الثلاثاء، 4 سبتمبر 2012

فقرات على هامش أشرطة «دفاتر لبنانية» الوثائقية وسينماها الرواية تولد في ثنايا الوثائقي وتضاعيفه

المستقبل، 2/9/2012
غلس شرارة ووضاح شرارة


ـ خارج البؤرة

الافلام التي جمعتها «دفاتر لبنانية» وعرضتها تملك مفعول مكتبة أقراص سينمائية مدمجة (دي في دي)، وفي الوقت نفسه غرابة المتحف. والمكتبة والمتحف يدعوان الى تقليب الاعمال على وجوهها، ومشاهدتها أجزاء أو أشرطة كاملة المرة بعد المرة. ولكن المهرجان السينمائي، على رغم بعض نسخ الاشرطة السيئة و»المضروبة»، هو اطار العرض المناسب: الشاشة الكبيرة، آلة العرض وجهازه. وعلى هذا، تتمتع الاشرطة بقوة إيجاب ذاتية، وتتمتع في الوقت نفسه بمفارقة ترفعها فوق مستوى الواقع الذي تتناوله وترويه. فهي جزء من مجموعة أشياء تذكارية يحتفظ بها الواحد، مثل «بوستر» شوماخير تحفه هالة القِدَم وتبعث على الاعجاب.

وفي المقارنة بين الافلام اللبنانية الجديدة وبين الافلام القديمة، تُشْعِر الجديدةُ المشاهدَ بقوة الاشياء المصورة، وبتماسكها وقيامها بنفسها. ويقوي الشعورَ هذا تقارب بين القصص يولد منه يقين وحضور ماثل وبعض العنف ربما، على ما هي الحال في «الحوض الخامس» (سيمون هبر)، وفي «القطاع صفر» (نديم مشلاوي). فثلاثة أرباع الشريط صور أو لقطات ثابتة، بعضها وضاء، وتضطرب بؤرتها وتترجح بين الغائم وبين الواضح المرتسم، فيقع المشاهد في ما يشبه الدوخة، ولا يميز اقتراب البؤرة من ابتعادها. ويتساءل: هل يعقل أن ثمة حيزاً في الصورة أو تفصيلاً لا ينفك يقترب من العدسة أو لم يتقرب بعد ما يكفي؟ وهذه الطريقة في التهديد «تقية».

وفي «أبي ما زال شيوعياً» (أحمد غصين)، تترجح صور مشهد دق اللحمة، وهو مشهد افتتاحي تقريباً، بين اشتمال البؤرة على التفصيل والدخول في دائرتها وبين الخروج منها والانتحاء جانباً. فيتبقى موضوع الصورة غائماً الى حين بلوغه مستوى العدسة. وهذا يصح في حال فيلم رانيا اسطفان، «اختفاءات سعاد حسني» كناية عن ظهوراتها وتظاهراتها، على رغم أن عمل اسطفان يقع على التوليف، وليس على الصورة الأولى. فما تؤديه الصور وحركتها وتعاقبها، هو مركَّبها، مثل تعاقب أفعال الضرب وتوقيعها، فلا يشغل المشاهدَ فعلُ الضرب، والانفعال به، بل التوليف الذي يتولى المشاهد صنعه على بعض المسافة من الصور المباشرة، وموضوعها المادي، وسطوة الموضوع. فيقتسم الانتباهَ الى الموضوع او الفعل، ما تفعله سعاد حسني نفسها، وكيف ترد على ضربها...

أما «القطاع صفر» فيخلو من رد أو فعل غير النظرات التي تحط على الاشياء والامكنة. والاصوات، وفيها اصوات المحاوَرين، تبقى خارج الصحراء القاحلة والخالية من البشر. وفي فصول المستشفى، المدبغة، المسلخ... يتولى الصوت من خارج تعليل السكن ومواضعه وأشكاله. والحركة لا تولد من حركة آلة التصوير بل من التصويب، أي من تقريب البؤرة وتبعيدها من قشرة المرئي. فالحركة ليست وليدة آلة التصوير وحركتها الخارجية، بل وليدة العدسة وحركتها الداخلية. والصوت، في الشريط نفسه، ينجو الى الخطابة المفرطة، والى ملئ الاطار الفارغ. وذلك على شاكلة بعض مشاهد «الحوض الخامس» مثل مشهد رواية أحد السواقين بطولاته، وفي أثناء الرواية تمر الشاحنات وتغلب جلبة مرورها الرواية وتقنعها، وتقطع مشهد الرواي.

وربما تقنيع الصور هو ما يفتح الباب لفضول الطفولة، ولفضول طفلي أو طفولي: بابا كيف كنت عندما صغيراً؟ شو كنت تعمل؟ فرجيني صورك. وشريط كورين شاوي، «أوكسجين» وهو لم يعرض في «دفاتر» يتناول حال شقيقها وأهلها في الحرب. وكذلك غسان سلهب في «1958».

ثمة وجوه لا تحصى لتناول الحرب. ويبدو أن ما يُغفل عنه غالباً هو أن المخرجين ليسوا من جيل ما بعد الحرب بل هم مولودين في اثناء الحرب. وفي الحال هذه، لماذا كان الرجوع الى الاهل؟ الناسَ كلهم، وفيهم المخرجون الذين بلغوا نحو الثلاثين، خبروا صيغاً من الحرب مختلفة. وهل معرفة الواحد بوقائع من الحرب تعني أنه «يعرف الحرب»؟ لا. القصص الارشيفية ليست دليل معرفة حقيقية، على خلاف زعمها. فهي عندما تروى، وهذا ما لاحظه نور عويضة، تتحول صيغة من الصيغ، ورواية من الروايات، ولا يعول عليها فوق ما يعوَّل على الشهادة.

ـ الحلم حالاً

صوت والد أحمد غصين في اشرطته المسجلة والخرساء، وروايات والد سيمون هبر وشاحناته وأخيراً والدة نيحاوي، وكلماتها المجللة بالرماد والمليئة بنفثات لفافات دخانها وتبغها... كلهم ثرثارون، مثقلون بأخبار وحوادث أزمنة وبالاسف والتأسي، لكنهم بخلاء في صمتهم. وبإزاء ابنها، نظر «يامو» جلي، ويبدو مستهلكاً ومستنفداً لا يسع أمراً أو شيئاً مفاجأته وأخذه على غرة. والمرأة اعتادت المحاورة والمحادثة وكأنهما صورة مصيرها التامة والجوهرية، على رغم نبرة ابنها الأجشة في اثناء المحاورة، ونازع المَشاهد الملونة والحدودية في مدينة الألعاب، أو على طرف الكورنيش البحري، الى بعض الرقة. فتحدونا رغبة حادة في معرفة حقيقة قصة «يامو»، على ما عاشتها واختبرتها في أدق تفاصيلها والتواءاتها وخيباتها وندوبها. ولا نزال تهدهدنا الجملة السابقة:» كان بدي اعمل ممثلة مسرح، هيدا كان حلمي»، وهي امامنا فجأة وفي أثناء لحظة خاطفة، حقاً ممثلة، ويدوم هذا الوقت الذي يدومه انتباه المتفرج الى أظافرها المطلية، وشفتي الممثلة المكتنزتين (!)، وسيجارتها المقيمة، وصوتها المترامي والمتماوج. فبلغت أمنيتها وكان لها ما أرادت.

ـ توقيع الحكايات

يولد أصحاب بعض الاشرطة وصناعها في أشرطتهم. فيقص «الحوض الخامس» (سيمون هبر) و»أبي ما زال شيوعياً» (أحمد غصين) و»يامو» (نيحاوي) ولادة الثلاثة، هبر وغصين ونيحاوي أنفسهم، على وجوه مختلفة. وفيما يروي هبر ولادته من أبيه، اسماً وتاريخاً وصوراً، يروي الآخران ولادتهما من أميهما، صراحة ومن غير مواربة في فيلم نيحاوي ووسمه، ومواربة ومن طريق الأب في وسم فيلم غصين. والفيلمان الاموميان، اذا صدقت النسبة (وهي نسبة ونسب من طريق الام، والام إن لم تكن سبيلاً الى الخؤولة والاخوال، في تقاليد مجتمعات الاجداد والآباء والاخوة الإخوان، هي عَلَم على التنكير أو «أداة» تنكير)- يؤرخان غياب الاب: مهاجراً ومخاطباً يراكم الاولاد في رجعاته المسماة عطلات (مع غصين)، وطليقاً وغريباً من غير أرض معروفة (مع نيحاوي).

وفي الاشرطة الثلاثة توقع الصور الفوتوغرافية الحكايات والاخبار التي يقصها الأب، وترويها الأمّان على طريقتين مختلفتين. فيخرج أبو سيمون ألبوم صوره قبيل زواجه، وفي اثناء شهر عسله وبعد ولادة الاولاد، ويُري ابنه فصول الحياة التي تفتقت عنه في بعض أوقاتها. و»يرد» سيمون التحية بتصوير والده في غيبوبة غسيل الكليتين وأسر خراطيم الغسيل وآلاته، وبعث الشاحنة الاولى المتقاعدة اليوم حيية ومتواضعة في مرأب المرفأ واحواضه. وبين قصة أبو سيمون ووقائعها «البطولية» والساخرة، المفضية، من طريق ورق تظهير الصور ومواقف أهل الصور وملاحمهم المترعة بالطعام والحيل والطاعة، الى أسفار وأيام ومواقع وولادات وخسائر، وبين قصة أو قصص الابن المصورة والنابضة بدم وقلب ملحميين من صنف آخر، خيط أو آصرة قد تكون وثيقة. فالعالم الذي يضعه الابن في متناول المشاهدين وأبصارهم وليد لم يتخفف بعد من أعلاقه، حبل السرة وكتل الدم والمخاط...

ـ لحظة... إيطالية

بين أشرطة «دفاتر لبنانية» كلها «طيِّب خلص يلا « (رانيا عطية ودانيال غارسيا) وحده لا يزعم التوثيق أو الوثائقية، من وجه، وينتهج نهجه أو نهجها، من وجه آخر. وهو لا يعلن لا هذا ولا ذاك. ولكن التصوير المتصل والدقيق، اليومي والخبري، لمواضع الحياة اليومية ومسارحها، البلدية العكارية، والحرص على نقل رتابتها وسكونها وترتيبها وتكرارها (المباني والطرق...) ولهجة كلام أهلها، التصوير والحرص هذان ينزعان من غير شك الى الوثيقة والاقتصار عليها أو على طريقتها في الوصف. ولا تشذ «درامية» بعض الحوادث، مثل سفر الام وتركها البيت لابنها وحده أو المشادة على التلفون بين الام وابنها أو زيارة الصديق العامل في الخليج أو استخدام المرأة الاسيوية...، عن السوية التوثيقية، الوصفية والخبرية.

ولا يلبث التوثيق أن ينقلب، على غفلة من المشاهد أو شبه غفلة منه، الى «نقيضه» (ما هو نقيض التوثيق يا ترى؟ التبديد؟ التقطيع؟ والاثنان ليسا خلاف الحفظ ولا الجمع...). فتستقر الطريق المبللة والخالية، والجدران الحائلة في الخارج والكاوتشوكية الطلاء والداكنة في الداخل، والظل الثقيل في محل الحلويات المقفر من الهواء والممتلئ بحنق صاحبه، وجسمُ الشاب ورأسه العتيدان والصفيقان، تستقر هذه وغيرها مثلها على استجلاء معانٍ يتستر عليها التوثيق ووصفه الظاهر. فتكني مواربة عن جوار طرابلسي راسخ، وتماشي تكراره ورسوخه المريرين والأخرسين.

وحين يبدو أن الامور والاحوال انتهت الى مستقرها، واستوت على مثالها الجوهري، ينعطف «طيِّب يلا خلص» إلى فسحة طراوة. فالشاب سبق أن روى لصديقه الخليجي أن رسائل ضائعة تبلغ هاتفه، وتلمح الى رغبة صاحبتها في لقائه. ويرجح أن المصدر امرأة هوى على وجه من الوجوه. ويلتقي الاثنان يجران حرجاً وخجلاً تنوء بهما الجبال بضاحية طرابلس البحرية، على جانب كورنيش صحراوي طويل، قاحل ومتجهم كيوم ضياع. وحين يرى الاثنان خيبتهما العميقة والمشتركة الواحد في جسم الآخر، يرى واحدهما الآخر على حقيقته، الآن، المولودة لتوها من دهشة خالصة وبداهة حضور «بكر» (فيرلين) على رغم الثقل العكاري والطرابلسي. فترتسم لحظة «ايطالية» في قلب الزمن الصفيق. أيكون انتباه الممثلين الى ادائهما ولعبهما خارج دوريهما؟ على شاكلة الام (يامو) الممثلة وولادتها على هذه الحال في شريط نيحاوي...

ـ حلف العدسة والشاشة

وجه أم أحمد غصين لا يكف عن الاقتراب من عيني المتفرج، وحدّة قسمات الوجه المادية، والمرهقة على رغم الفتوة، تهجم على بصر المشاهدة ودرايتها وتنتهكها. وحلف العدسة والشاشة يحتال على ليِّ الواقع، فلا يشفع للصورة المولودة من الحلف قربها من الحقيقة، حقيقة رغبة، على خلاف المعقول، في الاقتراب من الجسد، والذوبان فيه، في المادة، في الحكاية وتعرجاتها، في الصوت والكلمات، في المرئي وليس في متناول اللمس.

ـ العشق وليس التقصي

أحمد الصغير لا يحضره ابوه في ذاكرته إلا غائباً، أي في المراسلة المسجلة والمسموعة التي يتبادلها الشاب والشابة العاشقان المُعسِران والمتزوجان منذ وقت قريب، والمغالبان مضايقات الحرب والحياة. والزوجة الشابة والام وحيدة، تثرثر عاشقة على مسمع آلة تسجيل صامتة ولا تحور جواباً. ويزور غصين، ثلاثين سنة بعد التسجيل، الاشرطة، وينتخب منها، ويعود القهقرى، ويحقق، وينحدر مع الزمن ومضيه. وهو لا يفعل هذا متقصياً بل حبيباً عاشقاً يقرأ بعد وقت رسائل ملتهبة تقطعها زفرات معلقة، ويستعيد مذاق رغبة حبيبه ورغبته هو.

ومن لم يشته الكلمات الطرية التي تبادلها والداه أيام الحب الخفي الذي جمعهما قبل الحمل به؟ هل كان هذا الحب حاراً على شاكلته في الافلام؟ هل مدَّه البعد، ومدته الكتابة والغيبة وأخيلتهما بالهوى والجموح؟ هذا الهوى يُحمل على القدس والتدين... ولا تكذب قدسه مشاهد الام وهي ترتدي الثياب في عرينها، أو وهي تمشي أمام بيتها المتواضع في الضيعة الغفل والمقفرة.

ـ رسم خانق

هل في الوسع أداء المدينة في صور سينمائية على نحو أداء الصورة أو الرسم الوجه؟

لحظة الصورة في رسم الوجه تنحو جانباً، على حدة، وتتربع (في) تجليها وظهورها. وكان ديباردون يقول أن «الصورة الفوتوغرافية هي اللحظة، وأما السينما فهي الوقت». وربما ينبغي إفساح الوقت لظهور اللحظة واستوائها ، على شاكلة الغيوم المترحلة واللاهثة التي تنشئ لا محالة مملكة من الأمواج البيض تبعث ظلالها على الارض مشاعرنا في مرآتها.

في «القطاع صفر»، ينشأ المكان عن اطار التصوير أو حركة العدسة أو غفلة الصوت أو ضبط بؤرة الصورة المضطرب على الدوام. فيحضر رسمُ الكرانتينا خانقاً مثل ماضيها.

ـ عدوى الإسراء

فقرة أخرى تخلط، في «الحوض الخامس»، الإنس والإنسية بخلافهما وغيرهما بالمعدن هذه المرة. وهي كذلك باب على بيروت وعلى حوادث الشريط وأخباره. وتتناول الفقرة، الطويلة، شأن فقرة البقرات، نقل آلة تحميل الحاوية من ظهر المركب الى الرصيف أو الى ظهر الشاحنة. وتخوض صورها في أسلاك الذراع الضخمة التي تتولى الاحاطة بالحاوية ورفعها وتعليقها في الفضاء قبل حطها في مستقرها. والأسلاك يدخل بعضها في غياهب الذراع الوحيدة، مثلَ عين عملاق المغارة بوسط جبهته في القصص الملحمي الهوميري، ويصر صريراً مريراً ولاهثاً في دخوله النفق الغامض، وفي خروجه منه. ويملأ الصرير، شأن الخوار في الفقرة الاخرى، الصور الصافية التي تجلو الآلة الرافعة ونواحي المرفأ والأرجاء القريبة، ومن ورائها المدينة، من وراء زجاج حجرة قيادة الآلة. فتجمع الصور، وألوانها الزاهية والعميقة وبلورُها الشاف من بعض البعد عن رسوم الاشياء وأحجامها، فوضى احتكاك المعدن وحباله المنجدلة والمشدودة، ودورانها على بكراتها المرئية والخفية، المسننة والملساء، الى حركات النقل الهندسية والصريحة. وحين تعلق الرافعة الحاويةَ البنية في الفضاء، وتتوسط الحاوية أبنية المدينة البعيدة والقريبة، تبدو هذه لوهلة خاطفة بنية طارئة وزائرة بين الابنية الراسخة، أو مركبة فضائية حصينة في طريقها الى كوكب آخر ربما. ولا يبعد أن تسري عدوى الإسراء والرحلة في أبنية بيروت الراسخة كلها.

ـ مرفأ البر

ملحمية الصور في الفقرتين، البقرات والحاوية، مدخل الى حكايات «بطولية شعبية» أو «عامية»، على معنى البيكاريسك (ودون كيخوتيه مثاله المتأخر ومحاكاته الروائية). وفي الحكايات هذه، يسافر «البطل»، ويلتقي أقراناً على شاكلته وعلى خلاف شاكلته، وينزل منازل وفنادق، ويأكل ، ويروي قصصاً وتروى قصص على مسمعه، ويتقنع ويكذب ويُكذب عليه، ويقامر ويغامر، ويبؤ بالخسارة والربح، ويمرض، ويشفى، ويؤمر ويطيع، ويهرب... وهذا ومثله يملأ «وثائقي» سيمون هبر. و»الحوض الخامس» جزء من مرفأ على البحر، وحوادثه كلها برية. وهو رأس الطرق التي تروح كلها الى الداخل، سهله وهضابه وجباله، وتعود من الداخل إليه. فهل وسم قصص سندباد بري باسم بحري وسياسي «توثيق» من ضرب مجازي؟ أم هو كناية عن الحياة وحوادثها بالآلة، الشاحنة، التي كانت تعمل على خط المرفأ وحوضه؟ أم هو فرع على اصل يدل على الولادة، وعلى الموت، وعلى حكاية ما بينهما؟

ـ الصوت والصورة

القول في «أبي ما زال شيوعياً» يبحث عن صوره القليلة، وعن جوابه أو إجاباته في الصور، من غير إلحاح في الطلب أو إلحاف. فالوثائقي، هذه المرة، «ينشر» وثائق صوتية ومستندات وأرشيفاً مؤرخاً. وعلى هذا، فهو نظير الوثائق الفوتوغرافية التي يستعيدها شريط هادي زكاك، «مرسيدس»، وشريط وسام شرف «إيتس أُول إن ليبنانون». وبينما يخفق الشريطان الوثائقيان الصرفان في حبك سياق زمني داخلي، مشترك وذاتي، كثير المسارح وعلى بعض الترابط والتوارد، يدمج شريط أحمد غصين تسجيلات المرأة الشابة والام والزوجة ملابسات الرسائل الصوتية، الشخصية والعائلية المادية والجغرافية والظرفية والاتصالية، في «نص» متصل. ويجمع وجوه «النص» وعناصره، ويلمها في ضميمة واحدة، قصصية خبرية ومصورة واحدة، إقامةُ غصين على الفصل بين منزع القول، الحار والمباشر المشبع بأصداء معرفة حميمة، وبين منزع الصور المتحفظ والمقتصر على تصديق القول وتحقيقه.

ولكن فصل المنزعين لا يعلي منزعاً (القول) على الآخر. فتحول الصور القليلة والقديمة والمعاصرة فيديو أو تصويراً فوتوغرافياً قديماً وجديداً لا يختلف عن القديم ولا يَبين منه بين الصوت وبين تربعه وبسطه دالته على الشريط. فتؤرخ الصور، وضوؤها الخافت وتوقيعها انقضاء الوقت وانصرامه، فعلَ الصوت الامومي، وأطواره، و»تُنيص» زهوه وانتصاره، على ما يفعل التأريخ عموماً ربما. وفي المقابل، وهذه الموازنات هي في صلب سينما غصين، يصبغ الصوت بصباغه الفرح الحياة المتواضعة والقلقة التي يروي بعض وقائعها. فيلفُ ليلُ الشجر والزرع والأرض والاضواء القريبة والطريق حول البلدة بيتَ العائلة، موضوع شطر من المراسلة، ويحضن من غير أن يتولاه. وعلى خلاف «الخطب» التي تلحم بين فصول أشرطة شرف وزكاك ومشلاوي («القطاع صفر»)، وتفتعل رابطاً ووحدة، يحاول القول الامومي الحار صور «أبي ما زال شيوعياً» الحيية، ويدعوها الى محادثته وممازحته والتذييل على زهوه ورغبته.

ـ خليط

فقرة إخراج البقرات من حظيرتهن المحملة على باخرة الشحن الى المرفأ من طريق ضيقة وملتوية تحفها الحبال وجسر خشبي قصير معلق ومهدد، تنم (الفقرة) بـ»فظاعة» حيوانية وجسدية أو شحمانية لا تعف عن الانسية، وتضمن الحيوانيةُ جسدها الانسي (الانساني) أو الإنسية وجهها الحيواني. فحضور الحيوان على صورة كتلة جسد هائلة في قبضة آلة تفريغ هندسية قوامها الحواجز والمسالك، لا يخلص الحيوان، البقرات، ولا يحرره من بعض احوال الانسان والتأنس. فإذا بالخروج الحرج من حظيرة المركب الى حظيرة الشاحنة والرصيف محنة عسيرة يتضافر على تعظيم عسرها ضيق المخارج، والتواء الطرق، وإلحاح القسر والحشر. وتخوض الصور القريبة، الملابسة جلبة الخوار ودبيب الأظلاف على الخشب ونظرات البقرات القوية والمسلِّمة (فالمسلخ ليس بعيداً...)، غمارَ «الولادة»، وتخلط الرسو على رصيف الحوض الخامس بجوار الكرنتينا والمسلخ ومقر أركان «القوات اللبنانية»، والوصول وبلوغ القصد بإرهاص الموت والقتل والعذاب. والمدخل بيروت وبوابتُها من البحر، والوصلةُ بينها وبين المدى الذي تسبح على صفحته المنبسطة «يمامات بيض» (بول فاليري)، هو هذا الحوض على الصورة التي تطالعه بها البقرات العظيمة في طريقها الى الانجاب والاستنتاج (طلب النتاج أو التلقيح)، وإلى الذبح. وهو المدخل، أو أحد المداخل الى حوادث الفيلم وأخباره الآتية، ومن هذه الحوادث والاخبار رحلات أبو سيمون وشاحناته، وزواجه، وولادة ابنه على ما روى الوالد لسيمون هبر.
 http://www.almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=80957

ليست هناك تعليقات: