" بداهة. وإذا لم يجب "كان الصمت يسود". وصمتُ "الحاج" أبلغ من القول: "فيدرك جوزف ان الأجوبة عن بعض الأسئلة موجودة لكنه ليس للإعلان". وخلاف الإباحة النهي: "ممنوع البوح به". وبين الموجود المعلن والموجود المنهي الكلام فيه، والعادي ظاهراً والغريب باطناً، والحركة "الخاصة" والابتسامة غير الخاصة، والموصول "بسلك يختفي فيما بعد" واللاسلكي، وعجائب "المحمولات" التي لم يُر مثلها "حتى على التلفزيون" و "الهيئة المدنية" التي تحول الحاج القائد إليها من الهيئة العسكرية... تتوالى فصول ومشاهد وأقنعة وأحوال تشبه فصول عصابة الـ "سبكتر" التي يصارعها جايمس بوند، العميل التكنولوجي السري، ونقيض المحققين الإنسانيين والقصصيين: المفوض ميغريه، إد سيركوي، شيرلوك هولمز... وسبقت الفصولَ والمشاهد والاقنعة المعاصرة اشباه في أخبار بعض الولاة "المحببين" الى قلوب العاملين بجنوب لبنان مثل أحمد باشا الجزار، على ما يرويها ابراهيم العورة في "تاريخ ولاية سليمان باشا العادل". والجزار، شأن والٍ آخر كبير أحبه أجداد بني عاملة كثيراً هو الحجاج بن يوسف الثقفي، الجزار والحجاج كان صمتهما عن "الموجودات" مفهوماً، وكان من يجري بين أيديها طوعها)

هلهلة الأقنعة

وتروي تداعيات الكاتب الراوي المتشابكة والمتقاطعة أهواء العوام الخارجة من عقالها. فالمجتمعات والجماعات اللبنانية (والعربية على نحو أضعف) لم تتصدع، ولم تغادر مراتبها ومنازلها وديراتها، ولم تضعِف قواسمها المشتركة وأنصبة الجمع والتقريب والتوحيد فيها، وحسب. فهي، أي ما لا يحصى من عوامل التصدع والمنازعة والتشكك الداخلية ومن عوامل السطوة والدالة والرغبة والمحاكاة الخارجية، أدارت ظهرها مضطرة لما كانت تقوم به مراتبها ولحماتها وهوياتها وأدوارها وخلافاتها. فصاغت معايير اخرى لم تستقر بعد غداة نحو القرنين من الزمن. ولبنان السياسي الاجتماعي أو مزيج الجماعات الاهلية المُعتَقة ونظام الحكم "المهلهل" ( على المعنى الشعري: هلهل الشعر أي ترك عموده ووحشي ألفاظه)، لبنان هذا كان مسرح نشأة المعايير الوليدة وحبوها وتجاربها الاولى والمضطربة. فمثلت "الامة"، أي الدولة الوطنية، فيه على شاكلة الجماعات الاهلية المتنازعة والمضطربة. والحق أن هذا هو شأنها في المجتمعات العربية القريبة والبعيدة، عموماً. ولكن تخلي النواة المسيحية، مضطرة، عن طلب سلطان عربي وإسلامي على الجماعات المسلمة، قوَّى الجماعات الاهلية كلها على سلطة "مركزية" لم يوحدها موقعها المركزي المفترض، ولم يلم شتاتها في "طبقة" حكم متضافرة. فبقيت متنازعة بين قطب أهلي غالب وقطب وطني ثانوي. ولما كانت النواة المسيحية قطعت شوطاً بعيداً على طريق ثورة عامية وبلدية، قوية القرابة بالثورة الديموقراطية (ما عدا الدولة الوطنية السياسية، وهذا "نقص" جوهري)، نزعت الجماعات الاهلية واللبنانية الاخرى الى تقديم عوامها على خواصها وأعيانها، على رغم عسر الامر عليها وعلى جوارها العربي. ولحقت بالركب اللبناني، المسيحي، من طرق مختلفة ولدت فيما ولدت الحروب الملبننة.

وتتناول روايات وسير وأخبار "طرابس..." مجتمع المدينة السنية والعروبية الساحلية وجماعاتها على الوجه اللبناني هذا، أي على وجه الاهواء العامية، والابطال العاميين والبلديين. والوجه اللبناني يحضر (في) الاهواء والابطال ولو على مضض منها ومنهم، على ما يُرى في أحوال الجماعة الخمينية المسلحة "- في لبنان". ومخالفتها حال الطبقة الحرسية الحاكمة في ايران التي انكفأت الى ديكتاتورية قاهرة ودامية على مثال عروبي خالص. ومن القرائن على غلبة الوجه اللبناني على الاهواء العامية والاهلية الطرابلسية، وعلى أبطالها، تعاقب الزمن الحاضر في الروايات وعليها. فالهواة، وهم رواة أنفسهم وافعالهم ورواة أجزاء الجماعات التي انتسبوا اليها ووقائعها ومواقعها، إنما يروون مروياتهم ويسوغونها ويطلبون لها المشروعية من نفسها. فلا يقيسونها على سوابق ومثالات، ولا يحملونها على محاكاة أعلام. وإيجاز الفصل الاول، الموسوم بـ"صورة ملحمية لطرابلس وسيرة لبدايات انتفاضاتها المسلحة"، وهو حكاية عن مثقف اسلامي، (ولد في 1954) يقص ملاحم المدينة "في مواجهة قدرها اللبناني الذي لم يجلب لها سوى الويل والعثرات" إيجاز الفصل في انعقاد "دور البطولة (الى) بطل واحد هو تراث طرابلس الاسلامي الذي يخترق التاريخ منذ تأسيسها وحتى اليوم" يفسر لفظه التراث على معنى يميل الى اللغة السائرة والمتعارفة فوق اعتباره الوقائع المروية.

ويحقق هذا الزعم أن "الشيخ" الراوي، حين يحتج لطرابس "الشام" و"الفيحاء"، المدينة الحقيقية الوحيدة في هذه البقاع، إنما يحتج لها مقارناً إياها بالمدن الطارئة والناجمة عن تاريخ طارئ. فالعراقة المزعومة أو المفترضة لا يجلوها في حلتها وبهائها وفتنتها الا دخول عالم المقارنة والمنافسة والكثرةِ وطغيانه على المدن فيه، شأن الافراد، سواسية مثل اسنان المشط، وتستوي في العراقة والاصالة والفرادة، على رغم المراتب، والحق بسبب المراتب. ولم تكن المراتب سببباً مباشراً في النزاعات والانتفاضات لأن المراتب "إلهية"، أو غيبية تتصل بشؤون الخلق وتصريف مقاديره. والقيام الطرابلسي على مراتب المدن التي صنفت طرابلس مدينة "ثانية" بعد بيروت "الاستعمارية"، كناية عن اكتفائها بدائرتها الاقرب واقتصار مبادلاتها عليها، هو قيام العامة على معيار المرتبية بقضها وقضيضها. وهذا القيام محدث، معنى وصورة. وهو لا مسوغ له في الدولة السلطانية أو الامبراطورية، على نحو ما لا مسوغ لقيام المسلمين على المسيحيين المقيمين بين أظهرهم ومخالطيهم حين كان الوالي، حكماً، مسلماً وظلاً لظل الله على الارض، وكان القاضي يقضي، على ما قضى آل كرامي طوال أربعة قرون تامة، "بما أنزل الله". ولا مسوغ في الدولة السلطانية "للنزاع غير المبرر بين اسلام (طرابلس) وعروبتها". والحق ان الحاضر كله، على ما يرى اليه "المثقف الاسلامي" المحلي، هو قناع مزيف ومزوق وقبيح. فالسفور النسائي، أي "الفتيات السافرات والمرتديات ثياباً مزنطرة تكشف أجزاء كثيرة من اجسامهن"، هو بدوره "شكلي ولا يعبر عن حقيقة المدينة الكامنة في بنيانها الاهلي والعائلي الداخلي الشديد التماسك والمحافظة والذي (...) لا ينطوي على عداء بين أهل السفور وأهل الحجاب من نسائها".

وانقلاب النظر أو الرؤيا هذا هو باب من أبواب التأويل يجيز لصاحبه الانحياز الى الحاضر، وربما الاخذ به ومماشاته (فإذا كانت الفتيات الطرابلسيات "المزلطات" في مقاهي شارع الميناء" محافظات في تقاليدهن الاجتماعية وملتزمات دينياً... ويؤدين فروضهن الدينية كلها..."، لم يبعد أن يكون زلطهن حكمة أو لحكمة ينبغي مدحها سراً). والاهواء التي نشأت وتنشأ عن الحوادث والوقائع الطارئة، في اطار "الانقلاب" الغربي، من قيام المسلمين على المسيحيين، وطرابلس على بيروت ولبنان، ونقمة المتدينين على السافرات، والاهالي على اختلاط الاولاد في المدارس الرسمية، وضغينة الاهالي على المتاع البيروتي والانتدابي والامتيازات المفترضة وهي سفاسف وترهات، على ما ينبغي، وتتوجها "الحرب الاهلية" وردها على الاستباحة المديدة ... هذه الاهواء محدثة كلها، وهي من بنات الحاضر. ولا يتحرر هوى الاغفال والتقنع باسم مستعار، والراوي لم يشأ الافصاح عن اسمه ولا نسبة روايته اليه ولا تناول تفاصيل سيرته، من الحداثة وعالمها الطاغي. ويرجو الراوي المقنع ان يتستر قناعه الغفل على تردده الى معاهد التعليم الديني الخاصة وزوايا المساجد بطرابلس وغيرها وتتلمذه على الشيخ سعيد شعبان، شيخ "حركة التوحيد" قبل عهدها السوري الايراني، وأن يواري دراسته الثانوية في مدرسة رسمية وانتسابه الى كلية الآداب في الجامعة الرسمية وهجرته الى فرنسا وعودته منها بشهادة دراسات عليا في الفلسفة وتوليه الدعوة الى "التوحيد" وأميره.

وفي الاثناء، انخرط الشاب العشريني في الهجوم على شكا والبترون في 1976، وسبح عائداً الى طرابس، وهو الناجي الوحيد من ثلته المقاتلة. ويروي بعض من عرفه يومها أنه لم يتورع عن خطف مدنيين وقتلهم، يوم عمّ الخطف والقتل "جولات" الحرب الموقَّعة. ومال الى يسار المقاتلين الوافدين من بيروت الى طرابلس، وانقاد الى "فتوة" خليل عكاوي. ويقر بأن يساريته أوغلت في "حرب الشعب" الماوية، وورطته فوق ما ينبغي لمسلم أقام على ارادة بعث الخلافة ودولتها. فيسأل القارئ، وهو شاهد على اطوار الرجل ورواياته وأحواله ومقالاته، نفسه سؤال ليشتنبيرغ المقلق، وهو سؤال الحداثة "العميق": ما هي لغة الببغاء الأم؟ ولا يعف السؤال عن سير صريحة مثل سيرة المارديني حفيد داود يوسف مقصود، أو سيرة خليل عكاوي في طفولته ويفاعته وفتوته وشبابه على عتبة الكهولة، وفي مماته و"ولايته" بعد اغتياله. وأقنعة "الابوات" (الآباء) و"الاخوة" و"الرفاق" تعويل على آت أو مستقبل جائز يصنعه هؤلاء من معدن الابوة أو الاخوة او الرفقة. وهذا على خلاف الاعتقاد بان الحوادث والازمنة لا صانع لها إلا ربها، رب العالمين. وقد يكون غروب الاعتقاد هذا وراء القرف من التاريخ العامي والحاضر. وهي ، الاقنعة، تعويل على ماضٍ جائز وحاضر غير مرئي، أي على طباق زمني متدافع هو محرك "الرواية" الطرابلسية.

ومدخل محمد أبي سمرا الى بحر الروايات هذا، او جسره إليها وآلته فيها، هو كتابة تروي كمن يشرِّع السمع لروافد الاخبار، ويستزيد منها، ويحبسها في مجاميع وراء سدود موقتة قبل أن يفتح السدود على الترع، والترع على السواقي، والسواقي على المشاتل والاحواض. فتسفر الحكايات المتلاطمة عن طبقات وأجيال وفروع وأوردة وافراد. فيمر "التاريخ" بمعسكر تدريب وقتال واحد مرتين: مرة في ستينات القرن العشرين تحت اسم "حطين" الفلسطيني، ومرة عشية الانقلاب من الالف الثانية الى الثالثة تحت اسم قاعدة "أبو عائشة" الجهادي البن لادني. وتروي الكتابة القصصية والحكائية، من غير قصص نمطي ولا حكاية آحادية الحاكي، على نحو ما تهجم المياه على أرض عطشى. وتشبك الحروبُ والاحياء والعائلات والمساجد والاسفار والاوقات والمنظماتُ القصصَ والحكايات بعضها ببعض، وتجمعها على الحاضر، وعلى عامية أهوائها وأقنعتها، وانقلابها من عالم المراتب الى العالم الجمهوري والديموقراطي، وعلى اشتهائها بعضها بعضاً من غير امساك. ويقتضي هذا لغة حربائية، على معنى قول ابن عربي لمريده: "اعرف ربك معرفة الحرباء"، بعيدة من سلاسة كتابة جبران خليل جبران "النبوية" والقصيرة النفس والمنطوية على دواخل وسرائر و"أرواح" ترفرف على ضفاف سواق من غير مخاضات، من صنف "الرسولة بشعرها الطويل" الى "الاخبار". وهذه مصلبية أخرى.

ليست هناك تعليقات: