الأحد، 27 مايو 2012

رانيا اسطفان تسألها وتحاورها وتوقظ ذاكرتها وذاكرتنا في "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة"

حوار أجزاء سعاد حسني وصورها في خضم مرايا متقابلة ومتلاطمة


حاورها وضاح شرارة

  "ما أنشده واتخذه ميزاناً لعملي هو أن أكون والكاميرا شيئاً واحداً، وان استخلص من الواقع ومشاهده بنية متماسكة ولكن من طريق الصدفة، فأحصل على فيلم قائم بنفسه ومن تلقاء نفسه، من غير تدخلي، (...) وينتظم الشريط وحده. أطرح سؤالاً ويجيب الناس، ثم ينصرفون الى المناقشة بعضهم مع بعض، وانا أسمع وأدون، الموقف من العنف وكيف يتدبرون أمرهم..."، تقول رانيا اسطفان، وهي تقصد شريطين سبقا "اختفاءات سعاد حسني الثلاثة" (2011). الاول صنعته في 2005، عام اغتيال رفيق الحريري، والثاني في 2006، عام الحرب. ويعرض "اختفاءات..." في برنامج دفاتر يومية، شهر السينما اللبنانية، بميتروبوليس أمبير. وما تقوله المخرجة اللبنانية في أشرطتها الوثائقية يصدق في شريطها "الروائي" الطويل والغريب: فمادة روايتها هي روايات الآخرين في سعاد حسني، وروايات سعاد حسني في نفسها، وفينا نحن، مشاهديها منذ ابتدائها التمثيل، وطوال نحو 30 سنة، وبعد تركها التمثيل قبل 10 سنين من موتها الاليم، وبعد موتها بعقد كامل ومتجدد. وقد تكون رانيااسطفان جزءاً أو وجهاً من وجوه ولادة سينمائية لبنانية خصبة.
و.ش.

  يتوقع المشاهد، وهو ينوي مشاهدة فيلم يتناول سينما سعاد حسني، الممثلة السينمائية المشهورة، أن يقع على "صور" أو "وجوه" أو "مشاهد"، وكلها تدور على الحضور والظهور، فيقع على "اختفاءات" لا تقل عن ثلاثة، وأوكل اليها الاعراب عن الحضور...
 *أحدهم قال لي أن الاختفاءات هي 300 صورة أو 300 حضور. المسألة ميتافيزيقية: كيف بعثُ أو تذكر انسان رحل ومات. والشريط ولد من موت سعاد حسني العنيف، ومن الانفعال الحاد الذي خلفه موتها في مشاعري. فرأيت أن المادة الأقرب اليها، والوثيقة الاقرب، هي عملها، والعودة الى أعمالها. وهي مثلت في 82 شريطاً سينمائياً شاهدت منها 76. ومع سعاد حسني طوي نوع من السينما المصرية. وهي أقلعت عن التمثيل في نهاية الثمانينات. والسبب في إقلاعها، في هذا الوقت، هو وقوع السينما في ازمة معنوية أدبية ومادية أدت الى استحالة الاستمرار على الحال السابقة: فالانتاج تغيرت متطلباته ومعاملته الممثلين والممثلات والمخرجين، ولم تبق مصر مصدر الروايات السينمائية التي تعم العالم العربي وينتظرها الجمهور العربي. ولعل سعاد حسني شعرت في ذلك الوقت انها هي كذلك تحطمت، وتحطم جسدها، ونضب ما انتجته الثورة الناصرية في السينما وانتهى. فاجتمعت أزمة السينما وأزمة حسني وأزمة مصر معاً.
 وكان هذا الاختفاء الاول: تواري سعاد حسني عن السينما معنوياً وتمثيلاً قبل تواريها الثاني، المادي، وموتها بعد عشر سنوات. أما الاختفاء الثالث فهو طي السند المادي الذي كانت اعمال سعاد حسني تُتداول بواسطته وهو الفي إتش إس (VHS)، وهذا حادثة ثانوية ربما. وعندما بدأت أجمع نسخاً عن أعمالها، في 2001، جمعتها في هذه الصيغة، وعلى هذه الشاكلة، أي الفي إتش إس. وصادف أن هذا الوقت شهد نهاية مرحلة الفي إتش إس والانعطاف الى مرحلة الدي في دي (DVD). وكنت أحسب أنني قد أرجع الى الافلام في نسخ 35 ملم قبل أن استقر على السند الثاني...
 ... على رغم رداءة بعض الفقرات والصور...
*هذه الصور، على حالها المتعثرة والمتلعثمة في بعض الاحيان، هي مرتكز العمل، وهي مصدر الذاكرة ومرجعها. فأردت إعادتها وإحياءها في الذاكرة مع أمراضها واضطرابها وتفتتها. وكنت أحسب أنني قد استعمل النسخ الرديئة والثانوية مجرد وسيلة قبل العودة الى النسخ الاصلية. وأدركت شيئاً فشيئاً أن النسخ الثانوية هي مادتي الاولى، وأنها هي من صنع الذاكرة والزمن. ومنها نشأت الفكرة. الممثلة الميتة تتذكر حياتها الماضية، أي اعمالها، وهي "ذكريات" تعتريها فجوات وغبش وانقطاعات وخواتم غير واضحة ودخول صوت وأصوات في صور وأصوات اخرى.
  الفيلم من ثلاثة أقسام، ويسبق القسم الواحد ترتيبه ورقمه...
*خط بناء الفيلم العام رُسم على مثال مأساة من 3 فصول. والثلاثة رقم سحري. أردت أن استرجع ما  صنعته الممثلة طوال 30 عاماً كما قد تسترجعه هي بعد الموت! وما صنعته يلابس تاريخ مجتمعها ومجتمعاتنا، ويتناول موضوعاته ومشكلاته، مثل الاختلاط أو العمل أو التردد الى الاماكن العامة والظهور فيها... وتقود الاستعادة الى مأساة. وسعاد حسني ماتت ميتة مأساوية. وثلاثة هو عدد فصول المأساة ورقمي الشخصي والسري أو الحميم.
 والفصل الاول مادته من أفلام المرحلة الاولى، تلك التي تقع بين 1959 و1967، وفي أثنائها كانت سعاد حسني تعمل بنشاط وهمة، فتمثل في 4 أو 5 أفلام في السنة. وبلغ عدد أفلامها 34 فيلماً هي تقريباً نصف سيرتها المهنية. وهي افلام حقيقية، دراما اجتماعية تؤدي فيها دور الصبية المشاكسة واللعوب، وتروي قصص غزل واختلاط. وبعد الهزيمة، برزت أسئلة اجتماعية مختلفة، حادة وجدية. وتوجهت حسني الى مخرجين أقوى شخصية، واهتماماتهم أعمق من مشاغل الفتيان المراهقين والفتيات المراهقات المباشرة. فعملت في اشراف صلاح أبو سيف وهنري بركات وكمال الشيخ ونيازي مصطفى. والى 1973، وهو منعطف تاريخي آخر أصبحت عشيته، في 1972، نجمة، بلغت ذروة نضوجها التمثيلي وأدائها. أي ان الفصل الثاني هو أعوام 1967 – 1973. وفي 1972، تزوجت بعلي بدرخان، ومثلت 6 الى 7 أفلام تميزت بنظرة اجتماعية حادة. وفي 1973 – 1991، مثلت نحو 20 فيلماً.
 والفصل الواحد من الفصول الثلاثة ينقسم، بدوره، الى مشاهد. ويجوز القول عموماً، أن الفصل الاول هو فصل الطفولة والنشأة، والفصل الثاني هو فصل النضوج، والثالث هو الخاتمة. وأردت أن أقول رأياً في الفي إتش إس والتلفزيون، في الصورة الاخيرة.
 تتناول المختارات من الافلام المختلفة موضوعات تدور عليها، وهذه المختارات حظيت بحصص وشطور، قليلة أو كثيرة، وحظي المخرجون بحصص متفاوتة كذلك. والحصص هذه، من الافلام والموضوعات والمخرجين والمراحل، جزء من "صوغ" سعاد حسني ومن بلورتها في المراحل المختلفة. فما هي عوامل صوغها أو بلورتها؟
 *أعود الى المربع الاول أو الفكرة الاولى: ولد الفيلم من صدمة انتحار سعاد حسني. وعندما بدأت أعمل على الاشرطة وأشاهدها مرة ثانية وثالثة ورابعة، امتلكني حدس قوي أدركت معه أن في وسعنا، في وسعي، انشاء أو صنع عمل متخيل ومتماسك البناء والمعنى من مادة هي أعمال روائية وسينمائية متخيلة سابقة. وأنا لم أشاهد الاشرطة الشريط تلو الآخر بحسب سنوات صنعها وعرضها، بل شاهدتها من غير تدرج ولا نظام، على نحو مصادفات ورودها من مصر. وحدسي الاول بقي من غير قوام أو شاهد يصدقه. فكان عليَّ انجازه والبرهان عليه وعلى حقيقته اثناء العمل، أي التوليف، ومن طريق التوليف نفسه.
 فالعمل الروائي المتخيل والمتماسك لم يسبقه مثال قائم في نفسه، وما كان علي إلا أن أحتذي عليه، الرواية المتخيلة والمتماسكة كان عليَّ  صنعها من فتات الصور والفقرات والسعي في تماسكها من داخل ومن تلقاء نفسها. وأردت منذ ابتداء العمل، اطراح أي عنصر من خارج أعمال سعاد حسني، ويتولى الربط بينها أو الايحاء، من خارج، بمعنى يُقحم على المتفرج المشاهد وفهمه، ويعترض رحلته في ثنايا المادة السينمائية.
 وانضبط العمل على الاصلين هذين: البناء على رسم مأساة والاقتصار على المختارات. وفي ضوئهما اخترت الصور أو المقتطفات من الافلام. وانتقيت او اقتطفت ما يجاري بناء الرواية المتخيلة والمتماسكة، وليس ما استهواني أو يستهويني من أعمال سعاد حسني، وما أحبه منها. ففي "المتوحشة" (1978)، على سبيل المثل، مشهد مشادة مع محمود عبد العزيز، وتحاول هي القول أنها ترغب في رعايته واهتمامه، وأن الناس يحملونها على خليلة أو "مومسة". وهي لا تبكي في الاثناء، ولكن الدموع هنا، ويلمس المشاهد توترها أو كمونها. وهي حال مترجحة وعسيرة على الممثلة. ولم أدخل المشهد في توليفي لأنه يتصل بسياق قوي ومتماسك طويل، ولا يُختصر. فشرطا الانتخاب هما القابلية للانخراط والاندراج في روايتي، من جهة، وقوة التعبير عن أداء حسني وموضوعاتها، من جهة أخرى. وغلبت الشرط الاول على الثاني، أي تماسك الرواية على الانفعال.
 وما كانت النتيجة في ميزان الحصص والشطور؟
 *القسم الاول معظم مختاراته من الافلام بالابيض والاسود، الى 1967 كما قلت من قبل. والقسم الثاني معظم مقتطفاته من سينما النضوج والمشاهد القوية البناء والاداء. وفي هذه المقتطفات تؤدي حسني أدوار المرأة المتزوجة، أو المرأة الملهمة والمثالية. ولم اشأ أن أقيد نفسي في مختارات القسم الثالث، أو أن اقصر الانتخاب على معايير ضيقة. فقدمت قوة المشاعر والتأثير على سائر المعايير. ولما كانت الفكرة الاساس، أو خيط الشريط، هي تذكر الممثلة المنتحرة أوقات حياتها الماضية، فلا بأس بتلعثم الذكريات وتعثرها وتكرار بعضها، بل لا بد من التلعثم والتعثر والتكرار والتحريف. وعمدت الى التوسل بمشاهد الحلم في بعض المواضع، فجمعت في المشهد الواحد اضطراب الصورة الى ضعف التعرف والإلحاح في السؤال، والتفاوت بين الاوقات، ودمج أوقات في أخرى. وهذا طريقة من طرائق القص والرواية حين يكون موضوعهما التذكر: كيف تتذكر سعاد حسني "حيث" هي ومن "المحل" الذي تتذكر منه، ما قد تتذكره؟ وكيف تنبعث ذكرياتها وتأتيها؟ وهذا، أي الانبعاث والاتيان، من ركام صور أفلامها...
   هل "بئر الحرمان" هو نواة القسم الاول؟ وما حال الافلام الاخرى؟
*لا، ليس هو النواة، والحق أنه ليس هناك نواة بل ما يشبه المدار أو المحطة. ومدار القسم الثاني هو على عدد من الافلام. ولا شك في أن "بئر الحرمان" مركزي في مسير حسني. وهي تعلمت كثيراً من كمال الشيخ. وهو "جنتلمان" السينما المصرية، وأكثر المخرجين المصريين انكباباً على رسم "الكادر" واختيار الألوان، وأكثرهم رهافة، على رغم انخراطه في السوق الجماهيرية. وافلامه دقيقة البنيان، ويحرص على ادارة الممثلين بحرفة واحترام. وهو لا شك ساعد سعاد على حدس "الاشخاص" الذين أدت أدوارهم، وعلى بناء هذه الادوار واستبطانها او الاحساس بها من داخل. ولا شك في جرأة الدور وتعقيده: المرأة التي تقر بماضيها لخطيبها والخطيب الذي يعرف الماضي، والمرأة والرجل اللذان لا يخجلان لا بالماضي ولا بالحاضر... ويُشاهد الفيلم الى اليوم، بمتعة. وكمال الشيخ تعلم كثيراً من هيتشكوك ومن "مارني" على الاخص.
  والى "بئر الحرمان" هناك "البنات والصيف" (فطين عبد الوهاب، 1960) و"حسن ونعيمة" (بركات، 1959) في المرتبة الاولى. وجمعت توليف الصوت الى توليف الصورة، فأدخلت الاصوات في صور ليست لها في مصادرها أو افلامها الاصلية، وأدخلت الصور على اصوات هي اصوات صور أخرى. فمشاهد الركض مأخوذة من 15 فيلماً هي مجموع الافلام التي تركض فيها حسني.
 ومصادر الجزء الثاني هي على الخصوص "غروب وشروق" (كمال الشيخ 1968 أو 1969)، و"زوجتي والكلب" و"القاهرة 30" (صلاح أبو سيف) و"شيء من العذاب" (ابو سيف كذلك)، و"خللي بالك من زوزو" (1972)، و"حب في الزنزانة" ( ربما 1981)، و"أميرة هي أنا" و"نادية" (علي بدرخان)، وغيرها كثير. وهذه الاعمال تعالج الكوميديا الاجتماعية، وفصولها هي الزواج والصداقة والطبقات الاجتماعية والجامعة والطلاق. والسؤال البارز، في نهاية المطاف، هو قدرة المرأة على بلوغ مثالها الشخصي ومشاركة الرجل "متعته". وحين وقعت هزيمة 1967، آذنت بوداع عمر البراءة وقدوم عمر النضوج.
 وأفق الجزء الثالث هو النهاية المأساوية، والسؤال عما يدعو امرأة ممثلة الى الموت انتحاراً. ومصادر هذا الجزء هي أفلام "الخوف" (سعيد مرزوق، 1971)، و"موعد على العشاء" (محمد خان، 1980؟) و"شفيقة ومتولي" (علي بدرخان، 1978)، و"عصفور الشرق" (يوسف فرنسيس، 1989)، "المتوحشة" (1978). والمشاهد مختارة من افلام العنف والفراق هذه. فما الذي يحمل ممثلة، هذه الممثلة، بعد نضوجها وأدوارها الكثيرة، وفي ضوء "ذكرياتها" (في مرآة أفلامها)، على اختيار الموت؟
  هل وقائع افلامها هي وقائع حياتها؟ وهل تسوغ مشاهد الانتحار السينمائية في مقتطفات الجزء الثالث الكلام على انتحارها بلندن؟
 *لا شك ان المادة السينمائية متخيلة، وهي جزء من بناء الممثلة وعملها. ويبدو لي أن هناك توازياً قوياً بين السياقين. فالسينما كانت مرآة الاختبارات التي ربما لم تختبرها سعاد حسني على الشاكلة السينمائية التي يراها المشاهد، ولكنها تشبه شبهاً قوياً اختبارات ممكنة قد تجربها كل النساء ومنهن سعاد حسني طبعاً. ومشاهد العنف تصف ما يصيب جسد الممثلة وتصوره الكاميرا. والعنف غير مادي فعلاً ولا يصيب الجسد الحي ولا يؤلمه، ولكنه يوحيه ايحاءً حاداً، ويدعو الممثلة الى استبطانه، والى الاحساس به. والممثلة، وما يحل بها، هي داخل الفيلم وخارجه، تؤدي ما تمثل من داخل، وتراقبه من خارج. وطوال 30 سنة، اصاب جسدها السينمائي من القبل والرغبة والعبادة والركل والشتم والازدراء، ما يفوق التصور والاحصاء. والمعروف والمتداول عن سعاد حسني إعدادها أداء ادوارها إعداداً دقيقاً، وفضولها بإزاء أدوارها. فكانت تسأل عما إذا المرأة التي تؤدي دورها عسراوية أم لا، وتفضل الحليب على القهوة، واشياء أخرى من هذا القبيل.
 هل ترينها ممثلة كبيرة؟
*تتمتع بصفة نادرة هي ان المشاهد لا يمل مشاهدتها، وأرى أنها صفة الممثلات الكبيرات. وهي لا تتحفظ ولا تمسك، وحضورها كامل وغامر.
في الجزء الاول من المختارات المولفة المركبة يغلب وجه سعاد حسني وهي تحاول الخروج من غيبوبة ونسيان يصيبان هويتها، ويعلو صوت الرجل المعالج الطبيب، ويأمرها بالتذكر والاسترجاع والصدق والضبط. فيبدو أن الاختفاء والنسيان يسبقان الهوية وتعرفها واستعادتها. وفي مشهد مسابقة العدو والركض، تحتل حسني المكان الاول. والجزء الثالث يستعيد المشهد الطويل هذا وتصور الكاميرا الممثلة كاملة: الوجه والجسد والمنصة والرقم 1. فهل هذا، السبق والمكانة والتمام، هو جواب خلل الهوية؟
*استعادة الصور والمشاهد والاجزاء مثالها أو أنموذجها هو استعادة الذكرى أو بناء ما نتذكر من تقديم وتأخير وخليط وتقاطع. وتعريف الهوية في الزمن، التذكر والنسيان والفجوات والرضات، يتصل من وجوه كثيرة بتعريفها الاجتماعي. في "خللي بالك من زوزو"، الصبية تأتي من طبقة اجتماعية متواضعة، فهل يجوز أن تخالط أناساً من طبقة أعلى؟ ودخول الجامعة مسألة أخرى من الخط نفسه. ويروي "الحب الذي كان" قصة امرأة يتعثر زواجها وتلتقي الشاب الذي أحبته قبل زواجها، فتريد العودة اليه. فمن تكون المرأة والحال هذه؟ وأي أحوالها وأوقاتها أقرب إليها وإلى من هي وما هي على حقيقتها؟ وهذا جريء، ويذهب الى ان الحب وحده ليس جواباً، ويطرح أسئلة شخصية واجتماعية واخلاقية وجنسية. ومشكلة المرأة مع زوجها، في الفيلم نفسه، هي انهما لا يتشاركان المتعة. ولعل هذا التعقيد هو من نتائج خسارة 1967، فلم يعد ممكناً النظر الى العالم من غير الانتباه الى وجوهه الكثيرة والمتضاربة واعتبارها، ولا يسيراً تعريف الهويات في نفسها وبمنأى من سيرها أو سير أصحابها.
 في الجزء الثاني، سعاد حسني مثال للصورة وللوحة، وشبه للتمثال اليوناني (أفروديت)، وهي على هذه الحال من الهوية والمثال، تسأل عن الحب وعن الماضي والفن. وعلى هذا، فهوية سعاد حسني – الممثلة والمرأة الحية، التاريخ الفني الروائي والجسد موضوع العشق والانتقام – وهوية أي امرأة تتعرض للحياة والرواية، عصية على التوحيد والجمع...
*ما كان واضحاً في ذهني وانا اصنع الشريط من المختارات ان سعاد حسني تجيب عن أسئلتي بصوتها. وفي نص الترجمة أسفل الشريط، كتبت الاقوال الصادرة عنها بخط مائل للدلالة على هذا الحوار. والاسئلة التي رغبت في طرحها عليها، ولكنتُ طرحتها عليها لو أنها حية، مستقاة من خزانتها السينمائية هي. وتدور هذه الاسئلة، على نحو ما هو ظاهر في قيامها بدور المثال وفي كلامها، في الاثناء، على علاقة الفنان بفنه. وسذاجة اسئلة حسني وأقوالها لا تطعن في حقيقة الاسئلة، ولا في المسألة الجوهرية التي تتناول حياة الصور السينمائية وعلاقة الفنان، مخرجاً وممثلاً ومصوراً وكاتباً... بها، كان ذلك في اثناء الاخراج والتصوير ام بعد الفراغ من العمل واستعادته في الذاكرة أو في تاريخ الفن. وشريطي كله، من أول صوره الى آخرها، يجري في خضم مرايا متقابلة تتبادل الصور، وتتحاور حواراً متكسراً ومتعرجاً بواسطتها ومن طريقها.   
... وهذا  ربما يجعل العمل المركب، العمل الذي تنزع مادته من اشرطة روائية وليس من "الحياة"، يعصى السبر والاحاطة فوق ما تعصاهما المادة الاولى...
*...طبيعة السينما نفسها وفتنتها تقومان على كيمياء الضوء الذي يغسل وجهاً انسانياً، على المعجزة الاولية هذه. ويخلط هذا قوة متصلة تدوم ما دامت الصورة. واستعادة الصور، اليوم، في حبكة أخرى غير الحبكة الاولى، يبعث الحياة، أو يبعث حياة في معجزة التقاط الوجه والتعبير. وأثر الوجه أو الحياة، في الصورة، يكاد يكون واقعة ميتافيزيقية. ولا ينفك ظهور "الشخص"، أي من تثبته آلة التصوير على الشريط وتحضرُه الضوءَ امام المشاهدين، يتمتع بشحنة قوية وعميقة. وهذا لا يحول دون الانفعال بالشحنة المتأتية من علاقات الصور بعضها ببعض، على النحو الذي يقيمه التوليف. ولا شك في ان التوليف يومئ الى افق علاقات وامتزاج وتوالد لا يحصر ولا يحد. والمخرج المولف يَحرف مولفاته عن معانيها المباشرة، وهي نفسها معانٍ مضطربة وكثيرة، ويسوقها الى معانٍ أخرى مولودة من أسئلته وتوقعاته وحواراته مع الاشرطة، ومع سعاد حسني وتاريخها، وأفكاره وأخيلته... فثمة حياة تحياها الصور فيما بينها، وحاولتُ رواية أجزاء من هذه الحياة.

ليست هناك تعليقات: