المستقبل - الاحد 25 أيلول 2011 -
تشيد، اليوم (منذ نحو العقدين)، أعلى المباني، وأغلاها سعراً، وأقربها مطلاً على البحر وحجباً له عن المقيمين في المباني المنتشرة على منحدرات بيروت وشرفاتها ومصاطبها، غرباً وجنوباً وشرقاً وجنوباً، في دائرة سُميت، في أثناء الحروب المتعاقبة، "منطقة الفنادق" (عطفاً على "نوافذ"، "المستقبل" في 18 أيلول 2011). وقصدت التسمية دائرة أوسع من تلك التي جمعت فندق سان جورج وفينيسيا وهوليداي إن، في تدرج متصل من "العراقة" الفائتة إلى الحداثة السياحية والسوقية، وبعض فروعها القريبة في كتلة واحدة نواتها الزيتونة وجادة الفرنسيين. ووادي أبو جميل و"وطاه" البحري إلى جوار المرفأ الغربي. وتشترك أجزاء الكتلة، وهي سفوح "التلال" التي تعلوها وتطل عليها من الزيدانية والظريف غرباً إلى القنطاري وكركول الدروز والبطريركية وزقاق البلاط وطلعة الاميركان شرقاً، تشترك في قرابتها بالأجانب الكثر على أصنافهم، وفي مقدمهم الاميركيون، حول جامعتهم ومستشفاهم، والفرنسيون، حول المرفأ والهيئات السياسية وآداب المعاشرة. وتشترك، من وجه قريب، بالهجنة والجوار المختلط الذي تسوّغه علّو المرتبة الاجتماعية. وتشاطرت الدائرة وتقاسمتها، على مقادير متفاوتة، جماعات أهلية، طائفية ومذهبية وبلدية كثيرة، بعضها نزلها باكراً فكان هناك يوم كانت مدينة (داخل) السور حية. وبعض آخر تأخر نزوله إلى انعقاد الأمر إلى الانتداب ومصالحه المشتركة، من ترامواي إلى كهرباء وماء، والمرفأ قبلها جميعاً. فحملته الهجرة إلى هناك.
فلم تكد "الحرب"، على ما بدت في مستهلها الكاذب والمخادع، تنفجر حتى كان الاستيلاء على "منطقة الفنادق"، أو "تطهيرها" أو تخليصها أو التحصن فيها ومنها، في رأس المقاصد الحربية المتدافعة والمتناقضة، الرمزية والأدبية والمادية الملموسة. فهي، في حسبان المقاتلين المسيحيين وأهلهم، تتمة المرفأ والجميزة وفوش واللنبي والوادي، أي الحصون المتقدمة التي عمرها وأحياها بعد ركود النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وجددتها المثاقفة. وهي جسر النواة السكنية الجغرافية إلى أحياء مختلطة يتصدرها رأس بيروت، وتتصل من طريق شارع سبيرز، وشارع ميشال شيحا وشارع كليمنصو فالقنطاري وميناء الحصن بوادي أبوجميل وما يليه إلى الشرق. فالمرابطة بها حماية أمامية للمرفأ، حبل السرة مع الخارج على خلاف المطار الممتنع و"البعيد" والقائم في ديرة العدو. وهي كذلك عَلَم على اتصال بيروت في عهدة المقاتلين. وأعالي الفنادق، وأولها وأعلاها هوليداي إن، منصة مراقبة وقنص وقصف، نظير برج المر، في وسعها شل المقاتلين الفلسطينيين والعروبيين المسلمين، وتعظيم كلفة سيطرتهم على الأحياء القريبة.
وأما المقاتلون العروبيون الفلسطينيون الكثيرو المصادر والولاءات والتسلح، والمسلمون اللبنانيون الأهليون، و"الوطنيون" على زعمهم من يساريين وقوميين مختلطين- فتصور لهم بقاء الدائرة هذه بيد "الكتائب" استمراراً على استدخال العدو الأهلي والأجنبي الغريب والمستولي، والأثرياء الذين بدلوا جلدهم، "منطاقَهم" الوطنية، أي ديراتهم ومرابعهم وحماهم العائلي المتخيَّل. ودعا المقاتلين العروبيين إلى الحؤول دون تحصن المقاتلين المسيحيين في هذا الشطر من السهل الساحلي اتقاء القنص والقتل والشلل الناجم عنهما، ودعتهم إليه إرادة قطع أواصر الجماعات المختلطة بعضها ببعض، ورغبة بعض القيادات الفلسطينية (مثل "فتح" والجبهة الشعبية) والعروبية اليسارية في جمع سكان مختلطين تحت جناحها المشترك. وهي دواع ونوازع متضاربة. وحسم التضارب والتنازع مبادرة منظمة مسلحة فلسطينية "سورية" مشتركة (على معنى "القوات المشتركة" لاحقاً وهي اسم على مسمى فلسطيني)، شأن "الصاعقة" و"القيادة العامة"، إلى مهاجمة أحياء بيروت المختلطة، سكناً، والتجارية والسياحية، مرافق وموارد. وحمل هذه المنظمات، السورية الولاء، على شن "جولاتها" داخل أحياء السكن المختلط، في أطراف الصنايع ورمل الظريف والبطريركية وزقاق البلاط والقنطاري وكليمنصو، ومن بعدها في الفنادق والأسواق، استيلاء "فتح" وحلفائها ومواليها المحليين على جبهة طريق الشام والخط الأخضر (لاحقاً)، بين الضاحيتين الجنوبيتين الكبيرتين، وحشد المنظمة الفلسطينية المسلحة الأم، والمتنقلة الولاءات العربية غير السورية، أنصارها ومسلحيها وحلفاءها على الجبهة هذه، وحلقاتها المتفرقة.
فكان على "سوريي" المنظمات الفلسطينية المسلحة، ولبنانيي بعض المنظمات الأهلية البلدية والأهلية، السنّية والناصرية ("المرابطون" و"الاتحاد الاشتراكي"...)، إشعال حربهم الخاصة على جبهة فرعية ظاهراً. وأغرى بإشعال هذه الجبهة، الداخلية والاجتماعية والطرفية، تهديدُ الحرب عليها جماعات مسيحية ميسورة، وحملها هي وأحزابها المفترضة على نشدان الحماية من "الدولة" التي ترعى هذه الحرب وتغذيها، ومقايضة "الحماية الموضعية" نفوذاً وغنائم. ولا ريب في أن اجتياح أحياء الأثرياء و"الخواجات" المفترضين، ومصادرتها (على قول نايف حواتمة و"أبو ليلى" العراقي تيمناً بلينين وعميله الجورجي "كوبا" ستالين)، وحمايتها (على معنى الحزب "القومي الاجتماعي" حين تقاضى 600 ألف دولار لقاء جلائه عن مبنى احتله نحو ربع قرن في منتصف التسعينات) من احتلال مهاجرين ومهجرين غفلٍ من تعريف سياسي منظم و"ممسوك" على المعنى الأسدي والعمّالي المعروف لا ريب في أن اجتياح هذه الاحياء شبَّه على المقاتلين الأشداء، المتيمين بالعروبة التقدمية وبمناهضة الامبريالية، جمع النافع الى الاخلاقي والنضالي.
وعلى هذا، تعاقبت الجولات الأولى، وأغار عوام "ضحايا الضحايا" (إدوارد سعيد) من المخيمات الاقليمية، وعوام أهل الضواحي السنية، من الطريق الجديدة ونازحي البقاع الغربي وإقليم الخروب وكفرشوبا وشبعا، على دار السباء أو السبي هذه. فأجلوا السكان، واستولوا على ممتلكاتهم ومنازلهم، وحطموا المرافق السياحية والفندقية التي خلفها روادها، وأنزلوا بأرض الأنقاض والطلول والنفايات والخرائب هذه مهجَّري الضواحي الشرقية ومخيماتها، وبعض أقاربهم من بعدهم. وكان هؤلاء، بعد جلاء "فتح" على الخصوص وتشتت انصارها ومواليها المحليين، مادة الجماعة الخمينية والحرسية المسلحة، هم وأهلهم وأبناء عمومتهم وخؤولتهم. وحين وضعت الحروب الداخلية، في أعقاب تغيير أقنعة وجلود كثيرة، أوزارها، آل تقاضي أثمان التهجير وتعويضاته إلى من لم يكن لهم ناقة ولا جمل في انفجار حرب النهب والسلب والسطو بأرض السباء والخلاء هذه.
وانقلبت ارض السباء أو الدائرة العقارية التي تخلفت عنها ونواتُها الفنادقُ القديمة المتجددة وبعض الفنادق الجديدة، وذراعاها الساحليان العريضان إلى المرفأ شرقاً وإلى الروشة غرباً، والشرفات والمنحدرات المطلة عليها، ولسان "سوليدير" المولود من أكوام النفايات المجتمعة طوال 15 عاماً ولم يفتأ الناس في أثنائها "ينفون" القمامة والأوساخ والقاذورات والردم انقلبت واحة عمران وعمارة متعالية ومتنطحة. ولم يقتصر الامر على دائرة الاعمار المبرمج، فتخطاها إلى الجهات الأخرى وروافدها ووصلاتها وفروعها. وفي نهاية المطاف، الموقتة، بيع المتر المربع المبني في بعض هذه شقق هذه النواة بـ15 ألف دولار أميركي. وبلغت مساحة الشقة الواحدة في المباني العالية ألف متر مربع. وهذه الأسعار النيويوركية أو اللندنية تنسب إلى "مرحلة دبي من (مراحل) الرأسمالية"، على قول الأميركي مايك ديفيس.
ويترتب على انقلاب القاع الصفصف في دار الحرب واديْ ذهب، على ما سمي مهْجر وادي أبو جميل حين إخلائه من المهجرين وتعويضهم "أتعاب" إقامتهم القسرية في رعاية جماعتهم المسلحة والحرسية، وهو عم "ذهبه" شركة الاعمار وجماعة المقاولين في الدائرة العقارية كلها أصولاً وفروعاً، يترتب على الانقلاب لون من الاقامة بالمدن اجتماعي خالص إذا جازت العبارة. فسكان المباني هذه، في طول الدائرة وعرضها المتسعَيْن، لا رابطة بينهم غير إقامتهم الخالصة أو المحض. وهم لم ينزلهم منازلهم الفسيحة والمشرقة والمضيئة والهانئة إلا بلوغ مداخيلهم، وهي ريوع وعوائد فوق ما هي أجور ومرتبات بديهة، العتبة التي بلغتها. وهذه العتبة فردية، ولا تبلغها الجماعات والأسر إلا في أحوال سياسية واقتصادية قليلة. وعلى هذا فهم ينزلون شققهم ودورهم وطبقاتهم أفراداً وأسراً ضيقة ونواتية، أي طبقة اجتماعية مجردة. ولا يقدح في هذا شراء والدٍ سياسي ورجل أعمال وابنيه ثلاث شقق أو طبقات معاً في مبنى واحد، هو المبنى الذي مر الكلام عليه (الالف متر المربعة، الـ15 ألف دولار للمتر الواحد...). فهم الاستثناء أو هم مثاله إذا تكرر.
والشراء والبيع في هذا المرفق لا يقتصران على الاستعمال وقيمه، أي على الوجه المتصل بالحاجات وتلبيتها. وهما يحتسبان التبادل َوالسوق والربح كذلك، على شاكلة "تجارة" الاسهم والعملات. وبعض المباني المُعْلَمة لا تزال خالية، وقد انقضى فوق العقد على إنشائها وتمامها وإضاءتها، على رغم بيع بعض شققها وطبقاتها. وتعاظم ثمنها يطمئن مشتريها إلى أن سلعتهم غير خاسرة، واحجامهم عن السكن المادي والعيني قرينة حصافة تجارية حقيقية. وينزع هذا أو هو يؤدي فعلاً إلى ارساء المتصرفين في سلعة السكن والإقامة على صفتهم الطبقية المجردة، والمتخففة من روابط "طبيعية" تقيد السيولة السوقية والسهمية والنقدية، وتشد السلعة إلى شرائط مادية تحصر قيمتها بتوافر هذه الشرائط وبدوامها.
وعلى خلاف هذه الحال، وعلى طرف نقيض منها، أعاد الاعمارُ الاهالي المهجريَّن والمهاجرين النازحين الذين التحقوا في أثناء العقد ونصف العقد (1976- 1992) بمن سبقوهم إلى الاقامة بـ"الفنادق" والقنطاري وو"الوادي" وكليمنصو، إلى الضواحي الجنوبية الممتدة والمتوسعة والمنتصبة قطباً سكنياً أهلياً ورمزياً وسياسياً بإزاء بيروت "القديمة". وأتاحت العودة، وهي التحام بالأهل أو ببعض اجزائهم وليست إقامة مستأنفة في مكان واحد ، تكتيلاً طوعياً ومقصوداً جمع أهلاً واحداً في دائرة متصلة على هذا القدر أو ذاك. وكان تناثر الضواحي من قبل، بين النبعة وسن الفيل وعين السيدة وتل الزعتر من ناحية والشياح والغبيري وصفير والرمل العالي من ناحية ثانية، فرّق الأهل الواحد في "مدن" متباعدة. وإذا صدرت، اليوم، نشرة "اجتماعية منوعة شهرية، وسُميت باسم "الضاحية" ("توزع مجاناً")، تناولت في صدر موضوعاتها "آل شمص عائلة بفروع كثيرة تتوزع في أكثر من 70 بلدة" و"شباب النبعة... التهجير حولهم نجوماً في الضاحية". فروابط الدم والاسم والجوار تتقدم تعريف الجماعات، وهي مناط لحمتها وتفرقها، والعامل الاقوى أثراً في أطوارها. وهذه الروابط هي شرائط "طبيعية" سابقة، وقيد ملزم على الانتقال والإقامة، والشراء والبيع، وعلى جواز اكتساب شيء من الأشياء، مثل بيت السكن، صفة السلعة المجردة، أو انتفاء هذه الصفة وامتناعها.
وعلى هذا، سلكت الجماعتان اللتان ربطت الحروب "اللبنانية" بينهما، في هذا الموضع من بيروت، برابطة المجابهة و"التناقض"، عل قول شيوعي سابق ومتحول، طريقين شتى، سلعياً طبقياً مجرداً واستعمالياً أهلياً مجسماً. ولا يبدو أن الخيط انقطع. فعلى الشاطئ الصخري بين "الدروندي" ("مقهى الشرق" سابقاً و"الحاج داود" في وقت اسبق وأول)، شرق خليج عين المريسة ومرسى صياديها، وبين "الريفييرا" بجل البحر، إلى الجنوب الغربي من حرم الجامعة الاميركية تستحم جماعات من السابحين القادمين في معظمهم من الضواحي، وتجمعها نشرة "الضاحية" في مفرد على شاكلة منظماتها الأهلية الغالبة.
وقبل حوالي الشهر تصدرت افتتاحية رئيس تحرير صحيفة يومية "ملية"، أي شعبية باللغة الفارسية مثل "فولك" الألمانية العرقية، كتبها صاحبها بحبر وجودي ولغة سفيرية سلمانية، وروى فيها "عودة" كادحي حي السلم في ختام نهار منجمي رأسمالي وبريطاني، إلى مياه المتوسط الدافئة. ويلوم رئيس التحرير العتيد، وغير المؤسس، كادحيه على تركهم أرصفة كورنيش المنارة، والمباني المطلة، من غير الاستيلاء عليها أو، على التقليل، تحطيمها. فهي موئل "قناص" أبدي لا يزال يملأ غرف هوليدي إن، ويتناسل في عشرات المباني الشاهقة التي تحجب البحر عن أهل المدينة وتتعاظم أسعارها مع كل أزمة مصرفية أو سهمية أو نقدية أو سيادية. وتقصر عشرات "القيادات العامة" ويقصر عشرات "أحمد جبريل" الفلسطيني العروبي الأسدي القذافي عن قنصه، على ما كان قال محمود درويش مجنِّساً (على مثال "حاصر حصارك).