المستقبل - الاحد 4 أيلول 2011
لم يغب عن أحد أن الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية العربية والإقليمية (إذا جُمعت إيران "الخضراء" إليها، ولم تستبعد منها وجوه من الرغبات والنزعات التركية...) سكتت عن مسائل "قومية" واستراتيجية ثقيلة وراهنة، وأطنبت في تناول المسائل الداخلية، الدستورية والاجرائية الإدارية والاجتماعية. وفي أحيان كثيرة، ظهر الإطناب، شأن السكوت والعزوف، في الأفعال فوق ظهوره في الأقوال. فمشاهد ساحة التحرير بالقاهرة والفصول التي سبقتها وأدت إليها، ومسيرات المدن والبلدات والأحياء السورية وشعاراتها، وملابسات نشأة المجلس الوطني الانتقالي الليبي ببنغازي ومسيراته العسكرية من بنغازي في الشرق والزاوية في الغرب ومبادراته على الجبهة الديبلوماسية، ودور بلدة بوزيد في بلورة الحركة التونسية هذه كلها أسفرت عن اشتراك الحركات في وطنية مدنية عامة ومسالمة (ما وسعها الأمر)، وإمساكها عن إعلان الانتساب الحاد والمقاتل إلى قطب إيديولوجي أو اعتقادي من الأقطاب القائمة والكامنة.
وبعضهم ينسب هذه الحال إلى الخبث والنوايا المبيتة، أو إلى تكتيك قد يكون أكثر نجاعة من خطط العسكري الفذ والممثل المسرحي الفريد المتحدر من قذاذفة سرت وسبها. ولا يعدم هذا التعليل حججاً. وليس أقل الحجج وزناً قوة التيارات الاسلامية في البلدان والمجتمعات المتحركة، وقِدَم تراثها في التنظيم والتعبئة، وبداهة تواطئها مع النزعات الشعبية الأولية، وتوسلها بشبكة المساجد والجمعيات الأهلية المتفرقة وتوافر الموارد المحلية والعربية لها... وإذا صح أو صدق هذا الاحتجاج في تعليل نهج بعض التيارات الاسلامية في مراحل متأخرة من الحركات المدنية الديموقراطية تواقتت و"انتصارها" أو بشائره الظاهرة، فإنه لا يصلح في تعليل قيام هذه الحركات ونهوضها أو "خروجها" على الطواغيت.
ولكن الأقرب إلى الملاحظة المباشرة والسطحية ربما هو افتقار الحركات المدنية هذه إلى "سياسة"، أي إلى نهج في تدبير ولاية الدولة والجماعة الوطنية السياسية على علاقات الداخل ونزاعاته، وعلى علاقات الخارج ونزاعاته. فهي تبدو حركات غير سياسية، قياساً على جهرِ الجماعات الحاكمة المستولية، وبعض الجماعات الأهلية المستعلية على أهلها ومجتمعها و"دولتها"، ملابستها وحدها السيادة والقوة والصراع والمناعة و"الصمود" والمكاسرة، إلى آخر المصطلح الخطابي الحربي والقومي الديني. فمن الانقلابات العسكرية العربية الأولى، في النصف الأول من القرن العشرين، إلى خلايا "القاعدة" والمنظمات "الجهادية" المتفرقة في أواخره، وبين هذه وتلك منظمات التحرير الوطني العسكرية والأمنية الكثيرة كان تحصيل القوة، ومكافأة قوة العدو وحلفائه، مسوغ هذه كلها. وهو لا يزال مسوغ دوامها للذين يتربعون في سدتها، والتمسك المستميت، بمقاليدها. وحَسِب أهلُ القوة، على شاكلة نائب رئيس سوري سابق، أن معارضيهم قاصرون عن "إدارة مدرسة ابتدائية". فالأحرى أن يقصروا عن هذا "الشأن العظيم" (على قول بعض المعصومين في الولاية) و"الكينوني"، على قول بعض مريديهم الذين يتصدون اليوم لإنفاذ خطة الكهرباء (اللبنانية) وقطع الموازنة واختصار السنة السجنية وتعقب مخالفات البناء وجمع القرائن على اغتيال اسرائيل "آباء" أنصارها ومريديها.
وتسلطت "الدولة"، وهي اختصرت في أجهزة القوة والانفاذ وقياداتها إذا لم تُصرف هي وفكرتها من العمل وتبطل هيئاتها ومؤسساتها وأجسامها أصلاً (على ما فعل القذافي وأصَّل الأمر نظرياً)، تسلطت على الاجسام الأهلية والاجتماعية والموارد والهويات وشاراتها، وسطت عليها. واصطنعت بدائل لها وأقامتها محل الجماعات، وألحقتها بأجهزتها، وحالت بينها وبين الفعل والنماء وحالت بين الأفراد وبين حرياتهم واختباراتهم. وحملت سيرةَ المصادرة والتسلط والقهر على ضرورات مراكمة القوة والاعداد لحرب فاصلة. وقد تدوم الحرب الموعودة قروناً. وقد لا تقع، وينهار بيت العدو العنكبوتي أو يعجل فرج صاحب الزمان في انهياره. وفي الاثناء لا مناص من "السير على تعبئة" أو "كبكبة"، على قول الطبري في الخوارج خصوصاً. والتعبئة أو الكبكبة تعني الاستثناء والطوارئ والأحكام العرفية والحق في القتل من غير إنذار وفي التهيئة من غير احتياط، تقي وقوانين الأحزاب والإعلام المتعسفة من جهة الحاكم والمسؤولة من جهة الرعية، وامتيازات "أبواب العزيزية" وأسوارها العالية، والثأر الدهري من مظالم من "حكمونا" دهراً بالتعسف والقتل ورميهم بالامبريالية والعمالة والكيل بمكيالين والخروج على القانون والحق إلى قيام الساعة. وهذا نظام حرب أهلية دابة وأحياناً منفجرة، حصنه عصبية جماعة مستولية ومهددة على الدوام.
وهذه كلها إذا اجتمعت، على ما حصل في غير مجتمع عربي في نحو نصف القرن الأخير، ترتب عليها تصديع الدولة الوطنية وأبنيتها السياسية والحقوقية والإقليمية (حدودها والتزاماتها الجغرافية) والإدارية التقنية. فتذهب الطبقات الحاكمة الصعبية العشائرية والبيروقراطية، إلى أن مراكمة القوة تسوغ انتهاك الحدود والقيود التي تقوم الدولة عليها، وتفترضها على وجه الحاجة والضرورة كثرةُ الجماعات وتنازع المصالح والهويات الجزئية. ويؤدي ترك الجماعات والطبقات الاجتماعية والافراد نهباً لجماعة خاصة وأهلية متسلطة إلى حمل دفاع الجماعة أو الفئة أو الفرد عن نفسها (أو نفسه) إضعافاً لقوة "الدولة"، وتواطؤاً عليها مع العدو الكثير الوجوه والأقنعة. وعلى هذا، فعدو "الدولة" العشائرية والبيروقراطية الأول والعنيد هو مجتمع الجماعات الكثيرة، الدينية المذهبية والمحلية والعصبية القرابية والقومية، والمصالح المهنية والسلكية والطبقية، والانتماءات الطوعية الحزبية السياسية والجمعية والفردية الثقافية الذوقية. والكثرة هذه لا "علاج" لها بالدولة وأبنيتها التمثيلية والقانونية والسيادية، وعلانيتها وإقرارها بالمنازعة والخلاف والتحكيم والاقتراع. و"العلاج" الثاني هو الارهاب أو "الاستئصال"، على قول جزائري سار وذاع في أعوام الحرب الأهلية (1992 1999).
ولم يشك أهل القوة المستولون، وهم من العسكر ومن شُعَبه الأمنية، أو من أحزاب تصل متعسكرة ومن جماعات ضعيفة وهامشية وفقيرة على وجوه الفقر كلها، لم يشكوا في أن تقييد السلطان المرسل بالدولة الوطنية وأبنيتها وقوانينها، وبالمنازعات الاجتماعية وعلانيتها وكثرة الجماعات والمواطنين، يقضي بشلل السلطان. ولا يترك للولاية والقيادة والاستيلاء إلا حصة ضئيلة لا تليق بهم ولا تمكنهم من حماية سلطانهم وعصبيتهم، ولا من اضطلاعهم بالمهمات القومية والسيادية العظيمة التي يريدونها لأنفسهم وأولادهم وعصبيتهم وأنصارهم و"أمتهم".
فيسعى السلطان العصبي والبيروقراطي المرسل في تصدر المعارك والساحات "القومية"، إما من طريق تفريق الجماعات الوطنية والمحلية الهشة واستعداء بعضها على بعض، وإرهاب بعضها وشراء بعضها بالواسطة. فيستدخل مباشرة او مواربة الكيانات الوطنية القلقة والمترجحة. والقلق والترجح حالها كلها. ويؤلب الجماعات الواحدة على الأخرى، والكل على الكل أو الأجزاء على الأجزاء. ويغذي المنازعات والشبهات بالاغتيال والتسليح والتكتيل والعزل والحماية. فينبغي أن يظل أفق الحروب الأهلية، وليس الحرب الواحدة و"الجامعة"، ماثلاً وقريباً، وتبقى جذواتها حية. وينبغي ألا تنفك المنازعات الأهلية من خيط يربطها بجبهة "الحرب على الغرب" وامبرياليته وصهيونيته وصليبيته وعدوانه الشرس على الوطن والأمة والسيادة والوحدة. وكل تحفظ عن القيادة وحكمتها هو خروج وحرابة، على قول بعض قضاة طهران الحرسيين والميدانيين وحسبان ضباط الجهاز الأسدي وأبنائهم وأبناء مواليهم. فتماسك الكتلة الأهلية "القومية" والاقليمية، ومرآتها جبهة أحمدي نجاد نصرالله "بشار"، رهن أعمال التصديع الداخلي والتأليف الاصطناعي المديدة هذه.
وما صنعته أنظمة حزبية وعسكرية وأمنية في بلدانها ومجتمعاتها ودولها من "فوق"، من مناصب الدولة وقمم الأجهزة العالية والنافذة والمتسلطة، صنعت مثله على صورة أتم وأبدع، بواسطة القوى والجماعات والمنازعات الأهلية والمحلية في الجوار الفلسطيني واللبناني والعراقي. فرفعت القوى والجماعات انجازها على انقاض الحروب الداخلية المتشابكة بالحروب والنزاعات الاقليمية. وتولت أذرع "المقاومة" ("الاسلامية")، كل واحدة في دائرتها المتخلفة عن دولتها الوطنية المفترضة، ما سبق أن تولته الأجهزة العشائرية البيروقراطية في اطار "نظامها" (الصدامي، الاسدي، القذافي...) المزعوم. فكتلت جماعاتها الأهلية كتلة مرصوصة ومستقلة في سياق انشاء جبهة ثابتة ومشتعلة مع الاحتلال، وفي سياق اشتباكات فرعية مع أعداء الداخل والحلفاء الفاترين، والجماعات المتحفظة. ودعا تسليحها وعسكرتها وهيمنتها على قرار الحرب الجماعات الأخرى إلى الانكفاء والتحاجز ونشدان الحماية.
ففشت "طائفية" عصبية حديثة، بل شديدة الحداثة والبيروقراطية والتنظيمية والشبكية. وجمعت في حزمة واحدة الروابط المباشرة والدموية إلى شاغل الاضطلاع بالخلاص الكوني. وشبكت مدخل الشارع الضيق بجادات العولمة وطرق التموين الحيوية، على قول الجنرالات الجويين والبحريين الايرانيين في وصف مناوراتهم. واستخلصت "المقاومة" من الاقليم المتصل ديرات ومضارب وحارات ومسالك استقلت بها وحدها، وألحقتها بمراكز اقليمية، ودمجتها فيها. واستدخلت أبنية الدولة وهيئاتها وإداراتها وأجهزتها، واقتطعت حصصاً منها معاييرُ عملها ووظائفها هي معايير ولاء "المقاومة" ومهماتها. فاستحال إجماع الحد الأدنى العملي. وما ابتدأته الأجهزة المستولية في "الدولة" من تصديع الدولة الوطنية، وتشطير جماعاتها وأقاليمها، وتحاجز مواطنيها واستعدائهم على الحكم وفكرته، تولت "المقاومة" وجيوشها الخاصة وجماهيرها التي تعيلها وتحشدها وأحكامها العرفية وحروبها الماثلة والوشيكة، استتمامه وتتويجه وإنزاله من ذرى السلطة إلى زوايا الجماعات المعتمة.
وترث الحركات الوطنية المدنية والديموقراطية الدمار الفظيع والثقيل الذي خلفته "سياسة" الأجهزة المستولية، وأحالت دولها ومجتمعاتها إليه. ومفهوم الولاية أو السيادة هو في منزلة الركن من الاستيلاء وسياسته. فمن طريقه وذريعته نفي المجتمع وجماعاته من الدولة، وتدبيرها، واستعدي بعضها على بعض، واختصرت الرابطة السياسية في التعصب على "الخارج" والحرب على "العدو" والولاء للجهاز المتسلط. وقوضت أبنية الكيان الوطني السياسي، وحلّت في مدى لا ناظم له غير علاقات القوة والعنف. وحملت الحدود والقيود الجغرافية والقانونية والوظيفية على تعسف لا مسوغ له غير احتيال الطاغوت على المستضعفين، وتحكم الامبريالية في الجماهير والشعوب. ولعل هذا النهج في رأس الدواعي إلى نشأة الحركات هذه، والقرينة الأقوى على جدتها وحداثتها وسياسيتها. والانعطاف لا يزال في بواكيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق