الخميس، 10 مايو 2012

كورين شاوي وشريطها القصير "أحبك فوق ما تسع الظنون" (لا إلى غاية أو نهاية)... السينما الوثائقية وكناياتها من غير طريق الفولكلور

المستقبل /6 /أيار 2012
صنعت كورين شاوي، المخرجة السينمائية اللبنانية "الناشئة" (شريطها مادة شهادة ماستر)، في الشهر الأخير من 2010، فيلماً وثائقياً، على ما تقتضي الحال الجامعية والدراسية، وصنعته على موضوع هو، من غير مفارقة ولا مراوغة، الحب العظيم أو الحب المجنون. وهو الحب الذي لا تسعه الظنون، على قول الشاعر العربي، ولا يحده حد، ولا ينتهي إلى حد أو نهاية. فهو حب لا إلى غاية يبلغها وينتهي إليها، "لا نهائي"، على قول يشي بإرادة قائله أو صاحبه التخلص، ونفاد صبره، وطلبه الحسم. وكورين شاوي لا ترى ما قد يغمض أو يشكل في "توثيق" هذا اللانهائي، وليد المخيلات والمهج والأشواق المحمومة والمريضة. وهي تقول هذا في اسم شريطها الذي لا يتخطى الدقائق العشرين إلا قليلاً. ولا يسع المشاهد، أو الجمهور، أن يحدس في ابتسامتها، الساخرة أو الماكرة، ربما، تنديداً بالحب، أو بالجنون، أو بالسينما. ويخص مكرها التوثيق، ومزاعمه في الحقيقة، بسهمه، من غير أن يقع المشاهد على أثر ظاهر للمكر الساخر.

ففي 17 إحاطة عدسة مفردة- أو فقرة متمادية ومصوبة على "شيء" أو نواة منظر، أو حادثة لا تجمع واحدتها الى الاخرى، رابطة أو آصرة عدا موسيقى موكبية تسكن الصور، وتخيم على بعضها على شاكلة الغيم ونزوله على المنحدر العريض والربيعي الى الوادي، وإحالته بطرفة عين الألوان الزاهية، الأحمر والاخضر والاصفر والترابي، منظراً ليلياً مقلقاً. وتتنقل الفقرات إذا جاز الكلام على تنقل فيما لا هوية له ولا يصدر عن سياق أو فاعل متصل، بين المرأتين المسنتين والمتداعيتين، والمتبادلتين حديثاً عنيفاً ومتقطعاً يدور على رجل تسميه المرأة الاولى خليل وتروي عنه فيها هي كلاماً مقذعاً ومنهما الى المنحدر الربيعي والخريفي. ومن المنحدر الى رجل يحمل منجل "الحاصدة"، على ما يسمي الأوروبيون ملاك الموت، ووراءه صلبان على قبور مقبرة، ويتردد في ارجاء الصورة العريضة والمنيرة طنين الطوافة البعيدة، وصرير مروحتها وهي تخبط الهواء الساكن، وتقطعه إرباً.

وفجأة يظهر قرميد كنيسة ومبناها وجدرانها الملساء "بلا دنس"، "قرميدي" اللون، في حلة بطاقة بريدية مصورة. وفي الجزء القريب من الصورة مضرب بدو، خيمتان الواحدة بجوار الأخرى، الخيمة الأقرب من قماش لا يخالطه بناء "صلب"، ووراءها حجرة من طين لصيقة بالأرض، ويخالط مواد بنائها الكرتون وربما التنك. وعلى عتبة الخيمة البدوية الخالصة أوقف "شيخ" الخيمة، أو ربما زائر من أهل المدن، دراجة نارية من دراجات التنقل الداخلي والقريب، متكئة على قدم وحيدة. وفي الخلف، بين الكنيسة وبين الحجرة الحدودية رجل يعمل، وولد يتوارى. وتعود الصورة، أو يعود التصوير الغفل المصدر والرواية والمتنقل على غير هدى أو غرض واضح، الى المرأتين. ولا يظهر منهما غير يد معروقة، قديمة وضخمة، غارقة في قماشة داكنة الحمرة. ويملأ صوت جميلة الحلقي والأنفي الفضاء الخانق والضيق والقاتم، ويحيط بالمشاهد إحاطة المدفن أو التابوت بالمسجى فيه. ويتناول صوت جميلة "القهر"، وقهره المقهور.

وعلى نحو العدوى، يدخل المشاهد محراب كنيسة أو محلاً لبيع "التحف" الكنسية: صلبان وصور وصحون وتماثيل السيدة العذراء. وفي وسط "التحف" رجل جالس على كرسي، مفتح العينين من غير نظرة، ولولا العينان هاتان لقطع الناظر أن الرجل نائم ومنخطف، على رغم العينين وخلوهما من نظرة تنم بقصد لا يفارق النظر. وبينما المشاهد يترجح بين رأي وآخر، أو بين رأي وضده، تضيء شمعة ذاوية صفحة طاولة تعج بصور لا يُرى منها شيء. فلا الشمعة للإضاءة، ولا الصور للرؤيا، ولا الطاولة للعرض على النظر، على حين ان نور الشمعة ممتلئ وقريب من سمنة بذيئة، وظلال الصور لا شك في حقيقة رسومها والتماعها...

ويخرج الشريط الى الضوء والفضاء كما يخرج المسافر من عتمة نفق الى نهار ساطع ولئيم القسوة والوضوح. فيقع على بقايا جثة كلب مهترئة، منبطحة على حاشية الطريق الترابية. ويتعاظم انبطاحها، وتغلغلها في الأرض، مع كل وطء سيارة. فتحفظ الدماء القليلة وحدها رسم الكلب الذاوي والنازع الى الذوبان في تراب الطريق، لوناً ومادة متحللة. ومن أطراف الصورة غير المرئية، على شاكلة طنين الطوافة وصريرها في فقرة سابقة، يطلع نباح متقطع، أم هو مواء مخنوق؟ يتردد المشاهد في حمله على بقية الكلب المتآكل وروحه الهائمة بين "الأقبر"، على قول الشاعر في صدى الحبيبة، أو يؤوله بكاءً يُشيّع القلب الى غباره المتطاير.

ويعود "التوثيق" الى المشهد الأول، والمرأتين الهرمتين والمتحاورتين، على نزقٍ من الأولى واستحياء من الأخت، جانيت. وتسأل جميلة الأخت عما إذا كانت رأت حية، وعما تريده الحية منها. ومن غير جسر أو تمهيد، في وقت جميلة وأجزائه المتجاورة، ووحداته المنفك بعضها من بعض والمؤتلفة في كلٍ أو جميع يرعاه إله لايبنتز المفارق والمحايث معاً، تنشج جميلة نشيجاً أليماً ورتيباً، : "نحنا شراميط، نحنا الحية"، في حجرة الجلوس الفردوسية وضوئها الصافي والصباحي، وأريكتيها الثابتتين واللصيقتين الواحدة بالأخرى. وتميل المتحدثة الى أمام، وتكلم الاطياف التي تحوطها وترف حولها، ويخرج بعضها منها، هي جميلة الجنية المسكونة بالجنيات ومخاطبتها الأثيرة وقائدة أوركستراها. فتخوض المتكلمة، في الوسط النوراني والابليسي الذي يحوطها في قصص لا يدري المشاهد السامع كيف يراه أو يسمعه. فهي تخاطب أطيافها وظلالها تحت بصر جانيت، ووجهها المستطيل والثابت وجسمها المتين، وابتسامتها المطوِّفة بالوجه، والمتقاسمة بين الشك فيما تقوله الاخت وبين حملها على محمل التصديق، على ما توحي آلة التصوير وكورين شاوي وراءها.

ويخرج الشريط، فجأة كذلك، من الحجرة والمرأتين والضوء والجن الى علياء سماوية تطل على حفرة عميقة معتمة، تصلح غاراً على طريق هجرة او نزوح نبوي. وعلى ضفة الحفرة الصخرية، بين الصخور الكلسية المدببة، يروح ويجيء بشر ضئيلون كالنمل، ليليبيتيون على شاكلة "الشعب" الذي كبل غوليفير الغارق في سكرة نومه العوليسي، يتجولون حول خيم مضرب بدوي على كتف جبل هائل. وعلى شاكلة كل مرة تحضر فيها الأرض "قديمة وعنيدة"، على قول أندريه مالرو، تطوِّف بها موسيقى الأرغن الباخية، فتحتفل بالولادة من رحم عظيمة وتشيِّع الخلق الى مثوى الظلال، من غير افتراق.

وينعطف الشريط الى رجل مستلق نائم على أريكة طويلة، ينتحي هو ناحية منها، وإلى جنبه ما يشبه رداء مركباً ومزركشاً، ملقياً على الأريكة الصيفية الألوان والنسيج. وتغشى الصورة ضوضاء راديو متقطعة ومتذبذبة، تستدخل الصورة وأشياءها من غير إثقال عليها ولا وطأة. فكأن الضوضاء بعض الضوء أو بعض فضاء الصورة، من غير حضور ولا جسم. وتعود، في فقرة لصيقة بالرجل النائم والمستلقي، جثة الكلب على اسفلت الطريق. وتمضي السيارات والمركبات على نهبها، وتبديدها، وتجريدها من رسمها، وحملها على الدم المتبقي والجاف. وتهرب الصورة، متعمدة القطع، من الكلب والاسفلت والسيارات، الى صوت جميلة الحلقي والأنفي في فضاء حجرة استقبال صيفية خالية، تتوسطها ساعة زجاجية تدور فوق الطاولة الواطئة، ويملؤها الضوء تارة ويغشاها الظل تارة اخرى، على ما مر من قبل في فقرة المنحدر المنقلب من الضوء الى غاشية الظل والغيم. ويتدافع كلام جميلة في السعدان وطيزه، وفي خليل، "وينك يا خليل؟".

وتعود المرأتان، ويعود كلامهما في الحجرة، كلام جميلة:" شو بدي اعمل؟ شو بدي قول؟ إيه، ما على شي شرموطة، بتصير منيحة، يشرمط عليك...". وقبل أن تعودا منفصلتين: جانيت مستلقية على سرير لا يبدو منها إلا رأسها، وعلى مقربة منه مقعد أبيض من البلاستيك السائر، على خلاف الأرائك التي مرت في الحجرات الصيفية والفردوسية وجميلة من فتحة بابا أو حائط من لون الكريم الصافي والمتصل، المجرد أو التجريدي على حاله في المستشفيات والمصحات، وأمامها، في الفتحة العمودية والضيقة، "شيء" ابيض محدودب، قد يكون بوظة وقد يكون قبعة، وتغشى الصورة أصوات أجراس بعيدة وعميقة وتوقيعات الأرغن المتطاولة-، قبل أن تعود المرأتان منفصلتين على هذه الشاكلة، تمر فقرة الشريط السادسة عشرة، أي قبل الأخيرة، بحية مقطوعة الرأس، من لون الاسفلت الأسمر، وتحوم على موضع الرأس ذبابة تشرب من خيط الدم الرقيق الذي خلفه الرأس المقطوع في الاسفلت، وتذروه عجلات السيارات والدراجات. والفقرتان المتبقيتان، الثالثة عشرة والرابعة عشرة، عَوْدٌ على امرأة تدخن في عتمة ضوء أو نهار مضاد، على ما يسميه الفرنسيون، ثابتة فيما هي تنفث الدخان، وامامها طاولة تعج بأغراض متفرقة، وتملأ فضاء الحجرة موسيقى ملحة ومضرب بدوي يتناوله التصوير من تحت ومن بعيد، ثم يتناول قطيعاً من الماشية من أعلى الهضبة المطلة على المنحدر، ثم يلم بالمضرب الغارق في الضباب، وبين العدسة والمضرب حمار أسود لا يرعى ولا يمشي، ثابت مثل المرأة المدخنة أو مثل الرجل النائم جالساً على الأريكة أو مثل الرجل النائم في حجرة التحف والتماثيل من غير أن يغمض عينيه...

وعلى هذا، لا يقص شريط السينمائية اللبنانية "الناشئة" قصة متصلة الحلقات والسياقة، ولا يلمح إلى نهج قراءة أو تأويل يفتح "الاقفال"، ويفك "رموزها". ولكن التقطع الصريح والتعرج الواسع والمتباعد لا يخرجان المشاهد عن طوره السينمائي والصوري، ولا يرميانه في عماية. وتنفذ لغة الشريط القصير واللجب الى بصر المشاهد وسمعه وفهمه وأحاسيسه من نوافذ ومداخل كثيرة أحصى الوصف المتقدم بعضها. ولا أتستر على أن الباب الذي (أحسب أنني) دخلت منه إلى الشريط هو الباب البدوي المترحل والتوراتي والعربي. فالحب المجنون الذي أصاب جميلة (مؤنث جميل... بثينة؟) منذ صباها الأول، وتتجاذب حديثه مع اختها، وتتقلب صوره وكلماته بين الكنائس والمقابر والايقونات والتماثيل اليسوعية والمريمية، ويطوِّف خياله بين المضارب وفوق الهضاب والمنحدرات والوديان وعلى طريق الرعي، ويستعير للكناية عن نفسه حيوانات الرعاة الظاعنين ("العابرين") مثل الكلب والحمار والحية، وإلى هذا وربما قبل هذا كله يضطرب (الحب المجنون) على الحدود الغامضة بين حضور نيِّر فردوسي وجنبات وحواشٍ تغشى الحضور وتصدعه وتنشر ثناياه المطوية والمنسية على ملأ كثير الثنايا بدوره. ويكاد المدخل البدوي هذا يسوغ انتساب الشريط الى الصنف أو الفن الوثائقي. ويتردد الحب المجنون، ذاك الذي لا تبلغ غايته ولا غاية يحج إليها، بين رواية معقولة ومفهومة، فتخبر عن خليل، وسفره وعودته وطعنه في "شرمطة" المرأة، وترد هي بخبر عن العودة المتوقعة، وصلاح "الرذيلة"، والحية الغاوية والمخيفة، وتضرب قُدماً وغرقاً في أخيلة الجن وبين اختلاط الصور وتناثرها و"تجددها" تحت عجلات السيارات، وعلى صورة الدراجة النارية على باب الخيمة، وتبدد رسومها وأجسادها، ورُسُوها على خيط الدم على الاسفلت "الحديث". وتتضافر رسوم القص والتقطيع والكناية وأشكالها، على إيقاع موسيقى مات جونسون، ووصلها الأرض بالسماء، والهضاب بالوديان، والولادة بالتشييع، والزمن بالأبدية، والقلب بالحواشي، والضوء بالغيم، تتضافر على نفي "الوثيقة"، وتقريرها المفترض من الفولكلور. وربما كان هذا النفي، العسير على الدوام، والممتنع في معظم الاحيان، مطهر شريط كورين شاوي وانجازه: محاورة صمويل بيكيت وطرفة بن العبد.

ليست هناك تعليقات: