الثلاثاء، 20 سبتمبر 2011

بيروت السفح والسهل والميناء جدار على البحر وجدار على الجبل


المستقبل، الاحد 18 أيلول 2011  
منذ نحو ثلاثة أشهر أو أربعة أتجنب الوقوف الثابت بإزاء النافذة الصغيرة التي يطل منها المطبخ على البحر الأبيض المتوسط وعلى الجبل القريب والمتواري شمالاً. ويُرى في البعيد مرفأ بيروت وجسور التحميل والتفريغ المعدنية وبطون الاهراءات الحجرية المكورة وأجزاء من مقدمات السفن ومؤخراتها وسطوحها وصواريها من غير أشرعة. وفي أقصى المرفأ يرى بعض سوره أو سنسوله ميمماً صوب البحر، ومبتدئاً إبحاراً يتولاه غيره ولا طاقة له هو به. والداعي إلى تجنب الوقوف والنظر المتمعن ليس ما يتراءى في البعيد، وأحدس فيه وأتذكره من وراء سطوح المباني القريبة والبعيدة وبيوت المصاعد والأدراج المدببة والمكعبة وجدرانها الواطئة وخزانات مياهها ولواقطها النحيلة والمائلة في اتجاهات كثيرة. فبين المرفأ وبين ظهر الصوصة أو تلة البطريركية، على الطريق من زقاق البلاط أو برج المر – على تسمية مادية يفهمها سواقو دراجات "الدِليفري" فوق ما يفهمون أحجية "حي ذي طابع تراثي"- إلى كركول الدروز الدارس ("كان كركول الدروز" على قوم زعيم طللي)، بين هذه وذاك حجابات صفيقة ومتدافعة من مبان لا تستقر صفحاتها أو واجهاتها ولا صورها الجانبية على قرار أو رسم. وتجتمع المباني والأسطح وظهورها النازعة إلى العلو والمتنابذة على التستر على المرفأ اجتماعَ الأهل على التستر على عيب أو على الثأر من عيب. فلا يرى منه، ولا من البحر القريب، إلا نتف يستعين المقيم منذ عقد ونصف العقد بالذاكرة المريرة والمجهدة على سلكها في صورة.
  ولكن ما لن يعتم، على وجه اليقين، أن يتوارى وراء مبنى حديث يضاهي مبنى ظهر الصوصة علواً يبدأ في منخفض عنه يبلغ طبقتين أو ثلاث على التقدير، ليس المرفأ، ولا شطر الشاطئ بين المرفأ وبين السان جورج أو لسان "سوليدير" في البحر، ولا الجزء المتوسط من زقاق البلاط شرق مدرسة مار يوسف الظهور، بل هو الخلاء الذي يلي البطريركية، المدرسة والكرسي، إلى الشمال. ولا يحول بيني، بإزاء نافذة المطبخ أو من شرفته، وبين قرميد مدرسة الحريري الثانية ومدرسة مار يوسف الظهور المتلألئ وأشجار الأولى القليلة والداكنة الاخضرار. فالقرميد والأشجار في وسط المنحدر وعلى جيد التلة – على ما كان قال الأعمام الأدباء ويقول أولادهم إلى اليوم حين يكتبون في بلدتهم ويتذكرون – أمرهما غريب. فهما، شأن مبنى البطريركية الذي بني على شاكلة سرايا عثمانية او دير جبلي وهو سبق انشاء السراي الكبير والقريب في أوائل القرن العشرين، وشأن ليسيه (ثانوية) عبد القادر الفرنسية من قبل، من بقايا بيروت قديمة وآفلة مع أفول أسر الأعيان (آل بيهم) والخواجات وسكنهم المنفصل والفسيح على شرفات المدينة الأهلية وخليطها، و(مع) طي أحياء السفراء الغربيين (البريطاني على بوابة رمل الظريف الشرقية الشمالية والألماني في "فيلا" عبد القادر الجزائري) ومدارس الجاليات والارساليات والطوائف (الأرمنية إلى الفرنسية والرهبانية الانثوية). فلم يبق قرميد إلا على مباني المدارس الواطئة، أو بعضها المتجدد عن يد رفيق الحريري التعليمي والمدرسي البلدي. ولم يبق شجر إلا في أرجائها.
  وسطوح القرميد المتبقية والقليلة صائرة الى التواري عن مطل النافذة والشرفة المعلقتين في الطبقة الثامنة من المبنى القائم في ظهر الصوصة، على مقربة من ذروة كركول الدروز وتلته العالية، والمتوجهتين على البحر وإليه. وحين يشهق المبنى الجديد علواً، ويحجب جداره المتصل والأخرس أحمر القرميد وأخضر السروات الداكن والصنوبرات الفاتح والمضيء، فيسدل كذلك جزءاً جديداً من حاجز هائل على البحر. ويصل الجزءَ هذا بأجزاء كثيرة تخرج تباعاً من اماكن مبعثرة، منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، وربما قبلها بعقد من السنين. وتتضافر، وكأنها متواعدة ومتواطئة، على رفع حاجز يحجز بين المدينة، وأحيائها وشوراعها وأهلها، وبين بحرها وشاطئها. فإذا لم يقم الواحد في شقة من شقق المباني التي يأتلف منها الحاجز تباعاً، استحال عليه استقبال البحر ولو من بعيد. ولم يسعفه قيام المبنى الذي يسكن إحدى شققه في موضع مرتفع من التلال المحيطة بقصعة بيروت، والمطلة على سهلها الضيق بين مصب النهر شمالاً وشرقاً (أو الجميزة والرميل، تقريباً) وبين جل البحر وسفح المنارة القديمة جنوباً وغرباً (وصولاً إلى الرملة البيضاء تبعيداً).
  وينقض هذا أو يخالف بعض دواعي الرسم الذي جرى عليه إنشاء المباني والتوسع العقاري الى أحياء بيروت "المحدثة"، أي تلك التي اختطتها حركات النزوح والسكن والإقامة والجوار في أواخر القرن التاسع عشر غداة تشغيل مرفأ بيروت في ثمانيناته وغداة شق طريق بيروت – دمشق في أواخر ستيناته وعمارة الأشرفية والشطر الشرقي من المدينة في أعقاب استقرار المتصرفية والفراغ من حروب الغرضيات والفتن. فالأحياء المحدثة بنيت وارتفعت على التلال والمصاطب والبسط والأبراج والحصون والقناطر والرؤوس والطلعات المطلة على البحر وشريط السهل الساحلي الضيق. وهذا ما تشي به الأسماء القديمة ومعانيها المطوية: تلة الاشرفية او جبلها وتلة الدروز وتلة الخياط وتلة الزيدانية (أو رملها) والمصيطبة والبسطة التحتا والبسطة الفوقا وبرج أبي حيدر وميناء الحصن والقنطاري وراس بيروت وطلعة جنبلاط وطلعة العكاوي... فبناء البيوت على منحدرات التلال و"الجبال" والروابي المُصعِدة من السهل والمخلِّفة وراءها منبسطاً أو سفحاً تجتمع فيه مياه السيول المنحدرة، أخرج الأهالي من مدينة السور والمستنقع وبحر الأمواج الهاجمة. فأشرفوا على الشاطئ والبحر، وعلى الجبل إلى الشرق. وحمل الأعيان والأثرياء والميسورون الشرفة (البلكون) وعمارتها على معناها الحرفي. وكان هؤلاء سبقوا عامة الأهالي إلى رفع منازلهم وأعمدتها وشرفاتها وشبابيكها وصفحاتها الملونة وأدراجها وقرميدها على أطراف التلال وحروفها، واستقبلوا بها البحر والشاطئ.
  وعلى هذا، فسدُّ البحر بحاجز متسلسل من المباني العالية والمنتشرة في ثنايا بيروت قبل أن تنيخ بكلكلها على أمتار قليلة من الماء، يخالف معنى المدينة الذي يفهمه أهلها، وينكره، وينتهك رسم توسعها المضمر، وينقلب على أركانها البيئية وعلاقاتها بالعناصر والتضاريس التي نشأت عنها مسارحها وإيقاعاتها. وما كان في الستينات وأوائل السبعينات، عشية اندلاع الحروب الملبننة، استثناء سياحياً ومجتمعاً في دائرة الزيتونة – ميناء الحصن وفنادقها، شاع وفشا بطيئاً في التسعينات، وهجم في نصف العقد الأخير من غير قيد ولا كابح. فطوال عقد 1960 وسنواته شذ فندق فينيسيا وحده بجوار نصب فندق سان جورج أو معلمه المعماري والتاريخي، عن تواضع بالم بيتش واكسلسيور وريجيس وبيفرلي وحلقة المرابع المتصلة حول "خليج" عين المريسة. وانتصب الفندق الجديد، على خلاف جاره البحري ومينائه ونادي التزلج المتفرع عنه، مرفقاً برياً وعالياً يبلغ عدد طبقاته ثلاثة أضعاف عدد طبقات المنافس العريق بإزائه. وإذا كان المنافس شيد على النحو الذي شيّد عليه في عقد 1930 تيمناً بمثال متوسطي مشرقي فرنسي إيطالي، لازوردي (كوت دازور) جنوبي وبندقي"مشبِّه"، وشاءه أصحابُه ومعماره، مرشح الحزب الشيوعي إلى دائرة بيروت الأولى ورئيس حركة أنصار السلم في لبنان، مقصداً أو نادياً للأعيان المختلطين والأثرياء القدامى والجدد ومحترفي السفر العابر الغربيين، تخلى صاحب الفندق الجديد نجيب صالحة، احد أوائل وجوه الهجرة التجارية إلى المملكة العربية السعودية، والشركة التي أنشأها وصممت فينيسيا، عن أضعف طمع في الفرادة أو العراقة المقلِّدة. فاحتذى الفندق الأنيق والناحل والملون بلون الحجر الرملي الفاتح، على حاله اليوم بعد عقد ونصف العقد على انبعاثه وتكاثره، على مثال راج في أنحاء العالم، وقدم البساطة والخدمة العملية على المعايير الأخرى.
  وسَنَد المبنى العالي (يومها) ظهره إلى مصطبة مستوية بين قصر القنطاري (وهو تركته رئاسة الجمهورية في 1958 إلى صربا بضاحية جونيه الكسروانية قبل نزولها بعبدا) وبين مخرج وادي أبو جميل إلى دور آل الداعوق وسور حديقة القنصلية الفرنسية ومدخل عين المريسة فالجامعة الأميركية إلى آخر شارع بلس والمَطَل على كورنيش المنارة. وعلى جهتي الطريق هذه – وهي شريط عريض إذا أدخلت فيه الطريق الموازية الأولى، من كنيسة مار الياس المارونية ومبنى بنك البحر المتوسط إلى مركز جيفينور (كليمنصو)، وألحقت الطريق الموازية الثانية من برج المر وقصر القنطاري إلى مركز أريسكو، غير بعيد من المصرف المركزي، فالحمرا إلى السادات- تسابقت على الارتفاع والعلو، طوال نصف قرن تحتسب فيه أعوام الحروب الساخنة الخمسة عشرة (1975-1990)، عشرات الأبراج والمراكز والبنايات. فانقضى عقد كامل بين تشييد فينيسيا وبين انتصاب الهوليداي إن بظهره. وما أضمره الفندق الأول من ابتذال سياحي وعملي قريب، على بعض التستر والحياء الجماليين، أدل به من غير تحفظ الفندق الثاني. فبلغت طبقاته ضعفي عدد طبقات فينيسيا، وهو شيد على مرتفع. واشتطت واجهته عرضاً. واختارت إدارة "السلسلة الفندقية" التي بنته عمارة صناعية. فلم تبقِ أثراً للأعمدة، أو لأقواس النوافذ والشرفات، أو للألوان المتوسطية. فانتصب على حد المصطبة، وظهره إلى البحر وهو يبعد عنه ثلاثين متراً، مارد متجهم من غير قسمات، تعلو طبقاته بعضها بعضاً كأنها فم واحد، كثير الشفاه الممطوطة والجافة، حل محل الوجه كله وتولى العبارة عنه.  
وكان المبنى المقحم إيذاناً مبكراً بشريط متقطع ومتراصف من المباني التي تشبهه، حجباً للبحر وحجزاً بين الشاطئ وبين المباني على منحدرات التلة الغربية الشمالية العريضة من بيروت. وكان مركز ستاركو، بقلب أبو جميل، جدد مباني المكاتب بجوار فينيسيا وفي سنة قريبة من تاريخ بنائه. ولم تبلغ طبقاته العشر، إلا أنه علا المباني حوله، ويعود معظمها إلى عهد الانتداب بين الحربين. فلم يلبث مركز جيفينور، بين فينيسيا وبين الهوليداي إن وقتاً، أن انتصب على مقربة من مستشفى الجامعة الأميركية، غير بعيد من القنصلية الفرنسية. وهما معلمان تاريخيان أجنبيان شيدا، حين شيدا، في جهة طرفية من بيروت، أرضاً وجهة وسكاناً ومرتبةً اجتماعية. وكان السبَّاق إلى رفع المباني التجارية والمكتبية إلى نحو الـ50 الى 60 متراً، وإلى العمارة بالزجاج والألمنيوم. واليوم، حين أنظر من الشرفة الغربية إلى البحر، وقد استحال أفقاً وراء ركام المباني المتكأكئة والمرصوصة، أرى إلى يساري في طرف المنظر ثلاثة حروف، الجيم والفاء والياء، مضاءة بالأبيض، هو زاوية مثلث زاويتاه الأخريان اسم مبنى ليبرتي تاور جنوباً وأريسكو سنتر (بالضوء الأحمر) شرقاً. وعلى طول طريق الترامواي القديمة، من الهوليداي إن فمحطة الداعوق ومدرسة الإدارة العليا (وارثة القنصلية الفرنسية)، يبرز سنةً بعد سنة مبنى جديد لا يقل عدد دوره عن الـ15 – 20 دوراً.
وفي موازاة صف المباني هذه، على كورنيش المنارة بين عين المريسة وحرم الجامعة الأميركية، ارتفعت في السنتين الأخيرتين سبحة مبانٍ كانت حبتها الأولى، قبل نحو العقد، بناية الأحلام، وبلغت اليوم الست. وفي الأثناء تخففت عين المريسة الخلفية، وراء كورنيش المنارة، من بقية البيوت القديمة الواطئة، وكانت زينة هذه الجهة من الشاطئ لعين المسافر القادم من البحر، وراحة جسم المقيم ونفسه. وترتفع يوماً بعد يوم إلى جنب الطريق الضيقة، أبراج يكاد يتسع الواحد منها إلى سكن حي كامل. وعلى الجهة المقابلة، على الطريق المفضية إلى المرفأ، بإزاء فينيسيا، يتوسط فندق فورسيزنز كوكبة من المباني المعلقة. وهي مقدمة مبانٍ تشيَّد وراءها، على المنحدر من "تلال الوادي" (وادي أبو جميل سابقاً) إلى كورنيش المرفأ، وبين ستاركو شرقاً ومركز بنك المتوسط غرباً.
 فإذا خرجتُ إلى شرفة الشقة الجنوبية – وهي كانت إلى سنتين ونصف السنة تطل على بيوت أثرية من طبقة واحدة، وتستظل أشجاراً معمرة وباسقة تحف قصراً متهاوياً ومقفراً، وخَلَفها مبنى جديد من 13 طبقة بينه وبين الشرفة 5 أمتار – ووجهت وجهي إلى الشرق، حجب الجبل أو كاد صف من المباني يتصل من الصيفي والتباريس شمالاً وشرقاً، حيث برج الغزال منذ عقدين وبرج التباريس منذ سنتين، إلى اليسوعية وفرن الحايك ومار متر والأشرفية (التلة نفسها). وخط "الجبهة" الصفيقة هذه يتوسط الأشرفية، على معناها الواسع، على طول الحرف الفاصل بين منحدريها، الشرقي إلى السيوفي والغابة والجعيتاوي، والغربي إلى الناصرة والسوديكو واليسوعية. وبرج رزق هو شيخ هذا الصف، ونظير برج المر ومعاصر بناء لم يكتمل ولم يبلغ غايته بعد نحو 4 عقود من ابتدائه. فإذا دار العمران دورته، ومضت اسعار العقارات على تعاظمها، ألفى ساكن تلال المدينة النازل بين سفح الجبل وبين شاطئ البحر نفسه بين جدارين أو سورين: واحدٍ يسدل على البحر وآخر يحجب الجبل.  

ليست هناك تعليقات: