الاثنين، 29 أكتوبر 2012

لوحات ريم الجندي المعلّقة على «شجرة العائلة» ...غابة صوَرِ مليئة بكنايات الأنساب ومجازات السفر وأرض الحكايات


المستقبل - الاحد 28/10/ 2012 

ترسم ريم الجندي (معرض «شجرة العائلة»، من 10 تشرين الاول 2012 الى 31، بصالة جانين ربيرز) في ثلاث لوحات مستطيلة وتعليمية سيرة شجرة العائلة وحكايتها. وهي (الشجرة) الكناية القوية والغالبة على السيرة وأوقاتها ومراحلها واتصالها. فتبدأ من «البداية»: «القبلة الأولى». وهي ثلاث لوحات: «لوحة» الفتيين العاشقين، و»لوحة» المخاض الأحمر، والتعليقة على المتن أعلى اللوحة وعلى شاكلة عينها. وقد يدعو خروج الوجهين الفتيين، في الاسفل، من غاشية الأحمر المخاضية ومن صفحته المائية والدموية غير القانية، قد يدعو الى تصفح اللوحة واستقبالها من أسفل ومن خارج. ويصف الشطر هذا إقبال الصبية حركةَ جذع وصدر ورقبة وعمقَ كتلة شعر على الرأس وبحثَ وجه وفم، والى هذه وقَبْلِها أصابعَ يد تشد رأس الصبي إليها يصف إقبالها على الشاب، ولقاءَ الوجه الوجهَ، واتصالَ الضوء على جانبي الوجهين والخدين في ما يكاد يكون فلقتي حمل واحد. وتثبيت الوجهين على نحو يستعيد إقبالَهما الواحد على الآخر وصدورَهما عن رغبة تجمعهما، يدرج عناقهما وقبلتهما في سياقة قصة «أخرى». وهي ليست قصة الأحمر المترع وموجته وصفحته المتلألئة، من غير استفاضة ولا تبجح، بقاعٍ غامض يحدس الرائي في تنفسه البعيد والهانئ حياةً وحركات خفية. وتغلق الدائرة بأعلى اللوحة، وهي «عينها» المفتوحة على داخلها وخارجها معاً والواصلة جذورها المتشعبة بأغصانها الوارفة، اللوحتين الأخريين: فهي وحدها ينطوي عليها اطار، ويحدها حد، على خلاف ماء اللوحة الأحمر والوجهين القادمين من رغبة ومن خارج مرسل ولا تعريف له ولا إضافة.
والكناية (الذهنية) عن أصل «العائلة» الماثلة في اللوحة الثالثة، «حليب»، بالاشتهاء وإقبال «الزوج» على «زوجه»، وتوسط المضاجعة «بداية شجرة العائلة» بحسب وسم اللوحة، الاثنين، هذه الكناية لا تستوفي الوصف الذي تبسطه اللوحات الثلاث معاً وجميعاً. فثمة، في «القبلة الأولى»، قاع المخاض المائي والدموي وقاع الجذور والتراب والسماء- وثمة في اللوحة نفسها، «بوستر» أو تعليقة الوجهين الصادرين عن مَعين نَسَبي وقصصي ولوني قائم بنفسه ومستقل بها. وفي لوحة «بداية شجرة العائلة»، الوسيطة (وهي «بداية» ولكنها ثانية، وكانت «القبلة الأولى» إلى يسار «بداية» للتو هي الابتداء المفترض، والابتداء كان نوَّه ببدايات ثلاث محتملة لما هو أوَّل، وذلك في تعكيس للعروس الروسية ولاحتواء العروس الأكبر عروساً تصغرها: ما «تحتويه» اللوحة هو التفلت من الإسناد المحكم) في اللوحة الوسيطة حلقة منقطعة، نسباً وقصصاً ولوناً مرة أخرى، من لوحة الثلاثية الأولى ومن لوحتها الثالثة معاً. فالقاع التحتي جسد الرجل والمرأة العاريان والمختلطان يفترشان أرضاً بنّية حارة أو يعومان عليها، ويخرجان منها من غير أن يفارقاها، ويحاكيان ثناياها السود هذه المرة، جزء أو فصل من اللوحة. وهو يكاد ينفرد بها لولا كساء الأديم المنير، أو النوراني، الذي يبسط على الضجيعين لحافاً من ذهب متوهج ليست شجرة العوسج إلا تألقه ولألاءه المنتشيين. والأديم المنير يفترش العاشقين، أو يلتحف العاشقان لحاف النور، لا فرق، على غير نحو افتراش الحبيبين الأرض. فهما بينهما وبين الأرض «نَسَب» أو سسبب لوني وقصصي. وأما لحاف النور، وشجرته المهلِّلة والمنتصبة فوق العاشقين الضجيعين والخليطين فينطوي عليهما انطواء الرحم على الجنين آن هو ثمرتهما المولودة من أرضهما. وما روته اللوحة الأولى فصولاً منقطعة، الفصل فيها قائم بنفسه وبمصدره ومضمره، ترويه اللوحة الثانية متصلاً. ولكنها لا تتستر على انقلاب الدوائر المتصلة النسب من حال الى غيرها أو خلافها، ولا تسكت (وهي بالأحرى تصيح وتجهر) عن غرابة الولادة واستغلاقها. فـ»يلد» الحبيبان المضطجعان المختلطان، المفترشان أرضاً يمتان إليها بشبه قوي وتحضنهما، ذهبَ الشجرة المتوهج والمتجلي من غير واسطة ولا شبه.
واللوحة الثالثة من الثلاثية، «حليب» أو رضاعة بعد الولادة، «تعلق» الأم والوليد على شجرة وارفة وفردوسية على أغصانها ثمار كثيرة خضر وورق مخضل، وتملأ سماء بحرية ومسائية فضاء اللوحة. فتحضن الأم الفتية و»السوداء»، شأن العذراء البولندية في شيستوشوفا، الطفل «الاسود»، وتحضن الشجرة الوارفة الأم والطفل، وتحوط السماء المخيمة والعميقة الشجرة الوارفة والأم الحاضنة. والحق ان الحضانة المتواترة لا تكرر فعلاً واحداً. فالأم لا تشد الطفل الى ثدييها وبطنها، ولا تحوطه على شاكلة ما تظلل الشجرة الفردوسية الأم والطفل. ولا تتخلل السماء وزرقتها الشجرة على نحو تظليل الشجرة الأم والطفل. فالأم وطفلها كيانان منفصلان ومتصلان، جسداً ومعنى، بحسب لاهوت الطبيعتين الذي تمت إليه الأيقونة بسبب وثيق. والطفل «صورة» تقوم بنفسها، على رغم تسويتها من مادة الام الشديدة الشبه بمادة الرجل في الفصلين السابقين أو اللوحتين. والرضيع يكلم الام: تقر يده وذراعه على صدرها، وينظر الى وجهها شاخصاً إليه. وتخاطب الأم الرضيع من غير واسطة النظر: فهي تحوطه من جهاته كلها، وإسدال الجفون على العينين يُسلم الجسد كله الى حضانة الرضيع وإرضاعه وضمه. غير أن إغماضة العينين تفك المرأة من فعلها الظاهر وتحملها على سريرة أو طوية بعيدة الغور لا تستغرقها الأمومة وحضانتها، ولا تستوفيها كلها. فهي ماثلة في صدارة اللوحة، وتغلب على الصف الاول والقريب من فضائها، وتملأ متنها ومطلها وفناءها. ولكن إغماضتها تصل الوجه بخارج لا تتطاول إليه اللوحة المثلثة، وتحيل الشجرة والسماء الى حاضنتين أليفتين وحانيتين من غير نسب.
فيعود الالتباس الى النسب حين تكتمل ثمرته وتتفتح. وذلك من طريق الرسم والتصوير، وآلاتهما وأدواتهما. ولا تُغفل الآلات والادوات، ومسرحها ومضمارها المساحة الملونة، أن الرسم والتصوير إنما ينجبان، على ما تصور ريم الجندي من غير تورية، عالماً، ويتوارثان «أشياءً»- معانيَ تتكلم بصريح العبارة وبمواربها وغامضها، بمحكمها ومتشابهها، كالآي «المنزَّل». فلا تتخلص «الاشياء» المعاني هذه من أنسابها، مرة أخرى، ومن غابه هذه الانساب، وليس من شجرتها الواحدة، على سبيل الاستعارة وحسب. وتقع صاحبة «شجرة العائلة» من حيث تدري دراية عميقة وواسعة، وهي تلمح الى هذه الدراية في تقديمها معرضها بل هي تعرب عنها، تقع على غابة الصور المتصلة بكنايات الأنساب ومجازات الشجر وبأرض الحكايات التي تُنبت الكنايات والمجازات على نحو ما تنبت الأنساب والشجر من غير تفريق. فتلتف الشجرة على النسب. ويتفتق النسب عن أصول وراءها أصول وفروع بعدها فروع. فكأنه كان شجرة قبل أن يكون نسباً، أو أنه صار نسباً، أرضاً وجذوراً وسماء وعشقاً ومضاجعة واشتمالاً وحملاً ورضاعة وغياباً وانفصالاً وسفراً وهجرة وتغريباً وتشريقاً، من طريق التشبه بالشجر. وذلك على شاكلة الجماعات القروية الاولى بجنوب الاناضول التي توارثت زراعة الحنطة، عشرة آلاف سنة ق.م.، واستقرت في قراها لترعى آلهتها وقبور موتاها. فلم «تنتج» قوى الانتاج وتجديد الحياة والنسل الآلهةَ والقبورَ والجماعة المستوطنة، بل كانت هذه «السبب» في تعهد الزراعة الحيوية ودوامها.
ويحصي المعرض في نواته المؤلفة من 12 لوحة وتطرقت الملاحظات التي مرت الى 3 منها أزعم أنها نواة النواة، على مثال تضمين وتكنية لا ينتهيان الى حد مثالات الأنساب ونماذجها واستعاراتها المتصلة بالشجرة، أو المعطوفة على الشجرة. فتنتقل النواة الاثنا عشرية، على عدد المعصومين وعدد الحواريين وعدد الأشهر وعدد الممالك التي فتحها الاسكندر وعدد الألوان التي تعملها الرسامة في لوحاتها هذه...، بين شجرة الملائكة ونسبهم الصدّيقي والاوراق المستديرة كالهالات وبين شجرة الجنة وأفعاها التي تلتف عليها وتشاركها جذورها وتستدخل جذعها. وتمر بشجرتي السلطان، وشجرة الحظ، وشجرة الشمس، وشجرة المفتاح المحفوظ، والغناء («الشجرة سكرانة عصافيرَ» يقول الشاعر الفرنسي)، والرعاية.
وتتوسط الشارات (العلامات المتعارفة) الجذوع، فتحملها هذه وتتدرع بها على شاكلة التعاويذ. ولو ان اللوحات اقتصرت على الشارات وإحصائها وتصفحها لكانت معرضاً للمعتقدات وتراثها الثابت ومدونة «شعبية» أخرى. وهي، اللوحات، لا تقتصر على هذا. فشجرها ينتسب الى المعتقدات، وتقديم الرسامة المكتوب يحصي بعضها ومتصفح اللوحات المعلقة قد يقع على غيرها، والشعائر والحقبات من غير شك. ولكنها تنتسب أولاً الى قوة مخيلة قصصية ولونية تقدم الإلماح الى بعض ثمراتها. فالبرتقالي (في «شجرة نسب الملاك») والأزرق (في «شجرة نسب العصفور») والرمادي الطحلبي (في «التعويذة من صيبة العين») والأصفر الكريمي الحليبي («الأفعى») والرمادي الفضي («الأغنية») والأحمر الأرجواني («القبلة الأولى») والذهبي الفضي («بداية شجرة العائلة») كلها تمور بتيارات تحتية ومختلطة تنكص دونها فكرة المصدر أو أول النسب ورأسه. وهو ما يسميه تقديم ريم الجندي «الخلاسية»» وهجنتها وتوليدها.
وتتقصى المخيلة اللونية الطفلية آثار المصادر والأصول الناكصة في أفراح الغصون والأوراق وأحزانها، وفي هزجها بفراديس وأعياد وتلويحها بأعاصير ومقابر ومحارق وكهوف وسموات وقيعان لا يسبر غورها، ولا قيد على إرسالها (أو مرسلها). فبين الأصول المفترضة وبين الفروع الموقتة، المولودة من الاصول من تيارات وحركات وموج وأسفار لا تحصى، هجرات يحصي المعرض بعضها. وإذا تولت «الشجرة» ورابطتها، أو حبل سرتها (وبعض «أسرار» التقديم لا ريب تنتسب الى الحبل هذه)، حفظَ كوكبة العائلة، الأرمنية واليهودية والكردية والسورية والفلسطينية، معاً، وحفظ الأخوات («الدانتيلا» و»الأخوات سماحة» و»زيتون 1948 الأخضر») على وجه التخصيص. فالعائلة هي أولاً مطية سفر وهجرة ورحلة. والعائلات تسافر أو تقيم تصحبها ألوانها، وهي ألوان أحلامها، على ما تنم المقارنة بين سيران العائلة الكردية التي تحتفل بالنيروز وبين العائلة الغزاوية المترحلة وبينهما وبين العائلة المتحلقة في صالونها حول جهاز تلفزيونها.
وتستعير الرسامة للتمثيل على مخيلة العائلات اللونية، والألوان والتصاوير و»الموتيفات» (التقديم) جزء جوهري من تعريف العائلة في اللوحات وهوياتها، ما تغطي به العائلات جدرانها: جدران المطبخ («كيف تكونين أماً») أو الستارة وراء المحتفلين بالزفاف («عرس يهودي بحلب») أو السجادة المعرشة فوق عائلة المعمم الشيعي أو الافق كله وراء العائلة الكردية، أو الورق المزركش وراء الفتاة «المعربشة» على غصن غليظ من أغصان شجرة العائلة... فالنسب، أو الثابت المفترض في تعاقب الأجيال ومعين الأسرار وخزانتها، قد «ينحل» في ورق جدران مرقع. وهذا كذلك من هجرات الشجرة
http://www.almustaqbal.com/nawafez.aspx?IssueID=3503

ليست هناك تعليقات: